الفصل التاسع والعشرون

الْأَخْذُ بِالدَّفَّةِ

دُونَ مُقَدِّمَاتٍ، جَرَيْنَا بِسُرْعَةٍ بِكُلِّ طَاقَتِنَا بَعِيدًا عَنِ الشَّاطِئِ، وجمعة فِي الْمُقَدِّمَةِ. وَمَا إِنْ جَلَسْنَا بِأَمَانٍ عَلَى التَّلِّ الْعَالِي، حَتَّى أَخْبَرَنَا الْقُبْطَانُ بِقِصَّتِهِ بِتَفَاصِيلَ أَكْثَرَ. وَفِي النِّهَايَةِ، تَبَيَّنَ أَنَّ رَجُلَيْنِ فَقَطْ هُمَا مَنْ تَسَبَّبَا فِي حُدُوثِ جَمِيعِ الْمَشَاكِلِ لِلْقُبْطَانِ الْمِسْكِينِ. فَهُمَا مَنْ أَقْنَعَا الْآخَرِينَ بِالتَّمَرُّدِ وَالْآنَ يُضَلِّلَانِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاسْتَطْرَدَ الْقُبْطَانُ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْحَظَّ الْحَسَنَ هُوَ مَا أَبْقَاهُمْ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا بَحَّارَانِ غَيْرُ مَاهِرَيْنِ؛ فَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدْرِيَانِ شَيْئًا عَمَّا يَفْعَلَانِهِ.

– «فَكُلُّ مَا يَشْغَلُ تَفْكِيرَهُمَا هُوَ الذَّهَبُ؛ وَلَيْسَ سَلَامَةَ الْمَرْكَبِ، أَوْ حَيَاةَ بَاقِي الرِّجَالِ. وَكُلُّ مَا يُرِيدَانِهِ هُوَ الْمَالُ.»

سَأَلْتُ الْقُبْطَانَ وَالْشَ عَمَّا إِذَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ يَعُودَ بَاقِي رِجَالِهِ إِلَى إِخْلَاصِهِمْ لَهُ، إِذَا تَمَّ الْإِمْسَاكُ بِاللِّصَّيْنِ.

– «أَجَلْ، أَظُنُّهُمْ سَيَفْعَلُونَ، فَلَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِوُجُودِهِمْ فِي الْبَحْرِ بِلَا اتِّجَاهٍ وَاضِحٍ وَلَا خُطَطٍ لِلْعَوْدَةِ لِأَوْطَانِهِمْ.»

فَأَخْبَرْتُ الْقُبْطَانَ وَالْشَ أَنَّنِي يُسْعِدُنِي أَنَا وجمعة أَنْ نُنَاصِرَهُ، لَكِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ مَعْرِفَةَ شَيْئَيْنِ فِي الْبِدَايَةِ.

– «هَلْ سَتَتْبَعُ تَعْلِيمَاتِي وَتَدَعُنِي أَقْوُدُكَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ؟ وَفِي حَالِ انْتَصَرْنَا، هَلْ تَصْحَبُنِي أَنَا وجمعة لِنَعُودَ إِلَى إِنْجِلْتِرَا بِرِفْقَتِكَ؟»

وَافَقَ الْقُبْطَانُ وَالْشُ فِي الْحَالِ، وَجَلَسْنَا نَحْنُ الْخَمْسَةُ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ وَابْتَكَرْنَا خُطَّةً مُحْكَمَةً لِلْغَايَةِ. فَغَالِبًا مَا يَقْضِي الْوَغْدَانِ الْوَقْتَ جَالِسَيْنِ فَحَسْبُ لِتَدْبِيرِ خُطَطِهِمْ. وَاتَّفَقَ الْقُبْطَانُ أَنَّ فِي اسْتِطَاعَتِنَا عَلَى الْأَرْجَحِ أَسْرَهُمَا بِسُهُولَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ الِاطْمِئْنَانِ إِلَى تَقْيِيدِهِمَا، نُقْنِعُ بَاقِيَ الرِّجَالِ بِالْعَوْدَةِ لِلنِّظَامِ.

اصْطَحَبْنَا الْبَحَّارَةَ لِكَهْفِي الْخَاصِّ بِالطَّهْيِ، حَيْثُ أَحْتَفِظُ بِبَاقِي بَنَادِقِي. وَأَعْطَيْتُ كُلَّ رَجُلٍ سِلَاحًا وَبَعْضَ الْبَارُودِ، تَحَسُّبًا لِاحْتِيَاجِنَا إِلَيْهِ. وَتَحَرَّكْنَا نَحْنُ الْخَمْسَةُ بِخِفَّةٍ كَالْهَوَاءِ لِنَعُودَ إِلَى الشَّاطِئِ، حَيْثُ يَغْفُو كُلُّ الرِّجَالِ، مُنْتَشِرِينَ بِطُولِ الشَّاطِئِ، وَقَدْ أَسْنَدَ بَعْضُهُمْ رَأْسَهُ عَلَى أَزْنَادِ الْأَشْجَارِ، وَرَقَدَ الْبَعْضُ فِي الشَّمْسِ وَحَسْبُ.

أَحَطْنَا بِالرِّجَالِ، وَعَدَدْتُ إِلَى ثَلَاثَةٍ بِأَصَابِعِي، ثُمَّ أَطْلَقْنَا النَّارَ مِنْ بَنَادِقِنَا فِي الْهَوَاءِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، فَقَفَزَ الرِّجَالُ، خَائِفِينَ وَمَصْدُومِينَ، وَلَمْ يَدْرُوا مَاذَا يَفْعَلُونَ!

وَصِحْتُ قَائِلًا: «أَلْقُوا أَسْلِحَتَكُمْ! أَلْقُوهَا الْآنَ قَبْلَ أَنْ نُطْلِقَ النَّارَ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا!»

وَعَلَا صَوْتُ رَنِينِ وَصَخَبِ الْعَدِيدِ مِنَ السَّكَاكِينِ، وَالسُّيُوفِ، وَالْأَغْمَادِ عِنْدَ ارْتِطَامِهَا بِالْأَرْضِ.

ثم أضفت: «وَالْبَنَادِقَ أَيْضًا، أَعْرِف أَنَّ مَعَكُمْ بَنَادِقَ!» فَأَلْقَى قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَى مَضَضٍ.

وَاسْتَدَرْتُ لِلْقُبْطَانِ وَالْشَ قَائِلًا: «مَنِ الْوَغْدَانِ اللَّذَانِ اسْتَوْلَيَا عَلَى سَفِينَتِكَ يَا قُبْطَانُ وَالْشُ؟» فَأَشَارَ الْقُبْطَانُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى رَجُلَيْنِ مُرْتَعِدَيْنِ فِي وَسْطِ الْمَجْمُوعَةِ.

– «أَنْتُمَا، تَعَالَيَا هُنَا، الْآنَ!» تَرَدَّدَا فِي الْبِدَايَةِ، ثُمَّ حَاوَلَا الْفِرَارَ، لَكِنَّ جمعة كَانَ سَرِيعًا بِمَا يَكْفِي لِإِيقَافِهِمَا. فَأَوْقَعَ الْأَوَّلَ ثُمَّ أَمْسَكَ بِالْآخَرِ قَبْلَ حَتَّى أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأَشْجَارِ.

وَقُلْتُ: «بِسُرْعَةٍ! هَيَّا لِنُقَيِّدْهُمَا!» قَيَّدَ مُورْجَانُ وَبَاسُ أَيْدِيَهُمَا مَعًا بِاسْتِخْدَامِ بَعْضِ الْحِبَالِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَبَاتِ الْكَرْمَةِ.

– «جمعة، أَنْتَ تَعْلَمُ أَيْنَ سَتَذْهَبُ بِهَذَيْنِ الْهَمَجِيَّيْنِ!» فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ وَأَشَارَ إِلَى بَاسَ وَمُورْجَانَ لِيُسَاعِدَاهُ.

وَبِمُجَرَّدِ ابْتِعَادِهِمَا عَنْ مَرْمَى السَّمْعِ، تَحَدَّثَ الْقُبْطَانُ مَعَ رِجَالِهِ، فَقَالَ لَهُمْ إِمَّا أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهِ أَوْ يَفْقِدُوا حَيَاتَهُمُ اللَّيْلَةَ؛ وَكَانَ الْخَيَارُ لَهُمْ. فَطَأْطَئوا جَمِيعًا رُءُوسَهُمْ فِي خِزْيٍ مِنْ خِيَانَةِ مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ. وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقُبْطَانَ وَالْشَ أَنَّهُمْ سَيَتْبَعُونَهُ. وَاعْتَذَرَ الْكَثِيرُونَ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَقَالُوا إِنَّهُمْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ بِشِدَّةٍ مِنْ جَرَّاءِ مَا فَعَلُوهُ، بَلْ إِنَّ أَحَدَهُمْ بَدَأَ يُنْشِدُ أُغْنِيَةَ «لِأَنَّهُ رَفِيقٌ صَالِحٌ وَمَرِحٌ» مِمَّا أَسْعَدَ الْقُبْطَانَ وَالْشَ أَيَّمَا سَعَادَةٍ.

بِتَقْيِيدِ الْوَغْدَيْنِ بِإِحْكَامٍ فِي كَهْفِي الْخَاصِّ بِالطَّهْيِ، تَسَنَّتْ لِي وَلِلْقُبْطَانِ فُرْصَةُ إِجْرَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَشَائِقٍ، فَسِرْتُ بِالْقُبْطَانِ وَالْشَ فِي جَوْلَةٍ عَلَى جَزِيرَتِي، وَأَرَيْتُهُ مَزْرَعَتَنَا النَّاجِحَةَ، وَانْبَهَرَ أَيَّمَا انْبِهَارٍ، فَلَمْ يَسَعْهُ التَّصْدِيقُ أَنَّنِي عَمِلْتُ الْكَثِيرَ بِمُفْرَدِي!

وَبَعْدَ قَضَاءِ زَمَنٍ عَلَى الْجَزِيرَةِ، قَضَيْتُ أَنَا وجمعة بِضْعَ سَاعَاتٍ لِحَزْمِ كُلِّ شَيْءٍ نَحْتَاجُهُ فِي الرِّحْلَةِ الْبَحْرِيَّةِ إِلَى إِنْجِلْتِرَا. وَقَالَ الْقُبْطَانُ إِنَّ لَدَيْهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمُؤَنِ عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ بِالْفِعْلِ، لَكِنَّهَ أَخَذَ بَعْضَ مِيَاهِ الشُّرْبِ وَالْكَثِيرَ مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ مَنْزِلِي الصَّيْفِيِّ مِنْ أَجْلِ رِحْلَةِ الْعَوْدَةِ، ثُمَّ أَعْطَانِي الْقُبْطَانُ الطَّيِّبُ قَمِيصًا نَظِيفًا وَبِنْطَالًا جَدِيدًا! وَكَانَا رَائِعَيْنِ؛ فَقَدْ ظَلَلْتُ سَنَوَاتٍ لَا أَرْتَدِي سِوَى مَلَابِسَ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ!

وَسَأَلْتُ جمعة وَنَحْنُ نَحْزِمُ أَمْتِعَتَنَا: «هَلْ أَنْتَ وَاثِقٌ أَنَّكَ لَا تَوَدُّ الْعَوْدَةَ لِوَطَنِكَ، إِلَى عَائِلَتِكَ؟»

فَأَجَابَنِي: «روبنسون، أَنَا قَرَّرْتُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ جِدًّا أَنِّي أُرِيدُ حَيَاةَ الْمُغَامَرَةِ، وَالْآنَ لَدَيَّ الْفُرْصَةُ لِأَرَى دَوْلَةَ إِنْجِلْتِرَا الْعُظْمَى، ولن أفوِّتَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ!»

قُلْتُ لَهُ: «آهٍ يَا جمعة! إِنَّنِي سَعِيدٌ جِدًّا لِسَمَاعِي بِأَنَّكَ سَتَأْتِي مَعِي، فَلَنْ يَكُونَ الْحَالُ بِكَ كَمَا هُوَ بِدُونِكَ.»

أَتَى الْقُبْطَانُ والش لِيُخْبِرَنَا أَنَّ سَفِينَتَهُ مُسْتَعِدَّةٌ لِلرَّحِيلِ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ سِوَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَقَطْ كَانَ عَلَيَّ عَمَلُهُ قَبْلَ رَحِيلِنَا؛ وَهُوَ ذَهَابِي لِلرَّجُلَيْنِ الْمُقَيَّدَيْنِ فِي كَهْفِي الْخَاصِّ بِالطَّهْيِ.

قُلْتُ لَهُمَا: «لَدَيْكُمَا خَيَارَانِ: الْعَوْدَةُ إِلَى إِنْجِلْتِرَا مَعَنَا، مُقَيَّدَيْنِ وَمُصَفَّدَيْنِ، عَلَى أَنْ تُحَاكَمَا وَتُطَبَّقَ عَلَيْكُمَا عُقُوبَةُ الشَّنْقِ بِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ، أَوِ الْبَقَاءُ هُنَا عَلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، وَبَذْلُ قُصَارَى جُهْدِكُمَا لِلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.»

نَظَرَ الرَّجُلَانِ بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ، فَقَدْ كَانَا يَعْلَمَانِ أَنَّ عَوْدَتَهُمَا إِلَى الْبِلَادِ تَعْنِي الْإِعْدَامَ؛ لِذَا لَمْ أَتَفَاجَأْ حِينَ طَأْطَأَ كِلَا الرَّجُلَيْنِ بِرَأْسَيْهِمَا وَتَقَبَّلَا مَصِيرَهُمَا. فَفَكَكْتُ أَيْدِيَهُمَا وَأَقْدَامَهُمَا وَتَرَكْتُ لَهُمَا بَعْضَ مِيَاهِ الشُّرْبِ، وَأَخْبَرْتُهُمَا أَيْنَ يجِدَانِ مُخَيَّمِي، وَكَيْفَ يَحْيَيَا حَيَاةً طَيِّبَةً عَلَى الْجَزِيرَةِ إِذَا عَمِلَا بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ. بَدَوَا تَعِيسَيْنِ عِنْدَ رَحِيلِي، لَكِنَّهُمَا عَلَى الْأَقَلِّ ظَلَّا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.

قُلْتُ لَهُمَا: «هَذِهِ الْجَزِيرَةُ جَنَّةٌ الْآنَ، وَعَلَيْكُمَا مُعَامَلَتهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ.»

مَعَ كَلِمَاتِ الْوَدَاعِ هَذِهِ تَرَكْتُهُمَا. وَنَظَرْتُ مَرَّةً أَخِيرَةً فِي الْأَرْجَاءِ، فَالْيَوْمُ الَّذِي ظَنَنْتُهُ لَنْ يَأْتِيَ أَبَدًا أَتَى أَخِيرًا؛ فَسَأُغَادِرُ الْجَزِيرَةَ. وَأَضْحَى سِجْنِي مَوْطِنًا جَمِيلًا، لَكِنْ عَلَى قَدْرِ الرَّاحَةِ الَّتِي عَمَّتِ الْأَرْجَاءَ، إِلَّا أَنَّنِي اشْتَقْتُ إِلَى الْحَضَارَةِ، وَأَرَدْتُ الْعَوْدَةَ لِوَطَنِي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤