أبو العِبَر

أمير من أمراء البيت العباسي. وناهيك بالأمراء العباسيين في أيام سطوتهم من عز وجاه، وعظمة وترفّعٍ عن الناس.

يدعو الخليفةَ ابنَ عمه، ويدعوه الخليفة ابن عمه، حسب اصطلاحهم في ذلك الزمان. ليس بينه وبين عبد الله بن عباس الصحابي الجليل إلا خمسة آباء، فهو ابن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

يكفي أن يقول الرجل: إنه من البيت العباسي لتخضع له الرقاب، ويذل له العظيم؛ والناس يسمونهم الأشراف وأبناء الملوك. وإذا كانوا في حفل عند الخليفة فهو وحده يجلس على السرير، وأهل البيت العباسي وحدهم يجلسون على الكراسي، وسائر الناس يجلسون على الوسائد والبُسُط.

ولكن لم يكن أمراء البيت العباسي كلهم أهل ثروة ورخاء؛ فمنهم الغنيّ الواسع الغنى، ومنهم الفقير وإن لم يبلغ حدًّا كبيرًا من الفقر؛ لأنهم كانوا يرتزقون من رواتب تخصص لهم من بيت المال حسب مشيئة الخليفة، ومن هبات وعطايا توهب لمن شاء الخليفة، فكن حظ «أبي العبر» هذا وأبيه من هبات الخليفة قليلًا نادرًا.

ولد أبو العبر بعد خمس سنوات من خلافة الرشيد، أعني سنة ١٧٥، وأخذ بعدُ يتعلم ويتأدب، وعاصر — أولًا — الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق وصدرًا من خلافة المتوكل.

وهو طوال هذه العصور جادٌّ في حياته. رأى أنه ليس بالغنيِّ غنى غيره من الأمراء، ولا هو مقربًا من الخلفاء، ورأى أن القرب إليهم أسبابه كثيرة؛ منها القدرة السياسية، ومنها القدرة الأدبية، ومنها غير هذا وذاك؛ فاتجه إلى الأدب يدرسه، والشعر يقرضه، لعله يصل من ذلك إلى منزلة تلفت إليه نظر الخلفاء؛ ليدروا عليه العطاء، ويغرقوه في النعيم، فتأتَّى له شعر حسن غنّى به المغنون كقوله:

أبكي إذا غَضِبتْ حتى إذا رضيتْ
بكيتُ عند الرضا خوفًا من الغضبِ
فالويلُ إن رضِيَت والعَوْلُ إن غضبت
إن لم يتم الرضا فالقلب في تعب

وكاد يبتسم له الحظ ويكون شاعرًا مقبولًا، لولا أن رماه القدر بشعراء فحول أمثال أبي تمام والبحتري، فنظر في شعره وشعرهم، وسحره وسحرهم، فرأى أنه لا يستطيع أن يدركهم ولا يبلغ شأوهم.

رأى أن شعرهم جيد وشعره وسط، ولأبي العبر رأي في الشعر طريف، وهو أنه إن لم يكن جيدًا كل الجودة فليكن باردًا كل البرودة. أما الوسط فإياك وإياه؛ إن الجيد يعجبك بجودته، والبارد يضحكك ببرودته، أما الوسط فثقيل لا يستخرج إعجابًا، ولا يستخرج ضحكًا؛ وقد عبر أبو العبر عن هذا المعنى بقوله: «إن قدرت أن تقول الشعر جيدًا جيدًا، وإلا فليكن باردًا باردًا، وإياك والفاتر فإنه صفع كله».

ولكن أبا العبر لا يستطيع أن يقول كما يقول أبو تمام والبحتري. وكل ما يستطيع أن يقوله هو الشعر الفاتر الذي لا يرتضيه، فماذا يصنع؟ ومما يزيد الأمر إشكالًا أنه يريد المال ويريد القرب من الخلفاء، وليس له وسيلة إلا الشعر، والشعر الجيد لا يواتيه، والشعر الوسط لا ينفق، وليس بالسياسي فيحظى عندهم، ولا قدرة له على ذلك، فماذا إذًا؟

ليس إلا أن يلتفت إلى نفسه يعلمها القناعة، فالقناعة كنزٌ لا يفنى، وإذا كان عطاء الخليفة ليس له غاية إلا رضى النفس، فالقناعة يمكن أن توصل إلى هذه الغاية نفسها؛ ولذلك أخذ يعطي لنفسه دروسًا في القناعة ودروسًا في الرضا، أحيانًا يحدثها الحديث النفسي، وأحيانًا يقول في ذلك شعره المتوسط:

لا أقول: اللهُ يَظْلِمني
كيف أشكو غير متَّهم
وإذا ما الدهرُ ضعضعني
لم تجدني كافرَ النعم
قَنِعَتْ نفسي بما رُزقت
وتناهت في العُلا هِممِي
ليس لي مال سوى كرمي
وبه أَمْنِي من العدم

ولكن هذه الدروس لم تنجح، وامتحن فيها فرسب، إن لي بيتًا رفيعًا هو بيت الخليفة نفسه، وبهذا البيت استحقَّ الخلافة، وفي يده القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يبعثرها هنا وهناك، فلماذا أُحْرَم حتى من القليل منها؟ إن كل يوم تطلع فيه الشمس أرى فيه دروسًا تفسد على دروس القناعة والزهد. فهذا عالم يجد ويكد ولا يجد ما يسد رمقه، وهذه الخيزران أم الرشيد تبلغ غلتها في العام مائة وستين مليونًا من الدراهم. هذا مؤلف ينفق عمره في تأليف كتاب أو كتب، ولا يجازى على ما فعل. وهذه جارية تعجب الرشيد فيأمر يحيى بن خالد البرمكي أن يشتريها له بمائة ألف دينار. هذا سخيف يذكر نادرة تضحك الخليفة فيمنحه المال بالهيل والهيلمان، وهذا ناصح فيبعده ويقصيه، وهذا شاعر يمدحه فيجعله فوق البشر فيمنحه من المال ما يشاء، وهذا الرشيد يرضى عن جاريته «ذات الخال» يومًا فيحلف أنها لا تسأله في ذلك اليوم شيئًا إلا فعل. فهل هذا عالم معقول؟ إن الجنون أنواع، فنوع منه في البيمارستان، نوع في قصور الخلفاء، ونوع موزع على سائر الناس؛ غير أن الأول يبعث على الرحمة، والثاني يبعث على النقمة، والأخير يبعث على الإشفاق.

لقد نيَّفتُ على الخمسين وأنا أجرب العقل فلم ينجح. أفلا يكون من الصواب أن أجرب الجنون مرة لعله ينجح؟

إن أردتَ السعادة فعليك بأحد أمرين: إما أن تعيش عاقلًا وسط العقلاء، أو مجنونًا بين مجانين. أما أن تعيش عاقلًا وسط مجانين، أو مجنونًا بين عقلاء. فذلك العذاب. وقد عشت طويلًا عاقلًا بين مجانين فشقيت؛ فخير أن أجن وأعيش عيشتهم وأضحكهم وأضحك منهم.

فكَّر «أبو العبر» في ذلك طويلًا، ثم خرج من تفكيره إلى أن يكون أضحوكة الناس. إن لقبي أبو العباس، وهو لقب جِد، فلأطرحه ولأطأه بقدمي إعلانًا بإخفاق الجد في هذا العالم. وهو أيضًا لقب يرمز به إلى بيت العباس، وماذا جنيت منه إلا الفقر والبؤس وسوء الحال وخيبة المصير؟ خير لك أن تتلقب لقبًا يكون عبرة للناس وعنوانًا على أن الجد لم ينجح، وقد ينجح الهزل. فلتتوكل على الله، ولتكن كنيتك من الآن أبا العِبَر.

خرج «أبو العبر» على الناس بفنون شتى من الأضاحيك، فبدأ يسطع نجمه، وكلما نجح شجعه النجاح على الإمعان في السخف، حتى بلغ في ذلك الغاية وعلا صيته، وتناقل الناس نوادره، ودوَّى اسمه في العراق وغير العراق، عَلَمًا على الضحك والسرور. ويكفي أن يذكر الناس اسم أبي العبر ليتهيئوا للضحك، ويكفي أن يذكروا له نادرة حتى يمسكوا أحشاءهم من كثرة الضحك.

لقد كان يألم من أنه لم يبلغ ما بلغ أبو تمام والبحتري وأضرابهما، ففاتهم شهرة وعلاهم صيتًا.

وكان أول ما بدأ به أنه طبق نظريته في الشعر، فخصص نفسه للشعر البارد، فكان يعمد إلى القصائد الجدية فيقلبها قصائد هزلية؛ يسمع البحتري يقول:

من أي ثغر تبتسم
وبأي طرف تحكتم

فيقول هو:

في أي سلح ترتطم
وبأي كف تلتطم

وهكذا، والناس يضحكون منه، ويصفقون له، والخلفاء تسمع هذا منه، وتمنحه من الجوائز فوق ما يجيزون الجد.

ثم أخذ يعمد إلى فن آخر طريف وهو فن «المفارقات»، فيتكلم كلامًا غريبًا لا يُفهَم، ولكنه يُضحك، فكلمة من الشرق بجانب كلمة من الغرب، وكلمة على السفينة وأخرى على التفاحة، وثالثة على المبتدأ والخبر، وهكذا «سمك. لبن. تمر هندي». وقد سئل مرة: كيف تحضِّر هذه المفارقات الغريبة، وكيف يمكنك جمعها على شذوذها وبُعد أوصالها؟ قال: «أبكّر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والمَلاّحين والمُكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضًا، وألصقه مخالفًا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه».

هذا كله في باب المضحكات من الأقوال، ولكنه لم يقتصر عليها، فتفنن أيضًا في المضحكات من الأفعال؛ فكان — مثلًا — يمشي في الشارع ومعه سلم، أو يحمل في يده سمكة، فإذا سئل: لِم يفعل ذلك؟ أمطر سائله بإجابات مخزية تثير الضحك. ويجلس في الشارع وحوله المُجَّان ويلبس في رأسه لباس رجله، وفي رجله لباس رأسه، وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى يجتمع الناس، ويشترط على الحاضرين ألا يضحكوا، فمن ضحك فعليه عقوبة، ويأخذ في أحاديثه وأفاعيله، فمن ضحك وكان وضيعًا صب على رأسه ماء وحمأة مما بجانبه، وإن كان شريفًا رش عليه ماء من قصبة في يده، وحبسه حتى يغرم درهمين.

ورئي مرة وبيده اليسرى قوس وعلى يده اليمنى باشق وعلى رأسه قطعة رئة في حبل مشدود بأنشوطة، وقد ألقى شصًا في الماء، وربطه بحزامه. فقيل له: ما تصنع؟ قال: يا أحمق أصطاد بجميع جوارحي، إذا مر بي طائر رميته عن القوس، وإن سقط قريبًا مني أرسلت إليه الباشق، والرئة التي على رأسي تجيء الحدأة لتأخذها فتقع في الوهق، وإذا جاء السمك في الشص أحسست به فأخرجته.

وهكذا وهكذا.

فملأ العراق بأضاحيكه، وكان ينتقل من سُرَّ من رأى إلى بغداد، ومن بغداد إلى الكوفة، فيتحدث الناس بحضوره ورحيله كما يتحدثون بأمير أو عظيم.

وانهال عليه المال انهيالًا حتى لم يكن يدري ما يصنع به، ولامه بعض الشعراء على سلوكه مع فضله وأدبه فقال له: يا أحمق! أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت؟

وتحدث رجل إلى آخر: «ألا يأنف الخليفة لابن عمه مما قد شهر به وفضح عشيرته؟» فقال له الآخر: «ويحك! والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته».

ووقف البيت العباسي في أمره موقفين مختلفين. فأما بعضهم فغضب من ذلك! وشعر بأن هذه الأعمال سبة البيت وفضيحته؛ لذلك أمر الخليفة المستعينُ إسحاقَ بن إبراهيم (محافظ بغداد) أن يأخذه ويحبسه! فصاح أبو العبر في الحبس: «لي نصيحة. لي نصيحة!» فأخرج ودعا به إسحاق فقال: هات نصيحتك! قال: على أن تؤمنني؟ قال: نعم. قال أبو العبر: «الكشكية لا تطيب إلا بالكشك»، فضحك الحاضرون، ومنهم إسحاق. وما زال يهذي بمثل هذه النصائح، فقالوا: مجنون. وأخرجوه.

وأما المتوكل فأفسح له صدره واتخذه سُخْرِيَّا له، فكان يرميه بالمنجنيق في الماء ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك، ويضحك من ذلك، ويعطيه ما لا يعطي الشعراء.

وأفلح أبو العبر في الضحك على الناس ونال بالتحامق ما لم ينله بالتعاقل.

فأما هو فقد انتقم لنفسه من الناس، ومن بيت العباس، وقال: لو نفق العقل لعقلت، ولو راج الجد لجددت، ولكن حَمق الناس فتحامقت.

وأما غيره فقال: «أنا والله لا أعذره، ولو حاز بحمقه الدنيا بأسرها».

فليحكم القارئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤