الفصل الخامس

قَرَاصِنَةٌ!

قَدْرَ مَا تَغَيَّرَ حَظِّي لِلْأَفْضَلِ عِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى لَنْدَنَ، أَصْبَحَ الْعَكْسُ بِالْعَكْسِ لَاحِقًا؛ فَسُرْعَانَ مَا أَصْبَحَتْ رِحْلَتِي الْبَحْرِيَّةُ الثَّانِيَةُ إِلَى أَفْرِيقْيَا أَسْوَأَ رِحْلَةٍ لِي حَتَّى حِينِهِ. وَسُرْعَانَ مَا عَلِمْتُ أَنَّ هُنَاكَ مَا هُوَ أَسْوَأُ بِكَثِيرٍ مِنْ هَبَّةِ رِيحٍ وَالْإِنْقَاذِ في اللحظة الأخيرة! فَبَيْنَمَا شَقَّتْ سَفِينَتُنَا طَرِيقَهَا إِلَى جُزُرِ الْكَنَارِي، بَاغَتَتْنَا سَفِينَةُ قَرَاصِنَةٍ.

طَارَدُونَا لِسَاعَاتٍ مُنْطَلِقِينَ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ، وَعِنْدَمَا لَحِقُوا بِنَا، كَانَتْ فُرْصَتُنَا الْوَحِيدَةُ لِلْبَقَاءِ هِيَ الْقِتَالَ، فَجَهَّزْنَا بَنَادِقَنَا لِلْمَعْرَكَةِ. واقتربت سَفِينَةُ الْقَرَاصِنَةِ من مُؤَخَّرَةِ سَفِينَتِنَا. اتَّخَذْنَا الْمُخَاطَرَةَ وَأَطْلَقْنَا النَّارَ مِنْ بَنَادِقِنَا كُلِّهَا مُبَاشَرَةً عَلَى سَفِينَةِ الْمُحْتَالِينَ، وَرَدُّوا عَلَى نِيرَانِنَا بِمَدَافِعِهِمُ الْكَبِيرَةِ.

وَبَدَأَ جَمِيعُ الْقَرَاصِنَةِ فِي إِطْلَاقِ النَّارِ مِنْ بَنَادِقِهِمْ بِدَوْرِهِمْ، لَكِنْ لَمْ تُصِبْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِنَا أَيٌّ مِنْ طَلَقَاتِهِمْ!

لَمْ يَدُمْ هَذَا النَّصْرُ كَثِيرًا، وَخِلَالَ دَقَائِقَ كَانَ مَا يَقْرُبُ مِنَ السِّتِّينَ قُرْصَانًا عَلَى سَطْحِ سَفِينَتِنَا. قَطَعُوا حِبَالَنَا بِسُيُوفِهِمْ، ثُمَّ مَزَّقُوا أَشْرِعَتَنَا، لَكِنَّنَا أَجْبَرْنَاهُمْ عَلَى التَّقَهْقُرِ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِنَا مُسْتَخْدِمِينَ بَنَادِقَنَا وَسُيُوفَنَا (وَأَبْعَدْنَاهُمْ عَنْ سَطْحِ سَفِينَتِنَا مَرَّتَيْنِ!) لَكِنَّ النَّصْرَ لَمْ يَبْدُ حَلِيفًا لَنَا، وَاسْتَسْلَمْنَا قَبْلَ أَنْ تُزْهَقَ أَيُّ نَفْسٍ.

أَخَذَنَا الْقَرَاصِنَةُ عَلَى سَفِينَتِهِمْ أَسْرَى، وَأَبْحَرْنَا إِلَى مِينَاءِ سلا، عَلَى السَّاحِلِ الشَّمَالِي لِأَفْرِيقْيَا. وَبِيعَ مُعْظَمُ رِجَالِ السَّفِينَةِ فِي الْبِلَادِ عَبِيدًا. وَأُعْجِبَ بِي قُبْطَانُ الْقَرَاصِنَةِ لِشَبَابِي وَفِطْنَتِي؛ فَقَرَّرَ الِاحْتِفَاظَ بِي.

وَبِذَلِكَ، فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، تَحَوَّلْتُ مِنْ تَاجِرٍ إِلَى عَبْدٍ، فَكُنْتُ فِي مُنْتَهَى التَّعَاسَةِ. تَرَدَّدَتْ كَلِمَاتُ وَالِدِي فِي ذِهْنِي، وَأَدْرَكْتُ أَنَّنِي سَأَظَلُّ أَبَدًا عَلَى هَذَا الْحَظِّ الْعَاثِرِ، فَرَغْبَتِي الْأَنَانِيَّةُ لِمُغَادَرَةِ دِيَارِي لَمْ يَكُنْ لِيُقَابِلَهَا شَيْءٌ سِوَى التَّعَاسَةِ.

قَضَيْتُ أَيَّامًا طَوِيلَةً أَعْمَلُ فِي حَدِيقَةِ سَيِّدِي، وَكَذَلِكَ أَقُومُ بِالْعَدِيدِ مِنَ الْمَهَامِّ الْمَنْزِلِيَّةِ، لَكِنَّ قَلْبِي وَجَسَدِي تَاقَا إِلَى الْعَوْدَةِ لِلْبَحْرِ، حَيْثُ تَتَوَفَّرُ لِي عَلَى الْأَقَلِّ فُرْصَةٌ لِلْهَرَبِ، لَكِنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَأْخُذْنِي قَطُّ إِلَى رِحْلَاتِهِ لِلصَّيْدِ، بَلْ كَانَ يَتْرُكُنِي لِلْعَمَلِ.

شَعَرْتُ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَيَّ أَطْوَلُ مِنْ سَابِقِهِ، وَمَرَّتْ سَنَتَانِ بِبُطْءٍ. لَيْلَ نَهَارَ لَمْ أَحْلُمْ بِشَيْءٍ سِوَى الْهَرَبِ. وَدُونَ أَصْدِقَاءٍ، لَمْ يَتَبَقَّ لِي سِوَى أَفْكَارِي لِتُؤْنِسَ وَحْدَتِي. كَانَ الْعَمَلُ شَاقًّا وَالشَّمْسُ مُحْرِقَةً. فَهَلْ سَأَقْضِي بَقِيَّةَ حَيَاتِي عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؛ عَالِقًا فِي بَلَدٍ غَرِيبٍ، عَبْدًا لِسَيِّدٍ بَغِيضٍ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤