الفصل التاسع عشر

قَارِبٌ

فِي شَهْرِ سِبْتَمْبِرَ الَّذِي بَدَأَتْ بِهِ سَنَتِي الرَّابِعَةَ عَلَى الْجَزِيرَةِ، فَكَّرْتُ مَلِيًّا وَجِدِّيًا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْجَزِيرَةِ. فَلَمْ أَشُكَّ كَثِيرًا فِي أَنَّهُ كَانَ أَجْمَلَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي قَرَّرْتُ الِاسْتِقْرَارَ فِيهِ، وَدَفَعَتْنِي إِلَى ذَلِكَ احْتِمَالِيَّةُ رُؤْيَتِي لِلْأَرْضِ مِنْ هُنَاكَ. وَجَعَلَنِي ذَلِكَ أَوَدُّ الْهُرُوبَ. وَتَذَكَّرْتُ قَصُوري الْيَافِعَ وَمَرْكَبَنَا وَتَمَنَّيْتُ لَوْ كَانَ بِحَوْزَتِي ذَاتُ الْقَارِبِ عَلَى الْجَزِيرَةِ. فَكَمْ كُنْتُ سَأَقْطَعُ مِنْ مَسَافَةٍ!

وَبِالرُّغْمِ مِنْ هَذَا الْحَنِينِ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ، كُنْتُ خَائِفًا أَيْضًا مِنْ مُغَادَرَةِ الْجَزِيرَةِ. فَمَاذَا لَوِ انْتَهَى بِي الْمَطَافُ فِي مَكَانٍ أَسْوَأَ؟ وَكَذَلِكَ، مَضَى عَلَى وُجُودِي عَلَى الْجَزِيرَةِ فَتْرَةٌ طَوِيلَةٌ وَلَمْ أَرَ خِلَالَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنْسَانًا آخَرَ. وَبِالْمِثْلِ لَمْ أَرَ أَيَّ شَيْءٍ.

فَقُلْتُ لِنَفْسِي: «أَنْتَ تَعْرِفُ بِالتَّجْرِبَةِ يَا روبنسون أَنَّ الْأَسْوَأَ يَحْدُثُ فِيمَا يَبْدُو دَائِمًا عِنْدَمَا تُغَامِرُ بَعِيدًا عَنْ مَوْطِنِكَ.» لَا، لَنْ أَنْقُلَ مُخَيَّمِي؛ فَهُوَ آمِنٌ وَمُرِيحٌ، وَيَجِبُ عَلَيَّ الْبَقَاءُ فِي مَكَانِي فِي الْوَقْتِ الْحَالِي.

وَهَذَا لَمْ يَكُنْ يَعْنِي أَنَّنِي تَوَقَّفْتُ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي مُغَادَرَةِ الْجَزِيرَةِ، فَأَرَدْتُ بِشِدَّةٍ الْحُصُولَ عَلَى قَارِبٍ. وَفِي حِينِ لَا زَالَتْ أَجْزَاءُ سَفِينَتِنَا مُخَبَّأَةً فِي الْأَسْفَلِ بِجِوَارِ الشَّاطِئِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ هُنَاكَ سَبِيلٌ لِإِصْلَاحِهَا فِي النِّهَايَةِ.

حَسَنًا، كَانَتْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ حَمْقَاءَ. فَبَعْدَ أَسَابِيعَ مِنَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، أُجْبِرْتُ عَلَى الْوُصُولِ لِذَاتِ النَّتِيجَةِ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُ هَذَا الْقَارِبِ!

إِلَّا أَنَّنِي ظَلَلْتُ بِحَاجَةٍ لِأَنْ أمْتَلِكَ قَارِبًا. فَحَسَمْتُ أَمْرِي، وَقُلْتُ بِصَوْتٍ عَالٍ: «عَلَيَّ فَقَطْ أَنْ أَصْنَعَ قَارِبًا!»

وَمَرَّةً أُخْرَى، يَا لَهَا مِنْ خُطَّةٍ حَمْقَاءَ! فَلَمْ أُفَكِّرْ بِتَمَعُّنٍ فِيهَا قَبْلَ أَنْ أَبْدَأَ. قَضَيْتُ أَسَابِيعَ فِي الْغَابَةِ لِأَقْطَعَ الشَّجَرَةَ الْمُنَاسِبَةَ، وَبِمُجَرَّدِ سُقُوطِهَا، قَضَيْتُ مَا يَقْرُبُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي تَشْكِيلِ الْقَاعِ وَالْحَفْرِ مِنَ الدَّاخِلِ. وَعِنْدَمَا انْتَهَيْتُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، أَضْحَى لَدَيَّ زَوْرَقٌ مُتَوَسِّطُ الْحَجْمِ. وَبَقِيَتْ مُشْكِلَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ؛ كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْزَالُ الْقَارِبِ إِلَى الْمَاءِ؟ فَوَقْتَئِذٍ كَانَ الزَّوْرَقُ مُسْتَقِرًّا فِي مُنْتَصَفِ الْغَابَةِ!

دَفَعْتُهُ، وَجَذَبْتُهُ، وَجَرَرْتُهُ، وَرَكَلْتُهُ، وَصَرَخْتُ، وَبِبَسَاطَةٍ لَمْ يَتَزَحْزَحِ الْقَارِبُ. وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبِيلٌ لِأَتَمَكَّنَ مِنْ سَحْبِهِ طَوَالَ الطَّرِيقِ عَبْرَ الْغَابَةِ وَالْوَادِي، ثُمَّ إِلَى الشَّاطِئِ. فَبِمَاذَا كُنْتُ أُفَكِّرُ بِحَقِّ السَّمَاءِ؟

وَانْتَهَى صِرَاعِي مَعَ الزَّوْرَقِ بِلَا شَيْءٍ سِوَى الْإِحْبَاطِ، فَهَذَا الْقَارِبُ عَالِقٌ عَلَى الْيَابِسَةِ إِلَى الْأَبَدِ. وَقُلْتُ لشيبي: «كَمْ هُوَ أَمْرٌ مُضْحِكٌ، فَعَلَى الشَّاطِئِ، لَدَيَّ أَجْزَاءٌ مِنْ سَفِينَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَطْفُوَ عَلَى صَفْحَةِ الْمَاءِ. وَفِي الْغَابَةِ، لَدَيَّ زَوْرَقٌ يُمْكِنُ أَنْ يَطْفُوَ، لَكِنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ إِنْزَالَهُ إِلَى الْمَاءِ!»

وَهَكَذَا، احْتَفَلْتُ بِالذِّكْرَى السَّنَوِيَّةِ الرَّابِعَةِ عَلَى الْجَزِيرَةِ بِقَارِبَيْنِ، لَكِنَّ أَيًّا مِنْهُمَا لَمْ يُسَاعِدْنِي عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ جَزِيرَتِي!

وَبِالرُّغْمِ مِنَ الْحَظِّ الْعَاثِرِ مَعَ الْقَارِبَيْنِ، فَكَانَ هُنَاكَ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَكْفِينِي وَمِنَ الْمَاءِ مَا يَرْوِينِي. وَكَانَ مَنْزِلِي آمِنًا وَجَافًّا (مُعْظَمَ الْوَقْتِ!) وَكَانَ هُنَاكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا افْتَقَدْتُهُ، مِثْلَ الْجَزَرِ وَالْبَازِلَّاءِ، لَكِنَّنِي كُنْتُ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ وَهَذَا هُوَ كُلُّ مَا يَهُمُّ حَقِيقَةً. فَبِالْإِجْمَالِ، كَانَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ جَيِّدَةً.

بَدَأَ الْمَوْسِمُ الْمُمْطِرُ، وَحَانَ الْوَقْتُ كَيْ أَقِيسَ وَأُعَدِّلَ مَلَابِسِي. فَكُنْتُ قَدْ انْتَشَلْتُ الْكَثِيرَ مِنْ مَلَابِسِ الْبَحَّارَةِ قَدْرَ مَا أَمْكَنَنِي مِنَ السَّفِينَةِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ. وَكَانَتْ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَخَذْتُهَا هِيَ الْقُمْصَانَ. فَإِجْمَالًا، كَانَ مَعِي قُرَابَةُ عِشْرِينَ قَمِيصًا، وَكَانَتِ الْقُمْصَانُ مَصْنُوعَةً مِنَ الْكَتَّانِ، فَكَانَتْ خَفِيفَةً وَمُرِيحَةً لِلْغَايَةِ، لَكِنَّهَا كَانَتْ فِي طَرِيقِهَا لِلْبِلَى، وَتَحَوَّلَ الْكَثِيرُ مِنْهَا وَقْتَئِذٍ لِخِرَقٍ بَالِيَةٍ. فَحَاوَلْتُ أَنْ أَرْتَدِيَهَا كُلًّا عَلَى حِدَةٍ، كَيْ تَدُومَ لِأَطْوَلِ فَتْرَةٍ مُمْكِنَةٍ.

وَكُنْتُ قَدِ انْتَشَلْتُ كَذَلِكَ الْعَدِيدَ مِنَ الْمَعَاطِفِ مِنَ السَّفِينَةِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ، وَلَكِنَّ الطَّقْسَ عَلَى الْجَزِيرَةِ كَانَ حَارًّا لِدَرَجَةٍ تَمْنَعُنِي مِنِ ارْتِدَائِهَا. فَبَدَلًا مِنِ ارْتِدَائِهَا، حَوَّلْتُهَا إِلَى بَنَاطِيلَ وَسَرَاوِيلَ قَصِيرَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ سِلَالِي غَيْرَ بَارِعَةٍ، فَإِنَّ خِيَاطَتِي كَانَتْ أَسْوَأَ بِكَثِيرٍ! وَبِحُلُولِ الْوَقْتِ الَّذِي انْتَهَيْتُ فِيهِ مِنْ صُنْعِ مَلَابِسِي، بَدَوْتُ مُثِيرًا لِلسُّخْرِيَةِ! فَقُمْصَانِي بَالِيَةٌ، وَسَرَاوِيلِي أَرْتَدِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِيمَا سَبَقَ مَعَاطِفَ! وَسَرِيعًا قَرَّرْتُ صُنْعَ مَلَابِسِي مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْمُوضَةِ، بَلْ بَحْثًا عَنِ الرَّاحَةِ. وَإِضَافَةً إِلَى مَلَابِسِي مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ، صَنَعْتُ أَيْضًا قُبَّعَةً، فَلَوْنُ بَشْرَتِي فَاتِحٌ جِدًّا، وَكُنْتُ أَتَعَرَّضُ بِسُهُولَةٍ لِلِاحْتِرَاقِ إِذَا مَكَثْتُ فِي الْخَارِجِ لِفَتْرَةٍ أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ، وَكَانَتِ الْقُبَّعَةُ فَعَّالَةً فِي وِقَايَتِي مِنَ الشَّمْسِ.

وَبَيْنَمَا كُنْتُ أُعَدِّلُ مَلَابِسِي، صَنَعْتُ كَذَلِكَ مِظَلَّةً، وَأَصْبَحَتْ أَغْلَى مُقْتَنَيَاتِي؛ فَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى حَجْبِهَا لِلشَّمْسِ عَنِّي وَحَسْبُ، لَكِنَّهَا أَيْضًا أَبْقَتْنِي جَافًّا أَثْنَاءَ الْمَوْسِمِ الْمُمْطِرِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤