العمود السادس: كتاب الحياة مكتوب بكلماتٍ ثلاثية الأحرف

الطبيعة المعقَّدة للحياة مستمدَّة من مجموعتين من الجزيئات: البروتينات والأحماض النووية. وهذه الجزيئات في حدِّ ذاتها مستمدَّة من مجموعةٍ متنوعة متواضعة نسبيًّا من المركبات. وهناك ٩٢ عنصرًا توجد بصورةٍ طبيعية على سطح الأرض، ولكن ٢٧ عنصرًا منها فقط هو ما يشكِّل ضرورةً للكائنات الحية، وهذه العناصر اﻟ ٢٧ ليست موجودة كلها في جميع الكائنات الحية.

تلعب البروتينات دورين. نوع منها يعطي للجسم بنيته وشكله، ويتكوَّن بها أشياء مثل الشعر والعضلات والريش والأظافر والصدف. وقد أظهر مزيجٌ من التحليل بالأشعة السينية، والكيمياء، وفهْم عمليات ميكانيكا الكَمِّ التي تجعل الذرات تتماسك معًا لتكوِّن الجزيئات، أن هذه البروتينات تتكوَّن من سلاسلَ طويلةٍ من الأحماض الأمينية التي تشكِّل بنية لولبية. ومن الواضح تمامًا أن هذا النوع من الجزيئات يمكنه أن ينتج أشياءَ طويلةً ورقيقة مثل الشعر، ولكن يمكنه أيضًا أن يُنتِج طبقات صلبة لأشياء مثل الأظافر عندما ترتبط اللوالب الفردية معًا جنبًا إلى جنب من خلال روابط كيميائية من نوعٍ أو آخر. كل هذا أثبته لينوس باولنج وزملاؤه بمعهد كاليفورنيا للتقنية، الذين نشروا سلسلة أبحاث غير مسبوقة تتكوَّن من سبعة أبحاث علمية عن بنية البروتينات في دورية «بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز» في عام ١٩٥١. أما النوع الآخر من البروتينات، فيوفِّر المكوِّنات الحيوية للجسم. مكونات مثل الهيموجلوبين الذي يحمل الأكسجين في مجرى دمك، والمواد المعروفة باسم الإنزيمات التي تحثُّ (أو تثبط في بعض الحالات) تفاعلات كيميائية معينة مهمة للحياة. وقد ثبت أن لغز تركيبها هو أحد أصعب الألغاز التي يمكن حلها.

ويأتي مفتاح حل اللغز وراء صعوبة تفكيك هذا النوع من البروتينات من الاسم الذي سُمِّيت به أخيرًا؛ ألا وهو البروتينات الكروية. فقد اتضح أنها تتكوَّن أيضًا من سلاسلَ طويلة من الأحماض الأمينية، ولكن تبيَّن أيضًا أنه في هذه الحالة تلتف السلاسل على هيئة كرات صغيرة، ولكل نوع من البروتينات الكروية شكل ثلاثي الأبعاد مميز خاص به. وشكل البروتين الكروي، وكذلك تركيبه الكيميائي، هو ما يحدِّد دوره في العمليات الكيميائية للحياة. على سبيل المثال، للهيموجلوبين تجويف يتناسب تمامًا مع حجم جزيء الأكسجين وشكله ليستقر بداخله. أو تخيَّل بروتينًا كرويًّا به تجويفان، كلٌّ منهما يتناسب تمامًا لاحتواء جزيء أصغر مختلف. وعندما تفعل ذلك، تصطف بطريقة يمكن أن تسمح بتكوين روابط بينها، قبل أن تُطلق على هيئة جزيء أحادي أكبر حجمًا. هذا أشبه بالطريقة التي اجتمعت بها الجزيئات الصغيرة معًا على أسطح حبيبات الثلج في أعماق الفضاء قبل تكوُّن الأرض. على سبيل المثال، قد يربط أحد الإنزيمات بين أزواج معينة من الأحماض الأمينية بتلقائية وتكرارية لتكوين حلقة في سلسلة متنامية ستصير جزيء بروتين آخرَ.

بحلول عام ١٩٥٩، توصَّل علماء من مختبر مجلس البحوث الطبية بالمملكة المتحدة إلى تركيب الهيموجلوبين نفسه. واكتشفوا أنه يتألف من أربع سلاسل، كل سلسلة منها تتكوَّن من أحماض أمينية متشابهة، مرتبطة معًا لتصنع كرةً شبه كروية تحتوي على أربعة جيوب على سطحها يمكن أن تستقر فيها جزيئات الأكسجين. ونجد أن السلاسل شبه المتطابقة تؤدي الوظيفة نفسها في دم الكائنات الحية على اختلافها، سواء أكانت خيولًا أم حيتانًا. والتطور عملية تتسم بالتحفُّظ الشديد؛ فبمجرد أن تجد جزيئًا يجيد أداء وظيفة معينة، تتشبَّث بهذا الجزيء دون أن تستبدله. ولكن كيف عرفت طريقة تصنيع هذه الجزيئات؟ هنا يأتي الدور الذي تلعبه الأحماض الأمينية في القصة، على الرغم من أن فهْم دور الحمض النووي والحمض النووي الريبي قد استغرق وقتًا طويلًا.

عندما عُرفت الأحماض النووية لأول مرة باعتبارها مكوِّنات أساسية للخلايا الحية، كان يُعتقد أنها نوع من المواد البنائية، كالسقالات، ترتبط بها جزيئات البروتين الأكثر تعقيدًا والأكثر إثارة للاهتمام (كما كان يُعتقد). وكان هذا الاعتقاد خطأً ساذَجًا؛ لأن جزيئات الحمض النووي والحمض النووي الريبي تبدو في ظاهرها بسيطة. فكلٌّ منها عبارة عن جزيء طويل يتكوَّن من أربع وحدات فرعية تُسمَّى القواعد. تتشابه ثلاث من هذه القواعد في كلٍّ من الحمض النووي والحمض النووي الريبي، بينما تختلف القاعدة الرابعة في الجزيئين، ومن ثَم يكون إجمالي القواعد الداخلة في تركيب الحمضين خمس قواعد. وهذه القواعد النووية هي يوراسيل (U) وثايمين (T) وسايتوسين (C) وأدينين (A) وجوانين (G). تحتوي جزيئات الحمض النووي على الجوانين والأدينين والثايمين؛ بينما تحتوي جزيئات الحمض النووي الريبي على الجوانين والأدينين والسايتوسين واليوارسيل. ينشأ كلٌّ من اليوراسيل والثايمين والسايتوسين حول حلقات سداسية الجوانب من ذرات الكربون والنيتروجين، بينما يرتكز كلٌّ من الأدينين والجوانين على حلقتين من هذه الحلقات متصلتين جنبًا إلى جنب، على شكل رقم ٨. وهذه القواعد متصلة بهيكل مركزي يحتوي على السكريات المناسبة (سكر الريبوز أو سكر الريبوز منقوص الأكسجين) المرتبطة بعضها ببعض في سلسلة، مع بروز القواعد من على جانب هذا الهيكل. ورغم ذلك، لم تكن تفاصيل هذا الأمر معروفةً حتى أوائل خمسينيات القرن العشرين، عندما استخدم فرانسيس كريك وجيمس واطسون من جامعة كمبريدج بيانات الأشعة السينية التي توصَّل إليها كلٌّ من روزاليند فرانكلين ورايموند جوسلينج بكلية كينجز كوليدج بلندن، تلك البيانات التي نقلها أحد الزملاء إلى واطسون دون علمهما أو إذنهما، لتحديد بنية «اللولب المزدوج» الشهير للحمض النووي. كانت الفكرة الأصلية هي أن القواعد مرتَّبة بطريقةٍ منظمة على طول أجزاء الأحماض النووية، وتسير بنمط على غرار GACTGACTGACTGACT … في الحمض النووي و… GACUGACUGACUGACU في الحمض النووي الريبي. غير أن هذه «الرسالة» لا تحمل الكثير من المعلومات.
توقَّفت الأمور عند هذا الحد، بشكل أو بآخر، في منتصف أربعينيات القرن العشرين. كان من المعروف آنذاك أن المادة الوراثية التي تمر عبر المخطَّط الأولي — أو الوصفة — للحياة توجد داخل بنًى كبيرة يُطلق عليها الكروموسومات توجد في قلب الخلايا، وأن هذه الكروموسومات تُنسخ وتُمرَّر إلى الأجيال التالية لتحمل هذه الوصفة وتنقلها بدورها. ولكن كان من المعروف أيضًا أن الكروموسومات تحتوي على كلٍّ من الحمض النووي والبروتينات، وكان يُعتقد أن البروتينات هي العنصر المهم لنقل المعلومات. فعلى سبيل المثال، قد تكون إحدى الطرق التي ربما «عرفت» بها الخلية كيف تُكوِّن البروتينات التي تحتاج إليها لأداء وظيفتها هي أن ترتبط عينة من كل بروتين بسقالات الحمض النووي، لتكونَ بذلك جاهزةً للنسخ عند اللزوم. كان هذا منطقيًّا، ولكنه كان افتراضًا خاطئًا.١ ومع ذلك، كان واضحًا أن الكروموسومات تحمل وصفة الحياة، على هيئة «شفرةٍ» ما.
figure
ريموند جوسلينج. «أرشيف كلية كينجز كوليدج بلندن/ساينس فوتو لايبراري».
كان الشخص الذي وضع العلماء على الطريق لمعرفة شفرة الحياة تلك هو الفيزيائي إرفين شرودنجر، الذي يشتهر في عصرنا الحالي بأنه مبتكِر «مفارقة القطة» الشهيرة لميكانيكا الكَمِّ.٢ ففي عام ١٩٤٣، كان شرودنجر يعمل في معهد دبلن للدراسات المتقدمة، حيث انتقل إلى هناك باعتباره لاجئًا هربًا من النازيين بعد استيلائهم على بلاده النمسا. في ذلك العام، ألقى سلسلة من المحاضرات بكلية ترنيتي كوليدج في دبلن تحت عنوان «ما الحياة؟» وقد نُشرت في العام التالي بكتابٍ يحمل العنوان نفسه. وقد كان لهذا الكتاب أثرٌ هائل على جيل العلماء الذين سعَوا إلى فكِّ شفرة الحياة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان من بين هؤلاء العلماء كريك وواطسون.
كانت الفكرة الأساسية، التي قدَّمها شرودنجر ومُرِّرت إلى أولئك الباحثين، أن «الجزء الأهم في الخلية الحية — خيط الكروموسوم — ربما كان من الأحرى أن يُسمَّى بالبلورة اللادورية.»٣ كان يرى أن المكون الأساسي للكروموسوم هو البروتين، ولكن هذا لا يَهُمُّ في حد ذاته؛ لأن فكرته تنطبق بالقدرِ ذاته من الكفاءة على الخيوط المؤلفة من الحمض النووي. والبلورة اللادورية، حسب مصطلحاته، هي شيء أشبه بتركيبة ملح الطعام، أو كلوريد الصوديوم، الذي تكوِّن فيه مجموعة تبادلية من ذرات الصوديوم (Na) والكلورين (Cl) مصفوفة متكررة ثلاثية الأبعاد، NaClNaClNaClNaCl … لها بنية ولكنها تنقل كمًّا قليلًا جدًّا من المعلومات. تتشابه هذه الفكرة إلى حدٍّ كبير مع فكرة اعتبار الحمض النووي سقالة تُعلَّق عليها البروتينات. يمكن فهْم ما كان شرودنجر يعنيه بالبلورة اللادورية من خلال تصوُّر لوحة نسيجية مزخرفة. فإذا كان لديك جدائل من الخيوط ببضعة ألوان، يمكن ترتيبها جنبًا إلى جنب ونسْجها لتصنع شرائطَ من لون واحد — مثل الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر — في بساطٍ مخطَّط. هذا التشبيه هو التشبيه المكافئ للبلورة الدورية. أو يمكن نسج هذه الخيوط نفسها بطريقةٍ أكثرَ تعقيدًا لصنْع صورةٍ لزهرة. وهذا التشبيه هو التشبيه المكافئ للبلورة اللادورية. وقد أشار شرودنجر إلى أنه على الرغم من أنها مصنوعة بهذه الطريقة من جدائل ذات ألوان قليلة مختلفة، فثمَّة بنية في «لوحات رافائيل النسيجية التي لا تُظهِر أيَّ تكرار مملل وإنما تصميم متقن ومترابط ومعبِّر.»

أشار شرودنجر أيضًا إلى أن ما أطلق عليه «النص المشفر» الذي تحمله البلورة اللادورية في خيوط الكروموسوم قد يحتوي على جميع المعلومات اللازمة لإنتاج البروتينات، دون الحاجة إلى حمل نسخة من كل نوع من أنواع البروتينات كقالب نموذجي داخل الكروموسومات نفسها. فالأمر لا يتطلب سوى ٢٠ حمضًا أمينيًّا مختلفًا فقط لتكوين جميع البروتينات المختلفة المهمة للحياة، وإذا تخيلت هذه الأحماض الأمينية كأنها «كلمات» تصطف على طول جزيء البروتين لتكون جملة (أو كتاب!) فسيكون لديك متسع كبير لنقلِ قدرٍ من المعلومات يماثل ما تنقله جميع حروف الأبجدية التي استخدمتها لتأليف هذا الكتاب، الذي يحتوي على قدرٍ كبير من المعلومات (أتمنى أنك توافقني الرأي في هذا) يفوق مجرد التكرار الممل للحروف الأبجدية المصطفة من الألف إلى الياء. ولكن هل ستحتاج إلى أبجدية تتألف من ٢٠ حرفًا حتى لتأليف كتاب الحياة؟

أدرك شرودنجر أنه لا حاجة إلى أشياءَ معقَّدة مثل الأحماض الأمينية. فحتى الذرات المفردة يمكن أن تؤدي المهمة إذا ما أمكن ترتيبها على نحوٍ مناسب: «ليس بالضرورة أن يكون عدد الذرات [المختلفة] في مثل هذه البنية [البلورة اللادورية] ضخمًا لينتج عددًا غير محدود تقريبًا من التنظيمات الممكنة.» وضرب مثالًا على ذلك بشفرة مورس، حيث توجد علامتان أساسيتان فقط، هما النقطة والشَّرطَة، ولكن يمكن وضعهما معًا في مجموعاتٍ حتى أربعة رموز لتصنع ٣٠ توصيفًا مختلفًا، كافيًا للحروف الأبجدية الإنجليزية بالإضافة إلى بضع من علامات الترقيم. وبإضافة علامة ثالثة، واستخدام العلامات الثلاث في مجموعاتٍ لا تزيد عن عشرة رموز، «يمكنك أن تصنع ٨٨٥٧٢ «حرفًا» مختلفًا، وبخمسة رموز ومجموعات تصل إلى ٢٥ رمزًا، يكون العدد ٣٧٢٥٢٩٠٢٩٨٤٦١٩١٤٠٥.» يبدو أن شرودنجر هنا كان مأخوذًا بعض الشيء بتدريبه كفيزيائي؛ نظرًا إلى عدم وجود حاجة لمثل هذا العدد الهائل جدًّا من الكلمات. ولكن هذا لم يتضح إلا بعد تحديد بنية الحمض النووي.

إن تلك القصة مشهورة جدًّا لدرجةٍ لا تستدعي الخوض في تفاصيلها هنا، ولكن ما يَهُمُّ أن كل جزيء من الحمض النووي يتكون من شريطين، يلتف أحدهما حول الآخر لتشكيل اللولب المزدوج الشهير. ولكل شريط مفرد من الحمض النووي هيكل مركزي يتألف من سلسلة من مجموعة سكريات مرتبطة بعضها ببعض من خلال مجموعات فوسفات (تتكون مجموعة الفوسفات من ذرة فوسفات واحدة تحيط بها أربع ذرات أكسجين). وكما رأينا في موضعٍ سابق، تلتصق القواعد (الجوانين والأدينين والثايمين والسايتوسين) بمجموعات السكريات، وتبرز من على جانبي هذا المحور. والأزواج المختلفة من هذه القواعد تحمل بعض التشابه إحداها للأخرى، والفضل في ذلك يعود إلى شكلها وإلى شكل ضعيف من الجذب الكهربائي يُسمَّى الرابطة الهيدروجينية. ويرتبط الثايمين والأدينين على نحوٍ طبيعي بعضهما ببعض بهذه الطريقة، وكذلك السايتوسين والجوانين. ويعمل هذا على ربط شريطي الحمض النووي معًا، ولكن على نحوٍ مفكَّك نسبيًّا. وفي كل موضع على أحد الشريطين يوجد به ثايمين، يوجد على الشريط المقابل أدينين؛ وفي كل موضع يوجد به سايتوسين، يوجد على الشريط المقابل جوانين. والعكس صحيح. وكان هذا الاقتران هو أساس نموذج كريك-واطسون للحمض النووي، وفي نهاية بحثهما الشهير، المنشور في دورية «نيتشر» في عام ١٩٥٣، كتبا على استحياء يقولان:

لم نغفل عن ملاحظة أن الاقتران الذي افترضناه يوحي على الفور بإمكانية وجود آلية نسخ للمادة الوراثية.

وكانت هذه هي حيلتهما لتحديد أولويتهما٤ لفكرةِ أنه يمكن نسخ الحمض النووي إذا تفكَّك الشريطان وكوَّن كل شريط لنفسه شريطًا جديدًا من خلال الارتباط بمكوناتٍ أخرى من الحساء الكيميائي الموجود داخل الخلية. فكل قاعدة أدينين على شريط مفرد تجتذب قاعدة ثايمين من الحساء، وكل قاعدة ثايمين تجتذب أدينين، وكل قاعدة جوانين تجتذب قاعدة سايتوسين، وكل قاعدة سايتوسين تجتذب قاعدة جوانين. والنتيجة هي لولبان مزدوجان متطابقان في موضعٍ اعتادا فيه أن يكونا لولبًا واحدًا. وهكذا نُسِخت المادة الوراثية. كان فهْم كيفية قيام آليات الخلية بذلك بالضبط مستغلقًا في عام ١٩٥٣، ولكن كان بيت القصيد أن هذا الأمر يمكن أن يجدي، من حيث المبدأ. كان السؤال المهم الذي أثاره هذا الموقف هو: ما الذي كان يتم نسخه بالضبط؟ كيف اختزن الحمض النووي المعلومات في كتاب الحياة؟
ثمَّة فيزيائي آخر هو جورج جاموف، الأمريكي الجنسية والروسي المولد، هو مَن وضع العلماء الآخرين، وبالأخص فرانسيس كريك، على الطريق. وذكر جاموف فيما بعدُ أنه في عام ١٩٥٣، أثناء زيارته للحرم الجامعي لجامعة كاليفورنيا في بيركلي:
كنت أسير عبر الرواق في مختبر الإشعاع، حيث وقف لويس ألفاريز وبيده نسخة من دورية «نيتشر» … حينئذٍ قال: «انظر، يا لها من مقالة رائعة كتبها واطسون وكريك.» كانت هذه أول مرة أراها فيها. ثم عُدت إلى واشنطن وبدأت التفكير في الأمر.٥
توصَّل جاموف إلى فكرة أن جزيئات البروتين يمكن أن تكون قد تكوَّنت مباشرة على طول شريطي الحمض النووي، إذا كان صف القواعد النووية على طول الحمض النووي يحمل شفرة كل حمض أميني ضروري لتكوين البروتين بالترتيب الصحيح على طول جزيء الحمض النووي. وكان في هذا محاكاة لفكرة شرودنجر، التي لم يكن جاموف على دراية بها. كتب جاموف إلى واطسون وكريك يُطلِعهما على فكرته، وأعلن عنها في ورقة بحثية نُشرت عام ١٩٥٤ في دورية «نيتشر»:

يمكن تمييز الخصائص الوراثية لأي كائن حي من خلال عدد طويل مكتوب على هيئة نظام رقمي رباعي. ومن ناحية أخرى، [البروتينات] عبارة عن سلاسل ببتيدية طويلة تتألَّف من نحو عشرين نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية … السؤال يكمن في الطريقة التي يمكن بها ترجمة الأعداد الرباعية الأرقام إلى [أحماض أمينية].

كانت تفاصيل فكرة جاموف خاطئة، ولكن بحديثه عن شفرة الحياة بهذه الطريقة حثَّ كريك وغيره الكثيرين على محاولة فهْم كيف تؤتي مثل هذه «الترجمة» ثمارها. كان من الخطوات الأساسية في سبيل ذلك فهْم دور الحمض النووي الآخر، ألا وهو الحمض النووي الريبي، أو الآر إن إيه.

كان من أحد الألغاز المتعلِّقة بكيفية مشاركة الحمض النووي بفاعلية في آليات عمل الخلية أن الحمض النووي مُختزَن في قلب الخلية، تحديدًا داخل نواة الخلية. وتحدث جميع العمليات، بما فيها تصنيع البروتينات، في الجزء الخارجي من الخلية، أو السيتوبلازم. توجد هناك كمية ضئيلة جدًّا من الحمض النووي، وكمية وفيرة من الحمض النووي الريبي. وعلى الرغم من أن كمية الحمض النووي في كل خلية من خلايا كائن حي معيَّن واحدة في جميع الخلايا الأخرى طوال الوقت، فإن كمية الحمض النووي الريبي تختلف إلى حد كبير من خلية لأخرى ومن وقتٍ لآخر في أي خلية فردية. وصار واضحًا أن الحمض النووي الريبي يدخل مباشرة في تصنيع البروتينات، وأن أجزاءً من الشفرة الوراثية تُنسخ من الحمض النووي على شريطين جديدين من الحمض النووي الريبي كما هو مطلوب، ثم يُطلق الحمض النووي في السيتوبلازم ويُستخدم لإنتاج جزيئات البروتين تقريبًا بالطريقة نفسها التي اقترحها جاموف، وبعد ذلك يتفكَّك شريطا الحمض النووي الريبي ويُعاد استخدام الأجزاء مرة أخرى. فالحمض النووي أشبه بمكتبة، مخزن معلومات، تُنسخ منه كتب فردية، أو كتيبات تعليمات لتصنيع بروتينات معينة، على الحمض النووي الريبي كما هو مطلوب. عندما ينحل جزء من جزيء الحمض النووي ويُنسخ على الحمض النووي الريبي باستخدام الآلية التي «لم يغفل [كريك وواطسون] عن ملاحظتها»، تُستبدل كل قاعدة يوراسيل بقاعدة ثايمين، ولكن دون حدوث أي اختلافات مؤثرة أخرى. وبهدف التبسيط، عند مناقشة الشفرة الوراثية من الآن فصاعدًا، سأصِفُها على أساس القواعد النووية للحمض النووي الريبي، اليوراسيل (U) والسايتوسين (C) والجوانين (G) والأدينين (A).
انطوى فكُّ الشفرة على مساهمة أشخاص كثيرين في إجراء الكثير من أبحاث الكيمياء الحيوية، لكشف التفاصيل الخاصة بآليات عمل الخلية خطوة بخطوة. ولكن ليس هذا هو المقام للخوض في كل هذه التفاصيل، التي يمكنك أن تجدها في كتاب هوراس جادسون،٦ وإنما سأركِّز هنا على الفكر الكامن وراء التجارب، والنتائج التي توصَّلت إليها هذه التجارب. في وقت مبكِّر جدًّا، قرَّر الباحثون التركيز على شفرة ثلاثية وليس على الشفرة الرباعية الأرقام التي اقترحها جاموف؛ لأن كلَّ ما تحتاج إليه هو ثلاثة حروف فقط. فإذا كان لديك أربع قواعد وتعاملت مع كلٍّ منها باعتبارها حرفًا، فإن استخدام كل واحدة منها على نحوٍ مستقل لن يمكنك سوى من تشفير أربعة أحماض أمينية فقط. وبصياغة قاعدتين بشفرة ثنائية في كل مرة، يمكن الحصول على ستة عشر ترتيبًا مختلفًا؛ وست عشرة كلمة ليست كافية لتشفير ٢٠ حمضًا أمينيًّا ضروريًّا للحياة. ولكن بالكلمات الثلاثية الأحرف، أو الشفرة الثلاثية، تستطيع أن تحصل على ٦٤ تركيبة مختلفة، وهو عدد أكثرُ من كافٍ لتشفير جميع الأحماض الأمينية الضرورية، مع تبقي عدد كافٍ من الرموز للعمل كمكافئ لعلامات الترقيم، بما في ذلك علامات بداية «رسالة» معينة ونهايتها. وبالاستعانة بالشفرة الرباعية الحروف، سيصل عدد الكلمات المفردة إلى ٢٥٦ كلمة، وهو عدد أكبر بكثير من العدد المطلوب.
خلال الخمسينيات والستينيات القرن العشرين، أجرى علماء الكيمياء الحيوية تجاربَ تضمَّنت شرائط الحمض النووي الريبي التي تتكوَّن من مجموعة متنوعة من القواعد، بهدف معرفة نوعية البروتينات التي تصنعها. وجاء إنجاز علمي مهم باكتشاف أن شريطًا مكررًا من الحمض النووي الريبي الذي يحمل السلسلة المتكررة من قواعد اليوراسيل UUUUU … (يوراسيل متعدد)، عند وضعه في بيئة كيميائية مناسبة تحاكي البيئة الموجودة داخل الخلية، من شأنه أن يُنتِج سلسلةً مكررة مؤلفة من وحدات متكررة من الحمض الأميني الفينيل ألانين phe. phe. phe. … (فينيل ألانين متعدِّد). وهذا الحمض عبارة عن بروتين من الناحية العملية، ولكنه عديم الفائدة بالنسبة إلى الكائنات الحية. غير أن ذلك كان يعني أن الكلمة الأولى ثلاثية الأحرف قد تم تحديدها. فالشفرة UUU في الحمض النووي الريبي تكافئ الحمض الأميني الفينيل ألانين (phe). وقد قاد قدرٌ هائل من العمل على هذا المنوال إلى فهْم كامل للشفرة. فكل شفرة من الشفرات الثلاثية التي يمكن أن تتكوَّن من القواعد الثلاث اليوراسيل والسايتوسين والجوانين والأدينين ترتبط بحمض أميني معيَّن أو بعلامة ترقيم. وبعض الأحماض الأمينية تُشفَّر بعدة كلمات ذات أحرف ثلاثية — على سبيل المثال، الحمض الأميني فالين يمكن الإشارة إليه ﺑ GUU أو GUC أو GUA أو GUG— إلا أن هذا التكرار لا يؤثِّر على طريقة قراءة كتاب الحياة. ورغم أن هذا قد يبدو مدهشًا، فإن قصة الحياة بأكملها يمكن كتابتها فعلًا بكلمات ثلاثية الأحرف. ولكنك بحاجة إلى الكثير من الكلمات لتحكي تلك القصة.

ما حجم هذا الكتاب؟ في الخلايا البشرية، يلتف الحمض النووي المختزَن في الكروموسومات داخل النواة على هيئة لفائف هي نفسها ملتفة داخل لفائف فائقة. يوجد حوالي ٣ مليارات زوج من القواعد، مرتبطة بعضها ببعض عبر شرائط الحمض النووي، في كل خلية، وتكون مختزنة بطريقة محكمة للغاية لدرجةِ أنها لا تشغل مساحة سوى ستة ميكرونات فقط (أي ستة أجزاء من المليون من المتر) عرضًا. ولو كان بالإمكان تفكيك هذا الحمض النووي بأكمله وفرده، لبلغ طوله نحو مترين. ولو أن كلَّ الحمض النووي الموجود في جميع خلايا الجسم فُرِد بهذه الطريقة ومُدَّ بحيث يتصل في خط مستقيم، لامتد مسافة ١٦ مليار كيلومتر؛ أي أكثر من المسافة بين الأرض والشمس بألف ضعف.

لم يُتوصَّل بعدُ إلى فهْمٍ كامل ودقيق لكيفية تفكك أجزاء الحمض النووي من هذه الحالة المضغوطة ونسخها على الحمض النووي الريبي عند اللزوم. ولكن ثمَّة سمة أساسية للعملية ربما تكون قد أدركتها بالفعل. السبب الوحيد الذي يجعل ذلك ممكنًا أن الشريطين المتطابقين لجزيء الحمض النووي مرتبطان بعضهما ببعض على نحوٍ غير محكم، من خلال الروابط الهيدروجينية التي ذكرتها عرضًا في موضعٍ سابق، بحيث يمكن أن تُفتح وتُغلق مرة أخرى مثل الطرفين المتقابلين لسحَّاب. والترابط الهيدروجيني يُعَد من أسس وجود الحياة كما نعرفها الآن، ويمكن فهْمها بسهولة أكثرَ في سياق مفاجأة علمية أخرى؛ ألا وهي خفة الثلج المذهلة.

هوامش

(١) هذا عكس الحقيقة؛ ففي الكروموسومات، تكون البروتينات هي المادة البنائية، والحمض النووي هو الذي يحمل المعلومات، كما سأوضح لاحقًا.
(٢) طالع كتابي «ستة أشياء مستحيلة».
(٣) التأكيد من وضع شرودنجر.
(٤) لقد نجحت الحيلة، بدليل اقتباسي لها هنا.
(٥) مقابلة شخصية وردت في «مجموعة جورج جاموف» بمكتبة الكونجرس، واشنطن دي سي.
(٦) انظر الجزء الخاص ﺑ «قراءات إضافية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤