الباب الخامس عشر

الاستكشافات العصرية

(١) مبادئ الكتابة المسمارية

الظاهر أن الكتابة الآشورية كانت في أول أمرها هيروغليفية محضة، فكانت كل علامة فيها هي صورة الشيء المراد تمثيله، أو صورة الشيء المادي الذي له أقوى مشابهة بالفكر المطلوب التعبير عنه، مثال ذلك: أنهم كانوا يرسمون نجمة ذات ثمانية أطراف للتعبير عن الإله، وكانوا يرسمون النحلة للدلالة على الملك، ثم فسدت هاتان العلامتان بسبب السرعة في رسمهما وتمثيلهما، فصارت النجمة ثم وصارت النحلة ثم ثم وهذه الحروف المنقوشة بمنقاش على الأحجار أو بنصل معدني على خزف أو فخار تسمى في أيامنا هذه بالحروف المسمارية، أو الإسفينية لدخول هيئة المسمار أو الإسفين في العلامات التي تتألف منها.
ومعظم هذه الحروف مقطعية تدل على معنى مستقل بالمفهومية؛ أي إن الكاتب يقدر أن يؤدي بها على حسب إرادته مقطعًا واحدًا معينًا بامتزاجه بمقاطع أخرى تتركب الكلمة أو كلمة كاملة لا يكون التلفظ بها في العادة مشابهًا للتلفظ بالمقطع، فكان القارئ يبحث بنفسه بين المعاني المتنوعة التي تدل عليها العلامة الواحدة، ويختار ما يراه منها أوفق للمعنى وأنسب بسياق الكلام، الذي هو آخذ في فكه وقراءته، فكان عرضة للخطأ في بعض الأحيان. ولأجل منع هذا المحذور كان ينبغي له أن يراجع كتاب تهجئة قد دونت فيه معاني كل علامة، وطرق قراءتها تدوينًا محفوفًا بالعناية والالتفات. قال المحقق لونورمان:١

إن نصف ما وصل إلينا من آثار الكتابة المسمارية هو بمثابة كتاب تعريف وإرشاد نقدر على استخدامه في فك النصف الآخر، وإنَّا لنستشيره ونرجع إليه ونعول عليه؛ كما كان يفعل تلامذة آشور القديمة منذ ألفي عام وخمسمائة عام وذلك بالضبط والتمام.

(٢) فن الأدب عند الكلدانيين

وقد انتشرت هذه الطريقة الكتابية مع ما فيها من عدم الملائمة انتشارًا سريعًا فيما بين الأمم القاطنة بحوض الفرات، وكانت متبعة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد عند عشائر الشام، وكان ملوكهم يكاتبون بها فراعنة مصر في الأمور الرسمية، وفوق استعمالهم لها في سائر اللغات السامية كانوا يستعملونها أيضًا في كتابة بعض اللهجات الأجنبية؛ مثل لهجة العيلاميين، وقسم من الخيثي منذ الأحقاب الخوالى ولغات أرمينية وكبدوكية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، فلما ظهر الماديون والفرس في أفق السياسة اتخذوها من الكلدانيين، وجعلوها أبسط مما عندهم، ثم وفقوها على احتياجاتهم. وليس لدينا إلى الآن سوى قليل من الكتابات الباقية من هذه الأمم الأجنبية، ومعظم ما عثرنا عليه مما يتعلق بالفنون الأدبية المكتوبة بالقلم المسماري إنما هو من الكلدانيين والآشوريين، وكان في المعابد الكبيرة بكل مدينة من المدائن مكتبة مشحونة بالكتب المصنفة في أوقات مختلفة، وقد استنسخها ملوك نينوي وخصوصًا آشوربانيبال، وحفظوا صورها هذه في قصورهم، وبعض هذه الكتب التي أوراقها من الطين المحروق (الآجر المطبوخ) تتضمن تواريخ هذه البلاد، وبعضها يحتوي على نقول طويلة مأخوذة من تواريخ سنوية ليس لها وجود الآن وفي غيرها أسماء ملوك أو آلهة، ومنها ما هو خاص بأمور وأعمال رسمية مختلفة الأنواع كمخاطبات (إفادات) وتقارير من القواد إلى الملوك، وتنبيهات على الأهالي. ومعظم هذه الكتب يبحث في الديانة والعلوم؛ فهي أناشيد للآلهة المتنوعين، ومزامير وتسابيح وقطع من الأوراد، ورقيات سحرية لاستحضار الأرواح أو لشفاء الأمراض، ومنها كتب كثيرة مؤلفة في علم التنجيم والفأل، وتعبير الرؤيا والفلك الحقيقي والرياضيات، ولكن البقايا التي بقيت من هذه المصنفات ليست ترجمتها وتفسيرها بالشيء السهل المستطاع على الدوام. وقد وجد الباحثون آلافًا وآلافًا من عقود الإعارة والإجارة والبيع والشراء والزواج والفرائض (تقسيم الميراث)؛ بحيث يتيسر لنا أن نقف منها على حالة القوانين والشرائع في كلديا وآشور.

ثم الكتب المصنفة في التهجي وفي القواعد النحوية التي أشرت إليها سابقًا؛ تكاد تكون وحدها نصف ما وصلنا إليه من فنون الأدب عند الآشوريين والكلدانيين.

واعلم أن هذه الآثار الأدبية التي تكلمنا عنها لها فوائد جمة ومزايا متنوعة قد يصعب الوقوف عليها في كثير من الأحيان، فإن التصورات التي تضمنتها والأفكار التي حوتها وطرق التعبير عن هذه التصورات وهذه الأفكار هي بعيدة بمراحل عما هو متعارف بيننا وشائع عندنا؛ بحيث إننا لا نصل دومًا إلى تأديتها أو الوقوف على كل ما فيها ولكننا نرى في عدد هذه الآثار الأدبية ومقدارها دليلًا كافيًا على أن حركة العقول والبحث وراء الجمال قد امتدا وتقدما على شواطئ دجلة والفرات بمثل ما ترقيا على ضفاف النيل بهمة تامة ونشاط زائد كما حصل عند الأمم القديمة المتمدنة.

(٣) فك الكتابة المسمارية الفارسية

دخلت الهجاية الآرامية المشتقة من الفينيقية منذ القرن السابع قبل الميلاد في بلاد آشور وكلديا، واستعملت في حاجات الحياة الاعتيادية، ومع ذلك فإن استعمال الحروف المسمارية قد استمر زمانًا طويلًا يعادل الزمان الذي استمر فيه الهيروغليفي تقريبًا، فقد وصل إلينا كثير من العقود المحررة في أواخر القرن الأول للميلاد أو أوائل القرن الثاني منه، وبعد ذلك جاءت الحروف السريانية ومشتقاتها والحروف البهلوية، ثم شاعت الحروف العربية وحلت محل حروف التهجي القديمة، ثم أرخى على الحروف المسمارية ذيل النسيان، كما دخلت الحروف المصرية في خبر كان.

وما اتجهت نحوها رغبات الأورباويين وتاقت إليها نفوسهم إلا في النصف الثاني من المائة الرابعة عشرة بعد الميلاد، فإن الإسبانيولي جارسياس دوسيلفا والروماني بيتيرود لاﭬﺎللي (بالياء الممالة) كانا ممن رأيا النقوش بالحروف المسمارية التي تزدان بها قصور برسوبوليس،٢ وفي سنة ١٦٧٤ نشر الفرنساوي شاردني بضعة سطور منها، ثم جاء الألماني كميفر في سنة ١٧١٢، وخصوصًا الدانيمركي نيبهر في سنة ١٧٦٥ فنشر نسخة منها مصححة بالضبط. وقد تيسر للعلماء بواسطة هذه النسخ أن يتعرفوا فيها ثلاثة أنواع من حروف التهجي، يقابل كل نوع منها لغة مخصوصة، على أن فك هذه الخطوط لم يتم ابتداؤه إلا في أوائل القرن الحاضر.

ففي ٤ سبتمبر سنة ١٨٠٣ ألقى «جورج فريدريك جُرُوتْفِنْد» خطابه على الجمعية العلمية في جوتنجن أوضح فيها المبادئ التي ينبغي التعويل عليها في فك هذه الخطوط، ووجه شكيمة البحث إلى أبسط الطرق وأسهلها، وتصور أنها تحتوي على لغة فارس القديمة فاجتهد في أن يتعرف في خلالها أسماء وألقاب ملوك فارس مثل؛ كورش وداريوس واكسرسيس، فنجح في سعيه، وعين مدلول كثير من العلامات، ثم عاود أعماله رجلان آخران في وقت واحد وهما؛ لاسنُّ في ألمانيا وأوجين برنوف في فرنسا، فتوصلا في سنة ١٨٣٦ إلى إتمام فك الكتابات الفارسية التي كان في أوروبا نسخ كثيرة منها. وبعد ذلك ببضعة سنين أرسل هنري راولنسن من بلاد فارس نفسها ترجمة النقوش الطويلة الموجودة في بيهستون، التي حكى داريوس فيها تاريخ فتوحاته (وكان ذلك فيما بين سنتي ١٨٤٦ و١٨٤٩).

(٤) فك الكتابة المسمارية الآشورية والكلدانية

لما تمت قراءة النسخ الفارسية كان فك النسخ الغير الفارسية فيه بعض السهولة والتيسير، ففي سنة ١٨٤٢ شرع المسيو بوتا، قنصل فرنسا في الموصل، في أعمال الحفر الكبيرة، وهو يرود أطلال خرزاباد، فعثر فيها على آثار ومخلفات هي جرثومة المجموعات الآشورية في متحف اللوفر بفرنسا، وبعد ذلك بقليل اكتشف الإنجليزي لَيَرد على كثير من القصور الكائنة بقرب نينوي القديمة.

فلما جاءت إلى أوروبا كتابات كثيرة من هذا القبيل أثارت في علمائها عوامل الجراءة والإقدام، فعكفوا على النظر فيها، والسعي في فكها، فمن سنة ١٨٤٧ ترجم الفرنسويان «ف. دوسولسي»، و«آ. دولونجبيرييه» بعض أقاصيص قصيرة، ومن ذلك الوقت صارت حركة التقدم في هذا المضمار سريعة جدًّا، فإن «هنكس» في إنجلترا، و«راولنسن» في فارس، و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا أخذوا يدرسون كتابات طويلة، وعينوا بعد التحري الدقيق طريقة التهجي، ومدلولات العلامات، والقواعد النحوية، ولم يكن ذلك من الأمور التي يستقر الرأي عليها من غير أن تحدث جدالًا طويلًا مصحوبًا بالإنكار، وعدم التصديق، فحسمًا لهذا النزاع أخذت الجمعية الآسيوية بلوندرة في عمل اختبار في سنة ١٨٧٥، فجاءت نتائجه قاطعة لكل خلاف، مانعة لكل جدال، فإنها طبعت على الحجر كتابة آشورية لم يسبق طبعها، وأعطت نسخًا منها لأربعة من علماء الآثار الآشورية كانوا في لوندرة وقتئذ، وهم: «هنكس»، و«أوبرت»، و«ﻫ. راولنسن»، و«فوكس تالبوت»، ودعتهم إلى ترجمتها، فلما تمت التراجم، وقوبلت على بعضها ظهر فيها كلها اسم الملك تغلا ثفلاصر، بل إن حكاية الوقائع تكاد تكون بألفاظ واحدة، وكان الخلاف فيما بينها واقعًا على مواضع ثانوية ليس لها مكان من الأهمية، حتى إن العلماء الذين كانوا لم يصدقوا إلى ذلك الوقت بصحة الاكتشافات اضطروا بقوة هذا البرهان للتسليم بصحته، والإقرار عليه، وصار علم الآثار الآشورية من العلوم التي يعترف بها جميع العلماء.

(٥) نصيب فرنسا في إنماء وترقية الأبحاث المختصة بعلم الآثار الآشورية

وما زال هذا العلم ينمو ويزداد من ذلك العهد، وقد كان لفرنسا فضل عظيم ويد طولى في تاريخ ترقيته؛ فإن العمال الذين ابتدؤا في تمهيد هذا السبيل وهو «بوتا» و«سولسي» و«لونجبيرييه» قد خلفهم بل فاقهم «أوبرت» و«مينان» ثم جاء عقيبهما «فرنسوا لونورمان» و«جيار» و«أميود» وقد اختطفهم الموت وهم في مقتبل الشباب، و«هاليفي» و«بونيون» وغيرهما ممن لا يزالون محافظين على بقاء تعليم هذا العلم وحفظه، وأن أعمال الفحر التي استمر فيها «بلاس» في نينوي ثم «فرسنل» و«أوبرت» في بقعة بابل سنة ١٨٥١ قد انقطعت بعدهم مدة تنوف على العشرين سنة، ثم عاودها الإنجليز فتحصلوا منها على ما أغنى المتحف البريطاني وجعله أهم مستودعات العالم المحفوظة فيها العاديات الآشورية، ولم يتحصل الموسيو «دوسارزك» قنصل فرنسا في البصرة إلا في سنة ١٨٧٨ على الرخصة من الحكومة العثمانية بمباشرة البحث في كلديا، وقد عثر في بعثته الأولى على آثار هي عبارة عن تماثيل ملوك لاجاش، التي سبق الكلام عليها، وهي محفوظة في متحف اللوفر إلى اليوم.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كانت الكتابة الكلدانية هيروغليفية محضة في أول الأمر، وفيها علامات تدل على معانٍ مستقلة بالمفهومية ومقاطع، من غير أن يكون فيها حروف تتركب منها المقاطع. وأما الألفاظ فكانت تتألف من شرائط وأشكال تشبه المسمار أو الإسفين؛ ولذلك سميت الكتابة بالمسمارية أو الإسفينية، وقد يكون لبعض العلامات مدلولات كثيرة متنوعة؛ بحيث لا يكاد القارئ الكلداني يحترز من الخطأ إلا بدوام المراجعة في كتب التهجي، فإنها قد احتوت على معاني العلامات بكل دقة والتفات.

  • (٢)

    وقد انتشرت الكتابة المسمارية في الشام وأرمينية وعيلام وفارس، وتعدلت كثيرًا أو قليلًا بحسب طبيعة اللغات التي استخدمها أهلوها، وقد كان قصر آشوربانيبال الذي اكتشف عليه في نينوي هو السبب في حفظ فنون الأدب عند الآشوريين والكلدانيين إلى يومنا هذا، وهي مرقومة فيه على صفحات من الخزف والفخار.

  • (٣)

    ثم ما لبثت الحروف الآرامية أن قامت شيئًا فشيئًا مقام الهجاية المسمارية؛ حتى انقطع استعمال هذه مرة واحدة في أوائل القرون المسيحية، ولم يبتدئ القوم في فكها إلا في سنة ١٨٠٢ وذلك بواسطة الكتابات التي على الطريقة الفارسية، فإن الألماني «جروتفند» استخرج من نقوش برسوبوليس هجاية أكملها بعده «لاسن» في ألمانيا و«برنوف» في فرنسا.

  • (٤)

    وقد كان في أعمال الفحر التي باشرها المسيو «بوتا» في خرزاباد والمستر «ليرد» في نينوي مجال واسع للمباحث التي اهتم بها علماء أوروبا مدة عشر سنين (من سنة ١٨٤٧ إلى سنة ١٨٥٧) حتى توصل «لونجبيرييه» و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا و«راولنسن» و«هنكس» و«تالبوت» في إنجلترا إلى قراءة وترجمة الكتابات التي بالقلم الآشوري.

  • (٥)

    ومن ذلك العهد لم يزَل علم الآثار الآشورية آخذًا في التقدم والترقي، وكان لفرنسا نصيبها في توسيع نطاق هذا العلم الحديث على يد «أوبرت» و«مينان» و«فرانسوا لونورمان» و«جيار» وغيرهم من العلماء العديدين الذين ما زالوا يبارون علماء ألمانيا وإنجلترا في البحث والتنقير.

١  في كتابه على التلفظ بحروف التهجي الفينيقية جزء أول صحيفة ٢٤٨.
٢  تشهيل منار الآن وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤