الدكتور علي إبراهيم باشا

أنشدت هذه القصيدة في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة في حفل تكريم الجراح علي إبراهيم باشا بمناسبة بلوغه سن الستين عام ١٩٤١م، وكان وزيرًا للصحة حينئذ.

ذُؤابةُ مجدٍ ما أجلَّ وما أسْمَى
وَوَثْبَةُ شَأْوٍ كاد يستبقُ النجمَا١
وماذا يقولُ الشعرُ والوهْمُ جُهْدُه
وقَدْرُ «عَليٍّ» يَبهرُ الشعْرَ والوَهْما؟
وأنَّى يمدُّ ابنُ القوافي جَنَاحَهُ
إلى رقمةٍ شمَّاء أعجزتِ العُصْما؟٢
يضيقُ البيانُ العبقريُّ مَهابةً
إذا لمح الآثارَ والحسَبَ الضخْما
يَهُمُّ فيعروه القُصورُ فينثني
وقد كان يقتادُ النجومَ إذا هَمَّا٣
وَمَنْ رامَ تصويرَ الملائِكِ جَاهدًا
فكيف له أنْ يُحكِمَ النقشَ والرسْما؟٤
رُوَيْدَك قلْ يا شعرُ ما تستطيعُهُ
وغَرِّدْ بما لا تستطيعُ له كَتْمًا
إذا اليَمُّ أعيا أن تُلِمَّ بِحَدِّهِ
فيكفيك عند الشَّطِّ أن تصفَ اليَمَّا٥
ويكفيك أنْ تدعو أبا الطبِّ باسمِهِ
فإنَّ العُلا صارتْ له لَقَبًا واسما٦
فقلْ وانثُرِ الأزهارَ فوق مناقبٍ
تماثلُها حُسنًا، وتشبهُها شَمّا٧
وخُذْ من فَم الدنيا الثناءَ فطالما
أشادتْ به نثرًا، وغنَّتْ به نظما
وحدِّث به الآفاقَ إنْ شئتَ، إنَّها
وقد عَرَفَتْهُ، لن تزيدَ به عِلْمًا

•••

دعوني أوفِّي بالقريضِ ديُونَه
فقد عاد غُرْمًا ما توهمتُه غُنْما
سَمَوْتُ إليه، والظلامُ يلُفُّني
فيملؤُني رُعْبًا، وأمْلؤُه هَمَّا٨
أسيرُ وفي قلبي من الحزنِ لوعةٌ
تكادُ تُذيبُ الصُّمَّ لو مسَّتِ الصُّمَّا٩
تركتُ بيتي جُثَّةً آدميَّةً
كأنَّ هلالَ الشكِّ كان لها جسمًا١٠
شكتْ سُقْمَها حتى بكاها وِسادُها
وكاد عليها يشتكي السُّهْدَ والسُّقْما
يمزِّقها الموتُ العنيفُ صِراعُهُ
بأظفاره حُمْرًا، وأنيابِه سُحما١١
ففي البطن قَرْحٌ لا يكُفُّ لهيبُه
وفي الرأس نارٌ لا تبوخُ من الْحُمَّى١٢
إذا قلبَتْها العائداتُ حَسِبْنها
خَيالًا، فلا عَظْمًا يَرَيْنَ ولا لحما١٣
وقد وقف الطبُّ الحديثُ حِيالَها
عَيِيًّا، يكادُ العجزُ يقتُله غمّا١٤
وغادرها جَمْعُ الأساةِ كأنهم
طيورٌ رمَى الرامي بدَوْحَتِها سَهْما١٥
فلم يبقَ إلَّا اليأسُ، واليأسُ قاتلٌ
وأقتلُ منه نِيَّةٌ لم تجِدْ عَزْمَا
فقلتُ: «عليٌّ» ليس للأمرِ غيرَه
إذا ما أدار الدهرَ صفحتَه جَهمَا١٦
أبو الحسنِ الْجَرَّاحُ فخرُ بلادِهِ
وأكرمُ مَنْ يُرْجَى، وأشرفُ من يُسْمَى
فَزُرْ دارَه يلقاكَ قبل ندائِه
فَثمَّ الذي ترجوه من أملٍ ثَمَّا١٧
فما سرتُ نحو البابِ حتى رأيتُه
تقدَّمَ بسَّامَ الأساريرِ مُهتمَّا
وقد فهِمَتني عينُه وفهمْتُه
وكان بحمدِ اللهِ أسرَعَنا فهما
وجاء وجِبْريلُ الأمينُ أمامَهُ
يَمُدُّ جَناحًا من حَنانٍ ومن رُحْمَى
وجسَّ مكانَ الداء أوَّلَ نَظرةٍ
كأنَّ له عِلْمًا بموضِعه قِدْما١٨
فما هو إلَّا مِبْضَعٌ في يمينِه
أطاح بناب الموتِ، واستأصل السّمَّا١٩
وردّ إلى أهلي حياةً عزيزةً
وبدَّلهم من بُؤسِ أيامِهم نُعْمى
متى ذكروه في خُشوعٍ تذكَّروا
مآثِرَهُ الْجُلَّى، ونائلَه الْجَمَّا٢٠
إذا ما امرؤ أهدَى الحياةَ لميِّتٍ
فذلك قد أهدى الوجودَ وما ضَمَّا

•••

له مِبْضَعٌ تجري الحياةُ بحدِّه
يُصيب حُشاشاتِ المنونِ إذا أدْمى٢١
أحَنُّ على المجروحِ من أُمِّ واحدٍ
وأرفقُ من طِفلٍ إذا داعب الأمَّا
تعلَّمَ منه البرقُ سُرعَةَ خَطْفِهِ
إذا ما جَرى يستأصلُ اللحمَ والعظما
تكادُ وقد شاهدتَ وَمْضَ مَضَائِهِ
تظنُّ الذي شهدتَ من عَجَبٍ حُلْما٢٢
كأنَّ به نورًا من الله ساطِعًا
يُضيءُ له نَهْجَ الطَّريقِ إذا أَمَّا٢٣
أصابعُ أَجْدَى خِبْرَةً من أشعَّةٍ
وأصدقُ إنْ مَرتْ على جَسدٍ حُكْما
فكَم من حياة في أنامِلها التي
تكادُ شفاهُ الطِبِّ تلثِمُها لَثْما٢٤
وكم من يَدٍ أسْدَتْ، إذا شئتَ وصفَها
ضلِلْتَ بها كيْفًا، وأخطأتها كَمّا٢٥
زها الشرقُ إعجابًا به وبمثلِه
وقد عاش دهرًا قبله يشتكي العُقْما٢٦
إذا قَسَم اللهُ الكريمُ لأمَّةٍ
بنابغةٍ فَرْدٍ، فقد أجزل القَسْما٢٧

•••

هنيئًا لك العمرُ السعيدُ فإنَّه
عُصارةُ دهرٍ ضمَّتِ العزمَ والحزما
بلغتَ به عُلْيا السنينَ وكلُّها
مَدارجُ مجدٍ تفرعُ القِمَمَ الشُّما٢٨
كأنَّك منه فوقَ ذِرْوةِ شامخٍ
تَرى من أمورِ الدهرِ أبعدَها مَرْمَى٢٩
زمانٌ مضَى في الْجدِّ ما مَسَّ شُبْهةً
ولا وَصَلَتْ كَفُّ الزمانِ به ذَمّا٣٠
بَنَيْتَ به عِزًا لمصرَ فأينما
تلفَّتَّ تلقَى صَرْحَهُ سامقًا فَخْما٣١
بذلتَ لها من صِحّةٍ ورَفاهةٍ
فأولتك حُبًّا ما أبرَّ وما أسْمَى٣٢
وألهمَتها معنى الثناء ولفظهُ
كريمًا، فخُذْه اليومَ من فَمِها نَغْما
إذا كان للرحمنِ في الناسِ آيةٌ
فإنَّك بينَ الناسِ آيتُهُ العُظْمى٣٣
تلألؤُ رأْيٍ يسلُبُ الشمسَ ضوءَها
وكاملُ خُلْقٍ علَّم القمرَ التَّمّا٣٤
فإن كرَّمتْكَ اليومَ مصرُ فإنَّما
تُكَرِّمُ من أبنائِها رجلًا شَهْما
فقل للذي يبغي لَحَاقَك جاهدًا:
رُوَيْدَكَ حتَّى يدخلَ الْجمَل السَّما٣٥
إذا ما رأى الناسُ المكارمَ حِلْيةً
فأنت تراها في العُلا واجبًا حَتْما
فَعِشْ واملأ الدنيا حياةً وذُكْرَةً
فمثْلُك يُعلي ذِكْره العُرْبُ والعُجْما٣٦

هوامش

(١) ذؤابة كل شيء: أعلاه. شأو: الغاية والأمد.
(٢) ابن القوافي: الشاعر. شماء: عالية مرتفعة. العصما: جمع أعصم وهو الظبي في ذراعيه أو إحداهما بياض، وهو أقدر الحيوان على تسلق الجبال.
(٣) يعروه: يصيبه. يقتاد: يقود.
(٤) يحكم: يتقن. النقش: الزخرفة.
(٥) اليم: البحر. تلم: تحيط.
(٦) أبا الطب: الدكتور علي إبراهيم باشا.
(٧) شما: شم الطيب، تنفس رائحته بهدوء.
(٨) يقص الشاعر هنا ما أصاب إحدى قريباته من مرض عضال، وما كان من عناية الممدوح بها حتى شفيت.
(٩) الصم: الحجارة الصلبة الملساء.
(١٠) هلال الشك: هو يوم استطلاع هلال أول الشهر العربي حيث يكون الهلال دقيقًا ويكاد لا يرى.
(١١) صراعه: قتله. سحما: سودا.
(١٢) قرح: ألم الجراح. لا تبوخ: لا تطفأ ولا تسكن.
(١٣) العائدات: زائراتها اللائي يعطفن عليها.
(١٤) عييًّا: عاجزًا.
(١٥) الأساة: الأطباء.
(١٦) أدار الدهر صفحته: قلب وجهه. جهمًا: كالح الوجه عابسًا.
(١٧) فثم: فهناك.
(١٨) قدما: قديمًا.
(١٩) مبضع: مشرط.
(٢٠) الجُلَّى: الظاهرة الواضحة. نائله: عطاياه. الجما: الكثيرة.
(٢١) بحده: بنصله. حشاشات: ما بداخلها. أدمى: أنزل الدم.
(٢٢) ومض: لمعان. مضائه: سرعته وهمته.
(٢٣) نهج: الطريق أبانه وأوضحه. أمَّا: قصد.
(٢٤) أناملها: أطراف الأصابع. تلثمها: تقبلها.
(٢٥) ضللت: لم تهتد إليه. كمًّا: عددًا.
(٢٦) زها: افتخر. العقما: عدم الإنجاب.
(٢٧) أجزل: أكثر له العطاء.
(٢٨) تفرع: تزيد ارتفاعًا. الشما: العالية.
(٢٩) ذروة: قمة الشيء وأعلاه. شامخ: شاهق.
(٣٠) وصلت: اتصلت. ذمًّا: ضد المدح.
(٣١) صرحه: البناء العالي الشامخ. سامقًا: عاليًا.
(٣٢) رفاهة: سعة من العيش. أولتك: أعطيتك.
(٣٣) آية: علامة.
(٣٤) تلألؤ: إضاءة. يسلب: يسرق. التما: الكمال.
(٣٥) رويدك: مهلًا. الجمل: هو الحيوان المعروف أو الحبل الغليظ. السما: الثقب وهنا اقتباس من الآية الكريمة: حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
(٣٦) ذكره: ذكرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤