الفصل الثالث عشر

حادثة في الشرفة

على الرغم من الأحداث الغريبة التي وقعت خلال الأشهر الماضية، فلم يفوّت أترسون قط نزهة يوم الأحد بمعية مستر إينفيلد، فقد كان المحامي يستمتع استمتاعًا بالغًا بهذه العادة. وجاءت عليه أوقات شعر فيها بأن اتصاله بالعالم من خلال هذه النزهة هو الذي حفظ سلامته العقلية. فقد كانت حياته مُربكة وصعبة للغاية بسبب قلقه على صحة جيكل. كانت هذه النزهات تذكره بالأوقات التي كانت فيها حياته طبيعية. لقد افتقد نمط حياته اليومي إذ أنهكه بشدة القلق الشديد على صديقه. تمنى أترسون أن تعود حياته إلى سابق عهدها البسيط؛ يقضي الأمسيات الهادئة في منزله وحفلات العشاء بمعية أصدقائه. وتمنى أن يتحسن جيكل عما قريب.

في إحدى النزهات، تصادف أن مر أترسون وإينفيلد مرة أخرى بالباب الذي بدأت عنده القصة. خطا كلاهما لينظر إليه. وكان الباب لا يزال بحاجة إلى طبقة من الطلاء وكان قفله محُطمًا. وقد بدا كأنما حاول أحد أن يفتحه بالقوة. وأخذ يفكر مستر أترسون كم تغيرت حياته منذ أن أراه إينفيلد هذا الباب للمرة الأولى. وعلى نحو غريب، شعر أترسون بالمسئولية. ومع أنه كان على دراية بأن هذا غير منطقي، فقد تساءل هل مجرد سماعه للقصة هو الذي أدى إلى كل الأحداث التي توالت بعدها؟ لعل سعيه وراء هايد وبحثه عن إجابات قد سبب الأذى لدكتور جيكل أكثر مما نفعه. لعل هايد سبب المتاعب لجيكل الذي ربما لا يزال يعاني الآثار السيئة لانتهاكات هايد وابتزازه. وبدأ أترسون يتعلم أن يسلم بأنه قد لا يعرف الحقيقة أبدًا.

قال مستر إينفيلد: «حسنًا، على الأقل انتهت هذه القصة. ولن نسمع أبدًا عن مستر هايد.» وكان المواطنون في لندن لا يزالون يتحدثون عن اختفاء هايد. ولم يلمح له أحد ظلًّا منذ مقتل سير دانفرز كارو. واعتقد كثيرون من الصحفيين أنه غادر إنجلترا. وراجت الإشاعات برؤيته في ألمانيا وفرنسا. وفي واحدة من الإشاعات ذُكر أنه وصل إلى أبعد مكان ممكن، إلى الصين، لكن لم يكن هناك دليل على ذلك. ظن آخرون أن المجرم هرب إلى أسكوتلندا. وكان هناك أيضًا من يظنون أنه لا يزال في لندن، وكانوا على قناعة بأن هايد ينتظر اللحظة المناسبة حتى يعود ويهاجم ضحيته التالية.

قال أترسون: «أتمنى أن تكون على صواب. ألم أخبرك قط أنني التقيته في إحدى المرات؟ وقد شعرت بالاشمئزاز مثلك بالضبط.»

أجاب إينفيلد: «أظن أنه يستحيل ألا تنتاب المرء مشاعر الاشمئزاز هذه. وبالمناسبة، أود أن أعتذر لك عن أنني لم أنتبه سريعًا إلى أن هذا الباب هو المدخل الخلفي المؤدي إلى منزل دكتور جيكل. لقد علمت أنه كان صديقك العزيز بالطبع، لكنني لم أدرك فيما كنت أروي على مسامعك هذه القصة المزعجة أن هذا المنزل هو منزل جيكل. أنا في غاية الأسف إذا كنت قد أسأت إليك.»

قال أترسون: «لا عليك. لا بد أن أخبرك أن القلق يستبد بي بشأن جيكل، فهو ليس على ما يرام منذ فترة. أتمانع في أن ندخل إلى ساحة فناء منزله؟ أود أن ألقي نظرة عبر النوافذ.»

أجاب إينفيلد: «بكل سرور. لعلنا نستطيع أن نشجع جيكل على أن ينضم إلينا في نزهتنا. فكلما زاد العدد زادت البهجة.»

كان الفناء باردًا ورطبًا قليلًا. ومع أن شمس ما بعد الظهر كانت لا تزال مرتفعة في كبد السماء، فإن ظلال المغيب غشيت الفناء. وقد حرص العاملون لدى دكتور جيكل على تنظيف الفناء والاعتناء بالأزهار، فكان الفناء عادة مليئًا بالنباتات الخضراء والأزهار الملونة. وكان أترسون قد أمضى الكثير من أوقات ما بعد الظهر بمعية جيكل في الفناء يتحدثان لساعات. غير أنه في هذا اليوم، بدا الفناء موحشًا من الإهمال حيث تحول لون الأشجار إلى اللون البني من قلة الماء، ولم تكن هناك أي أزهار لينعم بها الناظر، وقد نمت الحشائش والأعشاب الضارة حول الأحجار في الممشى. وكان وعاء الماء الخاص بالطيور فارغًا. رأى أترسون أن هذا نذير شر، فما كان جيكل ليسمح قط أن يبدو الفناء غاية في الفوضوية إن كان سليمًا وسعيدًا.

رفع الرجلان بصرهما إلى النوافذ التي تعلو المختبر، فكانت النافذة الوسطى مفتوحة قليلًا. وكان دكتور جيكل يجلس بالقرب منها غائصًا في أحد المقاعد.

نادى أترسون: «مرحبًا جيكل! أراك أفضل حالًا الآن، أليس كذلك؟»

التفت الطبيب بتؤدة نحو الصوت الآتي من الفناء، وقد بدا متحيرًا كأن لم يكن يعلم بأن هناك عالمًا خلف نافذته. رقت عين جيكل فيما تعرف على صديقه القديم.

رد الدكتور في حزن: «أنا مكتئب للغاية يا أترسون. مكتئب بحق. حمدًا لله، لن يدوم هذا طويلًا.»

قال المحامي: «أنت تمضي الكثير من الوقت داخل المنزل، يجدر بك أن تمارس بعض التمارين الرياضية. لماذا لا تنضم لي أنا ومستر إينفيلد في نزهتنا؟ هل التقيت ابن عمي مستر إينفيلد من قبل؟ هيا، ارتد قبعتك واخرج.»

قال جيكل: «أنت طيب للغاية. كان بودي أن أفعل هذا، لكن هذا مستحيل بالمرة. لا أجرؤ على الخروج.» وحاول دكتور جيكل أن يبتسم واسترسل قائلًا: «يسعدني أن أراك بالرغم من كل هذا. يسعدني أيما سعادة. كنت أود أن أدعوك أنت ومستر إينفيلد للصعود، لكن المكان غير مناسب للزوار بالمرة.»

رد إينفيلد: «لا نريد بالطبع أن نزعجك يا دكتور جيكل. لقد أخبرني ابن عمي كثيرًا عنك حتى إنني كنت أتوق إلى زيارتك.»

أجاب جيكل وقد بدا عليه الأسف الشديد بالفعل: «يؤسفني بشدة أنني خيبت أملك. يؤسفني أنه ضاعت علينا الفرصة أن ينعم كل منا بصحبة الآخر.»

قال أترسون: «إذن أفضل ما يمكن فعله هو أن نمكث بالأسفل هنا ونتحدث إليك.» وقد حاول المحامي أن يبدو سعيدًا مبتهجًا.

أجاب الطبيب بابتسامة واهنة: «كنت أنوي أن أقترح نفس الشيء.» لكن الكلمات كانت تخرج من فمه بشق النفس قبل أن تختفي ابتسامته ويعقبها سريعًا تعبيرات الفزع التام. أغمض جيكل عينيه بإحكام، وانقبض وجهه، وبدا في ألم شديد. شاهده الرجلان في فزع وقد تحول جلده إلى اللون الرمادي. غطى جيكل وجهه بيديه، واستدار بعيدًا عن النافذة وانحنى. وسمع الرجلان تأوهًا خفيضًا فيما اختفى جيكل تحت إطار النافذة.

صُدم الرجلان اللذان كانا يقفان في الفناء مما شاهدا. حاول أترسون أن ينادي على صديقه، لكن لم يأته أي رد. وكان أترسون مصدومًا ومرعوبًا قليلًا. بعدها بلحظة أُسدل الستار فوق النافذة سريعًا. لم يكن في وسع الرجلين أن يفعلا شيئًا، لذا رحلا في الحال دون أن يتفوها بكلمة أخرى.

ظل الرجلان صامتين طيلة بضعة مبانٍ. أخيرًا نظر أحدهما إلى الآخر، كلاهما شاحب الوجه. أراد أترسون أن يتحدث عما رأياه لتوهما. ما الذي حلّ بجيكل فيما كان جالسًا إلى جانب النافذة؟ أي نوع من الأمراض هذا الذي سبب مثل هذا التغيير الرهيب في مظهره؟ لا بد أن هذا أكبر من مجرد توتر بسيط. وتساءل المحامي هل سُم صديقه؟ كان أترسون يعلم أن العاملين عند جيكل ما كانوا ليؤذوه البتة. ثمة شخص واحد فحسب يمكنه أن يمثل هذا الخطر. أيعني هذا أن هايد لا يزال قريبًا؟ أما يزال يسيطر على جيكل؟ إن الشيء الوحيد الذي يعرفه أترسون معرفة أكيدة الآن هو أنه ومستر إينفيلد قد شاهدا لتوهما شيئًا بشعًا. لم يتمكن أترسون إلا من أن ينبس ببضع كلمات: «ليسامحنا الله. ليسامحنا الله.»

لم يكن من مستر إينفيلد إلا أنه هزّ رأسه في جدية. إذ لم تكن هناك كلمات لتصف ما حدث. وعلم إينفيلد أنه لن يصدقه أحد إذا حاول أن يصف ما حدث. واصل الرجلان سيرهما مرة أخرى في صمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤