العَنْكَبُ الحَزين

(١) حِوار الأَخَوَيْن

خرجَ «صَفاءٌ» و«سُعادُ» يَتَنَزَّهانِ — عَلَى عادَتِهِما — في الدَّسْكرَةِ. وما زالا فِي تَجْوالِهما حتى تَعِبا مِن المشْي، فجلَسا فِي الحَدِيقةِ، واستَلْقَيا على أَرْضِها السُّنْدُسِيَّةِ البَهيجةِ.

فاسترْعَتْ بصرَهُما عَنْكبةٌ جميلةُ الشكلِ، وَأَدهَشهُما ما رأَياهُ من هَندَسَةِ بَيتِها، ودِقَّةِ خُيوطهِ، وبراعةِ نَسجهِ. وظلّا يَتَأَمَّلانِ بَيتَ العَنْكَبُوتِ الحاذِقةِ ساعةً، ويُنْعِمانِ النَّظَر والفِكْرَ في دقائِق هذه النَّسَّاجةِ الذكيَّةِ، الصَّناعِ الْيَد، ويُطيلانِ التَّأَمُّلَ في بدائع المُهَنْدِسَةِ البارعَةِ المُتفنِّنةِ. وقدِ امتلَأتْ نَفساهُما دَهَشًا وإِعجابًا بِصَبْر هذِهِ الْحَشَرَةِ الضَّئِيلَةِ ومُثابَرتِها.

وصاحتْ «سُعادُ»: «تباركَ الخَلَّاقُ العظيمُ! أَلَيْسَ مِنَ العَجَبِ الْعاجِب أَنْ تَهتَدِيَ هذهِ الحشرةُ الضَّئيلةُ إِلى دَقائقَ من أَسرار الهنْدَسةِ، يَحَارُ فيها الْمُتَأَمِّلُ ويَنْبَهِرُ مِنها المُفكِّرُ، ويقِفُ أَمامَها العَقْلُ مَدهوشًا؟»

فقالَ «صَفاءٌ»: «لَقَدْ تَعلَّمَ الأَقْدَمُونَ مِنْ هذِهِ الْمخْلُوْقَةِ الصَّغيرة، كَيْفَ يَصْنَعونَ شِباكَهُم وحَبائلَهُم، ليَصْطادوا بها أَسْرابَ الطَّيرِ والْحَيَوانِ البَرِّيِّ والبَحْريِّ على السَّواءِ.

ولَعَلَّكِ تَذْكُرِينَ قِصَّةَ «الصَّيَّادِ الأفْرِيقيِّ» الَّذِي كانَ يَصْطادُ الوُحوشَ بِرُمْحِهِ، وكَيْفَ جَرَحَهُ أَحَدُها، وأَلْقاهُ عَلَى الأَرْضِ.

وكَيف اسْتَرعَى بَصَرَ الصَّيَّادِ ما رَآهُ مِنْ بَراعَةِ أَحَدِ العَناكِبِ في اصْطِيادِ الذُّبابِ، ودَهِشَ لِقُدْرَتِهِ العَجِيبَةِ عَلَى نَسْجِ الشِّباكِ، والْحَبائلِ المُحْكَمَةِ».

فصاحَتْ «سُعادُ»: «صَدَقْتَ — يا أَخي — لَقَدْ ذَكرْتُ تِلْكَ الأُسْطُورَةَ الْجَمِيلَة الآنَ، وذكَرْتُ أَنَّ ذلِكَ الصَّيَّادَ نَسَج شِباكَهُ عَلَى مِنْوالِ العَنْكبِ الذَّكِيِّ، فاصطاد كثِيرًا منْ أَسْرابِ الوَحْشِ.

ثُمَّ ارْتَقَى في تقليدِ العَنْكبِ، فنَسج ثِيابًا لهُ ولِزَوْجَتِهِ ولجيرانِهِ، فأُعْجِبَتْ بالصَّيَّادِ عَشِيرَتُهُ، واتَّخَذَهُ قَوْمُهُ زَعِيمًا لَهُمْ وأُسْتاذًا».

فقالَ «صَفاءٌ»: «لا تَنْسَيْ أَنَّه قالَ لِلْمُعْجَبِينَ به: «إِنَّ أُسْتاذِي ومُرْشِدِي إِلَى هذا الاِخْتِراعِ الْجَلِيلِ هُوَ: العَنْكَبُ الذَّكِيُّ الصَّنَاعُ!»

فقالتْ «سُعادُ»: «صدَقْتَ — يا أَخِي — وَسَأَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الأَوَّلِ من كتاب القِصَصِ الْجُغْرافِيَّةِ، الَّذِي سَجَّلَ فيهِ أَبي تِلْكَ الأُسْطُورَةَ الْعَجِيبَةَ، لِأَقرأَها مرَّةً أُخْرَى».

فقالَ «صفاءٌ»: «وَلَقَدْ قَصَّ عَلَيْنا أُسْتاذُ الإِنشاءِ — في هذا العامِ — أَنَّ مَلِكًا منَ الأَقْدَمِين دَبَّ إِلي قَلْبِهِ دَبيبُ الْيَأْسِ، بَعْدَ أَنْ هزَمَهُ العَدُوُّ؛ فَجَلَسَ مُطْرِقًا، حَزينَ الْقَلْبِ، مُشَرَّدَ الْفِكْرِ. وَإِنَّهُ لَغارِقٌ في هُمُومِه، إِذْ حانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ؛ فرَأَى عَنكبةً تَنْسُجُ خُيوطَها، وأَبْصَرَها تَقْذِفُ بأَحَدِ الْخُيُوطِ إِلى رُكْنِ الْغُرْفَة فَلا يَقَرُّ فيهِ، فتُعِيدُ الكَرَّةَ ثانيةً وثالثةً ورابعةً بِلا جَدْوَى. وما زالتِ الْعَنْكَبَةُ جادَّةً في تَحْقِيقِ غايَتِها، دونَ أَن يَجِدَ الْيَأْسُ إِلي قَلْبِها سَبيلًا، حتَّى ثَبَتَ الخَيْطُ فى المَرَّةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ؛ فكانَ ذلِكِ النَّجاحُ — بَعْدَ المُثابَرَةِ — أَبْلَغَ دَرْسٍ يُعَلِّمُ المَلِكَ الْمَهْزُومَ فَضْلَ الأَناةِ والصَّبْرِ، وَيُنْسِيهِ مَرارَةَ الهَزِيمَةِ وأَلَم الْيَأْسِ. فَضاعَفَ مِن هِمَّتِه، وقَوَّى منْ عَزْمَتِهِ، وما زالَ بِأَعْدَائِه حَتَّى كُتِبَ لَهُ النَّصْرُ فى الْمَوْقِعَةِ الأَخيرَةِ. وكانَ الفَضْلُ — فى ذلك النَّصْرِ — عائِدًا إِلَى اقْتِدَائِه بِالعَنْكَبَةِ الْجادَّةِ المُجِدَّةِ المُثابِرَةِ!»

(٢) حِوارُ أُمِّ «قَشْعَمٍ»

فقالَتْ «سُعادُ»: «ما أَعجبَ أَمر هذه المَخْلوقَةِ الضَّئِيَلَةِ، الَّتى أَحرَزَتْ — عَلَى حَقَارَةِ بِنْيَتِها — عقلًا كبِيرًا، وجَمَعَتْ حِذْقًا ومَهارَةً يُحَيِّرانِ الأَلْبابَ!»

وَما أَتَمَّتْ «سُعادُ» جُمْلتَها، حتَّى أَقْبَلَ أَخوها «رَشادٌ» الصَّغيرُ، وفى يدِهِ عَصًا طويلَةٌ يَعْبَثُ بِها فى أَثْناءِ سَيْرِه، حتى إِذا اقْتَرَبَ من «سُعادَ» حانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ، فرَأَى العَنْكَبَةَ قَريبةً مِنْهُ؛ فَهَمَّ بِتَحْطِيمِ بَيْتِها بِعصاهُ.

وأَدْرَكَ «صَفاءٌ» ما يَجُولُ بخاطِرِ أَخيهِ، فأَمْسَكَ بِيَدِهِ، وَحالَ بينَهُ وبينَ ما يُريدُ.

فَغَضِبَ «رَشادٌ» الصَّغيرُ، وقالَ لِأَخِيهِ «صفاءٍ» وقَد سِيءَ وَجْهُهُ: «لَقَدْ حَرَمْتَني يا «صفاءُ»، مُتْعَةً كانَتْ تَصُبُو إِليْها نَفْسِي. ما كانَ ضَرَّكَ — يا أَخِي — لو أَطْلَقْتَ لى حُرِّيَّتى، لِأَلْهُوَ بهذِهِ الْحَشَرَةِ الضَّئيلةِ، الَّتى لا شَأْنَ لها ولا خَطَرَ؟»

(٣) نشيدُ العنكبةِ

وَهُنا انْبَعَثَ مِنْ بَينِ الْخُيُوطِ العَنْكَبِيَّةِ الدَّقِيقَةِ صَوْتٌ خافِتٌ، يَقولُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ يا «رَشادُ»، أَنا لَسْتُ — كَما حَسِبْتَنِي — حَشَرَةً ضَئِيلَةً، لا شَأْنَ لي ولا خَطَرَ. إِنَّ فَضْلَ الْعَناكِبِ على بَني الإِنْسانِ لَجَدِيرٌ بالثَّناءِ. وَإِنَّ مَهارَتَنا فى النَّسْجِ، وَمُثابَرَتَنا عَلَى العمَلِ — بِلا مَلالٍ وَلا كَلالٍ — قَدْ أَصْبَحَتْ مَضْرِبَ الأَمْثالِ.»

فَعَجِبَ «رشادٌ» وَأَخَواهُ مِمَّا سَمِعُوهُ مِنْ تِلْكَ العَنْكبَةِ الذَّكِيَّةِ، واسْتَوْلَتْ عَلَيْهِم الْحَيْرَةُ، وَتَمَلَّكَهُمُ الدَّهَشُ.

وإِنَّهُمْ لَغارِقُونَ فى ذُهُولِهِم مِمَّا سَمِعُوهُ، إِذا بِالْعَنْكَبَةِ فى الشُّعِّ (وَهُوَ بَيْت الْعَناكِبِ) تُغَنِّي بِصَوْتٍ واضِحِ النَّبَراتِ:

مَهارَةُ الْعَناكِبِ
أَعْجَبُ شيْءٍ عاجِبِ
هَنْدَسَةٌ دَقِيقَةٌ
تَبْهَرُ عَقْلَ الْحاسِبِ
دائِبَةُ السَّعْيِ، وَما
يَفُوزُ غَيْرُ الدَّائِبِ
جاثِمَةٌ — فِي بيْتِها —
لِحاضِرٍ، وَغائِبِ
تَرْقُبُ كلَّ زائِرٍ،
مِنْ قادِمٍ، وَذاهِبِ
تُوقِعُ — فِى شِباكِها —
كلَّ غَبِىٍّ خائِبِ
تَرَى بِعَينٍ لا تَنِي
تَرَى بِفِكْرٍ ثاقِبِ
بارِعَةٌ — فِى كَيْدِها —
سَدِيدةُ المَذاهِبِ
ناسِجَةٌ خُيوطَها
عَلَى مِثالٍ صائِبِ
كَثِيرَةٌ أَرْجُلُها،
طَويلَةُ الْمَخالِبِ
لَها عُيُونٌ جَمَّةٌ،
تَرْنُو بِلا حَواجِبِ
وَهْيَ — إذا دَرَسْتَها —
عَجِيبَةُ الْعَجائِبِ!

(٤) قاتِلةُ الزِّنْبارِ

اشْتَدَّ عَجَبُ الإِخْوَةِ الثَّلاثَةِ مِمَّا سَمِعُوا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعَنْكَبَةِ الذكِيَّةِ مُنْصِتِينَ إِلَى حَدِيثِها المُعْجِبِ، فاسْتَأْنَفتْ قائِلَةً: «أَصْغِ إِلَيَّ يا «رشادُ»: أَلا تَعْرِفُ أَنَّني قَدْ أَسْدَيْتُ إِلَيْكَ صَنيعًا لا يُنْسَى؟ أَلا تعْلمُ أَنَّنى أَنْقَذْتُكَ مِنْ لَسْعَةِ زِنْبارٍ شَرِس، كانَ يَهُمُّ بِإِيذائِكَ فِي الْأُسْبُوعِ الْمَاضِي؟»

فَقال لَهَا «رَشادٌ» وأَخَوَاهُ مُتَعَجِّبينَ: «أَيَّ زِنْبارٍ تعْنِينَ أَيَّتُها العنْكَبَةُ الكَريمَةُ؟»

فَقالتِ العَنْكبَةُ مَزْهُوَّةً تَيَّاهَةً: «لمَحْتُ — منذُ أَيَّامٍ — زِنْبارًا خَبيثًا، يَطِنُّ طَنِينًا مُزْعِجًا. رأَيْتُهُ يَقْتَرِبُ مِنْ «رَشادٍ» ويَهُمُّ بِلَسْعِهِ، فَتَرَبَّصْتُ بِهِ الدَّوائرَ، وَصَبَرْتُ عَلَيْهِ حتَّى اقْتَرَبَ مِنْ شِباكِي. وَما زِلْتُ به أُخادِعُه وَأُغْرِيِه، حَتَّى وَقَعَ فى حَبائلي أَسيرًا، وظَفِرْتُ به بعدَ عَناءٍ شديدٍ. ثُمَّ أَنْشَبْتُ فيه مَخالِبِي، ونَفَثْتُ فى جِسْمهِ منِ سَمِّي، حتَّى خَدِرَتْ أَعْصابُه، وَتَمَّ لِيَ افتراسُهُ، وكانَ لى أَشْهَى طَعامٍ أَكلتُه فى ذلك اليَوْمِ».

•••

فصفَّق الْإِخْوَةُ الثَّلاثةُ لِما سَمِعُوا مِنْ حَدِيثِ العَنْكبةِ، وَأُعْجِبُوا بِبراعَتِها وَحِذْقِها. ثُمَّ قالَ لَهَا «صَفاءٌ»: «أَنْتِ أَسْدَيْتِ إِلَيْنا صنيعًا نَذْكُرُهُ لَكِ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَسَنَتَّخِذُكِ لَنا صَدِيقَةً، مُنْذُ اليومِ، فَماذا أَنْتِ قائلَةٌ؟»

فَقالَتِ العَنْكَبَةُ: «ما أَسْعَدَني بِصَداقَتِكم أَيُّها الْإِخْوَةُ المُتَحابُّونَ. سَأَكُونُ لَكُمْ خَيْرَ صَدِيقٍ تَأْنَسْونَ به، وَتُخلِدُونَ إِليْهِ.»

فَقالَ لَهَا «صَفاءٌ»: «شُكْرًا لكِ — أَيَّتُها العَنْكَبَةُ الظَّرِيفَةُ — عَلَى كَرِيم تَلَطُّفِكِ، وَمَوْفورِ أَدبِكِ. فَهَلْ أَنْتِ مُتَفَضِّلةٌ عَلَيْنا، فَذاكِرَةٌ لَنا كُنْيَتَكِ، لنُكَرِّمَكِ بها كُلَّما نادَيْناكِ؟»

فَقالَتِ العَنْكَبَةُ: «كانَتْ أُمِّي «الرُّتَيلاءُ» تُنادِينى — منذُ وَلَدَتْنى — بِأُمِّ قَشْعَمٍ.»

(٥) مَوْلِدُ العنكبةِ

فَقالَ «صَفاءٌ»: «وَأَينَ أُمُّكِ الرُّتَيْلاءُ العزِيزَةُ أَيَّتُها الصَّديقة الْمُؤْنِسَةُ؟»

فقالتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «ماتَتْ أُمِّي «الرُّتَيْلاءُ»، بعدَ أَن خرَجْتُ من بَيْضَتِى. لم أَنَعمْ بها بعد ذلك اليومِ.»

فصاحتْ «سُعادُ»: «كيفَ تَذْكُرِينها — يا «أُمَّ قَشْعَمٍ» — وأَنتِ لم تَرَيْها فى حياتِكِ قَطُّ؟»

فقالت «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «أَنا رأَيتُها حينَ خرجْتُ منَ البيضةِ. إِنَّنا — مَعشرَ العَناكِبِ — نَخْرُجُ مِنَ البَيْضَةِ راشدِين، مُكْتَمِلي الْخِلْقَةِ، هذا هُوَ شَأْنِي وَشَأْنُ بناتِ جِنْسي جميعًا.»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «هَلْ وَضَعتْ أُمُّكِ «الرُّتَيلاءُ» بَيْضَةً واحِدَةً، هِيَ الَّتِي خَرَجْتِ مِنْها، يا أُمَّ قَشْعَمٍ؟»

أَجابَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ» ضاحِكَةً: «كَلَّا يا «سُعادُ»، أُمِّي وَضَعتْ أَرْبَعين بَيْضةً. أَنا كُنتُ إِحْدَى مَوْلُودِيها الْكَثِيرِينَ!»

فَصاحَ «رَشادٌ»: «كَيْفَ تَبِيضُ أُمُّكِ مِثْلَ هذا القَدْرِ الْعَظِيم؟»

قالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّنا — مَعْشَرَ الْعَنْكَباتِ — نَبيضُ مِنْ عَشْرِ بَيْضاتٍ إِلَى مِائةِ بَيْضَةٍ. وَقَدْ يَبْلُغُ ما يَبِيضُهُ بَعْضُ بَناتِ جِنْسِنا ثَمَانِمِائَةِ بَيْضةٍ، فَإِذا أَفْرَخَ الْبَيْضُ خَرَجَتِ الْعَناكِبُ إِلى الْجُعْدُبةِ (بيْتِ العَناكِبِ) نامِيَةَ الْخِلْقَةِ. وَلا تَزالُ تَنْمُو، مُتَدَرِّجةً فى نَمَائِها، حَتَّى تُصْبِحَ مِثْلَ أُمَّاتِها.»

فَقالَ «صَفاءٌ»: «أَنْتِ أَخْبَرْتِنا أَنَّ أُمَّكِ «الرُّتَيْلاءَ» ماتَتْ بَعْدَ أَنْ خَرَجْتِ أَنْتِ مِنَ البَيْضَةِ، فَخَبِّرِيني: أَذلكِ شَأْنُ أُمَّاتِ الْعَناكِبِ دائِمًا؟ هَلْ تَمُوتُ الْأُمَّاتُ بَعْدَ فَقْسِ الْبَيْضِ كَما ماتَتْ أُمُّكِ؟»

فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ أَكْثَرَ الْعَنْكَباتِ يَهْلِكْنَ بَعْدَ أَنْ يَضَعْنَ البَيْضَ، أَو عَقِبَ تربيَةِ أَطْفالِهنَّ النَّاشِئينَ. على أَنَّ بِعْضَنا قَدْ يُعَمَّرُ أَرْبَعَ سَنَواتٍ كامِلَةً.»

ثُمَّ اسْتَأْنَفتِ العَنْكَبَةُ قائلَةً: «مَتَى وَضَعَت العَنْكَبَةُ البَيْضَ، نسَجَتْ حَوْلَهُ غِلافًا لِوِقَايَتِه مِنَ الْأَحْداثِ وَالْخُطوبِ. فإِذا تَمَّ فَقْسُ الْبَيْض خَرَجَتْ مِنْهُ العَنْكَباتُ والعَناكِبُ مُسْتَقْبِلةً الْحَياةَ، وَقُلُوبُهُنَّ مَمْلُوءَاتٌ أَمَلًا وَرَجاءً، وَنُفُوسُهُنَّ مُفْعَماتٌ بِحُبِّ الْعَمَل وَالمُثابَرَةِ.»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَرَاكِ تُقَسِّمِينَ أَبْناءَ «الْرُّتَيْلاءِ» إِلَى: عَنْكَباتٍ وَعَناكِبَ، فَخَبِّرِينا، يا «أُمَّ قَشْعَمٍ»: أَيُّ فَرْقٍ بَينَ الذَّكَرِ والْأُنْثَى؟»

فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ العَنْكَبَةَ أَكْثَرُ نَفْعًا، وَأَعَمُّ فائدَة، وَأَوْفَرُ عَمَلًا، مِنْ أَخيها العَنْكَبِ، لأَنَّهَا تُؤَدِّي مِنْ جَلائِل الْأَعْمالِ ما لا يُؤَدِّيهِ. فَهيَ تَغْزِلُ، وَتَنْسُجُ بَيْتَها، وَتَقُومُ بِكُلِّ ما تَحْتاجُ إِلَيْهِ الْأُسْرَةُ. أَمَّا العَنْكَبُ فَهُوَ لا يَنْشَطُ إِلى النَّسْجِ إِلاَّ مُضْطَرًّا، وَهُوَ أَقَلُّ صَبْرًا عَلَى العَملِ، واحْتِمالًا للمُثابَرَةِ، كَما أَنَّهُ أَصْغَرُ جِسْمًا، وَأَقَلُّ قُوّةً.»

(٦) نشأَةُ «أُمِّ قَشْعَمٍ»

فَقالَ «صَفاءٌ»: «أَيْنَ وُلِدتِ يا أُمَّ قَشْعَم؟»

قَالَتِ العَنْكَبَةُ: «أَنا وُلِدتُ في بَيتِ عَمِيدِ هذه القَريَةِ، حَيْثُ نَسَجَتْ أُمِّي «الرُّتَيلاءُ» بَيتَها الجَميلَ، فِي إِحْدَى الغُرَفِ الْمَهْجُورَةِ. وَظَلِلْتُ وإِخْوتِي نَسْكُنُ هذا البَيْتَ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّنا، حَتَّى جاءَ خادِمٌ خَبِيثٌ زَلْزَلَ بَيْتَنا في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ؛ فأَعَدْتُ نَسْجَ الْبَيْتِ — مِنْ جَدِيد — بَعْدَ ساعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ. فَلَمَّا جاءَ الْغَدُ عادَ إِلَيْنا الْخَادمُ الشِّرِّيرُ، فنقَضَ بَيتَنا مَرَّةً أُخْرَى؛ فَهَجَرْتُ ذلِكَ المَكانَ إِلَى حافَةِ النَّهَرِ. ونَسَجْتُ لي بَيْتًا جمِيلًا فى ثَنايا إِحْدَى الْأَشْجارِ. ومَا لَبِثْتُ فِيهِ أُسْبُوعَيْن حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ الضَّفادِعِ يَأْتَمِرُ بي لِيَقْتُلَنِي. فَهَجَرْتُ بَيْتِي إِلَى جِدارٍ قَديمٍ مَهْجُورٍ، حَيْثُ بَنَيْتُ لِي دارًا أَنِيقَةً. ولكننى لَمْ أَستقرَّ فيها حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِن كِبارِ البِرَصَةِ تَأْتَمِرُ بِي لتَقْتُلَنِي، فَهرَبْت مِنْها، وَآثَرْتُ السَّلامَةَ والعافِيةَ. وَما زِلْتُ أَمْشِي حَتى ساقتْنِي المَقادِيرُ إِلَى هذِهِ الحَدِيقَةِ الجَمِيلةِ، حَيْثُ بَنيْتُ هذا الْبَيْتَ الفاخِرَ، الذي تَرَوْنَه أَمامَكُمْ!»

(٧) سِباعُ العَناكِبِ

فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَتَمَنَّى لَكِ عِيشَةً راضِيةً، يا «أُمَّ قَشْعَمٍ». وَأُحِبُّ أَن تُخْبرينى — أَيَّتُها الْعَزِيزَةُ — كَيْفَ تَخْشَيْنَ البِرَصةَ؟ إِنَّ أَحَدَ الْمُدَرِّسِينَ أَخْبَرَنا فِي بَعْض دُرُوسِهِ أَنَّكُم — مَعْشَرَ العناكِب — تَأْكُلُونَهَا؟»

فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «صَدَقَ المُدَرِّسُ. إِنَّ بعْضَ بَناتِ جِنْسِنا — مِنْ كِبارِ الْعَناكِبِ — يَفْتِكْنَ بِالبِرَصَةِ، كَما يَفْتِكْن بِكِبارِ الْحَشَراتِ، وَصِغارِ العَصافِيرِ.»

فَقالَ «صَفاءٌ»: «صَدَقْتِ يا «أُمَّ قَشْعَمٍ». إِنَّ الْأُستاذَ حدَّثنى أَنَّ نَوْعًا مِنْ سِباعِ العَناكِبِ النَّاشِئَةِ فِي بِلادِ «البَرازِيلِ»، تَصْدُقُ عَلَيْهِ هذِهِ الْأَوْصافُ التى تَذْكُرِينَها.»

فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «حَدَّثَتْنا بَناتُ «الرُّتَيْلاءِ» عَنْ هذه العَنْكَباتِ الَّتِي وَصَفْتُها لَكَ يا «صَفاءُ». وهي — كَما قُلْتَ — مِنْ سِباعِ الْحَشَراتِ.»

(٨) مَزايا العَناكِبِ

فَقالَتْ «سُعادُ»: «إِنَّ جِسْمَكِ — فِيما أَرَى — ناعمُ الْمَلْمَس، لَسْتُ أذْكُرُ أَنَّنى رَأَيْتُ حَشَرَةً تُشْبِهُكِ فى هذه المِيزَةِ.»

فَقالَتْ «أُمَّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ اللهَ مَيَّزَنا — مِن بَيْنِ الْحَشَرَاتِ كلِّها — بنُعُومَةِ الجِسْمِ، وَخَصَّنا بهذهِ المِيزَةِ، عَلَى اخْتِلافِ أَنواعِنا، وَتَبايُنِ أَجْناسِنا، وَتَفَرُّقِ أَوْطانِنا. وَجَعَلَ أَجْسامَنا مُؤَلَّفَةً مِنْ حَلقاتٍ لا تكادُ تَراها الْعَيْنُ، لِتَقارُبِ بَعْضِها مِنْ بَعْضٍ!»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَسْمَعُكِ تَقُولِينَ: إِنَّكُمُ مُخْتَلِفُو الْأَجْناسِ. فَهَلْ تَعْنِينَ أَنَّ بَعْضَ العَناكِبِ يَخْتلِفُ عَنْ بَعْضٍ؟»

فَقالَتْ «أُمَّ قَشْعَمٍ»: «ما فى ذلِك رَيْبٌ يا «سُعادُ»، إِنَّنا — مَعْشَرَ العناكِبِ — أَنواعٌ كثيرةٌ لا تُحْصَى؛ فمِنَّا مَنْ يَتّخِذُ لهُ جُحْرًا يَحْفِرُهُ فى الْأَرْضِ، وَيُخفيهِ عَنِ العُيُونِ، ويُقيمُ فِيهِ طُولَ يَوْمِه. فإِذَا أَمْسَى، فَتحَ بابَ الْجُحْر، وَخَرجَ مُلْتَمِسًا رِزْقَهُ؛ حَتَّى إِذا شَبعَ، عادَ إِلى جُحْرهِ، وَأَقامَ فِيهِ بَعيدًا عَنْ عُيُونِ الرُّقَباءِ. ومِنَّا مَن يَبْنِي بُيوتَهُ فى البساتينِ، أَوْ فى بُيوتِ النَّاسِ. ومِنَّا مَن يَبْنِيها فَوْقَ مَسارِب المِيَاهِ، وَيَنْسُجُ خُيُوطَهُ الطَّوِيلةَ عَلَى شَجَرَتَيْنِ مُتقابلتَينِ مِنَ الشَّاطِئينِ. أَمَّا عُيونُنا فَهِي لا تتَحَرَّكُ كَما تَتَحَرَّكُ عَيْنا الإِنْسانِ، وَلِهذا جعَلَ لَنا اللهُ — سُبحانَهُ — كَثيرًا مِنَ العُيُون، لنَرَى بها كُلَّ ما يَكْتَنِفُنا مِنَ الْأَشْياءِ. وَقَدْ وَهبَ الله لِبَعْضِنا عينَيْن — كَما وَهَبَ لَكُم مَعْشَرَ النَّاسِ — ووَهب لِلْبَعْضِ الآخَرِ عُيونًا أَرْبعًا، ووَهَبَ لِفَرِيقٍ ثالِثٍ عُيونًا ستًّا، أَو ثَمَانِيَ، أَو عَشْرًا، أَو اثْنَتَيْ عَشْرةَ.»

فَصاحَ «رَشادٌ»: «ما أَطْوَلَ أَرْجُلَكِ، يا أُمَّ قَشْعَم!»

فَضَحِكتِ الْعَنكَبَةُ قائِلَةً: «لا يُدْهِشَنَّكُمْ طُولُ أَرْجُلِي — أَيُّها الْإِخْوَةُ الْأَعِزَّاءُ — فَقَدْ خَلَقَها الله كَذلِكَ لِتُساعِدَنِي عَلَى الْجَرْيِ فِي خِفَّةٍ نَادِرَةٍ. وَقَدْ مَيَّزَنا اللهُ — سُبْحانَهُ — بِالنَّشاطِ وَالسُّرْعةِ. وَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ مَخالِبِي الْقَويَّةَ، لاشْتَدَّ عَجَبُكُمْ، وأَنْسَتْكُمْ دهْشَتُكُمْ مِنْها كُلَّ شَيْءٍ.»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «وَأَيُّ مِيزَةٍ فِي هذهِ الْمَخالِبِ الَّتِي تُزْهَيْنَ بِها؟»

فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «لَقَدْ خَصَّنِي الله بِها، لِيُمَكِّنَنِي مِنَ الْفَتْكِ بِالْحَشَرات الضَّارَّةِ، الَّتِي تُؤْذِيكُمْ، وتُنَغِّصُ عَلَيْكُم حَيَاتَكُمْ. ولَوْلانا لامْتَلَأَتِ الدُّنْيا بِتِلْكَ الْحَشَراتِ الَّتِي تُهْلِكُ حَرْثَكُمْ، وَتَعِيثُ فِي أَرْضِكُمْ وَحُقُولِكُم فَسادًا.»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «لَقَدْ خَلَقَكُمُ الله — مَعْشَرَ الْعَناكِبِ — رَحْمَةً بِالنَّاسِ، فَما بالُكُمْ لا تَنْتَشِرُونَ فِي بِلادِ الْأَرْضِ كُلِّها، لِتَقْضُوا عَلَى الْحَشَراتِ الْمُؤْذِيَةِ؟»

فَقالتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنا قَلَّما يَخْلُو مِنا بَلَدٌ، أَوْ بَيْتٌ، أَوْ حَقْلٌ؛ مِنْ خَطِّ الاِسْتِواءِ إِلَى أَقَاصِي الشَّمالِ. وَلَوْلانا لامْتَلأَ الْجَوُّ بِالذُّبابِ وَالْبَعُوضِ، وَأَشْباهِها مِنَ الْحَشَراتِ الْمُؤْذِيَةِ.»

فَقالَ «رَشاد»: «فَما بالُكِ تَأْلَفِينَ الْأَماكِنَ الْقَذِرَةَ، وَالْأَرْجاءَ الْمَهْجُورَةَ، وَتُؤْثِرينَها عَلَى الْجِهاتِ النَّظِيفةِ؟»

فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنا نَكْثُرُ فِي تِلْكَ الْأَماكِنِ، لَأَنَّ هذِهِ الْحَشَراتِ الضَّارَّةَ تكْثُرُ فِيها، وَهِي مَصْدَرُ غِذائِنا الَّذِي نَقْتاتُ بِهِ.»

فَقالَ «رَشادٌ»: «إِنَّكِ ضَعِيفَةٌ، لا قُوَّةَ لَكِ، وَما أَرَى خُيُوطَكِ إِلَّا واهِيَةً، فَكَيْفَ تَزْعُمِينَ أَنَّكِ قادِرَةٌ عَلَى اقْتِناص الْحَشَرَاتِ فِيها؟»

فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنِي — عَلَى ضَعْفِي — بارِعَةُ الْحِيلَةِ، وَقَدْ وَهَبَنِي الله صَبْرًا وَجَلَدًا نادِرَيْنِ. وَقَلَّما تَنْجُو فَرِيسَةٌ مِنْ بَيْنِ مِخْلَبَيَّ. وَإِنِّي لأَسْتَدْرِجُها، حَتَّى تَقَعَ فِي حِبالَتِي؛ فَأَنْفُثَ فِيها مِنْ مِخْلَبَيَّ السَّمَّ، حَتَّى يُنْهِكَ قُواها، وَلا تَجِد سَبِيلًا إِلَى النَّجاةِ، وَيَكُونَ نَصِيبَها الْهَلاكُ؛ مَهْما بَذَلَتْ مِنْ جُهْدٍ وَمُقاوَمَة. وَإِنِّي لأثِبُ عَلَى الذُّبابةِ فَلا أَكادُ أُخْطِئُها. أَمَّا خُيُوطِي هذِهِ فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ — مُنْذُ أَقْدَمِ العُصُورِ — كَيْفَ يَنْسُجُونَ شِباكَهُمْ وَثِيابَهُمْ عَلَى مِنْوالِها. وَقَدْ حاوَلُوا — مُنْذُ الْقَرْنِ الْماضِي — أَنْ يَنْسُجُوا مِنْ خُيُوطِي ثِيابَهُمْ، فَلَمْ يُوَفَّقُوا إِلَى ذلِكَ. وَلكِنَّ شَغَفَهُمْ بِدِقَّةِ هذا النَّسْجِ وَإِحْكامِهِ قَدْ حَفَزَهُمْ إِلَى تَذْلِيلِ العَقَباتِ فِي سَبِيلِ هذِهِ الغايَةِ. وَما زالوا يُعْمِلُوْنَ الحِيلَةَ، حَتَّى وُفِّقَ الصِّينِيُّونَ — مُنْذُ عَهْدٍ قَرِيبٍ — إِلَى أَخْذِ قِطَعٍ مِنْ نَسِيجِ العَناكِبِ، وَأَرسَلُوها إِلَى «أُورُبَّةَ» لِتُخْلَطَ بالحَرِيرِ، فَتَزِيدَ النَّسْجَ رَوْعَةً وجَمَالًا. وَقَدْ لَقُوا فِي ذلِكَ مِنْ أَلْوانِ العَناءِ ما لا يُوصَفُ.»

(٩) فَخْرُ العَناكِبِ

وَامْتَلَأَتِ العْنكَبَةُ زَهْوًا وَخُيَلاءَ، بِما خَصَّها اللّه بِهِ مِنْ مَزايا نادِرَة، فانْطَلَقَتْ تُغَنِّي نَشِيدَ العَناكِبِ، فِي صَوْتِ واضِحِ النَّبراتِ:

نحَنُ الْعَناكِبَ، أَبناءَ الرُّتَيلاءِ
نَبنيِ الْبُيُوتَ عَلَى الأَشْجارِ وَالمْاءِ
وَفَوْقَ مُرتَفِعٍ، أَو فَوقَ مُنْخَفِضٍ
وَفيِ الْبَساتِينِ، أَو فيِ عُرضِ بَطْحاءِ
وَتَحْتَ أَقْبِيَةٍ، أَو فَوقَ رابِيَةٍ،
وَفيِ شَفا حُفْرَةٍ، أَو فَوقَ عَلْياءِ
وَفي المَنازِلِ: كَم نَبنيِ مَساكِنَنا
تحَتَ السُّقُوف، وَفيِ أَرْكانِ أَفْناءِ
وَرُبمَّا نَحْفِرُ الأَجْحارَ نَسْكُنُها
وَقَدْ نَعِمْنا بها، فِي جَوْفِ ظَلْماءِ
وَقَدْ جَعَلْنا لهَا بابًا يُؤَمِّنُنا
— إذا أَقَمْنَا بِها — مِنْ شَرِّ أَعْداءِ
نَظَلُّ فِيها — نهَارًا — وادِعينَ، فَإنْ
جَنَّ الظَّلامُ، دَرَجْنا بَيْنَ أَحْياءِ
نَسْعى إلى القُوت مَهْما عَزَّ مَطْلَبُهُ
فيِ كُلَّ دانٍ — مِنَ الأَقْطارِ — أَوْ نائِي
وَكَمْ نُهَيْرٍ نَسَجْنا — فَوْقَ صَفْحَتِه
بَيْتًا يُحَيِّرُ أَلْبابَ الأَلِبَّاءِ
بَيْتًا — عَلَى جَنَباتِ المْاءِ — نَرْفَعُه
مِنَ الخُيوطِ، فَيَبْدُو بَهْجَةَ الرَّائِي
يا حُسْنَ هَنْدَسَةٍ، مِنْ ناسِجٍ صَنَعٍ
يَسْمُو عَلَى كلِّ نَسَّاجٍ، وَوَشَّاءِ!
وَكَمْ أَسَرْنا بَعُوضًا — فيِ حِبالَتِنا —
وَكَمْ قَنَصْنا ذُبابًا، بَعْدَ إغْراءِ
تَهْوِي الْفَرائِسُ أَسْرَى — فيِ حَبائِلِنا
مِنْ كُلِّ بَلْهاءَ، تَمْشِي خَبْطَ عَشْواءِ
فَنَنْفُثُ السَّمَّ فِيها مِنْ مخَالِبِنا
فلا ترى — بَعْدَ حِينٍ — غَيْرَ أَشْلاءِ!
وَهَلْ نسَجْتُمْ شِباكَ الصَّيْدِ مِنْ قِدَمٍ
إِلاَّ محُاكِينَ مِنْوالَ الرُّتَيْلاءِ؟!

(١٠) بَيْنَ «صَفاءٍ» و«أُمِّ قشْعَمٍ»

وَقَدْ أُعْجِبَ الْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ الثَّلاثَةُ بِهذا النَّشِيدِ الرَّائِع، وَشَكَرُوا لِلْعَنْكَبَةِ هذِهِ الْفُرْصَةَ السَّعِيدَةَ، وَتِلْكَ الْفَوائِدَ الطَّرِيفَةَ الَّتِي هَيَّأَتْهَا لَهُمْ.

وَهَمُّوا بِالِانْصِرافِ، ولكِنَّ «صَفاء» قال لَهَا، وَهُو يُوَدِّعُها: «لَقَدْ حَدَّثْتِنِي أَنَّ لَكِ إِخْوَةً مِنَ الْعَناكِبِ، فَأَيْنَ هُمْ؟»

فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّ الْعَناكِبَ لا تَكادُ تَكْبَرُ حتَّى تَفْتَرِقَ، ثُمَّ لا يُمَيِّزُ أَحَدٌ مِنَ الْأَشِقَّاءِ أَخاهُ، إِذا رَآَهُ. وَإِنَّ أُمَّ الْعَناكِبِ — إِذا ارْتَحَلَتْ مِنْ بَيْتِها — وَضَعَتْ بَيْضَها فِي كِيسٍ تَنْسُجُهُ مِنْ خُيُوطِها، ثُمَّ تَحمِلُهُ — فِي حَذَرٍ وعِنايَةٍ نادِرَيْنِ — وَتُدافِعُ عَنْهُ دِفاعَ الْمُسْتَمِيتِ. فَإِذا فُقِسَ الْبَيْضُ حَمَلَتْ صِغارَها عَلَى ظَهْرِها؛ حَتَّى إِذا كَبرُوا تَرَكَتْهُم، فَإِذا رَأَتْ واحِدًا مِنْهُمْ — بَعْدَ ذلِكَ — لَمْ تَعُدْ تُمَيِّزُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلا تَتَرَدَّدُ فِي افْتِراسِهِ، إِذا لَقِيَتْهُ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَغذَّى بِهِ! وَلَوْلا ذلِكَ لَزادَ عدَدُنا زِيادَةً عَظِيمَةً!»

فَقالَ لَها «صَفاءٌ»، وَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ مِمَّا سَمِعَ:

قَدْ تَأْكُلُ الْعَنْكَبَةُ الْجُنْدَبا
وَتُهِلكُ الزِّنْبارَ وَالْعَقْرَبا
وَكَمْ بَعُوضٍ — فيِ حِبالاتِها —
راحَ أسِيرًا، يَبْتَغِي مَهْرَبا
فَخَدَّرَتْ — بِالسَّمِّ — أَعْصابَهُ،
وَأَنْشَبَتْ — فيِ جِسْمِهِ — الْمِخْلَبا
وَقَدْ يَصِيدُ الضِّفْدِعُ الْعَنْكَبا،
كَما تَصِيدُ الْبُومَةُ الأَرْنَبا
وَتَأْكُلُ الْقِطَّةُ فَأْرًا، وَلا
تُبْقِي عَلَى فرْخٍ صَغِيرٍ حَبا
وَقَدْ أَلِفْنا كُلَّ هذا، فَلَمْ
نَدْهَشْ لَهُ، مَهْما بَدا مُغْرِبا
لكِنَّ ما حَيَّرَ أَلْبابَنا،
أَنْ تَأْكُلَ الْعَنْكَبَةُ الْعَنْكَبا.

فَأَجابَتْهُ «أُمَّ قَشْعَمٍ»:

إِنْ تَأْكُلِ الْعَنْكَبَةُ الْعَنْكَبا
أَوْ تَأْكُلِ الأُمُّ ابْنَها الأَنْجَبا
أَوْ تَأْكُلِ الآباءُ أبْناءَها
أَوْ تَأْكُلِ الأُخْتُ أَخًا أَوْ أَبا
أَوْ تَأْكُلِ الزَّوْجاتُ أَزْواجَها،
فَلَيْسَ هذا حادِثًا مُغْرِبا
أَما تَرَى الأَسمْاكَ قَدْ شابَهَتْ
— فيِ قَتْلِ ما تُنْجِبُهُ — الْعَنْكَبا؟
تَلْتَهِمُ الْكُبْرَى صَغِيراتِها،
وَيَأْكُلُ الْحُوتُ ابْنَهُ الأَقْرَبا!
وَأَنْتُمُ النَّاسَ — عَلَى رُشْدِكمْ —
صِرْتُمْ لأَمْثالِ الأَذَى مَضْرِبا
لَمْ تَرْحَمُوا طَيْرًا — عَلى غُصْنِهِ —
رَتَّلَ لَحْنًا شائقًا مُعْجِبا
وَلَمْ تُغِيثُوا بائِسًا مُعْدِمًا
وَلم تُقِيلُوا عاثِرًا مُذْنِبا
وَكَمْ أَكلْتُمْ لَحْمَ إِخْوانِكم
مَيْتًا، ولمْ تَرْعَوْهُمُ غُيَّبا
فَلا تَعِيبُونا — بِأَدْوائِكُمْ —
فَقَد غَدا مَنْ عابَنا أَعْيَبا!

(١١) شَناعَةُ الْغِيبَةِ

فَصاحَتْ «سُعادُ»، مَدْهُوشةً: «لَسْتُ أَفهمُ ماذا تَعْنِينَ — يا «أُمَّ قَشْعَمٍ» — بِقَوْلِكِ: «إِنَّ النَّاسَ يَأْكُلُونَ لَحْمَ إِخْوانِهِمْ مَيْتًا»! فإِنَّنِي لَمْ أَرَ، وَلَمْ أَسْمَعْ، فِي حَياتي كُلِّها، أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ، أَوْ صاحِبِهِ، قَطُّ!»

فَضَحِكَ «صَفاءٌ» مِنْ سَذاجَةِ أُخْتِه «سُعادَ»، وَقالَ لَهَا: «إِنَّ «أُمَّ قَشْعَمٍ» لا تَعْنِي أَنَّ النَّاسَ يَأْكُلُون لَحْمَ إِخوانِهِمْ حَقًّا؛ ولكِنَّها تَعْنِي أَنَّهُمْ يَغْتابُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمَنِ اغْتابَ صَاحِبَهُ، فَكأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا.»

فقالَتْ «سُعادُ»: «آهِ! لَقَدْ فَهِمْتُ ما تَعْنِيهِ «أُمُّ قَشْعَمٍ» الْآنَ. وَلَعَلَّها تُشيرُ إِلَى الْآَيةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ

فَقالَ «صَفاءٌ»: «صَدَقْتِ يا «سُعادُ». فَإِنَّ «أُمَّ قَشْعَم» لَمْ تَعْنِ إِلَّا ما فَهِمْتِهِ تَمَامًا. وَلَوْ أَمْعَنْتِ الْفِكْرَ — يا أُخْتِي — لَرَأَيْتِ أَنَّ مَنْ يَغْتابُ صاحِبَهُ، يُخَيَّلُ إِلَى مَنْ يَراهَ أَنَّهُ يَنْهَشُ لَحْمَهُ، وَلَيْسَ أَصْدَقَ مِنْ هذا التَّمْثِيلِ، وَلا أَدَقَّ مِنْ هذا التَّشْبِيهِ!»

(١٢) وَداعُ «أُمِّ قَشْعَمٍ»

فَقالَ «رَشاد»: «لَقَدْ تَأَخَّرْنا عَنْ مَوعِد الْعَوْدَةِ إِلَى دارِنا. وَإِنِّي لَأَخْشى أَن يَقْلَقَ أَبَوانا عَلَيْنا وَيَنْزَعِجا، إِذا لم نَعُدْ إِليْهِما تَوًّا.»

فَقالَتْ «سُعادُ»: «صَدَقْتَ يا أَخِي، فَقَدْ شَغَلَنا حِوارُ «أُمِّ قَشْعَمٍ» الْمُمْتِعُ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَيْتِ.»

فَاسْتَأْذَنَ «صَفاء» صاحِبَتَه الْعَنْكَبَةَ فِي الذَّهابِ، وَوَعَدَها بِالعَوْدَةِ إِلَيْها — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — لِلاسْتِزَادَةِ مِنْ حدِيثِها الشَّهِيِّ فَوَدَّعَتْهُ، شاكِرَةً لَهُ حُسْنَ تَلَطُّفِهِ، وَمَوْفُورَ أَدَبِهِ.

فَأَنْشَدَها «صَفاءٌ» الْأَبْياتَ التَّالِيَةَ:

سَلِمتِ يا «أُمَّ قَشْعَمْ»
فَإِنَّ قُرْبَكِ مَغْنَم
أمْتَعْتِنا بِحَدِيثٍ،
مِنَ الطَّرائِفِ مُلْهَمْ
وَأَنْتِ خَيْرُ سَمِيرٍ،
وَمُؤْنِسٍ ومُكَلِّمْ
وَأَنْتِ خَيْرُ حَكِيمٍ،
وَأَنْتِ خَيْرُ مُعَلِّمْ
وَلَسْتُ أَنْساكِ يَوْمًا
ما عِشْتُ يا أُمَّ قَشْعَمْ.

(١٣) بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ

وَلَمَّا عادَ الْأَشِقَّاءُ الثَّلاثةُ وَجَدُوا أَبَوَيْهِمْ يَنْتَظِرانِهِمْ بِفَارِغِ الصَّبْرِ.

وَما كادَ أَبَواهُمْ يَسْأَلانِهمْ عَنِ السَّبَبِ فِي تأَخُّرِهِمْ عَنْ مَوْعِدِ الْحُضُورِ، حَتَّى أَفْضَوْا إِليْهِما بِكُلِّ ما دارَ بَيْنهُمْ وبَيْنَ «أُمِّ قَشْعَمٍ» مِنْ أَحادِيثَ طَرِيفَةٍ، فابْتَهَجَ «أَبُو صَفاءٍ» بِما سَمِعَ مِن بَنِيهِ، وَأَمَرَ «صَفاءً» أَنْ يُحْضِرَ كِتابًا بِعَيْنِه، فَوْقَ مَكْتَبِهِ.

فَلَمَّا أَحْضَرَهُ «صَفاءٌ» رَغِبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الصَّفحَةِ الثَّالِثةِ بَعْدَ المِائَةِ، مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي، مِنَ الْكِتابِ.

فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَيُّ كِتابٍ هذا يا صَفاءُ؟»

فَأَجابَها أَبُوها: «إِنَّهُ كِتابٌ نَفِيِسٌ، اسْمُهُ «دُرُوسُ التَّأَمُّلِ فِي مَشاهِدِ الطَّبِيعَةِ»، وَأَنا أُوصِيكُمْ بِقِراءَتِهِ وَدَرْسِهِ.»

فانْطَلَقَ «صَفاءٌ» يَقرَأُ ذلِكَ الْفَصْلَ الرَّائِعَ — وَعُنْوانُهُ: «بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ» — بِصَوْتٍ واضِحٍ، جَلِيِّ النَّبَراتِ: «تَنْسُجُ العَنْكَبُوتُ — كَعَنْكَبُوتِ الْحَدِيقَةِ — بَيْتَها فِي ثَنايا الْأَحْجارِ، وَبَيْنَ الْأَوْراقِ وَالْأَغْصانِ، أَوْ فِي زَوايا الْجُدْرانِ الْقَدِيمَةِ أَوِ الْمَهْجُورَةِ، أَوِ الْأَماكنِ الْقَذِرَةِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَجْمَلُ الْأَنْسِجَةِ الَّتِي يَنْسُجُها حَيَوانٌ. وَتَبْتَدِئُ فِي عَمَلِ بَيْتِها بِمَدِّ الْخُيُوطِ القَوِيَّةِ الرَّئِيسَةِ الْأَساسِيَّةِ أَوَّلًا. ثُمَّ تُتْبِعُها بِخُيُوطٍ شُعَاعِيَّةٍ، مِنْ نُقطَةٍ إِلَى أُخْرَى، خِلالَ الْمَسافاتِ الْمُتَّسِعَةِ، بِحَيْثُ تَتَقابَلُ كُلُّها فِي الْمَرْكَزِ. ثُمَّ تَمُرُّ بِخَيْطٍ لَطيفٍ، مُبْتَدِئَةً مِنَ الْمَرْكَزِ، مارَّةً بِتِلْكَ الْخُيُوطِ بِشَكْلٍ لَوْلَبِيٍّ. وَلا تَقْتَصِرُ عَلَى تَقاطُعِ الْخُيُوطِ الشُّعاعِيَّةِ مَعَ الْخَيْطِ اللَّوْلَبِيِّ، بَلْ تَجْتَهِدُ فِي تَثْبِيتِها مَعًا، بِنُقَطٍ صَمْغِيَّةٍ مِنَ السَّائِل الَّذِي تُفْرِزُهُ. وَبَعْدَ تَمَامِ الْبَيْتِ تَقْطَعُ مَرْكَزَهُ، وتَرْبِطُهُ بمِخْلَبِها، بِخَيْط طَوِيل، تَسْتَخْدِمُهُ كَأَسْلاكِ الْبَرْقِ. وَلَهَا مَهارَةٌ فائِقَةٌ فِي تَرْتِيبِ خُيُوطِها، واسْتِخْدامِها فِي الْمَسافاتِ الْبَعِيدَةِ الْواسِعَةِ. فَإِنَّهَا تَغْزِلُ خَيْطًا طَوِيلًا وَتُدَلِّيهِ، حَيثُ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ إِلَى الْغُصْنِ الْآخَرِ، أَوِ الْجِدارِ، مَثَلًا؛ فيَعْلَقُ بِهِ.

وَتُتَمِّمُ بِناءَ بَيْتِها فِي نَحْوِ ساعَةٍ زَمَنِيَّةٍ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَيْهِ لِتَرْقُبَ — عَنْ كَثَبٍ — كُلَّ حَشَرَةٍ تَطِنُّ بِالقُرْبِ مِنْهُ.

وَما أَسْرَعَ ما يُوجَدُ الاِضْطِرابُ وَالْهَيَجانُ فِي بَيْتها. وَإِذا بِالفَرِيسَة الْمُغَفَّلةِ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ، ثُمَّ هِيَ تُريدُ أَنْ تُحَاولَ الْخَلاصَ مِنْهُ، فَلا يُجْدِيها عَمَلُها!
وَالْعَنْكَبُوتُ سَرِيعةٌ جِدًّا، لِأَنَّهَا سُرْعانَ ما تَهجُمُ عَلَى الْفَرِيسَةِ، وَتَرْمِي بِنَفْسِها، قابِضَةً عَلَيْها، فَتُنْشِبُ مَخالِبَها الْقاسِيَةَ، الَّتِي هِيَ مَحاقِنُ سامَّةٌ؛ ثُمَّ تَلُفُّها فِي خُيُوطٍ أُخْرَى، وَتُوثِقُها وَثاقًا تامًّا، فَتُصْبِحُ مَشْدُودَة الْأَطْرافِ، مُهَشَّمَةَ الْجِسْمِ، مَعْضُوضَةً، مَسْمُومَةً، وَحِينئذٍ تَجُرُّها إِلَى عَرِينِها، عَلامَةً عَلَى انْتِصارِها، فَإِمَّا أَنْ تَبْتَلِعَها مِنْ فَوْرِها، وَإِما أَنْ تَتْرُكَها مُكَبَّلةً فِي أَغْلالِها الْحَرِيرِيةِ، ذُخْرًا لِمأْدُبَةٍ أُخْرَى.»

(١٤) قِصَّةُ الْعَنْكَبِ الْحَزِيِنِ

وَلَمَّا انْتَهَى «صَفاءٌ» مِنْ قِراءَةِ هذا الْفَصْلِ الْمُمْتِع أُعْجِبَ أَخَواهُ بِدقَّةِ ما يَحْوِيهِ مِنْ بَراعَةِ الْوَصْفِ، وَحُسْنِ الْأَداء.

فَقالَ «أَبُو صَفاءٍ»: «لَقَد ذَكَرْتُ قِصَّةً فُكاهِيَّةً، قَرَأْتُها — مُنْذُ أَعْوامٍ — فِي كِتابٍ عِلْمِيٍّ، جَليلِ الْقَدْرِ، عُنْوانُهُ: «فُصُولٌ فِي التَّارِيخ الطَّبيعيِّ»، وَلَمْ أَنْسَ رَوْعَةَ هذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَعَلِّي قَدْ أَحْضَرْتُ مَعِي هذا السِّفْرَ النَّفِيسَ — فِي جُمْلَةِ ما أَحْضَرْتُهُ مِنَ الْكُتُبِ قُبَيْلَ سَفَرِي — فَما أَحْسَبُنِي نَسِيتُهُ.»

ثُمَّ أَسْرَعَ «أَبُو صَفاءٍ» إِلَى مَكْتبَتِهِ الْحَافِلَةِ، وَأَلْقَى عَلَيْها نَظرةً واحِدَةً: فَرَأَى الْكِتابَ فِي مَكانِهِ مِنَ الْكُتُبِ العِلْميَّةِ. وَما إِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، حَتَّى أَبْصَرَ وَرَقَّةً بَيْضاءَ فِي ثَنايا صَحائِفِه، وَكانَ قَدْ وَضَعَها أَمامَ الصّفْحَةِ الْأُولَى بَعْد السِّتِّينَ وَالْمِائَتَيْنِ، لتُذَكِّرهُ بمَوْضِع الْقِصَّةِ المُعْجِبَةِ: «قِصَّةِ الْعُكَّاشِ» — ذلِكَ الْعَنْكَبِ الْحَزِينِ — مِنَ الْكتابِ.

فالْتفَتَ «أَبُو صَفاءٍ» إِلَى بَنِيهِ قائلًا: «لَقَدْ قَرَأْتُ قِصَّةَ «أَبِي خَيْثَمَةَ» أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، فَلَمْ تَبْلَ جِدَّتُها، ولَمْ تَخْلُقْ بَهْجَتُها وَسِحْرُها، وَأَنا أُوصِيكُمْ — أَيُّها النُّجَباءُ — أَنْ تُنْعِمُوا النَّظَرَ فِي دَقائِقِها، بَعْدَ أَنْ يَتْلُوَها عَلَيْنا صَفاءٌ.»

فَأَخَذَ «صَفاءٌ» الكِتابَ — بِيَمِينهِ — وَقَرَأَ عَلَى إِخْوَتِهِ ما يَأْتِي:

(١٥) حَقِيقَةٌ فِي فُكاهَةٍ

«دَخَلْتُ غابَةً باسِقَةَ الْأَشْجارِ، يَجرِي فِيها نَهْرٌ مُتَعَرِّجٌ. فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَيْهِ شاهَدْتُ عَلَى إِحْدَى ضِفَّتَيْهِ عَنْكَبًا، أَسْمَرَ الَّلوْنِ، جالِسًا عَلَى حَجَرٍ، يُنَظِّفُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ، كَما يَفْعَلُ الذُّبابُ. وَهُوَ نَحِيفٌ، خائِرُ القُوَى. فَرَأَيْتُ أَنَّ أَفْضَلَ ما أَفْتَتِحُ بِهِ الْحَدِيثَ مَعَهُ، السُّؤَالُ عَنْ صِحَّتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: «أَراكَ مُنْحَرِفَ الْمِزَاجِ، فَما يُؤْلِمُكَ؟»

فَقالَ: «إِنِّي مَرِيضٌ، وَخائِفٌ، وَقَلِقٌ.»

فَقُلْتُ: «ما الْخَبَرُ؟ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبالِي قَطُّ أَنَّ عَنْكَبًا مِثْلَكَ يَمْرَضُ وَيَخَافُ، وَقَدْ خُصِصْتَ بِقُوَّةٍ لَمْ يُخَصَّ بِها سِواكَ!»

فَقالَ الْعَنْكَبُ: «وَهذِهِ إِحْدَى الْبَلِيَّتَيْنِ؛ فإِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ، وَيَسْتَنْتِجُونَ النَّتائِجَ، مِنْ مُقَدِّماتٍ فاسِدَةٍ لا تُنْتِجُ شَيْئًا. وَلِذلِكَ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ قِصَّتِي تَفْتَحُ عَيْنَيْكَ، فَتَرَى الْأُمُورَ عَلَى حَقِيقَتها. أَتَعْلَمُ أَنَّنا — مَعْشَرَ الْعَناكِبِ — مِنْ أَكْثَرِ الْمخْلُوقاتِ اجْتِهادًا، وَأَوْسَعِهِمْ حِيلَةً؟ فَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ طارَ فِي الْهَواءِ بِغَيْرِ جَناحٍ. نَعَمْ، إِنَّ الْخَفافِيشَ تَطِيرُ، وَلا جَناحَ لَهَا. وَلكِنَّ بَيْنَ قوائِمها وَظَهْرِها أَغْشِيَةً. وَمَعَ حِرْمانِنا تِلْكَ الأَغْشِيَةَ تَمَكَّنَّا مِنْ رُكُوب الْهَواءِ، وَلَمْ يُشارِكْنا فِي ذلِكَ إِلَّا الْإِنْسانُ. لكِنَّا سَبَقْناهُ بقُرُونٍ كَثِيرَةٍ. قُلْ لِي: مَتَى اسْتَطاعَ قَوْمُكَ الطَّيَرانَ؟»

فَقُلْتُ: «فِي الْعَامِ السَّابعِ بَعْدَ التِّسْعِمائَةِ والْأَلْفِ.»

فَقالَ: «هكَذا ظَنَنْتُ. أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ رَكِبْنا الْهَواءَ، قَبْلَ عَصْرِ الْعُمْرانِ! وَإِلَيْكَ شَرْحَ قِصَّتِي:

حَدَثَ — مُنْذُ سَنَتَيْن — أَنَّ أُمِّي كانَتْ جالِسَةً فِي عُقْر بَيْتِها، فَأَتاها الطَّلْقُ، وَجَعَلَتْ تَبِيضُ بَيْضَها، واحِدةً بَعْدَ الْأُخْرَى، وَظَلَّتْ تَبِيض إِلَى أَنْ بَلَغَ عَدَدُ ما باضَتْهُ — فِي ذلِكَ الْيَوْمِ — ثَلثَمِائَةِ بَيْضَةٍ. وَخافَتْ أَنْ تَتَفَرَّقَ الْبُيُوضُ، فَلا يَعُودَ لَهَا سَبِيلٌ إِلَيْها؛ فَجَعَلَتْ تَغْزِلُ الْخُيُوطَ مِنْ مَغازِلِها: وَهِيَ سِتُّ أَنابِيبَ فِي ذَنَبِها، تُفْرِزُ الْخُيُوطَ الْحَرِيرِيَّةَ الدَّقِيقَةَ، الَّتِي تُسَمُّونَهَا: نَسِيجَ الْعَنْكَبُوتِ، وتَضْرِبُونَ بِها الْمَثَلَ فِي الوَهَنِ لِدِقَّتِها. وَهيَ — لَوْ جُمِعَ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ — لَصَارَتْ أَمْتَنَ مِنْ أَسْلاكِ الْحَدِيدِ! فَأَفْرَزَتْ كَثِيرًا مِنْ هذِهِ الْخُيُوطِ، وَلَفَّتْ بَيْضَها بِها، وكَرَّرتْ لَفَّهُ، حَتَّى صارَتِ الْبُيُوضُ كُلَّها كُرَةً كَبِيرَةً تُحِيطُ بِها خُيُوطٌ صُفْرٌ، كَالزَّغَبِ الْواهِي، أَوْ كَرِيشِ النَّعامِ. وَلَمَّا تَمَّ لَهَا ذلِكَ، حَمَلَتْ هذِهِ الْكُرَةَ بَيْنَ فَكَّيْها، وَخَرَجتْ مِنْ بَيْتِها قاصِدَةً أَنْ تَصْعَدَ بِها إِلَى مَكانٍ عالٍ، لا يَصِلُ إِلَيْهِ ماءُ النَّهْرِ إِذا فاضَ فِى الشِّتاءِ. وَبَعْدَ تَعَبٍ كَبِيرٍ، وَجَهْدٍ عَنِيفٍ، وَصَلَتْ إِلَى الْمَكانِ الْعالي، وَوضَعَتْ بُيُوضَها فِي ثَقْبٍ غائِرٍ بَيْنَ الصُّخُورِ، ثُمَّ عادَتْ إِلَى بَيْتِها عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ.

وَلَوْ رَآنا — أَنا وَأَخَواتِي — أَحَدٌ فِي ذلِك الْيَوْمِ، وَالْأَيَّامِ التَّالِيَةِ، لظَنَّنا بُزُورًا دَقِيقَةً، اجْتَمَع عَلَيْها زَغَبُ الْحَرِيرِ. وَمَعَ ذلِكَ لَمْ يَرْتَحْ بالُنا دَقِيقَةً مِنَ الْخَطَرِ؛ فَفِي ذاتِ يَوْمٍ زارَنا طائِرٌ: قَبِيحُ المَخْبَر، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحَ الْمَنْظَر، مُبَرْقَشٌ بالزُّرْقَةِ وَالصُّفْرَةِ، لِكَيْ يُخْفِيَ شَراسَةَ أَخْلاقِهِ. وَجَعَلَ يُفَتِّشُ بَيْنَ الشُّقُوقِ وَالنَّخارِيبِ، وَيَسْتَخْرِجُ الدِّيدانَ والْحَشَراتِ مِنْها، ويَأْكُلُها. وَلِحُسْنِ حَظِّنا، كانَتْ أُمُّنا قَدْ أَخْفَتْنا فِي نُقْرَةٍ عَمِيقةٍ؛ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْنا. وَمَرَّ بِنا فَصْلُ الشِّتاءِ وَنَحْنُ بَيْضٌ، ثمَّ خَرَجْنا مِنْ بُيُوضِنا، فِي الرَّبِيعِ، وَلَمْ نَخْرُجْ مِنْها دِيدانًا، بَلْ خَرَجْنا عَناكِبَ دَفْعَةً واحِدَةً. وَهذا أَمْرٌ يَسْتَرْعِي الِانْتِباهَ؛ فَإِنَّ الْفَراشَ وَالنَّحْلَ، وَالْخَنافِسَ، تَخْرُجُ كلُّها دِيدانًا صَغِيرةً، ثُمَّ تَمُرُّ بِأَطْوارٍ مُخْتَلِفَةٍ، حَتَّى تَبْلُغَ دَرَجَةَ كَمالِ النُّمُوِّ. أَمَّا نَحْنُ فَمُمْتازُونَ عَلَيْها كُلِّها: لِأَنَّنا نَخْرُجُ مِنَ الْبَيْضِ عَناكِبَ كامِلةً، كَما يَخْرُجُ أَصْدِقاؤُنا الْجَنادِبُ. خَرَجْنا مِنْ بُيُوضِنا، وَلكِنَّنا كُنَّا صِغارًا كَرُءُوسِ الدَّبابِيس. ولَمَّا خرجْنا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَرَى الْأَشْياءَ واضِحَةً، لِأَنَّنا كُنَّا مُحاطاتٍ بِأَغْشِيَةٍ دَقِيقَةٍ، صِيانَةً لَنا كَما تُصانُ اللَّآلِئُ فِي أَصْدافِها!

وَلَقَدْ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ مَزَّقَ كِيسَهُ، وَخَرَجَ منْهُ. فَلَمَّا انْجَلَتْ عَيْنايَ ذَهَلْتُ عَنْ نَفْسِي، بِما رَأَيْتُهُ حَوْلِي مِن اتِّساعِ الوادي الَّذِي وُجِدْتُ فِيهِ، وَكِبَرِ كُلِّ ما حَوْلِي بالنِّسْبَةِ إِلَيَّ؛ فَكُنْتُ أَرَى النَّبْتَةَ الصَّغِيرَةَ فَأَحْسَبُها شَجَرَةً كَبِيرَةً. لكنَّنِي سُرْعانَ ما شُغِلتُ عَنْ ذلِكَ، بِما رَأَيْتُهُ حَوْلِي مِنْ كَثْرَةِ أَخَواتِي اللَّواتِي خَرَجْنَ مِنْ بُيُوضِهنَّ مِثْلِي. وَبَيْنا أَنا أَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ سَمِعْتُ صَوْتًا يُخاطِبُنا، بِلهْجَةِ الْآمرِ النَّاهِي؛ فالتَفَتُّ، وَإِذا المُتَكَلِّمُ: عَنْكَبَةٌ كبيرَةٌ جالِسَةٌ فِي بابِ بَيتِها، وَهِيَ أَمامَنا فَأَصْغَيْنا إِلَيها؛ فَقَصَّتْ عَلَينا خَبَرَ ما أَصابَها مِنَ الْعَناءِ بِسَبَبِنا. أَمَّا أَنا فَلَم يُذْهِلْنِي خَبَرُها، قَدرَ ما أَذْهَلنِي شَيءٌ رأَيتُهُ تَحْتَها، كَأَنَّهُ عَنْكَبٌ مَيِّتٌ.

فَلَمَّا أَتَمَّتْ حَدِيثَها، قُلْتُ لَهَا: «ما هذا الَّذِي أَراهُ تَحْتَ أَقْدامِكِ يا أُمَّاهُ؟»

فَقالَتْ: «هذا أَبُوكَ يا وَلَدِي!»

فَقُلْتُ: «إِنَّنِي أَراهُ مَيِّتًا، لا حَراكَ بِهِ!»

فَتَبسَّمَتْ، وَقالَتْ: «نَعَمْ، هُوَ مَيِّتٌ. فَقَدِ انْقَضَتْ أَيَّامُ السُّرُورِ، وَلَمْ يَعُدْ لِي بهِ أَرَبٌ؛ فقَتَلْتُهُ، وَمَصَصْتُ دَمَه وَلَمْ يَبْقَ منْهُ إِلَّا جِلْدُهُ، وَسَأَجْعَلُهُ فِراشًا لِي، وَهُوَ فِراشٌ وَثِيرٌ فِي لَيْلَةٍ نَدِيَّةٍ مِثْلِ هذِهِ!»

فَقُلْتُ لَهَا: «هَلْ أَتَزَوَّجُ متَى كَبِرْتُ، وَآكُلُ زَوْجي؟»

فقالَتْ: «لا. لِأَنَّكَ أَنْتَ ذَكَرٌ يا وَلَدِي وَستأْكُلُكَ زَوْجَتُكَ، كَما أَكَلْتُ أَنا أَباكَ وَلا تَدْنُ منِّي الْآنَ؛ لِأَنِّي أَحْيانًا آكُلُ أَوْلادي أَيْضًا.»

•••

هذا أَوَّلُ نَبإٍ سَمِعْتُهُ فِي حَياتي، فَما أَتْعَسَ هذهِ الْحَياةَ! هَلْ تَتَصَوَّرُ حياةً أَتْعَسَ مِنْها؟»

فقلتُ لهُ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُ أَنَّهُ عَنْكَبٌ لا عَنْكَبَةٌ: «الْآنَ عَرَفْتُ: لماذا أَنْتَ خائِفٌ، كاسِفُ الْبالِ!»

فَقالَ: «أَلا تُرِيدُ أَنْ تَسْمَعَ تَتِمَّةَ قِصَّتِي؟»

فَقُلْتُ: «بَلَى: هاتِ ما عِنْدَكَ.»

فَقالَ: «حِينَما أَنْبَأَتْنا أُمي أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْلادَها أَطْلَقْتُ أَرْجُلِي لِلرِّيحِ، وَهَرَبْتُ مِنْ وَجْهِها نازِلًا نَحْوَ النَّهْرِ، حَتَّى وَصَلْتُ إِلى مائِهِ، فوَجَدْتُ أَنَّنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ، كَما أَمْشِي عَلَى الْيابِسَةِ، فَسُرِرْتُ بِذلِكَ جِدًّا.»

فقُلْتُ له: «هذا أَمْرٌ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُه.»

فَقالَ: «إِنَّك لا تَعْلَمُ مِقْدارَ ما نَسْتَطِيعُهُ، إِذا اضْطُرِرْنا إِلَيْهِ. نَعَمْ، لَيْسَ كُلُّ الْعَناكِبِ يَسْتطِيعُ ذلِكَ، وَلكِنَّ بعْضَها يَسْتَطِيعُهُ، وَأَنا مِنْهُم. وَمِنْ أَنْسِبائِنا نَوْعٌ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ، وَيَسْكُنُ فِي فُقَّاعَةٍ منَ الْهَواءِ، وَنَوعٌ يَثِبُ عَلَى الْأَرْضِ، مِثْلَ الْقنْغَرِ. ولا غَرابَةَ فِي مَشْيِنا عَلَى الْماءِ، فَإِنَّ بَيْنَنا وَبَيْنَ السَّرَاطينِ نَسَبًا وَإِنْ كانَ بَعِيدًا.»

فَقُلْتُ لَهُ: «أَصَبْتَ، فَإِنَّكَ تُشْبِهُ السَّرَطانَ فِي شَكلِكَ.»

فَقالَ: «نَعَمْ، وَلكِنَّ السَّرَطانَ لا يَكْتَفي بثمانِي أَرْجُلٍ مثلنا، بَلْ لَهُ عَشْرُ أَرْجلٍ. ولماذا تَقْطَعُ عَلَيَّ الْحَديثَ؟ دَعْنِي أُتَمِّمْ قِصَّتِي: لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّنِي أَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْماءِ بادَرْتُ إِلَى أَقْرَبِ قَصبَةٍ، وَأَخَذْتُ أَنْسُجُ بَيْتًا لِنفْسِي، لِكَيْ أَجْعَلَهُ مَصْيَدَةً لِلذُّبابِ. وَقَبْلَ أَنْ أُتِمَّهُ مَشَيْتُ عَلَى قَصَبَةٍ، فَوَجَدْتُ عَلَيْها حَشَرَاتٍ صَغِيرَةً، خُضْرًا، خالِيَةً مِنَ الْأَجْنِحِة، فَقَبَضْتُ عَلَى واحِدَةٍ مِنْها، وَالْتَهَمْتُها، فاسْتَطْعَمْتُها. فَجَعَلْتُ أَلْتَهِمُ الْواحِدَةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، حَتَّى انْتفَخَتْ بَطْنِي، وَشَعَرْتُ كَأَنَّهُ كادَ يَنْشَقُّ.»

فَقُلْتُ لَهُ: «كَيْفَ كُنْتَ تَلْتَهِمُها؟ أَكنْتَ تَبلَعُها بَلْعًا؟»

فَقالَ: «كلَّا! بلْ كُنْتُ أَشُقُّ ظَهْرَها مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْها، وأَمْتَصُّ دَمَها، فَلا أُبْقِي فِي جِسْمِها شَيْئًا غَيْرَ جِلْدِها. وَلَمَّا شَبِعَتُ عُدْتُ إِلَى بِناءِ بَيْتِي، فَأَتْمَمْتُهُ. وَجَلَسْتُ أَتَرَقَّب وُقُوعَ الذُّبابِ، فَوَقَعَ فِيهِ ذُبابٌ كَثِيرٌ. فَأَكَلْتُ وَسَمِنْتُ جدًّا، حَتَّى كُنْتُ أَضْطَرُّ إِلَى أَنْ أَخْلَعَ جِلْدِي مِرارًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسَعُنِي. وَكَثِيرًا ما كانَتْ تَنْقَطِعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ منِّي، وَقْتَ خَلْعِهِ.»

فَقُلْتُ: «كَيْفَ ذلِكَ؟ أَوَ لَمْ يَكُنْ قَطْعُها مُؤْلِمًا؟»

فَقالَ: «بَلَى، كُنْتُ أَتَأَلَّمُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّنا — نَحْنُ الْعَناكِبَ — لا نتَأَلَّمُ مِثْلَكُمْ، وَلا مِثْلَ الدِّيدان؛ فَإِذا انْقطَعَتْ رِجْلٌ مِنْ أَرْجُلِنا نَبَتَتْ لَنا رِجْلٌ أُخْرَى بَدَلًا مِنْها … وَقَدْ قُطِعَتِ اثْنَتانِ مِنْ أَرْجُلِي، فَنَبَتَ لِي غَيْرُهُما. وَلا داعِيَ لِلْإِطالَةِ فِي تارِيخِ حَياتِي عِنْدَ ذلِكَ النَّهْرِ؛ فَأَدَعُهُ، وَأَقُصُّ عَلَيْكَ قِصَّةً غيَّرَتْ مَجْرَى أُمُورِي: كُنْتُ — ذاتَ يَوْمٍ — جالِسًا فِي بَيْتِي، أَتَرَدَّدُ عَلَى بابهِ، داخِلًا خارِجًا، لَعَلِّي أَلْفِتُ إِلَيَّ ذُبابَةً كَبِيرَةً كانَتْ واقِفَةً عَلَى قَصَبَةٍ أَمامِي. وَبَيْنا أَنَا أَنْظُرُ إِليْها، وَأَتَأَمَّلُ جَناحَيْها: إِذا بِالْجَناحَيْنِ سَقَطا عَنْ بَدَنِها بَغْتَةً. وَإِذا بتِلْكَ الذُّبابَةِ قَدْ صارَتْ — بَعْدَ وُقُوعِ جَناحَيْها — نَمْلَةً كَبِيرَةً، كأَقْبَحِ ما يَكُونُ النَّمْلُ.»

فَقُلْتُ له: «أَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَلِكاتِ النَّمْلِ، يَرْمِيَن أَجْنِحَتَهُنَّ بَعْدَ زَواجِهِنَّ؟»

فَقالَ: «كَلَّا، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ذلكَ. فَوَقَفْتُ مَدْهُوشًا. وَقبْلَ أَنْ أُفِيقَ مِنْ دَهْشَتِي، جَعَلَتِ النَّمْلَةُ تُناجِي نَفْسَها، وَتَقُولُ: «هَلا، هَلا. لَقَدْ كانَ الْواجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَعْرِفَ أَنَّ جَناحَيَّ يَسْقُطانِ الْيَوْمَ، فَلا أَبْقَى هُنا فَوْق الْماءِ. وَلَوْلا هذا الْقَصَبُ الَّذِي يُوصِلُنِي إِلَى الْبَرِّ، لَقُضِيَ عَلَيَّ. ما هذا الَّذِي أَمامِي؟ هذا عَنْكَبٌ، إِذَنْ آخُذَهُ إِلَى قَرْيَتِي وَآَكُلَهُ عَلَى مَهَلٍ!»

وَأَنْتَ تَعْلَمُ ما حاقَ بي حِينَئِذٍ. فَرَمَيْتُ بِنَفْسِي مِنْ بَيْتِي إِلَى الْماءِ، وَأَخَذْتُ أَسْبحُ جُهْدِي؛ وَلَمْ أَبْعُدْ إِلَّا خُطًى قَلِيلَةً، حَتَّى رَأَيْتُ حَرَكةً عَنِيفَةً فِي الْماءِ، فَالْتَفَتُّ، وَإِذا بِخُنْفَسَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ خَنافِسِ الْماءِ، وَقَدْ رَفَعَتْ زُبانَيَيْها، وَجَدَّتْ فِي أَثَرِي سِباحةً. وَنَظَرْتُ أَمامِي أُرِيدُ الْهَرَبَ، وَإِذا بِي أَرَى دُوْدَةً كَبِيرَةً مِنْ الدُّودِ الَّذي يَتَكوَّنُ مِنْهُ زُنْبُورُ التِّنِّينِ، وَعَيْناها كَمِصْباحَيْنِ مُتَّقِدَيْنِ، سَدَّتْ فِي وَجْهِي مَسالِكَ الْماءِ والْيابِسَةِ. وَلَمْ يَبْقَ أَمامي إِلَّا الْهَواءُ، فَوَثَبْتُ إِلَى وَرَقة مِنْ وَرَق زَنْبَقِ الْماءِ. وَلَجَأْتُ إِلَى سَلِيقَةِ أَسْلافِي، وَأَفْرَزْتُ مِنْ مَغازِلِي السِّتَّةِ — الَّتِي فِي ذَنَبِي — سِتَّةَ خُيُوطٍ حَرِيرِيَّةٍ دَقِيقةٍ، فَاتَّحَدتْ مَعًا، وَطارَتْ فِي الْهَواءِ: خَيْطًا واحِدًا، بَرَّاقًا كَالْبِلَّوْرِ؛ فَتَشَبَّثْتُ بِهِ، وَطِرْتُ فِي مَجارِي الرِّياحِ الَّتِي كانَتْ تُمَدِّدُها حَرارَةُ الشَّمْس، وَتُرْسِلُ بِها صُعُدًا. ثُمَّ عَبَثَ بِيَ النَّسِيمُ، فَحَمَلَنِي إِلَى حَرَجَةٍ (أَشْجارٍ مُجْتَمِعَة) مِنَ الصَّنَوْبَرِ، وَسارَ بِي فَوْقَها، وَفَوْقَ السُّهُولِ الْمُجاوِرَةِ لَهَا. وَقد رأَيْتُ فِي طَرِيقِي كَثِيراتٍ مِنْ أَخَواتِي، راكِباتٍ مَناطِيدَها، وَهِيَ سائِراتٌ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّماءِ. وَلكِنِّي رَأَيْتُ طُيُورًا صَغِيرةً مِنَ النَّوْعِ المَعْرُوفِ بِالْخُطَّافِ، تَنْقَضُّ عَلَيْها وَتَخْطَفُها. فَقُلْتُ: «وَيْلَاهُ! حَتَّى فِي الْهَواءِ لا نَسْلَمُ مِنَ الْأَعْداءِ؟ وَمَنْ أَرادَ السَّلامَةَ لَمْ يَجِدْها، وَلَوِ اتَّخَذَ لَهُ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّماءِ.» فَأَطَلْتُ خَيْطِي، وَجَعَلْتُ أَهْبِطُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ وَقَعْتُ عَلَى بَعْض الْهَشِيمِ. وَلَمْ أَكَدْ أَصِلُ إِلَيْهِ، حَتَّى رَأَيْتُ زِنْبارًا — كالتِّنِّينِ — وَاقِفًا فِي انْتِظارِي. وَنَحْنُ الْعَناكِبَ لا نَخَافُ مِنَ الزَّنابِيرِ، إِذا كُنَّا فِي بُيُوتِنا، بَلْ نَحْتالُ عَلَيْها، وَنَنسُجُ حَوْلَهَا خُيُوطَنا، حَتَّى نَمْنَعَها مِنَ الْحَرَكَةِ. ثُمَّ نَمُصُّ دَمَها — وَهِيَ كَبيرةٌ، كَثِيرَةُ الْغِذاءِ — فَنَقْتاتُ بِها أَيَّامًا. وَأَمَّا إِذا رَأَتْنا خارِجَ بُيُوتِنا فإِنَّهَا تنتقِمُ مِنا. فيَهجُمُ الزِّنْبَارُ عَلَى الْعَنْكَبَةِ، وَيَقْبِض عَلَيها بِفَكَّيهِ، وَيَحمِلُها إِلَى بَيتِهِ وَيأْكُلُها دَفْعَةً واحِدَةً.

وَلَمْ تَخُنِّي الْحِيلَةُ، فَقَطَعْتُ خَيْطِي، وَارْتَمَيْتُ فِي الْهَشِيم كَقِطْعَةٍ مِنَ الْحَجَرِ. فَوَصَلْتُ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَقَدْ شَلَّ الْخَوْفُ أَعْصابِي.

وَأَبْرَقَتِ السَّماءُ وَأَرْعَدَتْ — فِي تِلْكَ الَّليْلَةِ — وَسَقَطَ بَرَدٌ كَثِيرٌ. وَقُمْتُ — فِي الصَّباحِ: وَإِذَا الرِّيحُ تَهُبُّ بارِدَةً، وَالسَّماءُ مُغَطَّاةٌ بِالسُّحُبِ. فَصَغُرَتْ نَفْسِي فِي عَيْنَيَّ، وَشَعَرْتُ بِوَحْدَةٍ وَوَحْشَةٍ. فَصَعِدْتُ إِلَى رَأْسِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيها، وأُفْرَزْتُ الْخُيُوطَ مِن مَغازِلِي، وَصَعِدتُ بِها إِلَى الْجَوِّ، فَساقَتْنِي الرِّياحُ، وَرَمَتْنِي عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، فِي الْمَكانِ الَّذِي قَضَيْتُ فِيهِ زَهْرَةَ صِبايَ. وَاعْتَدَلَ الْهَواءُ — حِينَئِذٍ — وكُنْتُ قَدْ بَلَغْتُ أَشُدِّي، فَتاقَتْ نَفْسِي إِلَى زَوْجَةٍ تَكُونُ مَعِي.

وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «ما لَكِ وَلِلزَّوْجَةِ؟ وأَنْتِ تَعْلَمِين عاقِبَةَ أَمْرِكِ مَعَها؟»

فَقالَتْ لِي: «ما الْعَمَلُ، والْمقْدُورُ قَهَّارٌ؟!»

ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «الْعَنْكَبُ»، قائلًا: «وَقَضَينا شَهْرَ الْعَسَلِ … وَالآنَ حُمَّ الْقَضاءُ!»

وَكانَ يَقُولُ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْظُرُ — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — كَالْمُسْتَجيرِ الْخائِفِ مِنْ خَطَرٍ يُوشِكُ أَنْ يَدْهَمَهُ!

(١٦) مَصْرعُ الْعَنْكَب الْحَزِينِ

وَبَيْنا هُوَ كَذلِكَ — وَأَعْضاؤُهُ تَرْتَجِفُ خَوْفًا، وَأَنا أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَدْهُوشًا — إِذْ خَرَجَتْ عَنْكَبَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْغارِ، وَوَثَبَتْ عَلَيْهِ فَحاوَلَ دَفْعَها عَنْهُ، وَلكِنَّها أَمْسَكَتْ بِهِ، وَخَطِفَتْ أَنْفاسَهُ.

وَفِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ دَقائِقَ تَرَكَتْهُ جِلْدًا خاوِيًا! …»

الْخاتِمَةُ

وَلَمَّا انْتهَى «صَفاءٌ» مِنْ قِراءَةِ هذِهِ الْمَأْساةِ، حَزِنَ «صَفاءٌ» وأُسْرَتُهُ لِمَصْرَع الْعَنْكَبِ التَّاعِسِ، وَتَأَلَّمُوا لِخاتِمَتِه الْمُفَزِّعَةِ.

وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ مُتَعاقِبَةً، وَلكِنَّ الْأُسْرَةَ لَمْ تَنْسَ هذِه الْقِصَّةِ الرَّائِعَةَ، الَّتِي مَلَكَتْ نُفُوسَهُمْ، وَسَحَرَتْ أَلْبابَهُمْ، وَكَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ آفاقٍ كانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمْ مِنَ الْمَعارِفِ وَالْعُلُومِ.

محفوظات

قالَ «أَبُو نُواسٍ» يَصِفُ الْعَنْكَبَ:

وَقانِصٍ مُحتَقَرٍ ذَميمِ
كُدْرِيِّ اللَّوْنِ، أَغْبَر، قَتِيمِ
مُشْتَبِكِ الأعْجازِ بالْحَيْزُوم
وَمَخْرَجِ الَّلحْظَةِ بِالْخَيْشُومِ
أَضْيَقَ أَرْضًا مِنْ مَقامِ الْمِيمِ
أوْ نُقْطَةٍ تَحْتَ جَناحِ الْجِيمِ
لَيْسَ بِقِعْدِيدٍ، وَلا نَؤُومِ
وَلا — عَنِ الْحِيلَةِ — بِالسَّؤُومِ
لا يَخْلِطُ الْهِمَّةِ بِالتَّنْوِيم
  • قانِصٌ: صائِدٌ.
  • كُدْرِيُّ الَّلوْنِ: مُغْبَرٌّ غَيْرُ صافٍ.
  • قَتِيمٌ: مائِلٌ إِلَى السَّوادِ.
  • الْأَعْجازُ: مُؤَخَّراتُ الْأَجْسامِ.
  • الْحَيْزُومُ: الصَّدْرُ.
  • مَخْرَجُ اللَّحْظَةِ: الْعَيْنُ.
  • الْخَيْشُومُ: أَقْصَى الْأَنْفِ.
  • مَقامُ الْمِيم: الدَّائِرَةُ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْها رَأْسُ حَرْفِ الْمِيْمِ.
  • الْقِعْدِيدُ: الْعاجِزُ الْكَثِيرُ الْقُعُودِ.
  • النَّؤُومُ: النَّائِمُ.
  • السَّؤُومُ: السَّرِيعُ الْمَلَلِ.

يَقُولُ: هذا الْحَيَوانُ الَّذِي يَعيشُ مِمَّا يَصْطادُهُ، تحْتَقِرُهُ الْعَيْنُ وَيَذُمُّهُ اللِّسانُ، وَفِي لَوْنِهِ غُبْرَةٌ تَجْعَلُهُ أَقْرَبَ إِلَى السَّوادِ.

وَإنهُ مُتَداخَل الْجَسَدُ، حَتَّى إِنَّ صَدْرَهُ لَيَشْتَبِكُ بِمُؤَخَّر جِسمِهِ، وعَيْنُهُ تَشْتَبِكُ بِأَنْفِهِ.

وَإنَّهُ صَغِيرٌ ضَئِيلٌ، حَتَّى لَتَرَى رَأْسَ الْمِيمِ أَوْسَعَ مِنْه.

وَلكِنَّهُ لَيْسَ بِالْخامِلِ الْقاعِدِ، بَلْ يَعْمَلُ وَيَسْعَى جاهِدًا، لا يُسْرٍعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ طَلَبِ الْحِيلَةِ، وَلا يَشْغَلُهُ النَّوْم عَن بَذلِ الْهِمَّةِ.

يصف الْعَنْكَبَ بِأَنَّهُ هُمامٌ، دائِبٌ عَلَى الْعَمَلِ، غَيْرُ مُتَرَاخٍ في القِيامِ بِالْواجِبِ عَلَيْهِ، وَلا مُخَلِدًا إِلَى الْبَطالَةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤