الفصل الثالث

اللغة، الإبداع، العاطفة

تبدو بعض مجالات الذكاء الاصطناعي صعبة للغاية، وهي: اللغة والإبداع والعاطفة. وإن لم يتمكن الذكاء الاصطناعي من نمذجة تلك المجالات، فستذهب آمال الذكاء الاصطناعي العام أدراج الرياح.

في كل حالة، تحقَّق أكثر ممَّا يتصوَّره العديد من الناس. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا تزال هناك صعوبات ضخمة. ومن ثَم لم تحدث نمذجة لهذه المجالات «البشرية» الأصيلة إلا إلى حدٍّ معيَّن. (ناقشنا في الفصل السادس ما إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تتمتع بعاطفة أو إبداع أو فهم حقيقي أم لا. والسؤال هنا يدور حول ما إذا كانت تمتلك تلك المهارات في الظاهر أم لا).

اللغة

كثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي يستخدم خاصية معالجة اللغات الطبيعية. معظم تلك الأنظمة يركِّز على «فهم» الكمبيوتر للغة التي تُقدَّم له ولا يركِّز على مُخرَجاته اللغوية. والسبب في ذلك أن توليد معالجة اللغات الطبيعية أصعب من قبول معالجة اللغات الطبيعية.

تتعلق الصعوبات بكلٍّ من المحتوى الموضوعي والشكل النحوي. على سبيل المثال، رأينا في الفصل الثاني أنه يمكن استخدام تسلسلات الإجراءات المعتادة («النصوص») باعتبارها بذرة لقصص الذكاء الاصطناعي. لكن بالنسبة إلى مسألة ما إذا كان تمثيل المعرفة في الخلفية يتضمن ما يكفي من الدوافع البشرية لتأليف قصة مثيرة، فتلك قضية أخرى. النظام المتاح تجاريًّا الذي يكتب ملخَّصات سنوية تصف الوضع المالي المتغير لشركة ما يولد «قصصًا» مملة للغاية. الروايات التي أُنتجت باستخدام الكمبيوتر وحبكات المسلسلات التليفزيونية موجودة بالفعل، لكنها لن تفوز بأي جوائز على حسن الحبكة. (ترجمات الذكاء الاصطناعي/ملخصات النصوص التي يكتبها الإنسان قد تكون أثرى، ولكن يعود الفضل إلى المؤلفين من البشر).

بالنسبة إلى الشكل النحوي، يحتوي نثر الكمبيوتر على أخطاء نحوية في بعض الأحيان، وعادةً ما يكون غير متقِن للغاية. يمكن أن يكون لسرد أنتوني ديفي المنشأ باستخدام الذكاء الاصطناعي للعبة «إكس أو» (تيك تاك تو) بنيات فقرات أساسية/فرعية تتطابق مع ديناميكيات اللعبة بطريقة مناسبة تمامًا. لكن الاحتمالات والاستراتيجيات للعبة الناعورة مفهومة تمام الفهم. ستزيد صعوبة وصف تتابع الأفكار أو أعمال الشخصيات الرئيسية بطريقة منمَّقة مثل القصص التي يكتبها البشر.

بالانتقال إلى قبول الذكاء الاصطناعي للغة، بعض الأنظمة بسيطة إلى حد الملل؛ فهي لا تتطلب سوى التعرف على الكلمات الرئيسية (مثل «القوائم» في تجارة التجزئة الإلكترونية)، أو التنبؤ بالكلمات المدرَجة في القواميس (مثل التكملة التلقائية التي تحدث عند كتابة رسائل نصية). هناك أنظمة أخرى أكثر تطورًا وتعقيدًا إلى حد كبير.

بعض تلك الأنظمة يتطلب التعرف على الكلام، إما على الكلمات المفردة مثل التسوق الآلي عبر الهاتف، وإما على الحديث المستمر مثل الترجمة التليفزيونية في الوقت الفعلي والتنصت على الهاتف. في الحالة الأخيرة، قد يكون الهدف انتقاء كلمات معينة (مثل كلمة «تفجير» وكلمة «جهاد») أو فهم جملة كاملة، وهذا ما يثير الاهتمام أكثر. تلك هي معالجة اللغات الطبيعية؛ وزيادة على ذلك، يجب التمييز أولًا بين الكلمات نفسها التي تتلفظ بها مختلف الأصوات وبمختلف اللهجات المحلية والأجنبية. (يتوفَّر التمييز بين الكلمات مجانًا في النصوص المطبوعة). أدى التعلم العميق (انظر الفصل الرابع) إلى إحراز تقدم كبير في معالجة الكلام.

من الأمثلة الرائعة على ما يشبه فهم الجملة الكاملة الترجمة الآلية، وتجميع البيانات من المجموعات الضخمة من نصوص اللغة الطبيعية، وتلخيص المقالات في الصحف والدوريات، والإجابة عن الأسئلة ذات النطاق الحر (وكثيرًا ما تُوظَّف في عمليات البحث باستخدام جوجل وفي تطبيق «سيري» لأجهزة آيفون).

لكن هل يمكن لتلك الأنظمة أن تفهم اللغة؟ هل يمكن أن تتسق مع النحو على سبيل المثال؟

في بدايات بزوغ الذكاء الاصطناعي، ظنَّ الناس أنَّ فهم اللغة يتطلب الإعراب النحوي. وبُذلت جهود كبيرة في برامج الكتابة حتى تؤدي تلك المهمة. المثال البارز هو برنامج «شردلو» SHRDLU الذي ابتكره تيرى فينوجراد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وهو ما لفت انتباه عدد لا يُحصى ممَّن لم يسبق لهم السماع عن الذكاء الاصطناعي أو قالوا إن تحقيقه مستحيل.

قبِل هذا البرنامج تعليمات باللغة الإنجليزية تخبر الروبوت أن يبني تراكيب مكوَّنة من كلمات متنوعة، واكتشف كيف أنه ينبغي نقل كلمات معيَّنة من أجل تحقيق الهدف. لقد ترك البرنامج أثرًا كبيرًا لعدة أسباب، وبعض تلك الأسباب ينطبق على الذكاء الاصطناعي بوجه عام. والمهم في هذا المقام هو قدرته غير المسبوقة على تعيين بنية نحوية مفصَّلة للجمل المعقَّدة، مثل الجملة الآتية: كم بيضة ستستخدمها في عمل الكعكة إذا لم تكُن تعلم أن وصفة جدتك كانت خطأً؟ (جرِّب!)

في الأغراض التكنولوجية، تبين أن برنامج «شردلو» محبط. تضمن البرنامج كثيرًا من الأخطاء؛ ومن ثَم لا يمكن لغير الباحثين ذوي المهارات العالية أن يستخدموه. حينذاك، بُنيت العديد من أدوات تحليل التراكيب النحوية، ولكن لم يكُن تعميمها على النصوص الواقعية أمرًا ممكنًا. باختصار، سرعان ما تبيَّنت الصعوبة البالغة أمام الأنظمة الجاهزة كي تحلل التراكيب المعقدة.

لم تكُن التراكيب المعقدة هي المشكلة الوحيدة. في استخدام لغة البشر، يُعد السياق والصلة بالموضوع أيضًا ذوَي أهمية. ولم يكُن واضحًا ما إذا كان بإمكان الذكاء الاصطناعي معالجتهما أم لا.

أعلن تقرير اللجنة الاستشارية للمعالجة التلقائية للغات التابعة للحكومة الأمريكية لعام ١٩٦٤ أن الترجمة الآلية عملية مستحيلة. بالإضافة إلى التنبؤ بعدم رغبة كثيرين في استخدام الترجمة الآلية؛ وهو ما يجعلها غير مُجدية تجاريًّا (على الرغم من أن المساعدة التي تقدمها للمترجمين البشر قد تكون مُجدية)، قال التقرير إن أجهزة الكمبيوتر ستواجه صعوبة مع التراكيب اللغوية، وستنهار أمام السياق، وفوق كل هذا ستغفل الصلة بالموضوع.

كان هذا التقرير كالصاعقة بالنسبة إلى الترجمة الآلية (حيث توقف تمويلها فعليًّا بين عشية وضحاها) وإلى الذكاء الاصطناعي بوجه عام. فسَّر كثيرون التقرير على أنه يُظهر عدم جدوى الذكاء الاصطناعي. قال الكتاب الأكثر مبيعًا «أجهزة الكمبيوتر والتفكير السليم» (الصادر عام ١٩٦١): إن الذكاء الاصطناعي كان إهدارًا للمال العام. والآن، يبدو أن أفضل خبراء الحكومات يوافقون على ذلك. وكذلك كادت جامعتان أمريكيتان أن تفتحا أقسامًا للذكاء الاصطناعي، ولكنهما ألغيا القرار.

استمر العمل في الذكاء الاصطناعي على الرغم من ذلك، وعندما أظهر برنامج «شردلو» قدرته على فهم التراكيب اللغوية بعد بضع سنوات، بدا الأمر وكأنه إثبات منتصر للذكاء الاصطناعي التقليدي الجميل. لكن سرعان ما تسلَّلت الشكوك؛ ومن ثَم وجهت معالجة اللغات الطبيعية اهتمامها المتزايد صوب السياق بدلًا من التركيب اللغوي.

أخذ بعض الباحثين السياق الدلالي على محمل الجد حتى في أوائل خمسينيات القرن العشرين. تعاملت مجموعة مارجريت ماسترمان في كامبريدج في إنجلترا مع الترجمة الآلية (واسترجاع المعلومات) باستخدام مسرد المترادفات بدلًا من القاموس. رأت المجموعة أن التركيب اللغوي «جزء سطحي للغاية وزائد في اللغة، ويغفله [مَن هم في عجلة من أمرهم]، وهم مُحقُّون في ذلك»، وجعلت تركيزها منصبًّا على مجموعات الكلمات بدلًا من الكلمات المفردة. فبدلًا من محاولة ترجمة كلمة مقابل كلمة، بحثوا في النصوص المحيطة بحثًا عن كلمات تحمل المعنى نفسه. وهذه الخاصية (عندما تعمل) تتيح ترجمة الكلمات الغامضة ترجمةً صحيحة. ومن ثَم، كلمة bank يمكن ترجمتها إلى العربية على أنها «ضفة» أو «مصرف» بناءً على السياق الذي وردت فيه، مثل الحديث عن «المياه» أو عن «المال» على التوالي.

يمكن تعزيز هذا النهج السياقي القائم على مسرد المترادفات بمراعاة الكلمات التي كثيرًا ما يَرِد بعضها مع بعض على الرغم من اختلاف معانيها (مثل كلمة «سمك» وكلمة «ماء»). وهذا ما يحدث بمرور الوقت. وإلى جانب التمييز بين الأنواع المختلفة للتشابه المعجمي — المترادفات (فارغ/شاغر)، والأضداد (فارغ/ممتلئ)، والانتماء إلى فئة (سمكة/حيوان)، والشمول (حيوان/سمكة)، ومستوى الفئة المشتركة (سمك القد/السالمون)، والجزء/الكل (زعنفة/سمكة)، فإن الترجمة الآلية اليوم تتعرف على التوارد الموضوعي (سمكة/مياه، سمكة/ضفة، سمكة/سفن، وهكذا).

أصبح واضحًا الآن أن تناول التراكيب اللغوية المعقدة ليس ضروريًّا من أجل تلخيص نصوص اللغات الطبيعية أو طرح أسئلة عنها أو ترجمتها. واليوم، تعتمد معالجة اللغة الطبيعية على قوة الإمكانيات (إمكانيات الحوسبة) أكثر من اعتمادها على العقل (التحليل النحوي). تغلَّبت الرياضيات — لا سيما الإحصاء — على المنطق، وحلَّ تعلُّم الآلة (على سبيل المثال لا الحصر، التعلم العميق) محل تحليل التراكيب اللغوية. هذه النُّهُج الجديدة في معالجة اللغات الطبيعية، بدءًا من النصوص المكتوبة إلى التعرف على الكلام، تتسم بالكفاءة لدرجة أن يُتخذ معدل نجاح نسبته ٩٥٪ معيارًا لقبول التطبيقات العملية.

في معالجة اللغات الطبيعية الحديثة، تُجري أجهزة كمبيوتر قوية عملياتِ بحثٍ في مجموعات ضخمة (موسوعات) من النصوص للبحث عن أنماط الكلمات، سواء الشائعة أو غير المتوقَّعة (وبشأن الترجمة الآلية، هذه عبارة عن نصوص ثنائية اللغة ترجمها بشر). بإمكان تلك المعالجة أن تتعلَّم الاحتمالية الإحصائية لكلمات مثل «سمك/مياه»، أو «سمك/شرغوف»، أو «سمك ورقائق بطاطس/ملح وخل». (حسبما أشير في الفصل الثاني)، بإمكان معالجة اللغات الطبيعية أن تتعلم بناء «متجهات الكلمات» التي تمثل السحب المحتملة للمعنى الذي يخدم مفهومًا معينًا. لكن بوجه عام، ينصب التركيز على الكلمات والعبارات وليس التركيب اللغوي. لم يُغفل النحو؛ يمكن تعيين تسميات مثل «صفة» أو «حال» — إما تلقائيًّا وإما يدويًّا — إلى بعض الكلمات في النصوص الخاضعة للفحص. ولكن قلما يُستخدم تحليل التراكيب اللغوية.

حتى التحليل الدلالي المفصل ليس بارزًا. يستخدم علم المعاني «الحاسوبي» التراكيب اللغوية في تحليل معاني الجمل، لكنه يوجد في المختبرات البحثية وليس في التطبيقات الواسعة النطاق. تمتلك أداة التفكير «المنطقي» «سي واي سي» تمثيلات دلالية كاملة نسبيًّا للمفاهيم (الكلمات) التي تحتويها؛ ومن ثَم تفهمها فهمًا أفضل (انظر الفصل الثاني). ولكن لا يزال هذا غير عادي.

يمكن أن تحقِّق الترجمة الآلية في الوقت الحالي نجاحًا باهرًا. بعض الأنظمة مقيَّدة بعدد صغير من الموضوعات، ولكن هناك أنظمة أخرى مفتوحة أكثر. تقدِّم خدمة الترجمة من جوجل الترجمة الآلية في موضوعات غير مقيدة لما يزيد على ٢٠٠ مليون مستخدم كل يوم. نظام «سيستران» يستخدمه الاتحاد الأوروبي (لأكثر من ٢٤ لغة) وحلف الناتو وشركة زيروكس وجنرال موتورز.

توشك العديد من هذه الترجمات، بما فيها وثائق الاتحاد الأوروبي، أن تبلغ حد الكمال (لأنه لا تُستخدم سوى مجموعة فرعية من الكلمات في النصوص الأصلية). لكن كثيرًا من الترجمات غير مثالي، ولكن يسهُل فهمه لأن القارئ المطَّلِع يمكنه تجاهل الأخطاء النحوية واختيارات الكلمات غير الموفقة — مثلما يفعل المرء عندما يستمع إلى متحدِّث لا يتحدث بلغته الأصلية. وبعض النصوص تتطلب أن يُجري المترجمون تعديلات طفيفة بعد الترجمة. (في اللغة اليابانية، قد يتطلب الأمر تعديلًا كبيرًا قبل الترجمة وبعدها. لا تحتوي اللغة اليابانية على كلمات مجزَّأة، مثل الفعل vot-ed في الزمن الماضي في اللغة الإنجليزية حيث يضاف المقطع ed، كما يُعكس ترتيب العبارات. وعادةً ما يصعب المطابقة الآلية للغات من مجموعات اللغات المختلفة).

باختصار، عادةً ما تكون نتائج الترجمة الآلية جيدة بالدرجة التي يفهمها المستخدم البشري. وبالمثل، برامج معالجة اللغات الطبيعية «أحادية اللغة» التي تلخِّص المقالات الصحفية يمكن أن تُبيِّن هل المقال يستحق القراءة بالكامل أم لا. (يمكن القول إن الترجمة المثالية مستحيلة على أي حال. على سبيل المثال، يتطلب طلب تفاحة في اليابانية لغةً تُبرز الوضع الاجتماعي المقارن للمحاورين، ولكن لا توجد فروق مكافئة في اللغة الإنجليزية).

أما الترجمة الآلية في الزمن الحقيقي، والتي تُتاح على بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل «سكايب»، فهي أقل نجاحًا. يرجع السبب في ذلك إلى أن النظام ينبغي أن يتعرف على الكلام وليس على نصوص مكتوبة (حيث إنه يُفصل بين الكلمات الفردية فصلًا واضحًا).

ظهر تطبيقان بارزان آخران من تطبيقات معالجة اللغات الطبيعية بأشكال استرجاع المعلومات، وهما: «البحث الموزون» (الذي أطلقته مجموعة ماسترمان عام ١٩٧٦) و«التنقيب عن البيانات». على سبيل المثال، محرك البحث جوجل يبحث عن المصطلحات الموزونة بمدى الصلة بالموضوع — ويتم التقييم إحصائيًّا وليس دلاليًّا (أي من دون فهم). يبحث التنقيب عن البيانات عن أنماط الكلمات التي لا يشك فيها المستخدم البشري. يُستخدم التنقيب عن البيانات منذ مدة طويلة في عمليات البحث عن المنتجات والعلامات التجارية في الأسواق، ويطبَّق الآن (غالبًا باستخدام التعلم العميق) على «البيانات الضخمة»: وتعني عمليات الجمع الضخمة للنصوص (متعدِّدة اللغات في بعض الأحيان) أو الصور، مثل التقارير العلمية أو السجلات الطبية أو المدخلات على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت.

تتضمن تطبيقات التنقيب عن البيانات الضخمة المراقبة ومكافحة الجاسوسية ورصد المواقف العامة للحكومات وصناع السياسات وعلماء الاجتماع. تقارن هذه الاستفسارات بين الآراء المتغيرة للمجموعات الفرعية المتميزة: الرجال/النساء، الشباب/الكبار، الشمال/الجنوب، وهكذا. على سبيل المثال، حلَّل مركز الأبحاث البريطاني ديموس (بالتعاون مع فريق تحليل بيانات معالجة اللغات الطبيعية بجامعة ساسكس) آلاف الرسائل على موقع «تويتر» المتعلقة بكراهية النساء والمجموعات العرقية والشرطة. يمكن البحث عن التدفقات المفاجئة من التغريدات بعد أحداث معينة («حوادث تويتر») لاكتشاف التغييرات في الرأي العام حول رد فعل الشرطة على حادثة معينة على سبيل المثال.

يبقى أن نرى هل معالجة اللغات الطبيعية في البيانات الضخمة سيؤدي بالضرورة إلى نتائج مفيدة أم لا. وفي كثير من الأحيان، لا يسعى التنقيب عن البيانات (باستخدام التحليل الدلالي) إلى قياس مستوى الاهتمام العام فحسب، بل أيضًا إلى قياس النبرة التقييمية للعامة. ولكن الكلام لا يكون صريحًا. على سبيل المثال، قد تحتوي تغريدة على كلام عنصري مهين في الظاهر؛ ومن ثَم تشفِّره الآلة على أنه «كلام سلبي» من حيث الدلالة، وهو ليس مهينًا في حقيقته. وقد يحكم إنسان حينما يقرأ التغريدة أن المصطلح المستخدم (في هذه الحالة) علامة إيجابية بالنسبة إلى هوية جماعة، أو أنه وصف محايد (مثل متجر «باكي» عند الزاوية) وليس إهانة أو إساءة. (توصَّل البحث التجريبي إلى أنه لا توجد سوى نسبة ضئيلة من التغريدات التي تنطوي على مصطلحات عرقية/إثنية عدائية بالفعل).

وفي تلك الحالات، سيعتمد حكم الإنسان على السياق، كأن يعتمد على الكلمات الأخرى في التغريدة. قد يكون من الممكن تعديل معايير البحث الخاصة بالآلة بحيث يقل الانتساب إلى «المشاعر السلبية». ثم مرةً أخرى، قد لا يكون الأمر كذلك. فكثيرًا ما تكون هذه الأحكام مثيرة للخلاف. حتى في وقت الاتفاق، قد يصعب تحديد أنماط السياق التي تبرِّر تفسير الإنسان.

هذا مجرَّد مثال واحد على صعوبة تحديد مدى الصلة بالموضوع من حيث المنظور الحاسوبي (أو حتى الشفهي).

هناك تطبيقان معروفان في معالجة اللغات الطبيعية قد يبدوان للوهلة الأولى أنهما يتعارضان مع هذا الكلام، وهما: تطبيق «سيري» من أبل، وتطبيق «واتسون» من آي بي إم.

تطبيق «سيري» هو مساعد شخصي (قائم على القواعد)، و«روبوت دردشة» متحدِّث يمكنه الإجابة عن العديد من الأسئلة المختلفة بسرعة. التطبيق يمكنه الوصول إلى كل شيء على الإنترنت — بما في ذلك خرائط جوجل وويكيبيديا وجريدة «نيويورك تايمز» التي لا يتوقَّف تحديثها وقوائم الخِدمات المحلية مثل الضرائب والمطاعم. التطبيق يمكنه الوصول أيضًا إلى الموقع القوي للإجابة عن الأسئلة «وولفارم ألفا» الذي يمكنه استخدام التفكير المنطقي لاستنباط الإجابات عن مجموعة كبيرة من الأسئلة الحقيقية، وليس مجرَّد البحث عن تلك الإجابات.

يقبل تطبيق «سيري» الأسئلة المنطوقة من المستخدم (حيث إنه يتكيَّف تدريجيًّا مع صوت المستخدم ولهجته)، ويجيب عنها باستخدام البحث على شبكة الإنترنت وتحليل المحادثات. يدرس تحليل المحادثات كيف يرتِّب الناس تسلسل الموضوعات في المحادثة، وكيف ينظِّمون التفاعلات مثل الشرح والاتفاق. هذا النهج يُمكِّن تطبيق «سيري» من التفكير في الأسئلة مثل «ما الذي يريده المحاور؟» و«ما الإجابة التي ينبغي أن يجيب بها؟» حتى إنه يتكيَّف مع اهتمامات المستخدم الفردية وتفضيلاته.

باختصار، يبدو أن تطبيق «سيري» ليس حساسًا تجاه الصلة بالموضوع فحسب، بل تجاه الصلة بالتفضيلات الشخصية أيضًا. ومن ثَم التطبيق مثير للإعجاب في ظاهره. ومع ذلك، يسهل أن يعطي التطبيق إجابات تافهة — وإذا شرد المستخدم عن نطاق الحقائق، يضل تطبيق «سيري» الإجابة.

وتطبيق «واتسون» أيضًا يركِّز على الحقائق. وباعتباره موردًا جاهزًا (يحتوي على ٢٨٨٠ معالجًا أساسيًّا) لمعالجة البيانات الضخمة، والتطبيق مستخدم بالفعل في بعض مراكز الاتصال، ويجري تكييفه مع بعض الاستخدامات الطبية مثل تقييم علاجات السرطان. ولكنه لا يجيب عن الأسئلة المباشرة فحسب مثل تطبيق «سيري». يمكنه أيضًا التعامل مع الألغاز التي تنشأ في لعبة المعرفة العامة «جيوباردي!» (Jeopardy).

في لعبة «جيوباردي!» لا تُطرح أسئلة مباشرة على اللاعبين، بل تعطى لهم تلميحات وعليهم التخمين عمَّ يكون السؤال المرتبط بذلك التلميح. على سبيل المثال، يُقال لهم «في ٩ مايو ١٩٢١، هذه الخطوط الجوية «المعروفة عن ظهر قلب»، فتحت أول مكتب للسفر في أمستردام»، وعلى اللاعب أن يجيب عن السؤال الآتي: «ما الخطوط الجوية الملكية الهولندية؟»

باستطاعة تطبيق «واتسون» أن يجيب عن هذا السؤال والعديد من الأسئلة الأخرى. وعلى خلاف تطبيق «سيري»، فإن إصدار اللعبة «جيوباردي!» ليس له اتصال بالإنترنت (على الرغم من أن الإصدار الطبي له اتصال بالإنترنت)، ولم يُغذَّ بأي فكرة عن بنية المحادثات. ولا يمكنه اكتشاف الإجابة عن طريق التفكير المنطقي. بل إنه يستخدم البحث الإحصائي المتوازي على نطاق واسع عبر قاعدة بيانات هائلة ولكنها مغلقة. تحتوي تلك القاعدة على مستندات — مراجعات وكتب مرجعية لا حصر لها، بالإضافة إلى مجلة «نيويورك تايمز»، حيث إنها تقدم حقائق عن الجذام إلى لِست وحقائق عن الهيدروجين إلى هيدرا، وهكذا. عند ممارسة لعبة «جيوباردي!» تُوجَّه عمليات البحث فيه بمئات الخوارزميات ذات التصميم الخاص، والتي تُبرز الاحتمالات الكامنة في اللعبة. ويمكن أن تتعلم من تخمينات المتسابقين البشريين.

في عام ٢٠١١، نافس تطبيق «واتسون» كمبيوتر «ديب بلو» من شركة آي بي إم الذي نافس كاسبروف (انظر الفصل الثاني)؛ إذ واضحٌ أنه هزم أفضل بَطلَين بشريَّين. («واضح» لأن الكمبيوتر يتفاعل على الفور في حين أن الإنسان يحتاج بعض الوقت للتفاعل قبل أن يضغط على الجرس). ولكن كما حدث مع كمبيوتر ديب بلو، لم يحُز الفوز في كل مرة.

في إحدى المرات، خسر لأنه على الرغم من تركيزه بشكلٍ صحيح على ساق رياضية معينة، فإنه لم يدرك أن الحقيقة الحاسمة في بياناته المخزنة هي أن هذا الشخص قد فقد ساقه. لن يتكرَّر هذا الخطأ لأن مبرمجي «واتسون» أشاروا إلى أهمية كلمة «مفقود». لكن ستحدث أخطاء أخرى. حتى في سياقات البحث عن الحقائق العادية، غالبًا ما يعتمد الأشخاص على أحكام ذات صلة تفوق قدرات «واتسون». على سبيل المثال، تطلبت إحدى الإشارات هوية اثنين من حواريي المسيح، واسمهما من أشهر أسماء الأطفال، وينتهيان بالحرف نفسه. كانت الإجابة «ماثيو وأندريو»، وقد توصَّل تطبيق «واتسون» إلى الإجابة فورًا. كما توصَّل البطل البشري إلى الإجابة هو الآخَر. ولكن راوده في البداية الاسمان «جيمس وجوداس». نبذ تلك الإجابة، وتذكَّر أن السبب الوحيد هو «أنه لا يعتقد أن اسم جوداس مشهور بين الأطفال لسبب أو لآخر». لم يفعل تطبيق «واتسون» ذلك.

غالبًا ما تكون الأحكام البشرية ذات الصلة بالموضوع أقل وضوحًا من ذلك بكثير، وتكون دقيقة للغاية بالنسبة إلى معالجة اللغات الطبيعية الحالية. في الحقيقة، الصلة بالموضوع نسخة لغوية/مفاهيمية من «مشكلة الإطار» المستعصية في الروبوتات (انظر الفصل الثاني). ويقول كثيرون إنه لن يتمكَّن نظام غير بشري من إتقانها إتقانًا تامًّا. سنناقش في الفصل السادس ما إذا كان ذلك نابعًا من التعقيد الهائل وحده أم من حقيقة أن ربط الموضوعات متأصل في تكويننا البشري على وجه التحديد.

الإبداع

الإبداع هو القدرة على إنتاج أفكار أو أعمال فنية جديدة ومثيرة للدهشة وقيمة، وهو قمة الذكاء البشري، كما أنه ضروري من أجل الذكاء الاصطناعي العام على مستوى الإنسان. لكن يراه كثيرون على أنه شيء غامض. ليس واضحًا كيف تبادر الأفكار الجديدة إلى عقل الإنسان، ناهيك عن أجهزة الكمبيوتر.

حتى إدراك تلك الأفكار ليس مباشرًا؛ فغالبًا ما يختلف الناس هل الفكرة مبدِعة أم لا. تدور بعض الخلافات حول ما إذا كانت الفكرة جديدة بالفعل أم لا وبأي معنًى. قد لا تكون الفكرة جديدة إلا على الفرد المعني، أو حتى جديدة على تاريخ البشرية بالكامل (بحيث تجسد الإبداع «الفردي» و«التاريخي» على التوالي). وعلى أي حال، قد يزيد وجه التشابه أو يقل مع أفكار سابقة، وهو ما يترك مساحة لمزيد من الاختلافات). تدور الخلافات الأخرى حول القيمة (التي تتضمن الوعي الوظيفي والاستثنائي في بعض الأحيان؛ انظر الفصل السادس). يمكن للفكرة أن تقيمها فئة اجتماعية دون غيرها. (لنضرب مثالًا بالازدراء الذي يوجهه الشباب اليوم لأي شخص يعتز بأقراص «دي في دي» من أبا).

يُفترض عمومًا أن الذكاء الاصطناعي ليس لديه أي شيء مثير للاهتمام يقوله عن الإبداع. لكن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ولدت كثيرًا من الأفكار الجديدة تاريخيًّا والمثيرة للدهشة والقيمة. تنشأ هذه الأفكار على سبيل المثال في تصميم المحركات والمستحضرات الصيدلانية وأنواع مختلفة من فنون الكمبيوتر.

إضافةً إلى ذلك، تساعد مفاهيم الذكاء الاصطناعي في شرح الإبداع البشري. فهي تمكِّننا من التمييز بين ثلاثة أنواع، وهي: الإبداع التوافقي والاستكشافي والتحويلي. تتضمن تلك الأنواع آليات نفسية مختلفة، وهو ما يثير أنواعًا من المفاجآت.

في الإبداع التوافقي، يجري توفيق الأفكار المعتادة بطرق غير معتادة. تتضمن الأمثلة الملصقات المرئية والصور الشعرية والتشبيهات العلمية (تشبيه القلب بالمِضخة والذرة بالمجموعة الشمسية). يخلق التوفيق الجديد مفاجأةً إحصائية؛ فقد كان الأمر مستبعدًا كلاعب فرصته ضعيفة في مسابقة ولكنه فاز فيها. لكن التوفيق مفهوم وقيِّم للغاية. يعتمد «مستوى القيمة» على الأحكام ذات الصلة التي ناقشناها مسبقًا.

الإبداع الاستكشافي تقل فيه سمة التميز؛ حيث إنه يستخدم بعض طرق التفكير ذات التقدير الثقافي (مثل أساليب الرسم أو الموسيقى، أو المجالات الفرعية للكيمياء أو الرياضيات). تُستخدم القواعد الأسلوبية (من دون وعي إلى حدٍّ كبير) للخروج بالفكرة الجديدة، مثلما يتولَّد عن قواعد النحو جمل جديدة. قد يستكشف الرسام/العالم إمكانيات الأسلوب بطريقة لا تترك مجالًا للتفنيد. أو قد يتعمدون التشجيع عليه واختباره، بحيث يكتشفون ما يمكن أن ينتج عنه وما لا يمكن أن ينتج عنه. يمكن أيضًا إدخال تعديلات على الأسلوب عن طريق التغيير الطفيف في قاعدة ما (مثل الإضعاف/التقوية). وعلى الرغم من حداثة التركيب الجديد، فإنه سينظر إليه على أنه يندرج ضمن مجموعة الأساليب المألوفة.

الإبداع التحويلي خليفة الإبداع الاستكشافي، وعادةً ما ينشأ عن التخلص من قيود الأسلوب الحالي. وهنا يتغير قيد أو أكثر من قيود الأساليب تغيرًا جذريًّا (بالحذف، النفي، التكملة، التعويض، الإضافة …) ومن ثَم تنشأ تراكيب جديدة لم يكن إنشاؤها ممكنًا من قبل. تلك الأفكار الجديدة تثير الدهشة في عمقها؛ لأنها في ظاهرها تبدو «مستحيلة». وغالبًا ما تكون غير مفهومة في البداية، حيث إنها لا تُفهم فهمًا تامًّا من حيث طريقة التفكير التي كانت مقبولة من قبل. ولكن يجب أن يكون قربها من طريقة التفكير السابقة واضحًا إذا كان يُبتغى قبولها. (في بعض الأحيان، يستغرق هذا الاعتراف عدة سنوات).

كل أنواع الإبداع الثلاثة تحدث في الذكاء الاصطناعي — ولكن كثيرًا ما ينسب الراصدون النتائج إلى الإنسان (باجتياز اختبار تورينج فعليًّا؛ انظر الفصل السادس). ولكنها ليست بالنسب التي قد يتوقعها المرء.

وعلى وجه الخصوص، عدد الأنظمة التوافقية ضئيل للغاية. قد يعتقد المرء أنه يسهل نمذجة الإبداع التوافقي. وفي النهاية، لا شيء أبسط من جعل الكمبيوتر ينتج ارتباطاتٍ غير مألوفة من الأفكار المخزنة بالفعل. غالبًا ما ستكون النتائج جديدة تاريخيًّا، ومدهشة (إحصائيًّا). ولكن إذا كان يُبتغى تقديرها، فلا بد أن تكون ذات صلة بعضها ببعض. وتلك السمة ليست صريحة كما رأينا. فبرامج تأليف النكات التي ذكرناها في الفصل الثاني تستخدم قوالب نكات كي تساعدها في تأليف نكات ذات صلة. وبالمثل، يبني التفكير المنطقي القائم على الحالات في الذكاء الاصطناعي الرمزي نظائر بفضل الأمثلة المماثلة التركيبية المحولة إلى تعليمات برمجية مسبقًا. ومن ثَم يتضمن الإبداع التوافقي فيها مزيجًا قويًّا من الإبداع الاستكشافي كذلك.

وعلى النقيض من ذلك، قد يتوقع المرء أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أبدًا أن يصوغ نموذجًا للإبداع التحويلي. هذا التوقع أيضًا مغلوط. بالتأكيد لا يستطيع البرنامج فعل شيء أعلى من قدراته. لكن البرامج التطورية يمكنها أن تعدِّل من نفسها (انظر الفصل الخامس). يمكنها أيضًا تقييم أفكارها التي عدَّلتها حديثًا، لكن هذا لا يحدث إلا إذا وفَّر المبرمج معايير انتقاء واضحة. عادةً ما تُستخدم هذه البرامج في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تسعى إلى التجديد، مثل تصميم أدوات علمية أو أدوية جديدة.

لكن هذا الطريق ليس طريقًا ساحرًا إلى الذكاء الاصطناعي العام. فنادرًا ما تتوافر ضمانة لنتائج قيمة. يمكن الاعتماد في بعض البرامج التطورية (في الرياضيات أو العلوم) في التوصل إلى الحل الأمثل، ولكن لا يمكن شرح العديد من المسائل بإدخال تحسينات في البرنامج. الإبداع التحويلي محفوف بالمخاطر بسبب كسر القواعد التي سبق قبولها. يجب تقييم أي تراكيب جديدة، وإلا عمَّت الفوضى. ولكن وظائف اللياقة في الذكاء الاصطناعي اليوم يحددها البشر؛ فالبرامج لا تستطيع أن تعدلها/تطورها من تلقاء نفسها.

الإبداع الاستكشافي أفضل نوع يتناسب مع الذكاء الاصطناعي. الأمثلة لا حصر لها. مُنحت براءات اختراع لبعض أفكار الذكاء الاصطناعي الاستكشافي الجديدة في الهندسة (بما في ذلك فكرة تولَّدت عن برنامج طوَّره مصمِّم مشروع «سي واي سي»؛ انظر الفصل الثاني). وعلى الرغم من أن الفكرة الحاصلة على براءة اختراع «ليست واضحة لشخص ماهر في الفن»، فإنها قد تكمن بشكل غير متوقَّع في إمكانات الأسلوب الذي يجري استكشافه. لا يمكن تمييز بعض استكشافات الذكاء الاصطناعي عن إنجازات الإنسان الرائعة، مثل الألحان الموسيقية التي تؤلفها برامج ديفيد كوب بأسلوب الموسيقار شوبان أو الموسيقار باخ. (كم مرةً يستطيع الإنسان فعل ذلك؟)

لكن حتى الذكاء الاصطناعي الاستكشافي يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على الحكم البشري. فالشخص يجب أن يميِّز القواعد الأسلوبية ويذكرها بوضوح. وعادةً ما يكون هذا صعبًا. أحد الخبراء العالميين في منازل البراري التي صمَّمتها مؤسسة فرانك لويد رايت تخلَّى عن محاولته لوصف الأسلوب المعماري لتلك المنازل، مصرِّحًا بأنه «يكتنفه الغموض». وفي وقت لاحق، ولَّدت «قواعد الشكل» القابلة للحوسبة عددًا غير محدود من تصميمات منازل البراري، ومن ضمنها التصميمات الأصلية التي يزيد عددها على ٤٠ تصميمًا؛ ولا توجد تصميمات غير معقولة. ولكن في النهاية كان المحلل البشري هو المسئول عن نجاح النظام. وإذا تمكَّن الذكاء الاصطناعي العام من تحليل الأساليب (في الفنون والعلوم) من تلقاء نفسه، فستكون الاستكشافات الإبداعية بمثابة عمله الخالص كليةً. وعلى الرغم من الأمثلة الحديثة — المحدودة للغاية — على الأساليب الفنية التي تعرف عليها التعلم العميق (انظر الفصلين الثاني والرابع)، فإن هذا الأمر بالغ الصعوبة.

مكَّن الذكاء الاصطناعي الفنانين البشر من تطوير شكل جديد من أشكال الفن يُسمَّى الفنون المصمَّمة باستخدام الكمبيوتر. تشمل تلك الفنون كلًّا من العمارة والجرافيك والموسيقى وتصميم الرقصات بالإضافة إلى الأدب، غير أن نسبة نجاحه أقل (نظرًا للصعوبات التي تواجه معالجة اللغات الطبيعية بشأن التراكيب والصلة بالموضوع). في الفنون المصمَّمة باستخدام الكمبيوتر، ومقارنة بفرشاة رسم جديدة، فإن جهاز الكمبيوتر ليس مجرَّد أداة تساعد الفنان على إنجاز أعمال قد ينجزها على أي حال. بل إن العمل قد لا يُنجز أو ربما لا يُتخيل من دون الكمبيوتر.

تتضمن الفنون المصمَّمة باستخدام الكمبيوتر أمثلة من أنواع الإبداع الثلاثة. ولأسباب شُرحت من قبل، نادرًا ما يندرج أي فن من الفنون المصمَّمة باستخدام الكمبيوتر ضمن الإبداع التوافقي. (أداة «بينتينج فول»، التي ابتكرها سيمون كولتون، صمَّمت فنونًا تصويرية بصرية لها علاقة بالحرب، ولكن أُعطيت تعليمات مخصَّصة للأداة كي تبحث عن الصور المرتبطة ﺑ «الحرب»، وكانت الصور متاحة بالفعل وجاهزة في قاعدة بياناتها). ومن ثَم يندرج معظم تلك الفنون ضمن الإبداع الاستكشافي أو التحويلي.

في بعض الأحيان، يصمِّم الكمبيوتر العمل الفني بأكمله تصميمًا مستقلًّا عن طريق تنفيذ التعليمات البرمجية التي يكتبها الفنان. ومن ثَم تُنتج أداة آرون (AARON)، التي ابتكرها هارولد كوهين، رسوماتٍ خطية وصورًا ملوَّنة من دون مساعدة (وفي بعض الأحيان تصمم ألوانًا باهرة الجمال لدرجة أن يقول كوهين إنها أفضل من تلوينه هو نفسه).

بالمقارنة بالفنون التفاعلية، فإن الشكل النهائي للعمل الفني يعتمد جزئيًّا على المدخلات من الجمهور ممَّن قد يكون لهم أو قد لا يكون لهم تحكُّم متعمد على ما يحدث. يرى بعض الفنانين التفاعليين الجمهور كأنهم شركاء في العمل الفني، ويراهم البعض الآخر على أنهم عوامل سببية يؤثرون من دون علم في العمل الفني بعدة طرق (والبعض يراهم بالمنهجين كليهما مثل إرنست إدموندس). أما في الفنون التطورية التي من أمثلتها ويليام لاثام وجون ماكورماك، فدائمًا ما تُصمم/تُعدل النتائج باستخدام الكمبيوتر، ولكن عادةً ما يكون «الاختيار» من الفنان أو الجمهور.

باختصار، إبداع الذكاء الاصطناعي له العديد من التطبيقات. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تضاهي أو حتى تتفوق على معايير الإنسان في زاوية صغيرة من زوايا العلوم والفنون. ولكن مضاهاة إبداع الإنسان «في العموم» مسألة مختلفة تمامًا. أصبح الذكاء الاصطناعي العام بعيدًا أكثر من أي وقت مضى.

الذكاء الاصطناعي والعاطفة

كما هي الحال مع الإبداع، عادةً ما يُنظر إلى العاطفة على أنها غريبة تمامًا عن الذكاء الاصطناعي. وإلى جانب اللامعقولية الحدسية، يبدو أن حقيقة اعتماد الأمزجة والعواطف على المعدِّلات العصبية المنتشرة في الدماغ تستبعد نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بالتأثير.

على مدار عدة سنوات، بدا أن علماء الذكاء الاصطناعي أنفسهم يتفقون على ذلك. تجاهل العلماء العاطفة، ولكن هناك بعض الاستثناءات المبكرة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وبالتحديد هربرت سيمون؛ إذ رأى أن العاطفة داخلة في التحكم المعرفي، وكينيث كولبي الذي صمَّم نماذج مثيرة للاهتمام تعبِّر عن الاضطراب العصبي وجنون العظمة، ولكنها مُفرِطة الطموح.

اليوم، أصبحت الأمور مختلفة. جرت محاكاة التعديل العصبي (في شبكات «جاس نت»؛ انظر الفصل الرابع). والآن، تعالج العديد من مجموعات البحث في الذكاء الاصطناعي مسألة العاطفة. كذلك معظم تلك البحوث (وليس جميعها) ضحلة من الناحية النظرية. ومن المحتمل أن يكون معظمها مربحًا؛ حيث إنها تهدف إلى تطوير «الرفاق الحاسوبيين».

صُممت أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه بحيث تتفاعل مع الناس بطرق مريحة عاطفيًّا (إلى جانب كونها مفيدة عمليًّا) ومُرضية للمستخدم، وبعض تلك الأنظمة قائم على الشاشة، وبعضها عبارة عن روبوتات متنقلة. معظم تلك الأنظمة مُوجَّه لكبار السن والمعاقين، بمن فيهم المصابون بالخرف الأوَّلي. وبعضها يستهدف الأطفال والرُّضع. وبعضها عبارة عن «ألعاب تفاعلية للكبار». باختصار، أدوات تقديم الرعاية الحاسوبية والمربيات الروبوتية وشركاء الجنس.

تشمل التفاعلات بين الإنسان والحاسوب المعنية ما يأتي: تقديم تذكيرات بشأن التسوق والأدوية والزيارات العائلية، والتحدث عن اليوميات الشخصية المستمرة والمساعدة في تجميعها، وجدولة البرامج التلفزيونية ومناقشتها بما في ذلك الأخبار اليومية، وصنع/إحضار الطعام والشراب، ومراقبة العلامات الحيوية (وبكاء الأطفال)، والتحدث والتحرك بطرق مثيرة جنسيًّا.

تتضمن العديد من تلك المهام العاطفة من جانب الإنسان. بالنسبة إلى الرفيق ذي الذكاء الاصطناعي، فقد يتمكَّن من إدراك العواطف لدى المستخدم الإنسان، أو ربما يتفاعل بطرق عاطفية بشكل واضح. على سبيل المثال، قد يؤدي الحزن من جانب المستخدم — ربما بسبب ذكر فاجعة — إلى إظهار بعض التعاطف من جانب الجهاز.

بإمكان أنظمة الذكاء الاصطناعي أن تتعرف على عواطف الإنسان بعدة طرق مختلفة. بعض تلك الطرق فسيولوجية؛ بمعنى أنها ترصد معدَّل تنفُّس الشخص واستجابة الجلد الكهربية. البعض الآخَر لفظي؛ بمعنى أنها تلاحظ سرعة المتحدِّث ونبرة صوته، وكذلك المفردات التي يتفوَّه بها. وهناك طرق بصرية؛ بمعنى أن تحلِّل تعبيرات الوجه. في الوقت الراهن، كل تلك الطرق بسيطة نسبيًّا. فعواطف المستخدم يسهل فقدانها، وكذلك يسهل تفسيرها تفسيرًا خاطئًا.

عادةً ما يكون الأداء العاطفي من جانب الرفيق الحاسوبي أداءً لفظيًّا. إنه يعتمد على المفردات (ونبرة الصوت إذا كان النظام يولِّد كلامًا). ولكن بقدر ما يراقب النظام الكلمات الرئيسية المألوفة من المستخدم، فإنه يستجيب بطرق نمطية للغاية. وفي بعض الأحيان، قد يقتبس ملاحظة من تأليف الإنسان أو قصيدة مرتبطة بشيء قاله المستخدم؛ ربما في اليوميات. ولكن الصعوبات التي تواجه معالجة اللغات الطبيعية تنطوي على أن النص المُنشأ باستخدام الكمبيوتر لا يُحتمل أن يكون ملائمًا ببراعة. كما أنه قد لا يكون مقبولًا؛ فالمستخدم قد يغضب ويُحبَط من رفيق غير قادر على تقديم حتى «ظاهر» الرفقة الحقة. وبالمثل، القط الروبوت الذي يُصدر صوت هرير قد يزعج المستخدم بدلًا من توفير عوامل الرضا النابع من الراحة والاسترخاء.

ثم مرةً أخرى، قد لا يكون الأمر كذلك: «بارو» عبارة عن روبوت على شكل «فقمة صغيرة» تفاعلي ومحبوب، له عينان سوداوان ورموش جميلة، ويبدو أنه مفيد للعديد من كبار السن والمصابين بالخرف. (في الإصدارات المستقبلية، سيراقب الروبوت العلامات الحيوية، وينبِّه مقدمي الرعاية من البشر بناءً على ذلك).

بإمكان بعض رفاق الذكاء الاصطناعي استخدام تعبيرات وجوههم وحملقة أعينهم للاستجابة بطريقة تبدو عاطفية. تمتلك بعض الروبوتات «البشرة» المرنة التي تعلو هيئة عضلات الوجه البشري، وتكوينها يمكن أن يوحي (للمراقب البشري) بما يصل إلى ١٢ شكلًا من العواطف الأساسية. غالبًا ما تُظهر الأنظمة التي تعمل بالشاشة وجه الشخصية الافتراضية التي تتغير تعبيراتها طبقًا للعواطف التي من المفترض أنها تمرُّ بها. ومع ذلك، كل هذه الأشياء تخاطر بوقوعها ضمن ما يُطلَق عليه «الوادي الغريب»؛ فعادةً ما يشعر الناس بعدم الارتياح أو حتى الانزعاج البالغ عند مواجهة مخلوقات شديدة الشبه بالإنسان «ولكنها ليست مماثلة له بالقدر الكافي». لذا يمكن اعتبار الروبوتات — أو الصور الرمزية للشاشة — ذات الوجوه غير البشرية تمامًا بمثابة تهديد.

هل من الأخلاق توفير تلك الرفقة الافتراضية إلى أشخاص يحتاجون إلى العاطفة مسألةٌ محل جدال (انظر الفصل السابع). بالتأكيد بعض الأنظمة التفاعلية بين الكمبيوتر والإنسان (مثل بارو) يبدو أنها توفِّر السعادة، بل إنها توفر الرضا الدائم إلى من يعيشون حياة يبدو أنها فارغة. لكن هل هذا كافٍ؟

هناك عمق نظري ضئيل في نماذج «الرفقة». فالأنماط العاطفية لرفاق الذكاء الاصطناعي يجري تطويرها لأغراض تجارية. لا توجد محاولات لجعلها تستخدم عواطفها لحل مشكلاتها الخاصة، ولا لإلقاء الضوء على الدور الذي تلعبه العواطف في عمل العقل ككلٍّ. وكأن الباحثين في الذكاء الاصطناعي يرَون العواطف على أنها إضافات اختيارية؛ ومن ثَم يمكن تجاهلها ما لم تكُن حتمية في بعض السياقات الإنسانية الفوضوية.

انتشر هذا الموقف الرافض في الذكاء الاصطناعي حتى وقت قريب نسبيًّا. عملت روزاليند بيكارد على «الحوسبة الفعَّالة»، وأخرجت العواطف من حالة الاستبعاد في أواخر تسعينيات القرن العشرين، ولكن عملها لم يُحلِّل العاطفة تحليلًا عميقًا.

من أسباب تجاهل الذكاء الاصطناعي للعاطفة (وملاحظات سيمون نافذة البصيرة بشأنها) هذه المدة الطويلة، هو أن معظم علماء النفس والفلاسفة تجاهلوها هم أيضًا. بعبارة أخرى، لم يفكِّروا في «الذكاء» على أنه شيء يتطلب العاطفة. وعلى النقيض من ذلك، كان من المفترض أن يعطل التأثير حل المشكلات والعقلانية. وفكرة أن العاطفة يمكن أن تساعد الشخص على اتخاذ القرار بشأن ما يفعله وأفضل طريقة لفعله لم تكُن مواكبة للأفكار حينذاك.

لكنها أصبحت بارزةً أكثر في النهاية، ويعود الفضل جزئيًّا إلى التطورات التي حدثت في علم الأعصاب وعلم النفس الإكلينيكي. ولكن يعود فضل دخولها إلى الذكاء الاصطناعي إلى عالمين من علماء الذكاء الاصطناعي، وهما مارفن مينسكي وآرون سلومان، اللذان درسا «العقل ككلٍّ» بدلًا من حَصْر أنفسهما — مثل معظم زملائهم — في زاوية واحدة صغيرة من زوايا العقل.

على سبيل المثال، يركِّز مشروع سلومان الجاري «كوج آف» (CogAff) على دور العاطفة في المعمارية الحاسوبية للعقل. وأثَّر مشروع «كوج آف» في نموذج تعلُّم وكيل التوزيع الذكي الخاص بالوعي، والذي انطلق في عام ٢٠١١، ولا يزال يتوسَّع (انظر الفصل السادس). والمشروع ألهَمَ أيضًا برنامج «مايندر» MINDER الذي أطلقته مجموعة سلومان في أواخر تسعينيات القرن العشرين.

يحاكي برنامج «مايندر» (الأنماط الوظيفية) للقلق الذي يعتري المربية التي تُترك لرعاية عدة أطفال بمفردها. فهي ليس لديها سوى بضع مهام، وهي: إطعام الأطفال، ومحاولة حمايتهم من الوقوع في الحفر، واصطحابهم إلى وحدة الإسعافات الأولية إذا وقعوا. وليس لديها سوى بضعة محفزات (أهداف)، وهي: إطعام طفل، ووضع الطفل خلف السياج الواقي حال توافره، ونقل الطفل من الحفرة لتلقِّي الإسعافات الأولية، والانتباه للحفر، وبناء سياج، ونقل طفل إلى مسافة آمنة من الحفرة، والتجول حول الحضانة إذا لم يكُن هناك محفز نشط في الوقت الحالي.

من ثَم، تلك المربية أبسط بكثير من المربية الحقيقية (على الرغم من أنها معقدة أكثر من برنامج التخطيط العادي الذي لديه هدف نهائي واحد). وعلى الرغم من ذلك، فإنها عُرضة للاضطرابات العاطفية التي يمكن مقارنتها بأنواع مختلفة من القلق.

المربية المحاكاة عليها أن تستجيب بالطريقة الملائمة إلى الإشارات البصرية التي تتلقاها من بيئتها. بعض تلك الإشارات تحفِّز (أو تؤثِّر في) الأهداف المُلحَّة أكثر من غيرها، مثل: طفل يحبو باتجاه الحفرة ويحتاج إلى انتباهها في وقت أقرب من الطفل الجائع، والطفل الذي على وشك الوقوع في الحفرة يحتاج إلى انتباه في وقت أقرب وأقرب. لكن حتى هذه الأهداف التي يمكن تأجيلها قد يلزم التعامل معها في النهاية، وربما تزيد درجة إلحاحها بمرور الوقت. ومن ثَم يمكن وضع الطفل الجائع في سريره إذا كان هناك طفل آخَر على مشارف الحفرة، ولكن الطفل الذي انتظر فترةً أطول من أجل الطعام ينبغي إطعامه قبل الأطفال الذين أُطعموا مؤخَّرًا.

باختصار، يمكن قطع مهمات المربية في بعض الأحيان وتركها أو تأجيلها. ومن ثَم لا بد لبرنامج «مايندر» أن يقرِّر ما هي الأولويات الحالية. يجب اتخاذ تلك القرارات من خلال جلسة، ويمكن أن تؤدِّي إلى تغييرات متكرِّرة في السلوك. عمليًّا، لا يمكن إتمام أي مهمة دون مقاطعة؛ لأن البيئة (الأطفال) تضع كثيرًا من المطالب المتضاربة والمتغيرة باستمرار على النظام. كما هو الحال مع المربية الحقيقية، يزداد القلق ويتدهور الأداء مع زيادة عدد الأطفال؛ حيث إن كل طفل منهم عامل مستقل لا يمكن التنبؤ به. وعلى الرغم من ذلك، فالقلق مفيد، حيث إنه يمكِّن المربية من إطعام الأطفال بنجاح. بنجاح، ولكن ليس بسلاسة؛ فالهدوء والقلق قطبان متباعدان.

يشير برنامج «مايندر» إلى بعض الطرق التي يمكن للعواطف من خلالها أن تتحكم في السلوك، وتجدول الدوافع المتنافسة بذكاء. لا شك أن المربية البشرية ستواجه عدة أنواع من القلق حسب تغيُّر الموقف. ولكن المهم هنا هو أن العواطف ليست مجرد «مشاعر». بل إنها تتضمن وعيًا وظيفيًّا، وكذلك وعيًا بالظواهر (انظر الفصل السادس). وعلى وجه التحديد، فإنها آليات حاسوبية تمكِّننا من جدولة الأهداف المتنافسة، ولا يمكننا العمل من دونها. (لذا، فإن السيد سبوك عديم المشاعر في «ستار تريك» هو استحالة تطورية).

إذا أردنا تحقيق الذكاء الاصطناعي العام في أي وقت، فسيتوجب علينا تضمين العواطف مثل القلق واستخدامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤