الباب العاشر

أصل الكلدانيين والكلام على أيامهم الأولى

(١) روايات الكلدانيين عن الخليقة

قالوا «لما كان هذا الشيء الذي فوقنا لا يسمى سماء، ولما كان هذا الذي تحت أقدامنا لا يسمى أرضًا» نتجت كائنات وهمية وأشخاص خيالية من الهاوية والبحر والمحيط الدائم، ولا زالت صور هذه الكائنات والأشخاص باقية على الآثار القديمة، ونتج أيضًا «مقاتلون لهم أجساد كأجساد الطيور ورجال لهم وجوه كوجوه الغربان» وأثوار لها رءوس بشرية وكلاب لها أربعة أجساد وذنب كذنب الأسماك، وكان الإنسان على الشكل الذي نعهده وهذه الصورة التي نراه عليها، يعيش عريان أعزل فيما بين هذه الوحوش وهذه المسوخ، إلى أن خرج من الخليج الفارسي حيوان اسمه أُوَانِّس ليعلِّمه ويهذبه، وكان لهذا الحيوان جثة سمك ورأس وصوت يشابهان رأس الإنسان وصوته، وله أرجل كأرجله ولكنها تخرج من ذنَبه الذي هو ذنَب سمك.

وكان يقضي نهاره في تعليم الكلدانيين فنون الأدب وضروب العلوم وصنوف الصنائع وأصول الشرائع ومبادئ الهندسة وأوقات الزراعة وأيام الحصيد؛ حتى إذا غربت الشمس آوى إلى البحر فغطس فيه وأمضى الليل تحت لجة الماء «ومن عهده إلى الآن لم يُخترع شيء فائق.»

(٢) الطوفان

ثم تكاثر الناس وازداد عددهم واختاروا لهم سيدًا منهم، وأول من تقلَّد الملك كان اسمه الوروس؛ وهو من مدينة بابل، ثم خلفه تسعة ملوك آخرين، وأصلهم كلهم من مدائن الكلدانيين، وكانت مدة حُكم الجميع ثنتين وثلاثين سنة وأربعمائة سنة، وفي أثناء ذلك استولى الشر على الإنسان حتى صمم الآلهة على إعدامه من هذا الوجود، إلا الملك الذي كان حاكمًا في ذلك الزمان واسمه شيسوتروس ونفرًا قليلًا من المؤمنين الصالحين، فقال له الآلهة «اصنع فلكًا عظيمًا لك ولأتباعك لأننا سنعدم بذرة الحياة» فأطاعهم الملك حتى إذا تم الفلك سمع الناس صوت هاتف يقول «عند المساء تمطر السماء الهلاك والإعدام، فادخل الفلك واقفل بابه.»

ولما كان صباح اليوم الثاني «هبت المؤتفكات وعصفت الزوابع حتى ملأت السماء وطغت المياه وتلاشى ضوء النهار في الظلمات، فكان الأخ لا يرى أخاه وصار الناس لا يعرف بعضهم بعضًا؛ حتى خشي الآلهة أنفسهم أن يعم الطوفان السماء، فصعدوا إلى الجَلَد الأعلى ليكونوا آمنين مطمئنين، وما زالت العواصف والقواصف والزوابع والزعازع متوالية بلا انقطاع مدة ستة أيام وسبع ليالٍ، وعند فجر اليوم السابع انقطعت الأمطار وسكنت الرياح بعد أن طغت واشتدت، مثل الجيش القوي العظيم، ثم هبطت مياه البحر وسكنت الرياح والعواصف.»

قال شيسوتروس: «فجُبت البحر أنوح وأنتحب؛ لأن بني الإنسان رجعوا كلهم إلى الطين، وكانت أشلاؤهم طافية حولي كأنها أعجاز نخل خاوية، ففتحت النافذة، فلما أبصرت الضوء انقبض صدري وتولاني الحزن والكآبة، فجلست أبكي، وكانت الدموع تسيل على خدي.» واستوى الفلك على قلة الجبال الجوردية، فتربص شيسوتروس ستة أيام، ثم أطلق حمامة فحوَّمت، ولم تجد محلًّا تقف عليه فرجعت، وعاد طير الخطاف مثلها إلى السفينة، وأطلق غرابًا بعد الخطاف فرأى جيفًا على وجه الماء فأكل منها ثم عام وهام بعيدًا ولم يرجع، وحينئذ أخلى شيسوتروس سبيل الحيوانات، وبنى محرابًا على قلة الجبل وقدم القربان للآلهة، وقد رضي بعل أعظم الآلهة بأن الناس الذين نجوا بالفلك يبقون على قيد الحياة، وأنه لن يرسل الطوفان عليهم مرة ثانية.

(٣) أقدم الدول التي ظهرت بكلديا

تلك هي القصة التي يرويها الكلدانيون عن القرون الأولى لخلق العالم، ويتضح من أقدم الآثار التي تركوها لنا (وهي معاصرة لأكبر أهرام مصر؛ أي قبل المسيح بأربعة آلاف سنة) أن كلديا والبلاد المحيطة بها كانت قد بلغت درجة عظيمة ومقامًا ساميًا من الحضارة والمدنية.

وكان التمدن ضاربًا أطنابه ورافعًا أعلامه في طائفتين من المدائن الأولى، واقعة بالقرب من مصب الفرات وهي ايريدو وأروك ولارسام (لرسن) ولاجاش (لكح) وحاضرتها مدينة أورو (أور الكلدانيين) على الشاطئ الأيمن لنهر الفرات، وهذه المدينة كانت قائمة على سهل مطمئن تتخلله كثبان من الرمال وفي وسطها معبد للإله سين، الذي هو القمر وله ثلاث طبقات مشيدة من الآجر المطلي بالقار، وحول المدينة من جميع جهاتها قبور قد اكتشف السياح على ما فيها؛ فوسعوا نطاق المعارف بما وجدوه بها من الآثار والمخلفات، وهذه البلاد هي التي تسمى بقطر شومير. أما بلاد أكاد فكانت واقعة إلى شماليها قليلًا حيث لا يفصل بين دجلة والفرات إلا شبه برزخ ضيق ومدائنها هي نيبتور وبورسيبتا وكوتا وسيبتارا، وأخصها ببابل.

وكان لكل مدينة من هذه المدائن ملوك خاصون بها وعائلات ملوكية من أهاليها، وكان بعض هذه العائلات تارة تابعة لمجاوريها أو متبوعة بها؛ أي إنها إما أن تقع تحت سلطتها أو يكون لها السيادة عليها. وقد جاء في التاريخ الخرافي ذكر لبعضهم كالملك جيلجامس، فإنه جاب البلاد وقتل الوحوش والمسوخ ونازع الآلهة وقاومهم، وأما التاريخ الحقيقي فينبئنا عن بعضهم بما أبقوه من الآثار فأقدمهم وهو «أورباو»، كان له سلطان حقيقي على القطر، وتوجد بقايا بناياته وعماراته في أغلب مدائن الكلدانيين؛ ومنهم ملوك آخرون لم يحكموا إلا على كورة أو كورتين متجاورتين مثل الملك جوريا صاحب لاجاش، وتماثيله تزدان بها الآن أروقة متحف اللوفر في باريس.

وكان الرجحان لمدائن الجنوب في أول الأمر ثم زالت سيادتها شيئًا فشيئًا أمام مدائن الشمال، وفي نحو سنة ٣٧٠٠ق.م كانت السلطة في يد عائلة من آجاني ومن ملوك هذه العائلة سرجون؛ وهو على ما يظهر من كبار المتشرعين وعظماء الفاتحين. ويروى عنه أن أمه تركته على شط الفرات عُقيب ولادتها له، فالتقطه أحد الفلاحين وأنه اشتغل في شبيبته بحرفة الخولي (أي القيام بخدمة البساتين)، وقد استولى على كلديا كلها وأرض الجزيرة واخترق بلاد الشام إلى تخوم الديار المصرية، ثم إن الملوك الذين خلفوه على كرسي السلطنة حافظوا على ممالكه مدة قليلة من الزمان؛ حتى جاء العيلاميون فقلبوا دولته وفتحوا كلديا.

(٤) حكم ملوك عيلام

تبتدئ عيلام من شطوط دجلة بسهل جميل خصيب تكوَّن من طمي الأنهار، وهي في الخصب شبيهة بكلديا نفسها حتى إن الحبة الواحدة من الشعير والقمح تأتي فيها بمائة حبة بل بمائتين، كما هو الشأن في كلديا، وكذلك النخيل والعجمات والرقال١ تنبت فيها بكثرة، وخصوصًا فيما جاور المدن، وتوجد فيها أيضًا أشجار الأقاقيا (أنواع السنط) والجوز والصفصاف على مجاري المياه والأنهار، ثم ترتفع الأرض قليلًا حتى تبلغ هضبة بلاد الماديينن ويصير الإقليم أشد بردًا والأرض أقل خصوبة.

وكان ملوك عيلام قد بنوا مدينة شوشة حاضرتهم على تخوم السهل الفسيح على مسافة ثمانِ مراحل أو عشر من الجبال، وعند ملتقى فرعي نهر خواسيس، وكانت القلعة والقصر مبنيين على منحدر تل يشرف من بعيد على السهل، وفي أسفله ترى المدينة نحو الشرق وهي مبنية من لَبِن مجفف في الشمس، وكانت عيلام أشبه بدولة إخاذية منقسمة إلى جملة ممالك صغيرة مستقلة عن بعضها، ولكنها مجتمعة كلها في العادة تحت سيطرة ملك شوشة. وكانت لغة عيلام تختلف عن اللهجات السامية، ولم يكن هناك ارتباط بين ديانتها وديانة الكلدانيين، وفيما عدا ذلك كانت أخلاق العيلاميين وصنائعهم وشرائعهم لها مشابهة قوية بما للكلدانيين.

وكان العيلاميون منذ الأحقاب الخوالي في جلاد مستديم وجهاد متوالٍ مع الأمم المجاورة لهم ويتضح لنا من الروايات الخاصة بجيلجامس أنهم تملكوا على مدينة أريدو والمدائن الأخرى الواقعة على الفرات الأسفل، وقد هزمهم سرجون الأول ولكنهم هزموا خلفاءه، وافتتح أحد ملوكهم واسمه «كودورناخونتا» بلاد كلديا كلها في حدود سنة ٢٣٠٠ق.م وانتزع صور الآلهة البابلية ووضعها في معبد شوشة علامة على الفوز والانتصار. وقد حفظت ذريته السيادة على كلديا مدة أجيال كثيرة بل إنهم توغلوا في فتوحاتهم إلى داخل بلاد الشام.

(٥) الكلام على حالة بلاد كلديا في العصر الذي كانت فيه السيادة والصدارة للأمة المصرية

إن تاريخ هذا العصر كله، والقرون التي جاءت بعده ليس إلا خليطًا من الأقاصيص والروايات عن حروب داخلية، وفتن وثورات وغارات من الأمم المتبربرة، كانت الملوك والعائلات (شكل ١٠-١) تقوم فيه، ثم لا تلبث أن ينمحي أثرها من الوجود من غير أن تؤسس شيئًا له ثبات وقرار، أو أن توجد ولو إلى أجل قليل تلك الوحدة التي توصل إليها فراعنة العائلات الطيبية، وجعلوها شاملة لديار مصر كلها مدة قرون عديدة، وأزمان مديدة. نعم، لا ريب في أن بابل هي أول مدينة في هذه الأقطار، وأنها أكبر ما فيها من الأمصار، وآهلها بالسكان والعمار بحيث إن من كانت تدخل في حوزته؛ يكون له السلطة التامة، والسيادة الظاهرة على جميع أقرانه ونظرائه، ولكن سلطتها لم تكن من العظمة بحيث يمكنها أن تقاوم الأخصام والمزاحمين، وتُخضع جميع المدائن الأخرى إخضاعًا مستمرًّا. ومن جهة أخرى فإن عيلام كانت فيها القوة الكافية لافتتاح البلدان، ولكنها لم تكن عندها القدرة اللازمة لحفظ فتوحاتها، وتمثيل أهلها بها، فإن حكمها كثيرًا ما شمل بلاد كلديا، ولكنه ما تأصل فيها أبدًا، ولم تتوطد دعائمه بها مطلقًا.
fig18
شكل ١٠-١: تمثال ملك من قدماء الكلدانيين منقولًا عن رسم بارز على حجر في المتحف البريطاني.

ولم يكن في ذلك الوقت دولة كلدانية كما كانت دولة مصرية بل غاية الأمر أنه كان يوجد تمدن كلداني راسخ أصيل لا تؤثر فيه عواقب الحروب المتوالية، بل كان مع هذا يمكن أن يمتد إلى غير بلاد كلديا، ولما جاء تحوتمس الأول وخلفاؤه وجابوا بلاد الشام يحف بهم العز والانتصار وضربوا الجزية على أهلها (فيما بين سنتي ١٦٠٠ و١٥٠٠ق.م) كان الكلدانيون قد سبقوهم بأزمان طوال لهذا الفتح، وذلك ببث أخلاقهم وعاداتهم فيها، وكانت آلهة بابل والمدائن الكلدانية ممتدة عبادتها إلى تخوم مصر وكان البابليون قد أدخلوا صناعاتهم وفنونهم في بلاد الشام، ثم إن الكتابة الأسفينية المعبَّر عنها أيضًا بالكتابة المسمارية كانت مستعملة رسميًّا عند ملوك الشام بعد توفيقها على لغاتهم، وكانوا يستعملونها في مراسلاتهم مع بعضهم، وفي مكاتباتهم مع الفراعنة أسيادهم ومتبوعيهم بكل ما يتعلق بالعلاقات والمواصلات.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كانت أول المخلوقات، على قول الكلدانيين، مسوخًا خيالية ظهر بينها الإنسان وهو عارٍ أعزل، فخرج الإله السمكي المدعو أوانيس من الخليج الفارسي ومدن بني الإنسان.

  • (٢)

    وكان الملوك الأولون عشرة عدًّا، وقد حكموا بلاد كلديا مدة تزيد على أربعمائة قرن، وفي عهد آخرهم المدعو شيسوتروس صار الناس أشرارًا حتى أهلكهم الآلهة بطوفان أرسلوه عليهم، ولم ينجُ من هذا الطوفان إلا شيسوتروس ومن معه من الأتباع، بواسطة الفُلْك، ولما عادت المياه لمجاريها تناسل منه ناس آخرون.

  • (٣)

    وإن أقدم الآثار الكلدانية قد صُنعت تقريبًا في العصر الذي بُني فيه أكبر أهرام مصر (في نحو سنة ٤٠٠٠ق.م) وكانت هذه البلاد منقسمة إلى طائفتين من ممالك صغيرة لكل واحدة منهما ملك خاص بها، والظاهر أن ملوك الجنوب وخصوصًا ملوك أورو كان لهم في أول الأمر سيطرة على بلاد كلديا كلها، ثم انتقلت السيادة إلى مدائن الشمال، وفي سنة ٣٧٠٠ حكم سرجون البابلي على بلاد الشام لمدة قليلة من الزمان، ثم انتقل الملك من بعده إلى ملوك عيلاميين.

  • (٤)

    وكان العيلاميون يخالفون الكلدانيين في اللغة، ولكنهم كانوا متشربين بأخلاقهم، وبقيت السيادة في يدهم مدة قرون كثيرة.

  • (٥)

    فمن ذلك ترى أن التاريخ القديم لهذه البلاد ليس فيه ارتباط واتحاد، فلم يكن هناك في الحقيقة دولة كلدانية، بل كان تمدن كلداني امتد وتشعب حتى وصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان هذا التمدن وحده ضاربًا أطنابه في بلاد آسيا الغربية حينما افتتح الفراعنة بلاد الشام.

١  هي أصناف من النخيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤