الفصل الرابع والعشرون

تَحَطُّمُ سَفِينَةٍ أُخْرَى

أَصْبَحَ الْآنَ مَنْزِلَايَ عَلَى الْجَزِيرَةِ مُؤَمَّنَيْنِ، وَكَهْفُ الطَّهْيِ عَلَى خَيْرِ مَا يُرَامُ، وَمُرَاقَبَاتِي الْيَوْمِيَّةُ رُوتِينًا حَسَنًا، فَشَعَرْتُ بِالْأَمَانِ، لَكِنَّنِي ظَلَلْتُ مُنْشَغِلًا كَيْ أُبْعِدَ تَفْكِيرِي عَنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ.

وَفِي لَيْلَةٍ مُرْعِبَةٍ، سَمِعْتُ صَوْتَ إِطْلَاقِ مِدْفَعٍ مِنْ عَلَى بُعْدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى قِمَّةِ التَّلِّ الْعَالِي وَحَاوَلْتُ أَنْ أَرَى مَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ، لَكِنَّ الظَّلَامَ كَانَ دَامِسًا.

أَسْرَرْتُ لِلَّيلِ: «لَا بُدَّ أَنَّهَا سَفِينَةٌ فِي خَطَرٍ! يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنْقِذُونِي!»

أَشْعَلْتُ نَارًا عَظِيمَةً بِالرُّغْمِ مِنْ مَعْرِفَتِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَمْرٌ خَطِيرٌ.

وَتَمْتَمْتُ لِنَفْسِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَتَسَلَّقُ بِسُرْعَةٍ لِأُبْقِيَ النَّارَ مُسْتَعِرَةً: «لَا بُدَّ أَنْ يَرَوْهَا! لَا بُدَّ أَنْ يَرَوْهَا!» وَكَانَتِ الرِّيَاحُ شَدِيدَةً مِمَّا جَعَلَ السَّيْطَرَةَ عَلَى النَّارِ أَمْرًا صَعْبًا. وَتَقْرِيبًا بَعْدَ لَحَظَاتٍ، سَمِعْتُ طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنَ الْمِدْفَعِ، ثُمَّ بِضْعَ طَلَقَاتٍ مِنَ الْبَنَادِقِ، فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ رَأَوْا إِشَارَتِي!

حَلَّ الْفَجْرُ سَرِيعًا، وَبَدَأَ الضَّبَابُ يَنْقَشِعُ بَيْنَمَا أَدْفَأَتِ الشَّمْسُ الْجَزِيرَةَ. وَاسْتَطَعْتُ بِصُعُوبَةٍ تَمْيِيزَ وُجُودِ سَفِينَةٍ مِنْ عَلَى بُعْدٍ، فَرَكَضْتُ طَوَالَ الطَّرِيقِ بِاتِّجَاهِ النَّاحِيَةِ الْجَنُوبِيَّةِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَنَزَلْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ بِمُجَرَّدِ وُصُولِي لِلشَّاطِئِ. حُطَامٌ! أَوَّاهُ! هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ الْمَسَاكِينُ؛ تَحَطَّمَتْ سَفِينَتُهُمْ عَلَى نَفْسِ الصُّخُورِ الَّتِي كَادَتْ تُنْهِي حَيَاتِي مُنْذُ سَنَوَاتٍ كَثِيرَةٍ مَاضِيَةٍ. وَضَاقَ صَدْرِي حِينَ عَرَفْتُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ أَحْيَاءٍ. فَهُمْ أَرْسَلُوا الْإِشَارَةَ وَلَمْ تُنْقِذْهُمْ أَيُّ سَفِينَةٍ. وَفِي هَذَا الظَّلَامِ، بِالتَّأْكِيدِ لَمْ يَرَوْا جَزِيرَتِي.

وَانْتَحَبْتُ: «آهٍ لَوْ نَجَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَطْ، وَاحِدٌ فَقَطْ!» شَعَرْتُ بِالْوِحْدَةِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ بِالذَّاتِ أَكْثَرَ مِمَّا شَعَرْتُ بِهَا طَوَالَ مَا يَزِيدُ عَنِ الْعِشْرِينَ عَامًا الَّتِي قَضَيْتُهَا بِمُفْرَدِي.

وَالِاخْتِيَارُ الْوَحِيدُ الَّذِي كَانَ عَلَيَّ اتِّخَاذُهُ وَقْتَئِذٍ هُوَ مَا إِذَا كُنْتُ سَأَسْتَخْدِمُ قَارِبِي وَمَعْرِفَةُ إِمْكَانِيَّةِ جَمْعِ الْمُؤَنِ مِنَ السَّفِينَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ، قَرَّرْتُ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَحِقُّ الْمُخَاطَرَةَ. لَكِنَّنِي انْتَظَرْتُ حَتَّى الصَّبَاحِ التَّالِي، عِنْدَمَا كَانَ الْمَدُّ مُنْخَفِضًا، فَلَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ يَجْرِفَنِي التَّيَارُ لِدَاخِلِ الْبَحْرِ.

مَا إِنِ اقْتَرَبْتُ مِنَ الْقَارِبِ، سَمِعْتُ كَلْبًا يَنْبَحُ، فَنَاَدَيْتُ عَلَيْهِ وَقَفَزَ مُبَاشَرَةً فِي قَارِبِي، وَكَانَ بِلَا شَكٍّ رَفِيقًا صَغِيرًا مُشَاكِسًا. وَوَجَدْتُ أَنَّ الْمِيَاهَ أَتْلَفَتِ الْكَثِيرَ مِنْ حَمُولَةِ السَّفِينَةِ، لَكِنَّنِي تَمَكَّنْتُ مِنْ أَخْذِ بَعْضِ الْقُدُورِ النُّحَاسِيَّةِ وَبَعْضِ صَنَادِيقِ الْبَحَّارَةِ وَبَعْضِ بَرَامِيلِ الشَّرَابِ وَبَعْضِ الْبَارُودِ. وَحَيْثُ إِنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، عَمِلْتُ بِسُرْعَةٍ وَحَزَمْتُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى قَارِبِي الصَّغِيرِ.

وَتَطَلَّبَ الْأَمْرُ الْقِيَامَ بِالْعَدِيدِ مِنَ الرِّحْلَاتِ إِلَى السَّفِينَةِ لِنَقْلِ الْحَمُولَةِ إِلَى مُخَيَّمِي. يَا لَلثَّرَوَاتِ الَّتِي وَجَدْتُهَا عِنْدَمَا فَتَحْتُ أَخِيرًا الصَّنَادِيقَ، فَكَانَتْ مَمْلُوءَةً بِكُنُوزٍ غَيْرِ عَادِيَّةٍ! فَاحْتَوَى أَحَدُهَا عَلَى عُلْبَةٍ جَمِيلَةٍ مِنَ الزُّجَاجَاتِ الْمَمْلُوءَةِ بِأَشْرِبَةٍ ذَاتِ نَكْهَاتٍ، وَكَانَتْ لَذِيذَةً بِالْفِعْلِ. وَكَانَ هُنَاكَ صُنْدُوقٌ آخَرُ مَمْلُوءٌ بِالْحَلْوَى، وَأَيْضًا وَجَدْتُ فِي صُنْدُوقٍ آخَرَ قُمْصَانًا جَدِيدَةً، وَاحْتَوَى آخِرُ صُنْدُوقٍ فَتَحْتُهُ عَلَى ثَلَاثِ أَكْيَاسٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَجَدْتُهَا بِجِوَارِ زَوْجَيْنِ مِنَ الْأَحْذِيَةِ! خَزَنْتُ الْكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ الثَّرْوَاتِ الْجَدِيدَةِ فِي كَهْفِي، كَيْ أَطْمَئِنَّ أَنَّهَا فِي مَأْمَنٍ.

لَمْ تَسْتَمِرَّ إِثَارَتِي بِهَذِهِ الِاكْتِشَافَاتِ لِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، إِذْ أَكَلْتُ كُلَّ الْحَلْوَى وَشَرِبْتُ كُلَّ الْمَشْرُوبَاتِ الْمُسْكِرَةِ، وَعَادَتْ حَيَاتِي كَمَا كَانَتْ، وَعُدْتُ لِأَتَفَقَّدَ الْمَكَانَ مِنْ أَعْلَى كُلَّ صَبَاحٍ. لَكِنَّ شَيْئًا اخْتَلَفَ الْآنَ، إِذْ لَدَيَّ كَلْبِي الْجَدِيدُ لِيُرَافِقَنِي، وَأَسْمَيْتُهُ سكرافي، وَكَانَ رَفِيقًا صَغِيرًا وَبَارِعًا.

وَبَعْدَ تَحَطُّمِ السَّفِينَةِ، سُرْعَانَ مَا احْتَفَلْتُ بِالْعَامِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ لِنُزُولِي عَلَى الْجَزِيرَةِ. وَمَرَّتْ عَلَيَّ السَّاعَاتُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَنَا جَالِسٌ أُفَكِّرُ فِي كُلِّ مَا حَدَثَ. كَانَتْ سَنَوَاتٌ سَعِيدَةٌ مِنَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ وَالنَّجَاحَاتِ الْكَثِيرَةِ. لَكِنِّي الْآنَ أَقْضِي الْكَثِيرَ مِنَ الْوَقْتِ قَلِقًا مِنْ أَنْ يَكْتَشِفَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وُجُودِي، مِمَّا صَعَّبَ عَلَيَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِحَيَاتِي. مَرَّ احْتِفَالِي السَّنَوِيُّ وَأَقْنَعْتُ نَفْسِي أَنَّهُ قَدْ آنَ وَقْتُ الْفِرَارِ. لَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَتْرُكَ الْجَزِيرَةَ؟

قَضَيْتُ الْمَوْسِمَ الْمُمْطِرَ بِأَكْمَلِهِ هَذَا الْعَامَ وَأَنَا أُفَكِّرُ وَأُخَطِّطُ لِلْهُرُوبِ. وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ هُمْ مَنْ سَيُرْشِدُونَنِي، فَلَوِ اسْتَطَعْتُ إِقَامَةَ سَلَامٍ مَعَهُمْ، سَيُمْكِنُهُمْ إِطْلَاعِي عَلَى سَبِيلِ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَزِيرَةِ.

هَلْ سَيَنْجَحُ الْأَمْرُ؟ هَلْ أَسْتَطِيعُ إِقَامَةَ صَدَاقَاتٍ مَعَهُمْ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤