الفصل الحادي عشر

تَحَطُّمُ السَّفِينَةِ!

خِلَالَ يَوْمَيْنِ مِنْ تَغْيِيرِنَا لِلْمَسَارِ، هَبَّتْ عَاصِفَةٌ أُخْرَى، وَقَذَفَتْنَا الرِّيَاحُ بَعِيدًا — تِجَاهَ أَقْصَى الْغَرْبِ — وَمِنْ جَدِيدٍ، ضَلَلْنَا طَرِيقَنَا تَمَامًا فِي الْبَحْرِ.

اسْتَمَرَّتِ الرِّيَاحُ تَعْصِفُ بِقُوَّةٍ حَتَّى الْيَوْمِ التَّالِي، بَلْ لِلْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ. وَفِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، سَمِعْتُ أَحَدَ الرِّجَالِ يَصِيحُ: «مَرْحَى، أَرْضٌ!»

وَفِي لَحْظَتِهَا تَقْرِيبًا ارْتَطَمْنَا بِمُرْتَفَعٍ رَمْلِيٍّ، وَتَأَرْجَحَتِ السَّفِينَةُ بِعُنْفٍ لِلْخَلْفِ وَالْأَمَامِ، وَفَاضَتْ عَلَيْنَا مِيَاهُ الْبَحْرِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّنَا هَالِكُونَ لَا مَحَالَةَ. فَجَرَيْنَا إِلَى الْحُجُرَاتِ لِنَحْتَمِيَ بِهَا، وَكُنَّا فِي مَوْقِفٍ عَصِيبٍ، فَلَمْ نَكُنْ نَدْرِي أَيْنَ كُنَّا، وَلَا نَدْرِي مَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مَأْهُولَةً أَمْ لَا، وَلَا نَدْرِي هَلْ سَنَنْجُو أَمْ لَا.

عَلِقَتِ السَّفِينَةُ، وَبَاتَ مِنَ الْمُؤَكَّدِ تَحَطُّمُهَا إِلَى أَجْزَاءٍ، إِنْ لَمْ تُغَيِّرِ الرِّيَاحُ اتِّجَاهَهَا فِي الْحَالِ. نَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ وَهَيَّأْنَا أَنْفُسَنَا لِلْأَسْوَأِ. وَكُنَّا جَمِيعًا مُبَلَّلِينَ بِالْمَاءِ وَنَرْتَجِفُ، وَأَصَابَ الْفُتُورُ أَرْوَاحَنَا مِنْ جَرَّاءِ أَحْدَاثِ الْأَسَابِيعِ الْقَلِيلَةِ الْمَاضِيَةِ. ثُمَّ، حَدَثَ التَّغْيِيرُ فِي الرِّيَاحِ.

قَالَ الْقُبْطَانُ: «لَدَيْنَا فُرْصَةٌ الْآنَ، يَا شَبَابُ! دَعُونَا نُنْزِلِ الْقَارِبَ الصَّغِيرَ إِلَى الْبَحْرِ وَنُجَدِّفْ إِلَى الشَّاطِئِ. فَهَذَا هُوَ أَمَلُنَا الْوَحِيدُ!»

وَبَعْدَمَا كَانَ لَدَيْنَا قَارِبَانِ صَغِيرَانِ عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ، لَمْ يَتَبَقَّ مِنْهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَقَطْ مُنْذُ الْإِعْصَارِ الْأَوَّلِ. وَتَطَلَّبَ الْأَمْرُ بَذْلَ مَجْهُودَاتٍ شَاقَّةٍ كَيْ نَسْتَطِيعَ فَقَطْ إِنْزَالَ الْقَارِبِ بِسَلَامَةٍ إِلَى الْبَحْرِ وَجَمِيعِ الرِّجَالِ إِلَى سَطْحِهِ. وَتَلَاطَمَتِ الْأَمْوَاجُ حَوْلَنَا بَيْنَمَا كُنَّا نُجَدِّفُ بِاسْتِمَاتَةٍ إِلَى الشَّاطِئِ. وَكُنَّا تَحْتَ رَحْمَةِ الْقَدَرِ، فَدَعَا الْكَثِيرُ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى نَنْجُوَ.

كَانَ الشُّغْلُ الشَّاغِلُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَّا هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّاطِئِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَخْرِيًّا أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، آمِنًا أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ نُبَالِ. فَجَدَّفْنَا بِجُهْدٍ شَدِيدٍ لِأَنَّ حَيَاتَنَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. وَكَانَتْ فُرْصَتُنَا الْوَحِيدَةُ هِيَ أَنْ نَجِدَ خَلِيجًا أَوْ فَمَ نَهْرٍ؛ فَبِدُونِ هَذَا سنَنْجَرِفُ إِلَى الْعَاصِفَةِ وَنَضِيعُ فِي الْبَحْرِ. كُنَّا نُرِيدُ الْعُثُورَ عَلَى مَاءٍ هَادِئٍ لِنَتَمَكَّنَ مِنَ الْوُصُولِ لِشَاطِئِ السَّلَامَةِ.

جَدَّفْنَا لِمَا يُقَارِبُ الْفَرْسَخَ وَنِصْفَ الْفَرْسَخِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ مَوْجَةٌ عَالِيَةٌ عُلُوَّ الْجَبَلِ بِاتِّجَاهِنَا، وَضَرَبَتِ الْقَارِبَ سَرِيعًا، فَقُذِفْنَا جَمِيعًا مِنْ عَلَى الْقَارِبِ، وَابْتَلَعَتْنَا الْمِيَاهُ بِالْكَامِلِ فِي لَحْظَةٍ.

كَانَ الْأَمْرُ مُرْعِبًا؛ إِذْ كَانَتِ الْأَمْوَاجُ قَوِيَّةً، وَمَعَ أَنِّي سَبَّاحٌ مَاهِرٌ، إِلَّا أَنْ ذِرَاعَيَّ لَمْ تَكُونَا بِالْقُوَّةِ الَّتِي تُضَاهِي قُوَّةَ الْمِيَاهِ، بَلْ إِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعِ الصُّعُودَ لِسَطْحِ الْمَاءِ لِأَلْتَقِطَ أَنْفَاسِي. وَحَمَلَتْنِي الْمِيَاهُ لِلْأَمَامِ بِاتِّجَاهِ الشَّاطِئِ، وَامْتَلَأَتْ رِئَتَايَ بِالْمَاءِ، فَبَدَأْتُ أَسْعُلُ، لَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّنِي إِنْ لَمْ أَزْحَفْ لِلْأَمَامِ، فَلَنْ يَكُونَ لَدَيَّ أَمَلٌ فِي النَّجَاةِ.

وَقَبْلَ أَنْ أَتَمَكَّنَ مِنَ الْوُقُوفِ، جَذَبَنِي الْمَوْجُ بَيْنَ بَرَاثِنِهِ وَأَلْقَى بِي ثَانِيَةً إِلَى الْبَحْرِ. وَكَانَتِ الْمِيَاهُ تَدُورُ مِنْ حَوْلِي فِي دَوَّامَةٍ بَيْنَمَا كُنْتُ أُصَارِعُ كَيْ لَا أَغْرِقَ. وَفِي لَحْظَتِهَا تَقْرِيبًا، شَعَرْتُ بِقَدَمِي تَلْمَسُ الْقَاعَ، فَوَقَفْتُ مِنْ فَوْرِي، وَأَخَذْتُ أُدْخِلُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْهَوَاءِ إِلَى رِئَتَيَّ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِي قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْبَحْرُ وَيَجُرَّنِي ثَانِيَةً إِلَى الْأَسْفَلِ.

وَفِي ثَالِثِ أَوْ رَابِعِ مَرَّةٍ يَجُرُّنِي فِيهَا الْبَحْرُ لِلْأَسْفَلِ، اصْطَدَمَ صَدْرِي بِصَخْرَةٍ وَتَوَقَّفَ تَنَفُّسِي بِالْكَامِلِ.

وَفَكَّرْتُ: «هَذِهِ هِيَ النِّهَايَةُ، سَأَمُوتُ هُنَا، سَأَمُوتُ الْآنَ.»

وَمَعَ كُلِّ حَظِّيَ الْعَاثِرِ، يَبْدُو أَنَّهُ كَانَ لَدَيَّ مَوْهِبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِالْفِعْلِ؛ مَوْهِبَةُ النَّجَاةِ. فَفِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ الَّتِي دَفَعَني التَّيَّارُ فِيهَا لِلْأَمَامِ بِاتِّجَاهِ الشَّاطِئِ، اسْتَجْمَعْتُ كُلَّ قُوَايَ، وَلَمَسَتْ قَدَمَايَ الْقَاعَ، وَدَفَعْتُ بِنَفْسِي لِلنُّهُوضِ خَارِجِ الْمِيَاهِ وَجَرَيْتُ بَعِيدًا عَلَى الشَّاطِئِ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِي. فَجَرَيْتُ بِكُلِّ مَا بَقِيَ فِيَّ مِنْ قُوَّةٍ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ، وَجَعَلَتْنِي كُلُّ الْمِيَاهِ الْمَالِحَةِ فِي مَعِدَتِي أُصَابُ بِالْغَثَيَانِ لِدَقِيقَةٍ، لَكِنَّنِي نَجَوْتُ. وَكَفَانِي ذَلِكَ؛ فَمَا زِلْتُ حَيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤