الفصل السابع عشر

روبنسون الْمُزَارِعُ

بَدَأَتْ سَنَتِي الثَّانِيَةُ عَلَى الْجَزِيرَةِ. وَعَلَى مَدَى الِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا الْمَاضِيَةِ كُنْتُ قَدْ عَلِمْتُ الْكَثِيرَ عَنْهَا. فَبَدَلًا مِنَ الْمَوَاسِمِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَدَّدَةِ الَّتِي عَرَفْتُهَا فِي بَلَدِي فِي إِنْجِلْتِرَا، كَانَ لِلطَّقْسِ هُنَا دَوْرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ تَمَامًا؛ فَهُنَا مَوْسِمَانِ فَقَطْ: أَحَدُهَمَا مُمْطِرٌ وَالْآخَرُ جَافٌّ. فَيُمْكِنُ أَنْ تُمْطِرَ لِثَلَاثَةِ شُهُورٍ ثُمَّ تَجِفُّ لِنَفْسِ الْفَتْرَةِ الزَّمَنِيَّةِ. وَعِلْمِي بِهَذَا كَانَ يَعْنِي أَنَّ بِوُسْعِيَ الْبَدْءَ فِي ذَلِكَ الْحِينِ فِي التَّحْضِيرِ لِلشُّهُورِ الْمُمْطِرَةِ كَيْ لَا أُضْطَرَّ لِقَضَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الْوَقْتِ فِي الْخَارِجِ.

وَكَانَ ذَلِكَ فِي قُرَابَةِ الْوَقْتِ الَّذِي حَاوَلْتُ فِيهِ إِنْبَاتَ بَعْضِ الْمَحَاصِيلِ، فَزَرَعْتُ بَعْضَ الشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ الَّذِي نَمَا فِي سَاحَتِي الْأَمَامِيَّةِ سَابِقًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ كَيْ أَحْصُلَ عَلَى بُذُورِهَا. وَبَاءَتْ مُحَاوَلَتِي الْأُولَى لِإِنْمَاءِ أَيِّ شَيْءٍ مُفِيدٍ بِالْفَشَلِ التَّامِّ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ سَيُؤَثِّرُ مَوْسِمَا الْجَزِيرَةِ، الْمُمْطِرُ وَالْجَافُّ، عَلَى الْمَحَاصِيلِ؛ وَلِذَا زَرَعْتُ بُذُورِي الْأُولَى بَعْدَ الْمَوْسِمِ الْمُمْطِرِ مُبَاشَرَةً. حَسَنًا، كَانَ هَذَا خَطَأً! فَلَمْ أُفَكِّرْ فِي مَدَى الْجَدْبِ الْفِعْلِيِّ فِي فَصْلِ الْجَفَافِ! وَلَكِنْ كَانَ مِنَ الرَّائِعِ أَنَّنِي لَمْ أَسْتَخْدِمْ كُلَّ الْبُذُورِ الَّتِي لَدَيَّ، فَأَبْقَيْتُ الْكَثِيرَ تَحَسُّبًا لِاحْتِيَاجِي مُحَاوَلَةَ الزِّرَاعَةِ مُجَدَّدًا.

وَالْآنَ، بَعْدَمَا عَلِمْتُ أَنَّ بُذُورِي تَحْتَاجُ جَوًّا رَطْبًا، انْتَظَرْتُ كَيْ أَزْرَعَهَا بِحُلُولِ الْمَوْسِمِ الْمُمْطِرِ الْقَادِمِ، وَفَكَّرْتُ كَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَحْسَنِ أَنْ أَزْرَعَهَا فِي سَاحَتِي، فَالْفَاكِهَةُ تَنْمُو عَلَى نَحْوٍ جَيِّدٍ جِدًّا فِي الْوَادِي؛ لِذَا قَرَّرْتُ أَنَّ هَذِهِ التُّرْبَةُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَحَاصِيلِي.

وَنَجَحْتُ فِي مُحَاوَلَتِي الثَّانِيَةِ! نَمَتِ الْمَحَاصِيلُ صَحِيحَةً وَقَوِيَّةً، وَلِأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَوْسِمَانِ مَطِيرَانِ فِي الْعَامِ، عَرَفْتُ أَنَّنِي أَسْتَطِيعُ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَقَلِّ عَلَى مَحْصُولَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

وَفِي أَثْنَاءِ الْمَطَرِ، كُنْتُ أبقى فِي الدَّاخِلِ، وَأَظَلُّ مُنْشَغِلًا بِمُحَاوَلَةِ صُنْعِ أَشْيَاءَ مُفِيدَةٍ. أَوَّلًا، حَاوَلْتُ عَمَلَ سَلَّةٍ، فَعِنْدَمَا كُنْتُ صَبِيًّا، ذَهَبْتُ مَعَ وَالِدِي لِمُشَاهَدَةِ صَانِعِ السِّلَالِ فِي الْمَدِينَةِ؛ لِذَا كُنْتُ أَعْرِفُ عَلَى نَحْوٍ يَشُوبُهُ الْغُمُوضُ كَيْفِيَّةَ عَمَلِ السَّلَّةِ، لَكِنَّ تَحْوِيلَ هَذِهِ الْأَفْكَارِ إِلَى حَيِّزِ التَّنْفِيذِ كَانَ قِصَّةً مُخْتَلِفَةً بِالْكَامِلِ.

وَقَبْلَ بَدْءِ الْأَمْطَارِ، اسْتَخْلَصْتُ بَعْضَ الْخَشَبِ مِنْ شَجَرِ النَّخِيلِ الْمَزْرُوعِ بِجِوَارِ مَنْزِلِي الصَّيْفِيِّ. وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيقَانُ الْخَشَبِيَّةُ مَوْجُودَةً بِجِوَارِ النَّارِ، فَجَفَّتْ عَلَى مَدَى أَشْهُرٍ. وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَادَّةَ الْخَامَ الَّتِي أَرَدْتُ اسْتِخْدَامَهَا لِعَمَلِ السِّلَالِ.

بَدَتِ الْأَعْدَادُ الْقَلِيلَةُ الْأُولَى مِنَ السِّلَالِ الَّتِي نَسَجْتُهَا فِي غَايَةِ الْبَشَاعَةِ، فَكَانَتْ كُلُّهَا غَيْرَ مُتَنَاسِقَةٍ وَكَانَ نَسْجُهَا غَيْرَ مُتَنَاسِبٍ، لَكِنَّنِي لَمْ أُبَالِ بِشَكْلِهَا، فَاسْتَخْدَمْتُهَا وَحَسْبُ عَلَى أَيِّ حَالٍ. وَأَحْرَزْتُ تَقَدُّمًا فَكَانَتْ كُلُّ سَلَّةٍ جَدِيدَةٍ أَفْضَلَ مِنْ سَابِقَتِهَا، وَاسْتَفَدْتُ مِنْهَا بِالتَّأْكِيدِ. فَاسْتَخْدَمْتُهَا لِحَمْلِ الْبُذُورِ، وَلِتَخْزِينِ بِضَاعَتِي، وَلِنَقْلِ الْمُؤَنِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ.

انْتَهَى الْمَوْسِمُ الْمُمْطِرُ، وَعَادَتِ الْأَيَّامُ الْمُشْمِسَةُ مِنْ جَدِيدٍ، وَبَدَأَتِ الْخَوَاطِرُ تَجُولُ فِي عَقْلِي، وَبَدَأْتُ أَنَا فِي اسْتِكْشَافِ الْمَزِيدِ فِي الْجَزِيرَةِ. وَفِي خِلَالِ أُسْبُوعٍ مِنَ الطَّقْسِ الْجَيِّدِ، انْطَلَقْتُ أَنَا وشيبي لِبَيْتِنَا الصَّيْفِيِّ.

كَانَتْ وِجْهَتِي هِيَ شَاطِئَ الْبَحْرِ الْوَاقِعَ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، فَوَقَفْتُ عَلَى أَعْلَى التَّلِّ وَنَظَرْتُ مُتَمَعِّنًا فِي الْأَرْجَاءِ لِأَكتَشِفَ أَفْضَلَ الطُّرُقِ لِلذَّهَابِ حَيْثُ أُرِيدُ. فَهَذَا التَّلُّ كَانَ بِالْفِعْلَ أَعْلَى نِسْبِيًّا مِنْ أَيِّ أَرْضٍ قَرِيبَةٍ مِنْ أَيٍّ مِنْ مَنْزِلَيَّ، وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ، رَأَيْتُ هُنَاكَ أَرْضًا تَمْتَدُّ لِنَحْوِ عِشْرِينَ فَرْسَخًا فِي الْبَحْرِ.

فَرَاوَدَنِيَ التَّفْكِيرُ: «أَيْنَ أَنَا؟ وَمَا هَذِهِ الْأَرْضُ؟» بَحَثْتُ فِي عَقْلِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ قَدْ أَتَعَرَّفُ عَلَيْهِ، لَكِنْ بِلَا جَدْوَى، فَلَمْ تَكُنْ لَدَيَّ أَيُّ فِكْرَةٍ عَنْهَا. وَأَقْرَبُ مَا اسْتَطَعْتُ التَّفْكِيرَ فِيهِ هُوَ وُجُودِي عَلَى جَزِيرَةٍ فِي الْجُزْءِ الْإِسْبَانِيِّ مِنَ الْأَمْرِيكَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَالْأَمْرُ خَطِيرٌ جِدًّا، فَالرِّجَالُ الَّذِينَ يَعِيشُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَرَاضِي غَيْرُ وَدُودِينَ جِدًّا. فَسَمِعْتُ عَنْهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُرْعِبَةِ مِنْ بَحَّارَةٍ آخَرِينَ فِي رِحْلَاتِي؛ فَهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْغُرَبَاءَ بَتَاتًا وَيُحَاوِلُونَ إِبْعَادَ أَيِّ شَخْصٍ عَنْ جُزُرِهِمْ.

لَكِنِّي لَمْ أَدَعْ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمُقْبِضَةَ تُخِيفُنِي، فَأَنَا لَمْ أَرَ قَطُّ إِنْسَانًا آخَرَ عَلَى جَزِيرَتِي؛ لِذَا كُنْتُ آمِنًا حِينَئِذٍ. وَانْطَلَقْتُ أَنَا وشيبي فِي مُغَامَرَتِنَا الصَّغِيرَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ اصْطِحَابِي لَهُ هُوَ الِاسْتِمَاعَ وَحَسْبُ إِلَى وَقْعِ صَوْتِي، فَتَحَدَّثْتُ وَتَحَدَّثْتُ إِلَى الْكَلْبِ، وَأَخْبَرْتُهُ كُلَّ شَيْءٍ عَنْ حَيَاتِي، وَعَنْ خُطَطِي، وَعَنْ مَكَانِي قَبْلَ أَنْ أَهْبِطَ عَلَى الْجَزِيرَةِ مَعَهُ. وَكَانَ يَخِبُّ بِجِوَارِي، سَعِيدًا أَيَّمَا سَعَادَةٍ.

كَانَ الْجَانِبُ الْآخَرُ مِنَ الْجَزِيرَةِ جَمِيلًا جِدًّا، فَهُنَاكَ بَبَّغَاوَاتٌ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْعَدِيدُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُثِيرَةِ. فَقَرَّرْتُ أَخْذَ بَبَّغَاءٍ لِلْمَنْزِلِ كَطَيْرٍ أَلِيفٍ، وَأَسْمَيْتُهُ بُولْ.

قَضَيْتُ الْعَدِيدَ مِنَ اللَّيَالِي بَعِيدًا عَنِ الْمَنْزِلِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ. وَكَانَ وَقْتًا بَهِيجًا وَمُمْتِعًا، بِاسْتِثْنَاءِ الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا أَنَا وَشيبي تَائِهَيْنِ فِي وَادٍ شَاسِعٍ. فَكَمْ يَكُونُ الْبَيْتُ رَائِعًا عِنْدَمَا تَكُونُ بَعِيدًا! مَتَّعْتُ نَظَرِي بِكُلِّ شَيْءٍ! وَحَتَّى سِلَالِي غَرِيبَةُ الشَّكْلِ كَانَتْ تَرْسُمُ الْبَسْمَةَ عَلَى وَجْهِي.

قُلْتُ وَأَنا أَسْقُطُ لَاجِئًا إِلَى رَاحَةِ أُرْجُوحَتِي الشَّبَكِيَّةِ: «آهٍ يَا شيبي، مَنْزِلِي الْعَزِيزَ.»

وَكَانَتْ هَذِهِ لَحْظَةً هَامَّةً، فَبَيْنَمَا كُنْتُ رَاقِدًا، أَرْتَشِفُ الْمِيَاهَ بِالْفَاكِهَةِ، وَأَتَأَرْجَحُ جِيئَةً وَذَهَابًا عَلَى أُرْجُوحَتِي، تَوَقَّفْتُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْأَسَى عَلَى نَفْسِي. أَجَلْ، كُنْتُ عَالِقًا عَلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ. وَأَجَلْ، كُنْتُ وَحِيدًا تَمَامًا. وَهَذَا حَقِيقِيٌّ، فَيَا لَهَا مِنْ حَيَاةٍ شَاقَّةٍ، لَكِنَّهَا كَذَلِكَ حَيَاةٌ شَائِقَةٌ، فَكُنْتُ مُمْتَنًّا أَنَّنِي عَلَى قِيدِ الْحَيَاةِ وَأَنَّنِي نَجَوْتُ مِن تَحَطُّمِ السَّفِينَةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤