الفصل الحادي عشر

الحجاز في فجر ظهور الإسلام

وثنية العرب وأصنامهم

لم يكن عرب الشمال — وغالبيتهم العظمى من البدو — شديدي التأثر بالدين، كما كان عرب الجنوب — الذين وصفنا الحالة الدينية عندهم في فقرة [اللغة والدين] من هذا الكتاب فارجع إليها، والعرب — كما يقولون — أمة شعراء، الشعر سجل أعمالهم، ولكنك قلَّ أن تجد فيما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ما يعكس لك صورة واضحة عن الحالة الدينية في بلاد العرب، وقد يكون السبب في ذلك أن الشعر الديني — بسبب اعتناق العرب للإسلام — قد حظرت روايته فضاع، ويبدو أن العربي لم يكن يهتم للدين كثيرًا، يدلنا على ذلك ما رواه صاحب الأغاني من أن امرأ القيس بن حجر الكندي عندما قُتل أبوه مر بمعبد ذي الخلصة، ليستقسم بالسهام، فلما أخرج السادن سهم النهي ثلاث مرات قذف امرؤ القيس بالسهام في وجه الصنم، وقال: لو كان أبوك الذي قُتل لما نهيتني عن طلب الثأر له.

وفيما عدا الشعر فإن مراجعنا في وثنية العرب قبل الإسلام تكاد تنحصر فيما ورد عن الوثنية في القرآن الكريم — الذي يصور لنا الحياة الجاهلية في نواحيها المتعددة من دينية واجتماعية أصدق تصوير وأروعه — وفي بعض ما كتب من الأدب الإسلامي، ونخص بالذكر منه كتاب الأصنام للكلبي (المتوفى حوالي سنة ٨٢٠م).

وكانت معبودات العرب في الجاهلية تختلف ما بين الصنم والوثن والنُّصُب، فأما الصنم فما كان على صورة إنسان من معدن أو خشب، والوثن ما كان على شكل الإنسان من حجر، أما النُّصُب فهو حجر غُفْل ليس على صورة معينة.

ولعل الوثنية العربية كانت أبسط شكل للمعتقدات السامية، فهي لم تترق كما ترقت وثنية عرب الجنوب، التي كانت لها معابد فاخرة، وشعائر معقدة مما تتطلبه حالة الإقامة، على عكس عرب الشمال، الذين كانوا في الغالب بدوًا، وتشبه وثنية العرب معظم الوثنيات الأخرى، في وجود آلهة خاصة بالقبائل، تنفرد كل قبيلة بعبادة إلهها، وتشترك معظم القبائل في عبادة الإله الأكبر.

وكانت المناطق الزراعية تعبد إلهًا يمتُّ إلى الشمس بصلة، وأوضح أمثلة لعبادة الشمس كانت في مدينة تدمر ومدينة البتراء، ولا يخفى أن سكان الأقاليم الزراعية قد أدركوا ما بين حرارة الشمس ونماء الزرع من علاقة «قارن هذا بعبادة المصريين القدماء لرع إله الشمس.»

وكان بعض قبائل البدو يدينون الطوطمية، ويعبدون الحيوانات، وتفسير هذا يمكننا أن نرجعه إلى ما كان يعود عليهم من نفع من الحيوان المعبود ومدى ارتباطهم به «قارن هذا أيضًا بعبادة الحيوان عند قدماء المصريين.»

وكانت آلهة المناطق الزراعية — في الغالب — من الآلهة الخيرة، التي تجلب النفع للناس، أما آلهة المناطق الجرداء فكانت من الآلهة الشريرة والشياطين، وهذه كانت تُعبد دفعًا لأذاها ولاتقاء شرورها، كما كانت تُعبد الأولى استجلابًا لرضاها واستدرارًا لنفعها.

وعبد العرب أيضًا بعض مظاهر الطبيعة، التي كانت تحيط بهم، فعبدوا بعض الأشجار وعيون الماء والكهوف والحجارة، ولكن عبادتهم لهذه الأشياء كانت كوسيلة لتقريبهم إلى الآلهة التي كانت — حسب ما يعتقدون — تتخذ مقارها في بعض هذه الأشياء، ولسنا ندري إن كانت بئر زمزم قد عُبدت قبل الإسلام، ولكن القزويني يذكر أن بئر عروة — كان الناس إذا مروا بها أخذوا من مائها يهدونه إلى أهليهم، أما الكهوف فكانت قداستها ترجع إلى أنها تتصل بقوى الآلهة السفلية، وقوى باطن الأرض التي لا يرونها، ومن أمثلة ذلك كانت غبغب في نخلة، حيث كان العرب يقربون للإلهة العزى.

كذلك عبد العرب بعض الأجرام السماوية، ولعلهم تأثروا في ذلك بالمجوس جيرانهم، فعبدوا القمر، وكانت عبادته شائعة في مناطق الرعي، كما كانت عبادة الشمس شائعة في مناطق الزراعة، ويجب أن نذكر هنا أن ضوء القمر كان يهدي بالليل، وكان ظهوره ينظم لهم مواقيتهم، وقد ورد في القرآن ذكر وَدٍّ، وهو أحد آلهة القمر، وكان أهم إله يُعبد في معين ببلاد اليمن.

وقد سبق أن أشرنا في تاريخ اليمن في فقرة [قصة أصحاب الأخدود] عند الكلام على قصة أصحاب الأخدود خبر نخلة في نجران، كان القوم يعبدونها هناك، ولهذه النخلة نظير في شجرة العزى، المسماة بذات أنواط في نخلة، والتي كان يهرع إليها أهل مكة كل عام، فيقدمون القرابين لها كما كان يقدم أهل نجران لنخلتهم قرابين من الأسلحة والملابس وغيرها، وكانت اللات في الطائف يمثلها حجر مربع، وذو الشرى في البتراء يمثله كتلة مستطيلة من حجر أسود غير منحوت، يبلغ ارتفاعه أربعة أقدام وعرضه قدمان، وكان لكل من هذه الآلهة حمى من أرض المراعي المحيطة به، لا يُعتدى عليه ولا يُعتدى فيه.

وكان البدو يؤمنون بأن الصحراء مسكونة بمخلوقات لها طبيعة الوحوش، يطلقون عليها أسماء الجن والشياطين، وكان الجن — في نظرهم — يختلفون عن الآلهة من حيث طبيعتهم من جهة، ومن حيث علاقتهم بالإنسان، فالآلهة في نظرهم كانت بصفة عامة أصدقاء لهم، أما الجن فكانوا لهم خصومًا؛ ولعل ما تنطوي عليه الصحراء من هول، وما يعمرها من وحوش — هو الذي دفعهم إلى هذا الاعتقاد، وأرض الآلهة هي الأرض التي يطرقها الإنسان، أما أرض الجن فهي أرض البرية التي لم يطرقها أحد، ولعل لفظ المجنون بالعربية معناه الذي أصابه الجن.

ولسنا ننكر الجن؛ فقد ورد ذكرهم في أكثر من موضع في القرآن وفي مناسبات متعددة، ولكن المقصود بهم كان يختلف عما ذهب إليه العرب في الجاهلية.

وقد ورد ذكر اللات والعزى ومناة في القرآن، وهذه الإلهات الثلاث كان العرب يسمونها بنات الله، وكن يعبدن في المنطقة التي أتيح لها أن تكون مهد الإسلام فيما بعد، وقد ورد ذكرهن في القرآن في سورة النجم الآية ١٩ وما بعدها: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (راجع قصة الغرانيق في الفصل السادس من كتاب حياة محمد للدكتور هيكل باشا).

فأما اللات «ولعلها مشتقة من كلمة الإلهة» فقد كان حماها وحرمها على مقربة من الطائف، وكان أهل مكة يحجون إليها ويقدمون لها القرابين، وكان لا يجوز أن تقتلع أشجار من حماها ولا يُصاد ولا يُراق دم آدمي فيه، وقد ذكر هيرودوت في تاريخه اسم «أليلات» من بين آلهة الأنباط.

وأما العزى «وهي مؤنث الأعز وكان يُقصد بها الزهرة «فينوس» نجمة الصباح» فكانت تُعبد في نخلة إلى الشرق من مكة، وقد ذكر الكلبي: «أن قريشًا كانت تقدسها أعظم تقديس، وأن النبي عليه السلام وهو حدث قدم لها بعض القرابين.» (في ذلك شك)، وكان حرمها يتكون من ثلاث أشجار، وعبادتها تتطلب تقديم القرابين البشرية، وكان اسم عبد العزى من الأسماء الشائعة المحببة عند العرب وقت ظهور الإسلام.

أما مناة «من المنية وهي القضاء المحتوم» فكانت إلهة القضاء والقدر، ولعلها كانت من أقدم الإلهات عند العرب، وكان حرمها عبارة عن صخرة سوداء في قديد، على الطريق بين مكة ويثرب، وكان أعظم عبادها الأوس والخزرج، الذين ناصروا النبي عليه السلام في هجرته من مكة، ولا يزال النظامون العرب يشكون المنية والدهر في قصائدهم إلى يومنا هذا.

ونستطيع أن نقرر — بمناسبة هذه الإلهات الثلاث — أن عبادة الإناث كانت أسبق من عبادة الذكور في بلاد العرب؛ لأن العرب — شأن كل الساميين الأخر — كانوا يعلقون أهمية على دم الأمومة أكثر من دم الأبوة.

وكانت الكعبة مقر أوثان أكثر العرب وأصنامهم، وكان هذا من الأسباب الذي جعلت لمكة وقريش الصدارة على كل مدن الحجاز وقبائله، أما أشهر آلهة الكعبة، فكان الإله هبل «واسمه مشتق من لفظ آرامي معناه الروح»، وكان صنم هبل على صورة إنسان، ذكر المؤرخون أنه كان من العقيق الأحمر مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلت له يدًا من ذهب، وكان تمثاله أعظم صنم معلق على الكعبة، التي كان بداخلها صنمان يمثلان إبراهيم وإسماعيل، وكان إلى جوار صنم هبل الأزلام وهي القداح أو السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، وكان الكاهن «وهو لفظ مأخوذ من الآرامية أيضًا» يقرر مصائر الناس بوساطة هذه السهام، وقد ذكر ابن هشام في سيرته أن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أحضر هذا الصنم من مؤاب أو العراق إلى مكة، ولقد أصاب بقوله هذا كبد الحقيقة؛ لأن اسم الإله يحمل ذلك الاسم الآرامي، ويقال أيضًا: إن عمرو بن لحي هذا هو الذي أتى بإساف ونائلة من أرض الشام، ووضعهما في داخل الكعبة فعُبِدَا، على أن هناك رواية أخرى تذكر أن إسافا ونائلة كانا رجلًا وامرأة أتيا الفاحشة في داخل الكعبة فأحالتهما الآلهة أصنامًا، أما بقية القصة التي تقول إن عمرو بن لحي كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى بلاد العرب بنقله هبل، وأن العرب كانوا لا يعبدون أصنامًا قبل هذا — فهي بعيدة بعدًا كبيرًا عن الحقيقة، وقد لقي هبل هو والثلاثمائة وستون صنمًا التي كانت معلقة حول الكعبة مصرعها الأخير يوم الفتح على يد النبي .

ولا يجولن بالخاطر أن ما ذكرناه عن وثنية بلاد العرب — يستلزم أنهم كانوا لا يعبدون إلا الأوثان أو الأصنام؛ إذ الثابت أن الشطر الأكبر منهم — إن لم يكن جميعهم — كانوا يعبدون هذه الحجارة والأصنام، لا على أنها صاحبة الحول والطول، بل على أنها وسيلة تقربهم إلى الإله الأكبر الذي كانوا يؤمنون به، فكانوا كما قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ. فأنت ترى أن الله تعالى كان معروفًا لديهم، وكلمة «الله» هي صورة من صور لفظ الإله المضاف إليها أداة التعريف، مما يفهم منه أنه الإله الرئيسي، وقد عثر النقَّابون على نقوش قديمة فيها لفظ «الله»، وقد عثر على نقش في الصفا يرجع عهده إلى قبل الإسلام بخمسة قرون ورد فيه لفظ الجلالة على هذا الشكل «هالله»، ومعروف أن والد النبي عليه السلام كان يُسمى عبد الله، وكان أهل مكة قبل الإسلام — يعتبرون أن الله هو الخالق المعطي القاهر فوق عباده، وهو الذي يفزع الناس إليه إذا اشتد الخطب، كما يستدل على ذلك من آيات كثيرة في القرآن نذكر من بينها قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهَ ۚ قُلِ الْحَمْدُ للهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لقمان آية ٢٥، وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ … إلخ.

ولم يحل وقوع مكة في وادٍ غير ذي زرع، وفي مناخ لا يوافق الصحة كثيرًا، دون أن يكون الحجاز بسببها أهم مركز ديني في شمال بلاد العرب.

أما فيما يتعلق بآلهة بلاد العرب الأخرى — فإنا نذكر منها «نسرًا» وكان على هيئة نسر، و«عوف» وكان على هيئة طير كبير، و«يغوث» وكان على صورة أسد، و«يعوق» وكان على هيئة فرس وغيرها من الحيوان والطير مما يذكرنا بآثار الطوطمية الأولى.

ولا نستطيع أن نستنتج من ثنايا الأدب القديم الموثوق بصحته — ما يوضح لنا عقيدتهم في الدار الآخرة توضيحًا كبيرًا، أما ما ورد على ألسنة بعضهم من ذكر للدار الآخرة، فأكبر ظننا أنه كان صدى للمعتقدات المسيحية التي اتصلوا بها.

ونريد أن نذكر في هذا الصدد أيضًا — أن العرب قد توافقوا فيما بينهم على أن يجعلوا من بين شهور السنة أربعة أشهر حرم، لا يحل فيها القتال، وكان غرضهم من ذلك أن يتيحوا لذوي الرأي فرصة يصلحون فيها ذات البين، وهذا عدا حرصهم على الاطمئنان على متاجرهم، وعدم تعريض سلعهم للبوار والضياع، وتشبه هذه الشهور الحرم — وهي شهور ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ثم رجب الفرد — الهدنة الربانية التي كانت معروفة في أوروبا في العصور الوسطى. وكانت الشهور الثلاثة الأولى تُخصص للعبادة، فيذهب الناس فيها من كافة أنحاء الحجاز وغيره إلى مكة، ويقدمون القرابين من إبل وأغنام إلى آلهتهم، أما الشهر الرابع فكان يُخصص للتجارة، ولا يخفى أن الحجاز — بوقوعه على طريق التجارة الرئيسي بين الشمال والجنوب — كان يتيح فرصة صالحة للنشاط الديني والنشاط التجاري، وهذا هو السبب الذي من أجله قامت أسواق العرب في الجاهلية، ونخص بالذكر منها عكاظ، التي كان فيها سوق أسبوعية تقوم يوم الأحد للبيع والشراء، وسوق سنوية ينزلون به في أول ذي القعدة ويستمرون عشرين يومًا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون الأشعار، ويتعارفون ويتحابون ويفدون أسراهم، ويرفعون مظالمهم إلى من يقوم بأمر الحكومة، ثم يتوجهون منها إلى مكة، فيقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ثم يرجعون إلى أوطانهم.

ومثل سوق عكاظ أسواق أخرى، كسوق مجنة قرب مكة، وسوق ذي المجار خلف جبل عرفات.

ونريد — قبل أن نختتم كلامنا عن ديانة العرب الوثنية قبل الإسلام — أن نذكر أنه كان هناك أفراد منهم يطلق عليهم الحنيفيون أو الأحناف «أي المنحرفون عن العبادة العامة» لم تكن تلك العبادات التي وصفناها تعجبهم ويرون أن هناك حقيقة غابت عنهم، وأن طرائقهم التي هم عليها لا توصلهم إلى الله، ويقولون في أنفسهم: ما معنى التوسل إلى الله بحجارة لا تضر ولا تنفع؟ ومن أشهر هؤلاء ورقة بن نوفل الذي استحكم في النصرانية، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو، وعبيد الله بن جحش، وأمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهم ممن ترك عبادة الأوثان، وإن كان لم يعتنق دينًا سماويًّا، ووجود أمثال هؤلاء يدلنا على أنه كانت هناك حركة دينية قبيل البعثة النبوية، تبحث عن دين إبراهيم الحنيف، وتسب الأصنام ولا ترى في عبادتها غذاءً روحيًّا يرضي عقلاء العرب، ولكنها لم تكن حركة منتجة؛ لأنها لم تؤدِّ إلى شيء ما من التغير في عبادة الأوثان، ولا إلى شيء من إصلاح أحوال العرب، ولكنها — دون جدال — عبَّدت الطريق، وجعلت في بعض الأنفس شيئًا من الاستعداد لقبول الإسلام، ويطلق بعض المؤرخين على أولئك الذين ذكرنا اسم الحنفاء.

المسيحية ببلاد العرب

ذكرنا في كلامنا على حضارة بلاد اليمن أخبار المسيحية فيها فارجع إليها، ونذكر هنا أن المسيحية كانت منتشرة في قبائل تغلب وغسان في الشمال، ولسنا في حاجة إلى القول بأن قرب هذه المناطق من أرض البيزنطيين كان من العوامل التي جعلت هذه الديانة تنتشر في تلك الجهات، على أنا لا نعدو الحقيقة إذا قررنا أن المسيحية لم ترسخ أقدامها ولم تجد لها أنصارًا بين عرب الشمال؛ لأن مبادئها وما انطوت عليه من حب للسلام لا يتفق مع طبيعة أولئك البدو، وقد يكون من العوامل التي عاقت انتشار المسيحية، أن الأباطرة لم يسعوا سعيًا جديًّا في نشرها؛ كما أن ما كان بين المسيحيين من خلاف وانقسام إلى فرق متناحرة، وما تسلل إلى المسيحية من بعض مظاهر وثنية، وكذلك مقاومة اليهود خفية لها، لما كان بينهم وبين المسيحيين من خصومة — كان من العوامل التي أوقفت تقدمها، وجعلت العرب يؤثرون وثنيتهم عليها، وأشهر مذاهب المسيحية التي اعتنقها العرب مذهبان: مذهب النساطرة وكان شائعًا في الحيرة، ومذهب اليعاقبة وكان شائعًا في غسان، وغيرها من قبائل العرب الضاربة في صحراء الشام.

اليهودية في بلاد العرب

كانت اليهودية أرسخ قدمًا في بلاد العرب من المسيحية، وقد ذكرنا في تاريخ بلاد اليمن كيف تهود بعض ملوكهم في أواخر دولة الحميريين، وقلنا: إن تهودهم كان لأغراض سياسية، وهي مقاومة النفوذ البيزنطي، وكراهيتهم للأحباش، الذين كانوا يعتنقون المسيحية، ونذكر هنا أن اليهودية دخلت بلاد العرب في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وقد ذكر المؤرخون العرب — لدخول اليهود إلى بلاد العرب — أسبابًا أقرب إلى الخيال منها إلى التاريخ الصحيح، ويكاد يُجمع المؤرخون المحدثون على أن اليهود جاءوا إلى جزيرة العرب مهاجرين من فلسطين عندما ضاقت عليهم سبل الرزق فيها، فهاجر فريق منهم إلى العراق، وآخرون إلى مصر، وغيرهم إلى بلاد العرب، ولما قضى الرومان على دولة اليهود، واستولوا على فلسطين، قامت عدة ثورات ضد نفوذ الرومان فيها، أطفأها الرومان بشدة لم يستطع فريق من اليهود صبرًا عليها، فخرج من لم يستطع البقاء منهم إلى شبه جزيرة العرب، التي كانت إذ ذاك بعيدة عن خطر الرومان، ولما قامت الحروب اليهودية الرومانية حوالي سنة ٧٠ق.م شتت كثير من اليهود، فانتشروا في أصقاع الأرض — وكانت بلاد العرب بعض الجهات التي ذهبوا إليها [راجع فقرة تاريخ المدينة].

وأشهر المستعمرات التي أقاموا فيها هي يثرب وتيماء وفدك وخيبر ووادي القرى، وكان يهود يثرب ثلاث قبائل: هم بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وقد اصطبغ اليهود بالصبغة العربية، فعلى الرغم من كثرة عددهم كانوا يتكلمون العربية، وكانت أسماؤهم عربية، مما حدا ببعض المؤرخين إلى القول بأنهم كانوا عربًا تهودوا، وأنهم لم يكونوا مزودين بمعلومات كافية في التوحيد، ولو أنهم كانوا شديدي التمسك بدينهم.

ولا يخفى أن اليهود كانوا — في شمال الحجاز إبان البعثة النبوية — قوة كبيرة تعادل قوة قريش في الجنوب، وكانوا أكثر من العرب ثروة وغنى وأوفر سلاحًا، وكانت بلدانهم حصينة، وفي منطقة المدينة لم يكن الأوس والخزرج سوى أُجَرَاء لهم، يعملون على تنمية زراعتهم ويخدمونهم بالأجر.

المجوسية والصابئية

بقيت كلمة واحدة عن أديان العرب قبل الإسلام، وهي كلمتنا عن المجوس الذين اتخذوا النار إلهًا لهم؛ لأنها في نظرهم أساس الأرض، بما عليها من وديان وجبال، ومهد المجوسية الأصلي بلاد فارس، ومنها انتشرت — بحكم الجوار — إلى المناطق المجاورة، فوصلت إلى بلاد البحرين، وانطبعت هناك بالطابع العربي، فكانت عبادة الأجرام السماوية أهم مظاهرها، وقد شُيدت لها بيوت لعبادتها كان يتجه إليها للحج.

أما الصابئة فقد ورد ذكرهم في القرآن في ثلاث مناسبات، وكانوا يعرفون فيها باليهود والمسيحيين دائمًا، ومرة واحدة بالمجوس أيضًا، وقد ورد في دائرة المعارف البريطانية: أنهم طائفة نصف مسيحية، كانت تسكن في بابل وتشبه ما يعرفون «بمسيحيي القديس يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)» … وربما كان لفظ الصابئة مشتقًّا من لفظ آرامي معناه المغتسلة؛ أي الذين يغسلون أنفسهم، وهناك رأي يقول: إنهم كانوا عباد النجوم، ويذهب معظم المفسرين إلى القول بأنهم كانوا يمثلون دينًا وسطًا بين اليهودية والمسيحية، يقول بالوحدانية، ولكنه يعبد الملائكة.

وقد اختلف المؤرخون والمفسرون في اعتبارهم من أهل الكتاب، ولكن الأغلبية ترفض أن تعاملهم معاملة أهل الكتاب، ولا ينفي هذا أنهم اعتبروا في فترة ما — لأغراض سياسية — من أهل الكتاب.

وعلى الرغم من أن القوتين اللتين كانتا تحيطان ببلاد العرب — من الشرق وهي قوة المجوسية، ومن الغرب وهي قوة المسيحية — كانتا أعظم قوتين في ذلك العصر، إلا أنهما ضعيفتي الأثر، ومن أعجب الأمور أن تظل شبه الجزيرة وكأنها واحة حصينة آمنة من انتشار الدعوة الدينية مسيحية أو مجوسية، إلا في قليل من قبائلها.

ونختم كلامنا عن ديانة العرب قبل الإسلام بهذه الآية الشريفة رقم ١٧ من سورة الحج التي جمع الله فيها أنواع الأديان في جزيرة العرب وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

وننتقل الآن إلى الكلام عن وصف الحالة الاجتماعية بين عرب الشمال قبيل الإسلام.

حياة البدو

جعلت طبيعة الأرض السكان في الشمال قسمين: حضر وبدو، فأما الحضر: فهم الذين كانوا يسكنون المدن، وقد ذكرنا في الفصل العاشر تاريخ أهم مدائنهم مكة والمدينة، ونظام الحكم فيهما، وحالتهما الاجتماعية، ونريد أن نذكر هنا أن الفروق بين البدو والحضر لم تكن محددة تمامًا؛ فقد كانت هناك حالة نصف بدوية وحالة نصف حضرية؛ ذلك لأن فريقًا من البدو كانوا في الأصل حضرًا، وفريقًا من الحضر كانوا في الأصل بدوًا، والحضر هم سكان المدن، أما البدو فهم سكان البادية، الذين ليست لهم مدائن يقيمون فيها، وكانوا قبائل، لكل قبيلة رئيس أو شيخ يحكمها، حسب العرف الذي كان يقوم عندهم مقام القانون الذي كان يرجع إليه الحضر، وكانت طبيعة البيئة التي تحيط بهم تحدوهم دائمًا إلى التقاطع وغزو بعضهم بعضًا، فكانت كلمتهم متفرقة، على أنه كان يحدث أن تتحالف جملة قبائل، فتصبح تحت لواء واحد، وتكون الكلمة العليا فيها لمن بيده هذا اللواء، وكان الوصول إلى رئاسة القبيلة أو القبائل المتحالفة إنما يكون بالغلبة أو بالحزم أو بالمال أو بالدسائس، وكان رئيس القبيلة يمارس على أفراد قبيلته نفوذًا لا حد له، فكلمته أمر يطيعه الجميع، وكثيرًا ما كان يستبد رؤساء القبائل استبدادًا شديدًا، كما يُستدل على ذلك من أخبار بعض أيام العرب [راجع فقرة حرب البسوس]، وكانت العصبية بين أفراد القبيلة عظيمة جدًّا، حتى إن القبيلة كانت تقوم بأجمعها انتصارًا لفرد من أفرادها، وينصرونه ظالمًا أو مظلومًا، فإذا تغلب العقل على بعض أفرادها كان ذلك وصمة عار لا تُمحى، ويلي الاهتمام بالعصبية الاهتمام بالنسب، ويدخل في باب النسب الولاء؛ فللمولى من الحقوق ما للنسيب، والنسب يكون في بني الأب الواحد، فإذا تشعبت البطون وافترق بنو الأب إلى قبائل — انحلت روابط القرابة، وحصل التنازع بين القبيلتين، ويقوم مقام النسب الحلف وهو بين قبائل العرب كالمعاهدات السياسية في الوقت الحاضر — ويكون بين أهل النسب الواحد أو بين القبائل المتباعدة في النسب، ومن أشهر أحلافهم التي رواها التاريخ: حلف المطيبين، وحلف الفضول، ويقوم مقام النسب والحلف الجوار، وهذا يجب الدفاع عنه والوفاء له، ولو أدى إلى سفك الدماء، وبذل الأموال.

وكانت طبقاتهم في النسب كالآتي:
  • (١)

    الشعب: وهو النسب الأبعد.

  • (٢)

    والقبيلة: وهي الفرع من فروع الشعب.

  • (٣)

    والعمارة: وهي قسم من القبيلة.

  • (٤)

    والبطن: وهم فريق من العمارة.

  • (٥)

    والفخذ: وهم فريق من البطن.

  • (٦)

    والفصيلة: وهم فرقة من الفخذ.

وكان يشترط في شيخ القبيلة أو الزعيم — إطلاقًا — خمس صفات هي: الشجاعة والكرم والحلم والثروة وكثرة الأنصار، وكان توافر هذه الشروط من الأمور التي تستلزمها طبيعة الحياة البدوية، فالشجاعة كانت مطلوبة؛ لأن البيئة البدوية بيئة غزو وغارات؛ لأنها بيئة قليلة الموارد، فالقبيلة التي كانت لا تملك شيئًا ترى من حقها أن تأخذ ممن يملك، إن لم يكن بالتفاهم فبالغزو، حتى لقد أصبح الغزو حالة عقلية مزمنة، فإذا لم يجد البدوي من يغزوه، غزا أصدقاءه، ولقد صدق الشاعر — القطامي — الذي قال:

نغير من الضباب على حلول
وضبة إنه من حان حانا
وأحيانًا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا

ولم يكن البدو حريصًا — رغم هذا — على إراقة دم أخيه أو إراقة دمه، فإذا استطاع أن يصل إلى ما يريد دون إراقة دم فبها ونعمت، والكرم والضيافة — أيضًا — من مستلزمات هذه البيئة، فقد كانا يخففان من شرور الغزو، وكان الامتناع عن إكرام الضيف في أرض ليس فيها حانات ولا فنادق، أو الإضرار به بعد قبوله ضيفًا — يعتبر جريمة من الجرائم ضد مبادئ الأخلاق والشرف المعترف بها في البادية، وأما الحلم فكانت تستلزمه البيئة أيضًا؛ لأن الجميع وُلدوا في مهاد الديموقراطية، فترى البدوي يقابل شيخه وقد وقف معه على قدم المساواة؛ لأن المجتمع الذي وُلد فيه قد سوى بين الجميع وكما كان البدوي ديموقراطيًّا، كذلك كان أرستقراطيًّا، يعتقد أنه أعلى مثل للخليقة، والأمة العربية في نظره هي أفخر الأمم وأكثرها نبلًا، والرجل المتمدين أو ساكن الحضر أقل منه سعادة ودونه في الرتبة؛ وقد يكون سبب ذلك أن الصحراء عصمت البدو من الاتصال بالعالم الخارجي، وكانت من العوامل التي أبقت على البدوي نقاء دمه، وخلوص لغته، وقداسة تقاليده.

والثروة لازمة لشيخ القبيلة؛ لأنها تسهل له القيام بواجباته الأخرى كالكرم، ولكي يحفظ البدو على الشيخ أمواله كانوا إذا أصابوا غنائم في غارة من غاراتهم استخلص الزعيم لنفسه ما يأتي:
  • (١)

    الصفي: وهو ما يصطفيه لنفسه قبل القسمة.

  • (٢)

    النشيطة: وهو ما يصيبه في الطريق قبل أن يصل إلى من يريد غزوهم.

  • (٣)

    المرباع: وهو ربع الغنيمة.

  • (٤)

    الفضول: وهو ما لا تصح قسمته على عدد من الغزاة كالبعير والفرس.

وقد جمعها بعضهم في قوله:

لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول

وقلَّ أن كنت تجد من بين أهل الصحراء سمينًا مترهلًا، والسبب في ذلك يرجع إلى قلة الغذاء، وإلى إقفار ما حولهم من أرض، لقد كان البدو — على حد تعبيرهم — مجموعة أو حزمة من الأعصاب والعظام والعضلات الدقيقة، وكان طعامهم اليومي من التمر المخلوط بالدقيق أو القمح المحمص مع الماء واللبن، كذلك كان لباسهم بسيطًا كطعامهم، فكانوا يلبسون ثوبًا هو عبارة عن قميص طويل يتمنطقون عليه ويضعون فوقه عباءًا، أما لباس الرأس فكان الكوفية يُحيط بها العقال، ولم يكونوا يلبسون السراويل، وقلَّ أن كانوا يلبسون النعال. وكان أشهر صفات ذلك البدوي الصبر والمروءة، وهي في نظرهم وليدة فضيلتين هما الشجاعة والكرم، وخير ضروب الشجاعة ما كان دفاعًا عن القبيلة.

وكانت كل أسرة تعيش داخل خيمة واحدة قد تكون من الوبر أو الجلد، فإذا اجتمعت عدة خيام في معسكر واحد أُطلق عليها اسم الحي، وأعضاء الحي الواحد يُطلق عليهم اسم القوم، وإذا تجمع عدة أقوام تربطهم صلة القربى كونوا ما يُعرف باسم القبيلة، ويعتبر أفراد القوم الواحد أنفسهم أبناء دم واحد يخضعون لرئيس واحد، هو في الغالب أسن أعضاء القوم ويتداعون إلى الحرب بقولهم: يا بني فلان، وفي بعض الأحوال يدعون بيا بني فلانة، مما يدل على بقايا نظام الأمومة الذي كان أسبق على نظام الأبوة، وكان البدوي لا يملك ملكًا خاصًّا إلا خيمته، وما تنطوي عليه من متاع متواضع، أما الماء والمرعى والأرض الزراعية — إن وجدت — فكانت ملكًا للقبيلة بأجمعها، وإذا ارتكب أحد أفراد القبيلة في داخلها جريمة القتل — لم يجد من يحميه، فإذا فر عُد طريدًا أو خارجًا على القانون، فإذا حدثت جريمة القتل خارج القبيلة احتمل أي فرد من القبيلة الجناية، كما لو كان هو الجاني، وكان العُرف القائم في الصحراء ينص على أن الدم لا يغسله إلا الدم، ولقد كان هذا المبدأ هو الأساس في كثير من أيام العرب التي وصفنا بعضها سابقًا، وكان في بعض الأحيان تُقبل الدية.

وننتقل الآن إلى نقطة طال فيها الخلاف والجدل، وهي مركز المرأة، ثم حالة العربي الأسرية.

المرأة العربية

اختلفت الأقوال في المرأة عند العرب؛ فمن قائل: إنها كانت في طبقة تلي طبقة الرجل، وإن منزلتها كانت منحطة عن منزلة الرجل، ويستدلون على ذلك بأن البيئة البدوية بيئة حرب، والمرأة قليلة الغناء في الحروب التي هي أساس حياتهم، ويستدلون على ضعة مركزها: بما كان يحدث من وأد البنات وحرمان النساء من الإرث، والفريق الثاني يقرر: أن الرجل ما كان ينظر إلى المرأة نظرة الاستخفاف أو الاستهانة، وأن فريقًا من العرب كان يفتخر بانتسابه إلى أمه كما يفتخر بانتسابه إلى أبيه، ويدللون على صدق نظريتهم بما ورد في الشعر العربي — الذي هو ديوان أخبارهم — من أن الرجل إذا أراد أن يتمدح بالكرم والشجاعة لم يكن يخاطب إلا المرأة، اعتقادًا منه أنها إن رضيت عنه فقد رضي الناس عنه جميعًا. (راجع أشعار حاتم الطائي وعنترة العبسي)، ودليل ثانٍ: هو فخر العربي بأنه المدافع عن الحريم الحامي للشرف، ودليل ثالث: هو بدء معظم الشعراء قصائدهم بالنسيب، ورابع: رقتهم في عتاب المرأة أو جدلها إذا هي عذلتهم على السرف وأشارت عليهم بالقصد، ودليل خامس: هو تلقيبها — وهي زوج أو أم — بخير الألقاب مثل يا ربة القوم ويا أم مالك، ولا شك أن الكنية فيها شيء من التعظيم، ودليل سادس: هو استشارة الرجل امرأته وبناته فيمن يأتي إليه خاطبًا، ونحن لا نستطيع أن نستشف من بين أقوال الفريقين ما يجعلنا نميل الميل كله إلى رأيه، وأكبر ظننا أن احترام المرأة أو احتقارها، لم يكن أمرًا عامًّا عند كل الناس، ولا في جميع الطبقات، ونرى — لزامًا علينا — أن نقرر هنا أن الإسلام كان له الفضل الأكبر في رفع مستوى المرأة ووضعها في المركز اللائق بها.

الزواج والأسرة

كان العرب يعددون الزوجات، ولم يكن هناك حد معروف لعددهن، ولعل ذلك كان نتيجة لزيادة عدد النساء على الرجال بسبب قتل الرجال في الحروب، وكانوا يُطلقون، فإذا أراد الرجل أن يطلق زوجته يقول لها: الحقي بأهلك، أو ما يماثل ذلك، وكان للمرأة في بعض الأحيان الحق في أن تطلق نفسها، وطلاق المرأة كان يُعرف بأن تحول باب بيتها المصنوع من الشعر أو الوبر أو الجلد إلى جهة عكس جهته الأصلية، ولكن الجمهور كان يجعل حق الطلاق للرجل، وكان الرجل يرتبط بالمرأة بعقد زواج، بعد رضائها ورضاء أوليائها، وبعد أن يتفقوا على مهر معين، وكان بعضهم يتغالى في مهر البنات حتى يبلغ مبلغًا عظيمًا.

وقد كانت هناك بعض أنكحة فاسدة أبطلها الإسلام نخص بالذكر منها:
  • (١)

    نكاح البغايا.

  • (٢)

    نكاح الاستبضاع.

  • (٣)

    نكاح الجمع.

  • (٤)

    نكاح المقت: وهو أنه إذا مات الرجل وترك زوجة وله أولاد كبار قام أكبرهم ووضع عليها ثوبه، فيرث بذلك زواجها، فإذا لم يكن راغبًا في نكاحها زوجها إلى من يريد من إخوته الباقين بمهر جديد.

  • (٥)

    أنكحة أخرى شاذة: كنكاح الأمهات والبنات والجمع بين الأختين، ولكن هذا كان نادرًا، ولعله تسرب إليهم عن طريق المجوس، وقد أُطلق في الإسلام على كل هذه الأنكحة السابقة اسم السفاح، ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن ذلك كان مقصورًا على فئات خاصة منهم؛ لأن ما عُرف عن العرب من المحافظة على الأنساب والغيرة على العرض والشرف — يجعلنا نعتقد أن ذلك لم يكن شائعًا إلا في أحط الأوساط، وكانت لدى العرب بعض العادات المستهجنة، من ذلك: أن الرجل كان إذا قابل آخر ليس من قبيلته — ومعه ظعينة — تقاتلا، فإن غلبه أخذ الظعينة، واستحلها لنفسه.

كذلك كان بعض العرب يئدون بناتهم أحيانًا، وقد اختلف الباحثون في البواعث التي كانت تحملهم على الوأد، ففريق منهم يقول: إن الباعث كان الإملاق وعدم القدرة على تربية الأولاد، وآخرون كانوا يقولون: إن الباعث كان الحرص على صيانة العرض، وخشية أن تجر البنت العار على عشيرتها في المستقبل، وقد وصل الدكتور علي عبد الواحد أستاذ الاجتماع بكلية الآداب إلى رأي جديد يقول: إن وأد البنات كان لدافع ديني بحت؛ ذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن البنات رجس من خلق الشيطان، أو من خلق آلهة غير آلهتهم، ينبغي التخلص منهن، ونحن نرى أن هذه الأسباب مجتمعة قد تكون السبب في الوأد، ونذكر في هذه المناسبة أن الوأد لم يكن قاصرًا على البنات، بل كان يشمل الأولاد الذكور أيضًا، وأنه كان شائعًا في بعض الطبقات المنحطة، وقليل الشيوع بين الطبقات الراقية.

وكانت معاملة العربي لابنه تنطوي على الحنان والمحبة، يربيه ليكون درعًا يتقي به العدو، ولذلك كانوا يتخيرون لأبنائهم شر الأسماء، مثل: أسد وكلب وثور وفهر وصخر.

أما معاملته لأخيه وابن عمه فكانت تنطبق على المثل الجاهلي — الذي أشرنا إليه آنفًا — وهو انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، وكانوا يسيرون عليها بمعناها الحقيقي لا المعنى الذي تعورف عليه بعد الإسلام؛ بأن نصرة الظالم تكون بالأخذ فوق يديه.

بعض عادات العرب ومعتقداتهم الميثولوجية

نعدد فيما يلي بعض العادات التي يصادفها الباحث — مفصلة ومبينة في أخبار العرب وأشعارهم:
  • (١)

    كان إذا مرض أحد الملوك أو الزعماء — حملته الرجال على أكتافها يتعاقبون.

  • (٢)

    تحريم الخمر على أنفسهم حتى يثأروا لقتيلهم.

  • (٣)

    التعقية أو سهم الاعتذار، وأصل هذا: أن يتقدم جماعة من أهل القاتل إلى أولياء المقتول — إن كانوا من غير ذوي البأس — فيطلقون سهمًا نحو السماء، فإن رجع مضرجًا بالدم امتنعوا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد مسحوا لحاهم وصالحوا على قبول الدية. «قال ابن الإعرابي: ما رجع قط إلا نقيًّا، ولكنهم يعتذرون به عند الجهال.»

  • (٤)

    الخلع واللعن، فأما الخليع فهو الذي خلعه أهله وتبرءوا منه لخبثه، فكان الرجل يأتي بابنه إلى الموسم، فيقول خلعت ابني هذا فإنْ جَرَّ لم أضمنه وإنْ جُرَّ عليه لم أطلبه.

    وأما اللعين: فهو تمثال الرجل الغادر، كان يُجعل من طين ويُنصب، وقد أبطل الإسلام هاتين العادتين.

  • (٥)

    جز النواصي: فكانت العرب إذا أنعمت على الرجل الشريف بعد أسره جزوا ناصيته «وهي الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة» فتكون الناصية عند الرجل الآسر يفتخر بها.

  • (٦)

    شد اللسان: وذلك أنهم كانوا إذا أسروا أسيرًا وكان شاعرًا ربطوا لسانه بنسعة «سير منسوج».

  • (٧)

    خضاب نحور الخيل: فكانوا إذا أدرك خيلهم الصيد يخضبون نحر السابق بدم الصيد، وقد بطلت هذه العادة بعد الإسلام.

  • (٨)

    وأد البنات وقتل الأولاد وقد تكلمنا عنهما في الفقرة السابقة.

  • (٩)

    حبس البلايا في الولايا: وذلك أن الرجل إذا مات — كانوا يشدون ناقته إلى قبره، ويقبلون برأسها إلى ورائها، ويغطون رأسها بولية «برذعة» فإذا أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إذا فعلوا ذلك حُشرت معه في الميعاد ليركبها.

  • (١٠)

    الهامة: كانوا يزعمون أن الإنسان — إذا قُتل ولم يُطالب بثأره — خرج من رأسه طائر كالبومة يُسمى الهامة، وصاح اسقوني اسقوني حتى يُطالب بثأره.

  • (١١)

    تصفيق الضال: كان الرجل — إذا ضل في الفلاة — قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها بكلمات خاصة، وصفق بيديه، ثم يحرك الناقة، فيزعمون أنها تهتدي إلى الطريق.

  • (١٢)

    ضرب الثور ليشرب البقر: كانوا يزعمون أن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشرب، فيضربون الثور ليشرب البقر.

  • (١٣)

    مسح الطارف عين المطروف: كانوا يزعمون أن الرجل إذا طرف عين صاحبه فهاجت، فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات سكن هيجانها.

  • (١٤)

    كيُّ السليم من الإبل ليبرأ الجرب منها: كانوا يزعمون أن الإبل إذا شمت رائحة كيِّ الصحيح، برئت من جربها.

  • (١٥)

    ذهاب الخدر من الرجل: كانوا يقولون: إن الرجل إذا خدرت رجله، فذكر أحب الناس إليه ذهب الخدر.

  • (١٦)

    رمي سن الصبي المثغر في الشمس، يقولون: إن الغلام إذا أثغر فرمى سنه في عين الشمس بسبابته وإبهامه، فقد أمن على أسنانه العوج والفلج والثغن.

  • (١٧)

    العياقة: وهي زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها واتجاهاتها وممراتها، وبذلك يتشاءمون ويتفاءلون.

  • (١٨)

    النهيق لاتقاء الوباء: كانوا يعتقدون أن الرجل إذا قدم قريته، وخشي وباءها، ونهق قبل أن يدخلها مثل الحمار، لم يصبه الوباء.

  • (١٩)

    التفقئة والتعمية: وذلك أنه كان إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا، فقأ عين الفحل، فإذا زادت عن الألف فقأ عينه الأخرى، ويزعمون أن ذلك يكف العين عنها.

ونجتزئ بهذا القدر من عادات العرب وخرافتهم، ونلفت النظر إلى أن بعض هذا شائع في البيئة المصرية، وأن التاريخ والبحث أثبت أنه متوارث من أيام الفراعنة.

وننتقل الآن إلى ما نريد أن نختم به هذا الكتاب الأول، وهو وصف الحالة الثقافية في الحجاز قبيل الإسلام، ومدى ما كان لسبأ والحبشة وفارس والغساسنة واليهود من آثار فيها.

تأثر الحجاز بثقافات الأمم المجاورة

على الرغم من أن الحجاز لم يكن قبيل الإسلام واقعًا في مجرى التيار العالمي من ناحية الثقافة، إلا أنه لم يكن بمنأى عنها فلقد تسربت إليه من بلاد العرب الجنوبية بعض الآثار الثقافية، مما لقحت به لغة العرب الشماليين، ونقصد بها لغة قريش التي تمكنت في هذا القرن السابق على الإسلام من أن تسود لغات العرب أجمعين، وتصبح لها الصدارة بين كل لهجاتهم، فألفاظ الرحمن والرحيم وشرك وكفر وغيرها هي ألفاظ جنوبية، سلكت سبيلها إلى الحجاز واستُعملت في المعاني التي كانت تُطلق عليها في الجنوب كما تدل على ذلك النقوش التي كُشفت حديثًا.

كذلك كان لسكان الحبشة الساميين أثر في ثقافة الحجاز، وقد سبق أن درسنا أن الحبشة كانت تشترك مع دولة حمير في احتكار تجارة التوابل والأفاوية في العالم القديم، التي كان الحجاز طريق نقلها الهام، ودرسنا أيضًا بأنه في الخمسين سنة السابقة لميلاد النبي عليه السلام، كانت الحبشة تحكم اليمن، وأنه في عام ميلاده — أي عام الفيل — كانوا يهددون مكة والكعبة بالغزو، وكانت مكة نفسها مقرًّا لكثير من الأحباش الذين كانوا — في الغالب — يعتنقون المسيحية، وكان بلال مؤذن الرسول عبدًا حبشيًّا، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى البحر وركوبه وأمواجه، وكان العرب يعرفون هذا بسبب علاقاتهم البحرية مع الحبشة، وفي تاريخ السيرة: أن المسلمين المضطهدين من قريش الوثنية، هاجروا هجرتهم الأولى إلى الحبشة.

وإذا تعقبنا الألفاظ العربية التي ترجع إلى أصل حبشي، وجدنا فيها ما يثبت لنا ذلك التأثر الثقافي، ومن هذه الألفاظ نذكر الكلمات الآتية: برهان – حواريون – جهنم «وأصلها عبري» – مائدة – ملك «أحد الملائكة وأصلها عبري» – محراب – منبر – مصحف – شيطان، وقد أورد السيوطي في كتابه الإتقان الكثير من الكلمات الأعجمية التي وردت في القرآن.

وفي القرن السابق لتأسيس الإسلام كان كل من فارس والحبشة يتنازعان السيطرة على اليمن، ولقد انتقلت فنون فارس الحربية إلى الحجاز عن طريق اليمن، كما انتقلت — أيضًا — عن طريق الحيرة، ومن المعروف أن سلمان الفارسي هو الذي أشار على الرسول بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وكانت الحيرة من العوامل التي نشرت الثقافة الفارسية في بلاد العرب، كما كان لها أثر في نقل بعض مظاهر الثقافة الآرامية النسطورية قبل أيام الرسول، ولما كان النساطرة أنفسهم متأثرين بالحضارة الإغريقية، فقد كانوا أيضًا واسطة في نقلها مع ثقافتهم والثقافة الفارسية إلى قلب بلاد العرب الوثنية، ومن الألفاظ الفارسية التي دخلت إلى اللغة العربية لفظ الفرند «السيف» – والفردوس – وسجيل «حجارة» – والبرزخ – وزنجبيل – وخندق – وغيرها.

وكما كان لنساطرة الحيرة هذا الأثر الثقافي في الحجاز، كذلك كان ليعاقبة الغسانيين أثر في شعب الحجاز أيضًا، وقد نقلوا إليه ما تأثروا هم به بحكم جوارهم لبيزنطة، ومن الأسماء التي شاع استعمالها نقلًا عنهم أسماء داود – وسليمان – وعيسى وغيرها من الأسماء التي شاعت إلى حد ما قبيل الإسلام في بلاد العرب، على أننا يجب ألا نغالي كثيرًا في هذا الأثر من اليعاقبة والنساطرة؛ لأن المسيحية — كما بينا في فقرة [المسيحية ببلاد العرب] — لم ترسخ أقدامها في بلاد العرب، ومن الألفاظ التي نقلها مسيحيو الغساسنة إلى اللغة العربية ما يأتي: كنيسة – وبيعة – ودمية – وصورة – وقسيس – وصدقة – وناطور – ونير – وفدان – وقنديل «وهذه مأخوذة من أصل لاتيني هو كنديل» – وقصر «وهذه مأخوذة من كسترم اللاتينية التي تحولت إلى قسطرا السريانية وقصر الآرامية.»

وتأثرت بلاد العرب بالتوحيد اليهودي، كما تأثرت بالتوحيد المسيحي؛ وقد سبق أن قلنا: إنه كان لليهود مستعمرات زاهرة في المدينة، وبعض الواحات الخصبة في شمال الحجاز، ومن الألفاظ التي دخلت العربية عن طريق العبرية لفظ جبريل – وصورة – وجبار، وقد أورد الجمحي في كتابه طبقات الشعراء تراجم الكثير من شعراء اليهود في المدينة، كما روى صاحب الأغاني كثيرًا من أشعار اليهود، ولكن الشاعر الوحيد اليهودي الذي وصلنا ديوانه — هو السموأل «صمويل» صاحب الأبلق قرب تيماء، وهو معاصر لامرئ القيس الكندي، على أنَّا لا نستطيع إذا تصفحنا شعره أن نتبين فيه ما يميزه عن بقية الشعر الوثني، وهذا هو الذي حدا بكثير من النقاد إلى الشك في يهودية السموأل، وقد سبق أن قلنا: إن اليهودية أصبحت في عهد ذي نواس دين الدولة الرسمي في اليمن.

وقصارى القول وحماداه أنَّا نستطيع أن نقرر باطمئنان أن بلاد الحجاز كانت في القرن السابق لبعثة الرسول ، تدوي بأصداء من تأثرات مختلفة بين عقلية ودينية ومادية، منعكسة من بيزنطة والشام وفارس والحبشة، سلكت سبيلها من ناحية الغساسنة واللخميين واليمن، ولكن إلى جوار ذلك نستطيع أن نقرر أيضًا أن الحجاز لم تكن اتصالاتها بهذه النواحي من الحيوية بحيث تستطيع أن تطبع نفسها بذلك الطابع العالي لهذه الحضارة الشمالية.

ويخيل إلينا أن وثنية شبه الجزيرة قد وصلت — في هذا الدور — إلى درجة فشلت معها في أن تكون غذاء روحيًّا للشعب العربي، وكانت كافة الملابسات — وبخاصة بعد أن فشلت اليهودية والمسيحية في تثبيت أقدامها — تنبئ بأن تغيرًا لابد أن يحدث، لقد كان الناس جياعًا إلى الغذاء الروحي وعافت نفوسهم ما قدمته إليهم المسيحية واليهودية، فتلمسوا ذلك الغذاء الروحي في الحنيفية القديمة دين إبراهيم، ولكنهم كانوا حيارى، لقد عمت الفوضى في عالمي السياسة والدين، وكانت لحظة رهيبة، وكان العالم العربي بأجمعه، أو الشطر الأكبر منه على الأقل في حالة نفسية رائعة، كأنما كان ينتظر بفارغ الصبر ظهور دين عظيم، وزعيم قومي كبير، وإذا بالعناية الإلهية، المطلعة على خلجات الصدور، وخفايا الآلام، تبعث بالزعيم العربي ونبي الإسلام سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل صلاة وأزكى سلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤