الباب الثاني عشر

ذكر نابوكودونوزور وخراب بابل

(١) تأسيس المملكة الكلدانية (في سنة ٦٢٥) وخراب نينوي (في سنة ٦٠٦) وذكر نابوبولاصر

كانت كلديا أول من انتفع من ضعف الملوك الآشوريين؛ فإنها كانت جزءًا من مملكتهم منذ أيام سنحاريب، وقد حكم آشور أخي الدين وآشوربانيبال على بابل وعلى نينوي بالسواء، فلما مات آشوربانيبال في سنة ٦٢٦ خلفه في الملك ولده سراقوس (آشوريتيليلاني) ولكنه لم يتمتع به زمنًا طويلًا؛ إذ قامت دولة قوية فجأة بجانب آشور على هضبة إيران وهي مملكة الماديين.

واغتنم رئيسها فراورتس فرصة حدوث الفتن التي تحصل عادة في الممالك الشرقية عقيب تغيير الملك، فنزل في حوض دجلة وزحف على نينوي فارتجت لذلك كلديا وقام بها الهيجان، فأرسل سراقوس على الثائرين جيشًا عرمرمًا تحت إمرة أحد قواده وهو نابوبولاصر، فوضع هذا يده على مملكة بابل واستبد بها، وجعل نفسه ملكًا عليها، وانضم إلى الماديين وأعلن الحرب على ملكه القديم (سنة ٦٢٥) فنجت نينوي هذه المرة من الخراب؛ بسبب قدوم عشيرة رحالة نزالة من قوم السيتين (السكيثيين) أتت إليها بغتة فهزمت جيش الماديين وأبادته.

ولكن آشور خربت كلها وأُحرقت أغلب مدائنها الملوكية؛ مثل كلخ والآشور، أو نهبت نهبًا ليس بعده نهب. وبقيت نينوي بعد ذلك عشرين سنة أيضًا وهي في الحضيض، ثم ما لبثت أن سقطت في يد أمم تحالفوا عليها، وطالما كانت وضعت قدمها فوق هامهم فإنه بينما كان نخاو يجد في انتزاع بلاد الشام منها (سنة ٦٠٨) كان الماديون والبابليون محاصرين لها فدافعت دفاع الأبطال، ولم تسقط إلا بعد أن استمر الحصار ثلاث سنين، وكان سقوطها في سنة ٦٠٦.

وقد تقاسم الظافرون أراضيها وقام على أطلالها مملكتان كبيرتان وهما؛ مملكة الماديين ومملكة الكلدانيين، فأخذ سياكسار بلاد آشور الحقيقية وملحقاتها، وأما نابوبولاصر فقد جمع إلى ملكه على بابل سيادته على أرض الجزيرة والشام وفلسطين، بل قد زعم أنه يمد حدود ملكه إلى ما وراء برزخ السويس، واعتبر ملوك مصر تابعين لكلديا لأنهم كانوا تابعين لنينوي بضعة أعوام.

(٢) واقعة كركميش في سنة ٦٠٥

فبعد أن تغلب على آشور كان أول همه استرجاع الأقاليم الشامية التي كان نخاو قد افتتحها منذ قليل، فجرد الكتائب وحشد الجيوش وأرسلها مع ولده نابوكومونوزور١ ولم يذهب بها هو لأنه كان متوغلًا في الشيخوخة، فلا يستطيع مباشرة القتال، وقد حصلت الموقعة في كركميش على التخوم قريبًا من الفرات، وانهزم المصريون شر هزيمة فخسروا الشام كلها من جبال طوروس إلى حدود بلاد العرب الحجرية. وقد تقدم نابوكودونوزور في فتوحاته وانتصاراته فوصل إلى مدينة الفَرَما، وبينما كان على أهبة الدخول في أراضي الدلتا وإذا بنعي أبيه قد جاءه، فثبت مكانه وعقد محالفة مع نخاو خشية من أن يظهر ببلاد كلديا مُناظر له يطالب بالملك، ثم عجل بالرجوع إلى بابل عن طريق الصحراء، وكان أمناء الديانة قد تولوا الأعمال وإدارة البلاد بالنيابة عنه؛ بحيث لم يكن عليه إلا أن يظهر في عاصمة بلاده ليبايعه الناس وينادوا به ملكًا مطاعًا نافذ الأمر.

(٣) فتوحات نابوكودنوزور

هذا الرجل هو بطل المملكة الكلدانية، والملك الوحيد الذي يصح أن تتباهى به بلاد كلديا وتجعله بإزاء الفاتحين الكبار من ملوك مصر وآشور وفارس ولولاه لم يكن لبابل في التاريخ ذكر إلا بالعلم والزخرف والصناعة، ولكنها اشتهرت بسببه في جميع أنحاء المشرق بما حازه من الانتصار وما ناله من الشوكة والاقتدار، وقد حافظ على السلم دوامًا، ومع الملوك الماديين سياكسار واستياج، ولكنه جالد الفينيقيين واليهود المصريين مجالدات طويلة.

وكان له من هذه الجهة مشابهة بما ناله ملوك آشور من قبله بقرن تقريبًا، وقد علم الاختبار الفراعنة أن امتلاك منف وطيبة هو الغاية القصوى والغرض الوحيد الذي تطمح إليه أبصار الفاتحين من أهل آسيا، فإن «نابوكودونوزور» لما استولى على بلاد الشام كان يخشى منه دوامًا على مصر، كما كانت الحال مع سرجون وسنحاريب وآشوربانيبال؛ فلذلك كان من الواجب على ملوك العائلة السادسة والعشرين أن يفعلوا كما فعل الملوك الأتيوبيون الذين سبقوهم؛ فيعملوا على معاكسة الكلدانيين بأن يوغروا عليهم صدور أهل فينيقية ويهوذا وجميع الممالك الصغيرة التي ما زالت باقية إلى هذا العهد، ويثيروا فيهم روح البغض للكلدانيين ومجاهرتهم لهم به مجاهرة قليلة أو كثيرة، فلم ينفك نخاو (من سنة ٦٠٥ إلى سنة ٥٩٥) وإيريس (من سنة ٥٨٩ إلى سنة ٥٦٩) عن تقوية عزائم ملوك يهوذا وصور وموآب بالدسائس والدراهم؛ بل كانا في بعض الأحيان يعدانهم بأنهما يعززان جانبهم بالقوة والاقتدار ولكنهما لم ينجحا في منع سقوط أورشليم (سنة ٥٨٩). ونفى قسم من اليهود على أن صور دفعت جميع هجمات الكلدانيين مع محاصرتهم لها مدة ثلاث عشرة سنة واعترفت فينيقية كلها بسيادة الفرعون إيريس مدة من الزمان (في حدود سنة ٥٧٢).

نعم، إن أماسيس ما لبث أن فقد كل ما فتحه سلفه (في سنة ٥٦٨ تقريبًا) ولكنه عرف كيف يحافظ على مملكته ويجعلها في مأمن من هجوم الأعداء، وخلاصة القول أن نابوكودونوزور لم ينجح في توسيع نطاق سلطانه مثل ما اتصل إليه من قبله آشور أخي الدين أو آشوربانيبال مثلًا، وقد حالت بلاد مادي في الشمال ومصر في الجنوب الغربي دون امتداد دولته على أن هذه المملكة الضيقة تدل أحسن من الدول الآشورية على ما نعنيه نحن اليوم بدولة عظيمة؛ فإن إدارة الأحكام فيها كانت بحسب الطريقة التي اتبعها تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون قبل ذلك بأقل من قرن ونصف؛ أي إن شئون الحكومة تكون مباشرة في يد بعض قواد الفاتح المنتصر، وفضلًا عن ذلك فإن هذه الطريقة صارت عامة وواضحة في جميع أنحاء الدولة أكثر مما في السابق. نعم إن جماعة من الأمراء الأخاذيين كانوا لا يزالون في أراضي كلديا، وكان كثير من المدائن أو القبائل حافظة لعائلاتها الملوكية ونظاماتها الدستورية، ولكن أغلب البلدان المفتتحة كانت عمالات حقيقية تحتلها الجنود، ويدير شئونها حكام يرسَلون إليها من بابل.

(٤) أعمال نابوكودونوزور

بقي هذا الملك مشهورًا في تاريخ الأزمان القديمة ببناياته العظيمة بقدر ما ذاع صيته بحروبه وانتصاراته، فإن بابل كانت لاقت شدائد وأهوالًا من الآشوريين في القرن الذي سقطت بعده نينوي؛ وذلك لأن سنحاريب أمر بنهبها، وكذلك آشوربانيبال من بعده، وذلك بصرف النظر عن الحصار، والسلب الجزئي اللذين قاستهما أثناء الفتن المستديمة، فاستعمل نابوكودونوزور في ترميمها الأسارى العديدين الذين أسرهم في حروبه؛ حتى جعلها من أفخر مدائن الدنيا بأسرها (شكل ١٢-١)، فكان في وسط المدينة البرج الهائل ذو الطباق السبع المعروف باسم زجورات المخصص للإله بعل، وفوقه تمثال هذا الإله، وهو من الذهب الإبريز، وارتفاعه أربعون قدمًا، ويرتقي إليه الإنسان على سلم يذهب في استدارة والتفاف.
fig20
شكل ١٢-١: الرابية التي وراءها أطلال بابل — مأخوذ هذا المنظر من على شواطئ الفرات.

وقد اشتهر القصر الملوكي (الذي كمل تشييده في خمسين يومًا على ما يقال) ببساتينه المعلقة، إذ كانت نساء القصر يتنزهن فيه وهن سافرات الوجوه فلا تقع عليهن أنظار الأجانب عنهن.

وفي أثناء ذلك تم إصلاح الترع التي كانت تصل دجلة بالفرات، وتأتي بمياههما إلى وسط المدينة، ورممت الجوابي (الحيضان والصهاريج الواسعة) التي كان ملوك العائلات القديمة يجرون إليها مياه الفيضان السنوي ويخزنونها بها، وبنيت القنطرة التي توصل بين نصفي المدينة الكائنين على ضفتي النهر، واستعمل مهندسو ذلك الأوان كل ما لديهم من الوسائل والوسائط لحفظ المدينة ووقايتها من هجمات العدو فأحاطوها بسور مزدوج؛ جعلوا فيه مائة باب لكل واحد مصراعان من الشَّبَهان وكان من عظم سُمك هذا السور أنه يتيسر لعربتين أن تجريا متحاذيتين على قمته، وقد عم التحسين النواحي المجاورة لبابل والمدائن القديمة بكلديا حتى لقد كان لها منه نصيب يذكر.

ولما كان ازدياد الثروة وتوفر أسباب اليسار في هذه البقعة من الأرض مما يغري بها الأمم المجاورة لها ويجعل أنظارها تطمح إليها، فضلًا عن شدة الرهبة من الماديين ومن أطماعهم؛ أنشأ نابوكودونوزور أمام بابل سورًا عظيمًا وهو السور الماديُّ المستند على سيتارًا؛ فسد به سدًّا مستكملًا شبه البرزخ المتكون من دجلة والفرات عند اقترابهما، وكان هذا الرجل لا يَمَل من العمل ولا يكل من توالي المشروعات، حتى أصبح في كلديا مثل رمسيس الثاني في مصر؛ أي باني العمائر ومشيد الآثار بحيث لا يوجد حوالَي بابل مكان لا يرى فيه الإنسان اسمه، أو لا يطلع به على ما يعرب عن نشاطه الفائق واجتهاده الغريب.

(٥) نابوناهيد (من ٥٥٥ إلى ٥٣٨) وسقوط المملكة الكلدانية (في سنة ٥٣٨)

على أن المملكة لم تدُم بعده طويلًا فجلس على سرير ملكه ثلاثة ملوك في مدة سبع سنين (من سنة ٥٦٢ إلى سنة ٥٥٥)، ثم ذهبوا فريسة الفتن التي حصلت في القصور، وبهم انقرضت سلالته. وقال الأهالي «لا شك أن هذا من عمل الله» لأنهم دُهشوا لما رأوه من حصول هذا الانحطاط السريع بعد ذاك الارتقاء والاقتدار اللذين ليس بعدهما ارتقاء واقتدار. وقد جاء في رواياتهم أن بخت نصر في أواخر أيامه أصابه شيء من النبوة فصعد على سطح قصره وأنبأ بقرب خراب مملكته. ويقول اليهود في رواياتهم إنه سكر بما ناله من المجد، وافتتن مما حصل عليه من الفخار؛ حتى أداه الإعجاب بنفسه إلى الظن بحلول الألوهية في جثمانه؛ فسخطه الله عز وجل حيوانًا من الحيوانات، عاش ست سنين في حقول البرية يقتات من الحشائش كالبهائم السائمة ثم رجع إلى شكله الأول وجلس على سرير الملك بالثاني.

أما نابوناهيد الذي لبس التاج بعد انقراض العائلة الملوكية؛ فلم يكن فيه شيء من خصال الأبطال بل ولا من صفات الأجناد، فكان ملكًا كسولًا محبًّا للدعة والسكون، عاكفًا على عبادة الآلهة بدلًا من التفاته إلى صيانة القلاع وتعبية الجيوش فحيثما وجد معبدًا متخربًا رممه أو أعاد بناءه من أوله إلى آخره، وكان يبحث في أساس هذه المعابد عن النقوش والكتابات التي دفنها بها الملوك المؤسسون لها، وكان يفرح فرحًا شديدًا حينما يعثر فيها على اسم ملك قد حكم قبله بمئات أو بآلاف من السنين. وقد هدده الماديون في أول حكمه ورأى اتساع سلطان كورش، وحاول أن يوقف امتداد هذا الاتساع بما عقده من المحالفات مع مصر وليديا، ولكن سقطت ليديا في سنة ٥٤٦، وكان أمامه مهلة بضع سنين كان يتيسر له في خلالها أن يستعد للمقاومة والدفاع؛ ولكن كسله ونسيانه لآلهة بابل ومغالاته في عبادة آلهة المدائن الكلدانية الأخرى؛ كل ذلك أحدث سخط رعاياه وغضب جنده عليه. فلما قامت الحرب في سنة ٥٣٨ لم تثبت إلا بضعة أسابيع حتى وضعت أوزارها، فإن كورش عبر دجلة وهزم الكلدانيين. ولما جاء الخبر بفوزه وانتصاره حصلت ثورة أتت على ما كان قد بقي لنابوناهيد من الوسائل والوسائط، فباغت جوبرياس القائد الفارسي مدينة بابل، واستولى عليها من غير حرب ولا قتال. وأما نابوناهيد فقد سلَّمه أصحابه إلى عدوه، ومات بعد ذلك ببضعة أيام (سنة ٥٣٨).

فوقعت بذلك دولته كلها من غير مقاومة في يد الفرس، وصار للأمم المضروب عليها الجزية لكلديا من شوام وفينيقيين وأعراب أسياد، غير الذين كانوا لهم. ولم يهتم هؤلاء الأقوام بهذا التغيير وبما أنهم لم يكونوا قادرين على نوال حريتهم واستقلالهم؛ فكان لا يعنيهم الحاكم الذي عليهم سواء كان هذا أو ذاك بل ظهر على بابل نفسها أنها رضيت بهذا الأمر، وأنها فرحت بسقوط ملكها الذي منها، وبقيت بعد ذلك عاصمة من عواصم الدولة الفارسية.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كانت بلاد كلديا هي أول من ورث ملك بلاد آشور، وقد قام حاكمها نابوبولاصر وجعل نفسه ملكًا عليها بمساعدة الماديين عند موت آشوربانيبال سنة ٦٢٥، ثم هجم على نينوي أمم كانت لها عليهم السيادة، ولكن إغارة السكيثيين أنقذتها من الخراب بضع سنين، فلم تسقط إلا في سنة ٦٠٦ على يد الماديين والكلدانيين وقد تمالؤا عليها.

  • (٢)

    وبعد خراب نينوي رأى نابوبولاصر أن يطرد الفرعون نخاو الذي كان احتل الشام منذ قليل من الزمان (سنة ٦٠٨) فانتصر عليه ولده بخت نصر في كركميش، ولما كان على أهبة الدخول إلى مصر علم بوفاة أبيه فقفل راجعًا إلى بابل.

  • (٣)

    وقد استدام الجلاد بين بخت نصر هذا وبين نخاو وإيريس من ملوك العائلة الساوية، وأخرب مملكة يهوذا ومدينة أورشليم (سنة ٥٨٧) ولكنه أخفق سعيًا أمام مدينة صو، وخرجت من يده فينيقية في أواخر حكمه.

  • (٤)

    وقد اشتهر هذا الملك بعمائره بقدر ما اشتهر بحروبه، وجعل بابل أبهى وأبهج مدينة في المشرق، وأحاطها بأسوار منيعة، وشق في كلديا ترعًا كثيرة زادت في خصوبة الأرض.

  • (٥)

    ثم أسرعت عائلته في الانقراض (من سنة ٥٦٢ إلى سنة ٥٥٥) فلبس التاج بعدها نابوناهيد، وكان من الملوك المتدينين، وأكثر من العمائر. وكان الأهالي لا يحبونه. وقد حاول صد هجمات الفرس بتحالفه مع الليديين والمصريين عليهم ولكنه لما سقطت مملكة ليديا (سنة ٥٤٦) لم يفطن لاغتنام فرصة السنين التي أمهله فيها كورش ليحصن مملكته ويستعد للدفاع؛ حتى إنه لما شن الفرس الغارة عليه (سنة ٥٢٨) هزموه وأسروه، فمات بعد ذلك ببضعة أيام، وبقيت كلديا من ذلك الوقت عمالة من عمالات الدولة الفارسية.

١  إن هذا الشكل المقرر الآن لهذا الاسم هو تحريف ترجع فيه المسئولية على الناسخين العبرانيين الأولين، الذين كتبوا التوراة. هذا واعلم أن اسمه عند العرب بخت نصر ونبوخذ نصر وهذا أقرب إلى الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤