الباب التاسع

وصف بقعة دجلة والفرات

(١) دجلة والفرات

بلاد كلديا تشبه مصر في كونها «هبة من هبات الماء»، إلا أن هذه تكونت من نهري دجلة١ والفرات وتلك من النيل وحده.

وهذان النهران تتفجر منابعهما وعيونهما من بلاد أرمينية في جبل تيفاتس (الذي هو الآن كلشن طاغ) وهو أعلى الجبال الممتدة فيما بين البحر الأسود وهضبة إيران، وينفرد عن جميع هذه الجبال بكون بعض قلله يكوِّن الثلج عليها مستديمًا، ويتكون نهر الفرات من غديرين تنحدر إليهما السيول أحدهما مراد صو والثاني قره صو، ثم يجري في أول الأمر من الشرق إلى الغرب في مضايق شامخة قحلاء جرداء ووديان ضيقة حرجة، ثم يأخذ فيما بعد ملاطية (ملاتييسة) في الانعطاف مرة واحدة نحو الجنوب الغربي، ويجعل له طريقًا في خلال جبل طوروس؛ بحيث يحسبه الناظر متجهًا نحو البحر الأبيض المتوسط، ثم يتورب نحو الجنوب الشرقي متجهًا إلى الخليج الفارسي. وأما نهر دجلة فإنه يتولد بالقرب من نهر مراد صو، ولكنه يسيل بعكس الفرات من المغرب إلى المشرق، ومتى وصل إلى آخر نقطة من مضايق الجبال انحرف وانحنى نحو الجنوب، واقترب من الفرات؛ فلا تكون المسافة بينهما قبيل بغداد إلا بضع مراحل في أرض واطئة مطمئنة، ولكنهما لا يختلطان في هذه الجهة بل يجريان متحاذيين متوازيين تقريبًا نحوًا من عشرين ميلًا إلى ثلاثين، ثم يبتعدان فلا يلتقيان إلا بعد ثمانين مرحلة؛ وحينئذ يمتزجان ببعضهما فيتكون منهما نهر شط العرب، وينصب في الخليج الفارسي.

ونهر الفرات يأتيه في متوسطه نهران من جهة اليسار يمدانه بمياههما، وهما بليخ والخابور، وبعد اتصال الخابورية لا يأتيه شيء من الماء إلى أن ينصب في البحر، وأما دجلة فإنه تنصب إليه مياه الزابين وأدهم وديالَى. ويمكن للسفن أن تسير في جزء عظيم من مجراهما؛ فإن الفرات تسير فيه السفن من ابتداء سميساط٢ وأما دجلة فمن ابتداء الموصل. وعندما تذوب الثلوج في أوائل أو أواسط أبريل يزيد هذان النهران وتفيض مياههما وتنتشر على المزارع وفي الريف؛ مثل نيل مصر، ثم لا ينقصان إلى الحد المعتاد لهما إلا بحلول شهر يونيو حينما تشتد الحرارة.

(٢) تكوين أرض كلديا

لم يكن الحوض الذي يسقي بلاده دجلة والفرات، كما هو عليه الآن فيما سبق من الأعصار والأزمان، فإنهما قبل التاريخ بأجيال طوال كانا لا يرويان عند خروجهما من الجبال إلا سهلًا فسيحًا غير ذي استواء، تكوَّن في العصر الثاني «الجيولوجي» وأطلق عليه القدماء اسم ميزوبوتاميا؛ أي أرض الجزيرة٣ فكانت الخصوبة فيها على جوانب الغدران وحوالي العيون التي تخرج منها الأنهار، وفيما سوى ذلك كانت الأرض جرداء قاحلة، وكانت النهاية الجنوبية لهذا السهل كشاطئ للبحر تغمرها مياهه وتتلاعب فيها أمواجه، وكانا يتصبان على مسافة عشرين مرحلة من بعضهما في خليج يحده شرقًا آخر الجبال الإيرانية، وغربًا الرمال المرتفعة التي تنتهي إليها هضبة بلاد العرب.

أما القسم الأسفل من هذا الوادي فأرضه كلها أحدث من أرض القسم الأعلى، فإنها قد أحدثها دجلة والفرات والنهيرات الأخرى مثل أدهم وديالَى وخواسيس، وقد كانت هذه النهيرات مستقلة مدة طويلة من الزمان، وساعدت بنفسها على ردم ساحل البحر، وأزاحت مياهه عنه ولكنها آل أمرها إلى أن صارت مجاري ثانوية تنصب في نهر دجلة، وفي هذه الأيام يشاهد المتأمل تقدم دلتا شط العرب واتساع نطاقها، فإن متوسط زيادة طرح البحر يعادل ألفًا وخمسمائة متر في كل سبعين سنة.

ولا بد أن هذه الزيادة كانت أكثر من ذلك في الأزمان القديمة، وربما أنها كانت تبلغ ألفًا وخمسمائة متر تقريبًا في كل ثلاثين سنة.

وفي العصر الذي توطن فيه أجداد الكلدانيين بهذا الوادي كان الخليج الفارسي يمتد في داخله إلى أكثر مما هو عليه اليوم بأربعين مرحلة، وكان دجلة والفرات ينصبان إلى البحر وبينهما مسافة تفصلهما عن بعضهما، ولم تمتزج أمواجهما ببعضها إلا بعد ذلك بآلاف وآلاف من السنين.

(٣) إقليم كلديا ومحصولاتها

إن القطر المكوَّن من طمي الأنهار لا سيما نصفه المجاور لشواطئ الخليج الفارسي كان موطنًا ومهادًا للأمم الأولى التي استقرت بهذه الديار، وقد كان هذا القطر سهلًا فسيحًا مستويًا، ليس مضرسًا بالارتفاعات والانخفاضات، ولم يكن الفرات محصورًا حصرًا جيدًا بين شاطئيه؛ فلذلك كان يتفرع ذات اليمين وذات الشمال، وبعض هذه الفروع تنصب في دجلة، وبعضها يجري إلى البطائح. وكان قسم من الأرض محرومًا من المياه، فأخذ في التصلب والجمود من تأثير أشعة الشمس المحرقة عليه في كل يوم، وقسم آخر قد انهالت رمال البيداء عليه كله تقريبًا، وتراكمت فوقه، وتراكبت، وأما بقية القطر فما كانت إلا كبحيرة مستنقعة موبئة مشحونة بالغاب الهائل الذي كان يختلف طوله بين اثني عشر وخمسة عشر قدمًا، وكان إقليم هذه البلاد ولا يزال عرضة لتغيرات جوية مخيفة، ففي الشتاء تهب عليه رياح الشمال، ورياح الشمال الشرقي بعد أن تمر على نجاد أرمينية، وإيران التي تعلوها الثلوج؛ فلذلك تكون درجة الحرارة فيها منخفضة جدًّا، ويحصل الجليد في شهر يناير، وتتغطى المياه الراكدة في صباح كل يوم بطبقة رقيقة من الثلج تذوب عند طلوع الشمس، ومتى جاء الصيف حل بها الحر الشديد؛ فتهب الريح الجنوبية الغربية آتية من بلاد العرب فيضطر ساكنيها إلى الالتجاء عند منتصف النهار في حجرات مظلمة، أو في أقبية وأنفقة وسراديب تحت الأرض، وليست هذه الأراضي غير متوفرة فيها أسباب الثروة، وأصول الرزق الطبيعية. نعم إن أشجارها النافعة قليلة؛ إذ يندر فيها شجر الكرم، والتين، والزيتون، ولكن القمح ينبت فيها على حالته البرية، وأشجار النخيل تزهو فيها وتبسق كما تصلح بأرض مصر. قال هيرودوت ما تأتي ترجمته:

إن أرضها موافقة كل الموافقة لزراعة الحبوب بحيث إن محصولها يكون في العادة بمعدل مائتي حبة عن كل واحدة، بل ثلاثمائة في الأرض البالغة في الخصوبة، ويبلغ عرض ورقة القمح والشعير فيها أربعة أصابع، وأما الأذرة والسمسم فإنهما يعظمان فيها حتى يصيرا كالأشجار، وإني أتحاشى الكلام على مقدار ارتفاعهما لعلمي بأن قولي لا يقابَل إلا بالريب، وعدم التصديق عند من لم يسكنوا أرض بابل. ولا يستعمل زيت الزيتون هنالك قط، بل إنهم يصطنعون زيتًا من السمسم.

وقال إسترابون ما تعريبه:

إن النخل يقوم بسائر الاحتياجات التي تلزم للأهالي، فإنهم يستخرجون منه شبه الخبز والنبيذ، والخل والعسل والحلوى، وجميع أجناس المنسوجات، والحدادون يستعملون نواه في الحريق بدلًا من الفحم، وقد يستعملون هذا النوى أيضًا في التغذية وتسمين الأثوار والضأن بعد دَقه ونَقعه، ويقال: إن في الفارسية قصيدة تتضمن ثلاثمائة وستين طريقة لاستعمال النخيل.

(٤) حيوانات كلديا

كان عند قدماء الكلدانيين ما عند قدماء المصريين من الحيوانات الأهلية المستخدمة وهي؛ الثور والحمار والضأن والمعز والخنزير، وأما الجمل والفَرس فقد أتياهم قبل أن يدخلا مصر. وكانت الطيور عندهم بكثرة وافرة خصوصًا المائي منها مثل البط والأوز وطير الرخم، وكانت الأنهار والبرك مشحونة بسمك صالح للأكل مثل البوري والبني، وما زال السمك الطري والمُملح له دخل عظيم إلى الآن في تغذية السكان المحدثين بهذه البلدان. وأما الحيوانات الوحشية فربما كانت أكثر من الحيوانات المستأنسة، فكان الأسد وكثير من الوحوش التي من فصيلة السِّينُّور تتردد على شواطئ النهيرات. وأما الفراء وهي الحمر الوحشية فكانت تجوب أرض الجزيرة عرجلة عرجلة؛ أي جماعات جماعات. وقد كان الثور الوحشي في جميع أنحائها. والظاهر أن الفيل نفسه قد أقام في الخطط والبلاد المجاورة لبر الشام.

(٥) تكوين عيلام وكلديا

ومجمل القول أن البقعة البطائحية التي تمتد من هضبة بلاد إيران في حدود مصبَّي الفرات ودجلة؛ كانت مُعدة مثل الدلتا في مصر لأن تكون مهدًا لحضارة فائقة ومدنية عظيمة كاملة. ولما توالى عليها الزمان تكوَّن فيها دولتان متمايزتان.

فالأولى هي دولة عيلام؛ تألفت من المدائن والقبائل الواقعة شرقي دجلة، وقد يسمونها دولة شوشية باسم أهل مدائنها (مدينة شوشة).

وأما الثانية؛ فقد تألفت من المدن والعشائر المستوطنة غربي دجلة، وسموها في العادة بدولة كلديا، وسأحفظ لها هذا الاسم وأجعله عَلَمًا عليها، ولو أنه غير صحيح، ولا ينطبق عليها فيما يختص بالعصور السابقة على القرن الثامن قبل الميلاد. وكان أهلوها يقسمونها إلى قسمين عظيمين وهما؛ قسم شومير وقسم أكاد، وكما أن الفراعنة كانوا يلقبون أنفسهم بأسياد الإقليمين وملوك القطرين القبلي والبحري؛ كان ملوك الكلدانيين كذلك يحبون أن يدعَون بملوك شومير وأكاد.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    أرض كلديا هي كبلاد مصر في كونها هبة من هبات المياه، ولكنها تكونت من نهرين هما دجلة والفرات، وهذان النهران يخرجان في بلاد أرمنية من جبل نيفاتس، ثم يتحدان قبل أن ينصبَّا في الخليج الفارسي بقليل، فيصيران نهرًا واحدًا يُعرف بشط العرب، ويستمد الفرات في سيره بمياه نهر الخابور وبليخ، وأما دجلة فيستمد بنهري الزاب ونهر أدهم ونهر ديالَى.

  • (٢)

    وجميع القسم الأسفل من حوض هذين النهرين أحدثُ في التكوين من القسم العلوي، فقد كان الخليج الفارسي في العصر الذي يبتدئ فيه تاريخ كلديا داخلًا في الأراضي زيادة عما هو عليه الآن بأربعين مرحلة، وما كان دجلة والفرات يختلطان ببعضهما في ذاك العهد.

  • (٣)

    وقد كان قسم من هذه الأراضي تغمره مياه الفيضان فتجعله بطائح، وقسم آخر محرومًا منها فلم يكن صالحًا للزراعة، وكان الإقليم ولا يزال إلى الآن عُرضة للتغيير الكثير، وليس في هذه البلاد غابات كثيرة بل هي شبيهة بمصر في توفر النخيل وكثرته بها، وينبت فيها القمح وغيره من الحبوب بما يأتي بالمحصول الزائد والخير العميم.

  • (٤)

    الحيوانات الأهلية المستخدمة في هذه البلاد هي نفس المعروفة في مصر؛ وهي الثور والحمار والضأن والمعز والخنزير، وقد عرف أهلها الفرس والجمل قبل أن يعرفهما المصريون.

  • (٥)

    قد نشأت دولتان في هذا الوادي المستعد استعدادًا تامًّا لأن يكون مهدًا لحضارة فائقة، فتكونت الدولة الأولى من جملة دول صغيرة على شرقي دجلة وهي مملكة عيلام، وكانت قاعدتها مدينة شوشة. وأما الممالك الصغيرة الأخرى الواقعة على غربي دجلة، فقد تألفت منها الدولة الثانية التي اصطلح الناس واعتادوا على تسميتها كلديا، وهي مؤلفة من قطر شومير وقطر أكاد.

١  لا يقال الدجلة بأداة التعريف «اﻟ» كما لا يقال فرات بدونها، بل الفرات. وأغلب كتَّاب العرب يؤنثون «دجلة» باعتبار اللفظ، ويذكِّرونه باعتبار النهر. ورد ذكره في الكتاب المقدس وسمي بالسريع، وكان الماديون يسمونه دِجل؛ أي السهم؛ لسرعة سيره، وسماه العبرانيون الداجل؛ أي السريع، ثم قالوا أدجل ثم دجلة، وسماه الرومان دجليتوس، وحرَّفه اليونان إلى تجرس وتابعهم الإفرنج في تسميته تيجر Tigre وربما كان اسمه العربي مشتقًّا من دجل الأرض بمعنى قطعها سيرًا أو غطاها «بفيضانه»، ولكن الأرجح أنه معرب عن الاسم المادي أو العبراني، ويُعرف اليوم عند الأتراك وفي خرائطهم باسم الشط.
٢  صامسات في الخريطة التركية.
٣  يخلط بعض الكتَّاب والمشتغلين بالجغرافيا فيسمون هذه البقعة الواسعة بجزيرة ابن عمرو، والحقيقة أن هذا الاسم يدل على مدينة صغيرة فقط، وأما هذه البقعة فتسمى بأرض الجزيرة أو بالجزيرة فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤