رُعب المُرتَفعات

قصة تَشتمِل على المَخطوط المعروف باسم مخطوط جويس أرمسترونج الناقص

إنَّ التصوُّر الذي مُفادُه أن السردَ العجيب الذي أُطْلِقَ عليه اسم مخطوط جويس أرمسترونج الناقص هو مَقْلَب مُحكَمٌ وضعه شخصٌ مجهولُ الهوية، مُبتلًى بِحسٍّ فُكاهيٍّ مُنْحَرفٍ وخبيث؛ قد نبذَه حاليًّا كلُّ من تفحَّصوا الأمر. فمن شأن أبشع مُدبِّري المكائد وأكثرهم خيالًا أن يتردَّد قبل أن يربط خيالاته المريضة بالحقائق المأساوية، والتي لا يطالها شك، التي تُعزِّز صحَّة الرواية. ومع أن المزاعم التي يحتويها تتَّسِم بالغرابةِ بل والشناعة، فإنها تفرِض صحتها على الإدراك الجَمْعي، وأنه يتعيَّن علينا أن نُعيد ضبط أفكارنا على الموقف الجديد. يبدو أن عالَمَنا هذا يفصِله حدُّ أمانٍ واهٍ وهشٌّ عن خطرٍ بالِغ الغَرابة والبُعد عن التوقع. وسوف أسعى جاهِدًا في هذا السَّرد — الذي يَستنسِخ الوثيقة الأصلية في صورتها التي تتَّسِم حتمًا بأنها مَنقوصة بعضَ الشيء — أن أضع بين يدَي القارئ جميع الحقائق حتى الآن، مُستهِلًّا روايتي للأحداث بالقول إنه إن كان يُوجَد من يَشكُّ في رواية جويس أرمسترونج؛ فليس من الممكن أن يكون ثمة شكٌّ البتَّة في الوقائع المُتعلِّقة بالمُلازم ميرتل، ولا بآر إنْ، ولا بالسيد هاي كونر، الذين لا شكَّ في أنهم لقُوا حتفَهم على النحو الوارِد بَيانه.

عُثر على مخطوط جويس أرمسترونج الناقص في الحقل الذي يُعرَف باسم لُوار هايكوك، الذي يقَع على مسافة مِيلٍ واحدٍ غربي قرية ويذيام، عند الحدِّ الفاصل بين مُقاطعتَي كِنت وساسِكس. كان الخامس عشر من سبتمبر الماضي هو اليوم الذي لاحظ فيه عاملٌ زراعي — هو جيمس فلين، الذي يعمل لدى المُزارِع ماثيو دوْد بمزرَعة تشونتري، بقرية ويذيام — غَلْيُونًا من خشب الورد البريِّ مُلقًى على الأرض على مَقربةٍ من المَمْشى المُتاخِم لسياج الشُّجَيرات في حقل لُوار هايكوك. وعلى بُعد بِضع خُطواتٍ التقطَ منظارًا مكسورًا ذا عدستَين. وأخيرًا، أبصرَ بين بعض نبْتات القُرَّاص، في مَصرف المياه، كِتابًا مَبسوطًا، عليه غلافٌ من قماش الكَنَفا، وتبيَّن بعد ذلك أنه عبارة عن دفتر مُلاحظات ذي أوراقٍ قابلةٍ للفَصل، وكان بعض تلك الأوراق قد انفكَّ وراح يُرفرِف على طول قاعِدة سياج الشجيْرات. فجمع تلك الأوراق، ولكنَّ بعضها، ومن بينه الورقة الأولى، لمْ يُسْتَرجَع قط، ويُخلِّف فجوةً مؤسفة في هذه الإفادة الشديدة الأهمية. أخذ العامل دفتر المُلاحظات إلى سيِّده، الذي عرَضه بدَوره على الدكتور جيه آيتش أثرتون، من قرية هارتفيلد. فأدرك هذا السيد الفاضل على الفَور أن ثمَّةَ حاجةً إلى فحصِ متخصصٍ، فأُرسِل المخطوط إلى النادي الجويِّ بلندن، حيث يُوجَد الآن.

الصفحتان الأُولَيان من المخطوط مفقودتان. وثمَّةَ أيضًا واحدةٌ مقطوعةٌ قُبيل نهاية السرد، غير أن أيًّا منها لا تُؤثِّرُ على التَّرابُط العام للقصة. يُخَمَّن أن الاستهلال المفقود يتناول سِجلَّ مؤهلات السيِّد جويس أرمسترونج بصِفته ملَّاحًا جويًّا، والتي يُمكن أن يُستَدَلَّ عليها من مصادر أخرى والمُعْتَرَف بأنها بلا نظيرٍ بين طيَّاري إنجلترا الجوِّيِّين. لسنواتٍ عديدةٍ كان يُنظرُ إليه باعتباره من أجرأ الطيَّارين وأكثرهم ثقافة، وهو مَزيجٌ مكَّنه من اختراع العديد من الأجهزة الجديدة وكذلك اختِبارها، بما في ذلك المُلحَق الجيروسكوبي الشائع والذي يُعْرَف باسمه. القوام الرئيسي للمخطوط مكتوبٌ بعِنايةٍ بالحِبر، ولكن السطور القليلة الأخيرة مكتوبة بقلَمِ رصاصٍ وغير مُتقنَةٍ للغاية حتى إنَّها لا تكاد تُقرأ؛ تمامًا، في الواقع، كما قد يُتوقَّع لها أن تبدو إذا ما شُخْبِطَت على عَجَلٍ على مِقعد طائرةٍ مُنطلِقة. ويُوجَد، علاوةً على ذلك، عدَّة بُقَعٍ على كلٍّ من الصفحة الأخيرة والغلاف الخارجي، والتي أعلن خبراء وزارة الداخلية أنها عبارة عن دماء؛ ربما كانت بشريَّةً، ولكن الأكيد أنها تخصُّ أحد الثديِيَّات. إن واقعةَ اكتشاف شيءٍ يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ الكائنَ المُسبِّب لمرض الملاريا في هذه الدماء — ومن المعروف أن جويس أرمسترونج كان يُعاني من حُمَّى مُتقطِّعة — لَمثالٌ بارزٌ على ما وضعَه العِلم الحديث مِن أسلحةٍ جديدة بين أيدي مُحقِّقينا.

والآن نُدلي بكلمةٍ عن شخصيَّة صاحِب هذه الإفادة التي مِن شأنها تَغيير مجرى التاريخ. كان جويس أرمسترونج — وفقًا للأصدقاء القليلين الذين عرفوا بالفعل شيئًا عن الرجل — شاعرًا وشخصًا حالمًا، كما كان بارِعًا في مجال الميكانيكا ومُخترِعًا. كان رجلًا ذا ثروةٍ كبيرة، أنفق قدرًا كبيرًا منها على مُمارسة هوايته المُتمثِّلة في المِلاحة الجوية. كان يمتلِك أربع طائراتٍ خاصة في حظائر الطائرات الخاصَّة به قُربَ بلدة ديفايسيس. ويُقال إنه قام بما لا يقلُّ عن مائةٍ وسبعين طلْعةً خلال العام الماضي. كان رَجُلًا مُنعزلًا ذا تَقلُّباتٍ مِزاجيةٍ كئيبةٍ. كان من شأنه خلالها أن يَعتزِل صُحبة رفاقه. يقول الكابتن دانجيرفيلد، الذي كان يَعرفه أكثرَ من أيِّ أحدٍ آخر إنه كانت ثمَّةَ أوقاتٌ يُخشى فيها أن تتطوَّر غرابةُ أطواره لتُصبِح شيئًا أكثر خطورة. وكانت عادته في حَمْلِ بندقية شوزن معه على مَتن طائرته هي إحدى تَجلِّيات غرابة الأطوار تلك.

وكان من ذلك أيضًا، التأثير الهوَسي الذي ألحَقَه سقوطُ المُلازم ميرتل بعقلِه. سقط ميرتل، الذي كان يُحاوِل تسجيل الرقْمِ القياسي في علوِّ التحليق، من ارتفاع يزيد عن ثلاثين ألف قدَم. وإنه لَمِن المُفزِع رِواية ما جرى له؛ إذ كان رأسُه قد مُحِيَ تمامًا، رغم أن جسمه وأطرافه احتفظت بهيئتها. وحسبما يقول دانجيرفيلد، كان من شأن جويس أرمسترونج، في كلِّ تَجمُّعٍ للطيارين، أن يسأل بابتسامةٍ غامِضة: «وأين، بِربِّكم، رأسُ ميرتل؟»

وفي مُناسبةٍ أُخرى بعدَ العشاء، في قاعة الطعام بمدرسة الطيران الواقِعة في سهل سالزبوري، بدأ جويس مُناقشةً حول ماهيَّة أكثر الأخطار استدامةً الذي سوف يتعيَّن على الطيَّارين مُواجهتُه. وبعدما استمع إلى آراءٍ مُتعاقِبة تتعلَّق بالجيوب الهوائية، والبناء المَعيب، وفرْطِ الميل الجانبي، أنهى المناقشة بهزِّ كَتِفيه والامتناع عن طرحِ آرائه الخاصة، رغم أنه أعطى انطباعًا بأنها مُختلفةٌ عن أيٍّ مِمَّا طرحه رِفاقه.

ومن الجدير بالمُلاحظة أنه اكتُشِف، بعد اختفائه التام، أنَّ شئونه الخاصَّة كانت قد سُوِّيَتْ بِدقَّةٍ قد تدلُّ على أنه كان لديه حدسٌ مُسبَقٌ قويٌّ بوقوع كارثة. وبعد هذه التَّوضيحات الجوهرية سأعرِض الآن السَّرد بصورَتِه الحاليَّة بالضبط، بدءًا من الصفحةِ الثالثة من دَفتر المُلاحظات الملطَّخ بالدماء:

«بيْد أنني اكتشفتُ عندما تناولتُ الغَداء في مدينة ريمز مع كوسيلي وجوستاف ريموند أنَّ أيًّا منهما لمْ يكُن مُدرِكًا لأيِّ خطرٍ غير عاديٍّ في الطبقات العُليا من الغلاف الجوي. وأنا في الحقيقة لمْ أقُل ما كان يجُول بخاطري، ولكنِّي اقتربتُ منه جدًّا بحيث لو كان لديهما أيَّةُ فكرةٍ شبيهةٍ به لما عَجزا عن التعبير عنها. ولكنهما في ذلك الحين كانا رجلَين أجوَفَين مُختالَين بنفسيهما، تفكيرهما لا يَتجاوَز رؤيةَ اسميْهما التافِهَين على صفحات الجرائد. والجدير بالذكر أن أيًّا منهما لمْ يتجاوَز بكثيرٍ مستوى العشرين ألف قدَمٍ قط. بطبيعة الحال، وصل رجالٌ إلى أعلى من هذا بالمَناطيد وكذلك بتَسلُّق الجبال. ولا بدَّ أنَّ دخول الطائرة إلى منطقة الخطر يكون أعلى بكثيرٍ من تلك النقطة؛ وهذا في جميع الأحوال بافتِراضِ أن هواجسي صحيحة.

إننا نُعايِش التَّحليق بالطائرات لأكثر من عشرين سنةً الآن، وقد يتساءل المرء: ما الذي جعل هذا الخطر لا يكشف عن نفسه إلَّا في وقتنا هذا؟ والإجابة واضحة؛ ففي الأيام السَّالِفة التي كانت فيها المُحرِّكات ضعيفةً، عندما كانَ مُحرِّك جنوم أو جرين ذو المائة حصانٍ يُعَدُّ أكثرَ من كافٍ لتلبِيَة كلِّ الاحتياجات، كانت الطلَعاتُ الجوية مُقيدةً تقييدًا شديدًا. والآن بعد أن أصبح المُحرِّك ذو قوةِ الثلاثمائة حصان هو القاعدة وليس الاستثناء، صارتِ الطلَعاتُ إلى طبقات الجوِّ العُليا أكثر سهولةً وشيوعًا. ويستطيع بعضُنا أن يتذكَّر بلوغ جاروس شهرةً عالميةً عندما كنَّا في سنِّ الشباب، بوصوله إلى ارتفاع تسعةَ عشَرَ ألفَ قدَم، وكان تَحليقُه فوق جبال الألب يُعَدُّ إنجازًا بارِزًا. أما الآن فقد ارتفع مِعيارُنا ارتفاعًا يفوق الوصف، فمثلًا، يُوجَد عشرون طلعةً جويَّةً عالية الارتفاع في السنوات السابقة، ونُفِّذَ كثيرٌ منها دون عواقبَ وَخيمة. وبُلِغ مستوى الثلاثين ألف قدمٍ مرَّةً تِلوَ الأخرى دونما مكروهٍ يتجاوَزُ الزكام والربو. علام يُبرهِن هذا؟ قد يهبِط زائر على هذا الكوكب ألفًا من المرَّات ولا يرى نَمِرًا أبدًا. رغم هذا فإن النُّمور موجودة، ولو تَصادَفَ أنه هبط في أحد الأدغال فقد يُفترَس. يُوجَد أدغالٌ في طبقات الجوِّ العُليا، ويُوجَد أشياءُ أسوأ من النُّمور تسكنها. وأعتقد أنه في الوقت المُناسب سوف يضع الناس خرائطَ واضحةً بدقَّةٍ لتلك الأدغال. وحتى في اللحظة الراهنة فإن بِمقدوري تَعيين اثنتَين منها. فإحداهما تقع فوق منطقة باو-بياريتز الفرنسية. وثمَّةَ أخرى تقعُ فوق رأسي تمامًا فيما أكتُب هنا بمنزلي في مُقاطعة ويلتشير، بل إنني أعتقد اعتقادًا غير جازمٍ أن هناك أدغالًا ثالثة في منطقة هامبورج-فيسبادن.

كان اختفاء الطيَّارين هو أول ما دعاني للتفكير في الأمر. بالطبع، قال الجميع إنهم قد سقطوا في البحر، ولكن ذلك لمْ يُقنِعْني على الإطلاق. كانت الحالة الأولى هي حالة الطيَّار فيرييه في فرنسا؛ إذ عُثر على طائرته بالقُرب من مدينة بايون، ولكنهم لمْ يَجدوا جُثَّته مُطلقًا. وعلاوة على ذلك، حالة الطيار باكستر، الذي اختفى، ومع ذلك وُجد مُحرِّكُ طائرته وبعض أدوات التثبيت الحديدية في إحدى الغابات في مقاطعة ليسترشَير. في تلك الحالة، يُقرِّر الدكتور ميدلتون، من مدينة أميسبوري، الذي كان يُراقِب عملية تحليق الطائرة بمنظار، أنه، مُباشرةً قبل أن تَحجُب السُّحبُ الرؤية، رأى الطائرة التي كانت تُحلِّق على ارتفاعٍ شاهقٍ، ترتفع فجأةً عموديًّا إلى أعلى في سلسلة مُتتابِعةٍ من الرَّجَّات على نحوٍ كان يظنه مُستحيلًا. كانت تلك آخرَ مرةٍ يُشاهَد فيها باكستر. توارد ذكر الأمر في الصحف، ولكن دون جديد على الإطلاق. ووقعتْ حالات عديدة أخرى مُشابِهة، ثم وقعتْ وفاةُ هاي كونر. فما أكثرَ الثرثرة التي دارَتْ حول لُغزِ الجوِّ العَصيِّ على الحل! وما أكثر الأعمِدةَ التي تناولتِ الأمر في الصحف الرخيصة العالية التوزيع! ورغم هذا فيا لَضآلةِ ما بُذل لِسَبْر غَوْر القضية! لقد انحدَر بطائرته، ومُحرِّكاتُها مُتوقِّفة، باتِّجاه الأرض انحِدارًا مُريعًا من ارتفاعٍ غير معلوم. ولمْ يخرُج من طائرته قطُّ ومات وهو جالس في مِقعده. ولكن ما الذي سبَّبَ الوفاة؟ قال الأطباء: «مرضٌ قلبي.» هُراء! لقد كان قلبُ هاي كونر سليمًا مثل قلبي. ماذا قال فينابلز؟ كان فينابلز هو الرجل الوحيد الذي كان بجواره عندما مات، قال إنه كان يرتَجِفُ وَبَدا مِثل رجلٍ تعرَّض لفزَعٍ شديد. «مات رُعبًا.» هكذا قال فينابلز، ولكن لم يستطعْ أن يَتخيَّل مِمَّ كان رُعبُه. لمْ يقُل لفينابلز سوى كلمةٍ واحدة، كان وقْعُها ككلمة «وحشي»، ولكنهم لم يفهَموا من ذلك شيئًا أثناء التحقيق. ولكنني أستطيع أن أفهَم منه شيئًا. وحوش! كانت تلك هي آخر كلمةٍ نطقَ بها المِسكين هاري هاي كونر. «حقًّا» لقد مات رُعبًا مِثلما اعتقدَ فينابلز.

ثُمَّ حدث أمرُ رأس ميرتل. هل حقًّا تُصدِّقون، وهل حقًّا يُصدِّق أيُّ أحدٍ، أنه مِن المُمكن لرأسِ إنسانٍ أن يُدْفَع بكامِله دَفعًا داخِل جسَده بتأثير قوَّةِ السَّقْطة؟ حسنٌ، ربما يكون الأمر مُحتمَلًا، أما من ناحيتي أنا، فلمْ أُصدِّق قطُّ أنَّ هذا ما حدَث لميرتل. وثمَّةَ أمرُ المادَّةِ الدُّهنِية التي كانت على ملابسه؛ إذ قال أحدهم أثناء التحقيق: «جسده كلُّه لَزِج بفِعل مادةٍ دُهنية.» الغريب أنَّ أحدًا لمْ تدُر برأسه الأفكار بشأن ذلك! أما أنا ففعلْت، ولكن يومَذاك، كان قد مضى وقتٌ طويل بما يكفي وأنا أفكر بالأمر. قمتُ بثلاثِ طلعات — كم كان دانجيرفيلد يُمازِحُني بشأن بُندقيَّتي الشوزن! — ولكني لمْ أبلُغ قطُّ الارتفاع الكافي. أما الآن — بالاستعانة بطائرة بول فيرونِر الجديدة الخفيفة هذه ومُحرِّكها من ماركة روبر ذي المائة والخمسة والسبعين حصانًا — فينبغي لي بِسهولةٍ أن أُدْرِك ارتفاع الثلاثين ألفَ قدَمٍ غدًا. سأحاول الوصول إلى الرقْمِ القياسي. وربما أُحاوِل الوصول إلى شيءٍ آخَر كذلك. لا شك في أنه أمرٌ خطير. إن أراد شخصٌ ما تَجنبَ الخطر لكان من الأفضل له أن يبتعِد عن الطيران بالكلية، وأن يَستكين نِهائيًّا في خُفَّين من القماش الصوفيِّ ورُوبٍ منزلي. ولكنني سأزور أدغال الجوِّ في الغد؛ ولو كان ثمَّةَ أيُّ شيءٍ هناك فسوف أعرِفه. إن عُدْتُ فسأُدرِك قليلًا من الشُّهرة. وإذا لم أعُد فلَعلَّ دفتر المُلاحظات هذا يُبيِّن ما أُحاوِل فِعله، وكيف فقدتُ حياتي وأنا أفعله. ولكن، من فضلكم، لا تتفوَّهوا بِهُراءٍ حوْلَ حوادِثَ عارِضةٍ أو أمورٍ غامضة.

اخترتُ طائرتي الأُحادِيَّة السطح من نَوع بول فيرنر لأداء المُهمَّة. فلا شيء يُضاهي طائرةً أُحاديَّة السطح عندما يتوجَّب إنجاز عملٍ حقيقي. اكتشف بيمونت ذلك في مُستهلِّ عصر الطيران. أحد الأسباب هو أنها لا تُبالي بالرطوبة، ويبدو من حالة الطقس وكأننا سنكون مُحاطين بالسُّحُب طوال الوقت. ثم إنها نموذجٌ جميل صغير الحجم وتستجيب لأوامري كحصانٍ سلِسِ الانقياد. وبها مُحرِّك دوَّار من ماركة روبر بعشر أسطوانات، تصِل قوَّةُ أدائه حتى مائةٍ وخمسةٍ وسبعينَ حصانًا. وتحتوي على كلِّ التحسينات الحديثة؛ من هَيكلٍ مُغلَق، وزلَّاجتَي هبوطٍ شديدتَي الانحناء، ومكابح، وأجهزة حفظ اتِّزانٍ جيروسكوبية، وثلاث سُرعات، تعمل عن طريق تعديل زاوية أسطح توجيه الطائرة اعتمادًا على فكرة عمل الستارة الفينيسية. أخذتُ معي بندقيَّة شوزن ودستة خراطيش مَحشوَّةً برصاص الخُردُق. لَيتَكُم رأيتُم وجه بيركنز، الميكانيكي العجوز الذي يعمل لدي، عندما أمرتُه بوضع هذه الأشياء في الطائرة. كنتُ أرتدي ملابس تُشبِهُ ملابس مُستكشفي القُطب الشمالي؛ إذ ارتديتُ قميصين من الصُّوف تحت بزَّة الطيران، وجَورَبين سميكين داخِل حذائي الطويل الرَّقَبة المُبطَّن، وغطاءَ رأسٍ واقِيًا من العواصِف بزوائدَ جانبيةٍ لحماية الأذُنين، ونظارتي الواقية المصنوعة من معدِن التلك. كان الجوُّ خانِقًا خارج حظائر الطائرات، ولكني كنتُ ماضيًا نحوَ ارتفاعٍ شاهقٍ كقِمَّة سلسلة جبال الهيمالايا، وكان يتعيَّن عليَّ أن أرتديَ ما يتلاءم مع ذلك. أدرك بيركنز أن ثمَّةَ خَطْبًا ما يَجرِي، وناشَدَني أن أصطحِبَه معي. ربما كنتُ سأفعل لو كنتُ أُحلِّق في طائرةٍ ذات سطحين، ولكنَّ الطيران بطائرةٍ أُحاديَّة السطح هو أمر يقوم به رجل واحد؛ إذا كنتَ تُريد أن تحصُل منها على أقصى ارتفاعٍ يُمكنها بلوغُه. وبالطبع، أخذتُ معي حقيبة أوكسجين؛ فمصير من يسعى إلى تحقيق الرقم القياسيِّ في الارتفاع بدون واحدةٍ كهذه سوف يكون إمَّا التَّجمُّدَ أو الاختناق؛ أو كِليهما.

قبل أن أدخل الطائرة، ألقيتُ نظرةً فاحِصة على أسطح توجيه الطائرة، وعارِضة التوجيه، وذِراع الرفع. وبِقدْرِ ما استطعتُ أن أرى، كان كلُّ شيءٍ مضبوطًا. بعد ذلك أدرْتُ مُحرِّكي ووجدتُ الطائرة تعمل بشكلٍ جميل. وعندما سمَحوا لها بالانطلاق، على الفور تقريبًا حلَّقَتْ وهي على أقلِّ سرعة. دُرتُ بها مرةً أو مرَّتين في ساحة حظيرة طائراتي من أجل تهيئتها للطيران فحسب، ثم بسطتُ أسطح التوجيه، وأنا أشير إلى بيركنز والآخرين، وجعلتُ طائرتي على سرعتها القصوى. فانسابتْ تطير مُسرعةً قُرب سطح الأرض، وكأنها طائر سنونو، مع اتِّجاه الريح مسافة ثمانية أو عشرة أميالٍ حتى رفعْتُ مُقدِّمَها إلى أعلى قليلًا فبدأتْ ترتقي ارتقاءً حلزونيًّا رائعًا نحوَ رُكامةِ السُّحُب فَوقي. ومن المُهِمِّ جدًّا أن ترتفع ببطءٍ وأن تُؤقلِمَ نفسك مع الضغط باستمرارٍ كلَّما ارتفعت.

كان يومًا حارًّا ثقيل الوَطْأة مُقارنةً بالحالة المُعتادة للطقس الإنجليزي في شهر سبتمبر، وكان السُّكُونُ وتَكثُّف الأمطار المُوشِكة على الهُطول يُخيِّمان. بين الحين والآخر كانت هبَّاتُ الرياح المُفاجِئة تأتي من جِهة الجنوب الغربي؛ كانت إحداها شديدةَ العَصْف وغيرَ مُتوقَّعة بالمرة بحيث فاجأتني وأنا غافٍ وقَلَبتْني رأسًا على عَقِب للحظةٍ مِن الزمن. إنني أذكرُ حينما كانت الأعاصيرُ والدوَّامات والمَطبَّات الهوائية تُعدُّ مَبعثَ خطورة؛ وذلك قبل أن نتعلم إدخال قوَّةٍ في مُحرِّكاتنا تكسر شوكتها. ما إن وصلتُ إلى رُكُم السحاب، وكان جهاز قياس الارتفاع يُشير إلى ثلاثة آلاف قدَم، حتى هطل المطر. يا للعَجَب، كم كان ينهَمِر! كان يَدقُّ على جناحَي طائرتي كقرْعِ الطبول ويضرب وجهي بعنفٍ، يَغْشى نظارتي حتى كدتُ لا أستطيع أن أرى. ضغطتُ على المَكابِح وصولًا إلى سرعةٍ منخفضة، لأن الطيران مُواجهًا للمطر كان مُوجعًا. وعندما ارتفعتُ أكثرَ صار المطرُ بَرَدًا، وكان لزامًا عليَّ أن أُدِير له ظهري. توقفَتْ إحدى أسطوانات المُحرِّك عن العمل؛ أتصوَّر أن شمعة إشعالٍ قد اتَّسختْ، لكنني كنتُ لا أزال أرتفعُ بثباتٍ وبقدرٍ وافرٍ من القوة. وبعد قليلٍ انقضتِ العلَّة، أيًّا كانت طبيعتُها، وسمِعتُ الصوت الكامل الرَّخيم لأزيز المُحرِّك؛ كانت الأسطوانات العَشْر تترنَّم وكأنها صوت واحد. وهنا يأتي جمالُ كاتِماتِ الصوت الحديثة في طائراتنا. أخيرًا يُمكننا التحكُّم في مُحركاتنا بالسمع. فكم ذا تَصِرُّ وتُطقطِق وتَنْشِج عندما تُواجه متاعب! كانت كل صرخات الاستغاثة تلك تضيع سُدًى في سالِف الأيام، عندما كان ضجيج الطائرة الهائل يطغى على كلِّ الأصوات. لَيتَه كان في مقدور الطيَّارين الأوائل أن يعودوا ليرَوا جمال وإتقان التِّقْنِيات التي تحقَّقتْ على حِساب أرواحهم!

في حوالي التاسعة والنصف كنتُ قريبًا من السُّحب. وكان سهل سالزبوري ذو الرقعة الشاسعة يمتدُّ تَحتي وقد غشَّاه المطر وظلَّلَ كلَّ شِبرٍ منه. وعند مستوى الألف قدَمٍ كانت نِصف دَستةٍ من الطائرات تُحلِّق تحليقًا رتيبًا، وقد بدَتْ مثل طيور السنونو السوداء الصغيرة في مُقابِل الخلفية الخضراء. أعتقد أنهم كانوا يتساءلون عمَّا كنتُ أفعله بالأعلى في أرض السحاب. وفجأةً تقدَّم بثباتٍ ستارٌ رَماديٌّ مُغَطِّيًا ما تحتي، وراحتْ تَجمُّعات البخار المُبلِّلة تدور كالدَّوَّامة حول وجهي. كان الجوُّ قارِسًا دَبِقًا يبعَثُ على التعاسة. بَيْد أنني كنتُ أُحلِّق فوق عاصفة البَرَد، وكان ذلك مَغنمًا. كان السحاب مُعتِمًا وكثيفًا مثل ضباب لندن. وفي غَمْرة تلهُّفي على تحرير نفسي رفعتُ مُقدَّم الطائرة لأعلى إلى أن دقَّ جرسُ الإنذار الأوتوماتيكي، وبدأتُ فِعليًّا أنزلِقُ إلى الوراء. لقد جَعلتْني أجنِحةُ الطائرة المُشبَّعة بالماء الذي كان يتقاطَر منها، أثقلَ ممَّا كنتُ أعتقد، ولكني كنتُ في ذلك الحين داخل سحابةٍ أخَف، وسُرعان ما اجتزتُ الطبقة الأولى. كان ثَمَّةَ طبقة ثانية — بِلونِ العقيق ومظهر الصُّوف — على ارتفاعٍ شاهِقٍ فوق رأسي، كان يُوجَد سقفٌ أبيضُ مُمتدٌّ بلا انقطاعٍ بالأعلى، وقَعرٌ قاتِم مُمتدٌّ بلا انقطاعٍ بالأسفل، والطائرة أُحادِيَّةُ السطح آخذةٌ في الارتفاع بجُهدٍ بينهما إلى أعلى في دوَّامةٍ شاسعة. تَسود وَحْشةٌ رهيبة في هذه المساحات المليئة بالسحب. ذاتَ مرَّةٍ عبَرَ من أمامي سِربٌ هائلٌ من أحدِ أنواع الطيور المائية الصغيرة، كان يطيرُ بسرعةٍ كبيرةٍ باتِّجاه الغرب. كان صوت طنينِ أجنِحتها وصِياحها الموسيقي يبعثان البهجةَ في أذُني. يُخَيَّل لي أنه كان بَطًّا بَرِّيًّا مِن نوع الشرشير، ولكني عالِم حيوانٍ مُثيرٌ للشفَقة. أما الآن وقد أصبحنا نحن بني البشر طيورًا فلا بُدَّ لنا حقًا من أن نتعلم تمييز إخوتنا بِمجرَّد النظر.

أدارتِ الريح تحتي سهل السُّحُبِ الفسيح بسرعةٍ حولَ مِحوَره وجعلَتْه يَتمايَل. في إحدى المرَّات تشكَّلَ فيه تيارٌ عكسيٌّ هائل؛ عبارة عن دوَّامةٌ من البخار، ولمَحتْ عيناي خلالها العالم البعيد، كأنَّني كنتُ أنظر إلى أسفلَ عبر قُمع. كانت طائرةٌ كبيرةٌ بيضاء ثنائيةُ السطح تمرُّ على عُمقٍ سحيقٍ تحتي. يخيَّل لي أنها كانت طائرة مصلحة البريد الصباحيَّة بين مدينتَي ببريستول ولندن. ثم دار التيار إلى الداخل مُجدَّدًا واستمرتِ العُزلَةُ الكبيرة دون انقطاع.

لمستُ الحافَةَ السُّفلى من طَبَقةِ السَّحاب العُلْيَا بعد العاشرة مباشرةً. كانت تتكوَّن من بُخارٍ شفَّافٍ صافٍ ينجَرِف بسرعةٍ من ناحية الغرب. كانت الريح قد أخذت تَهبُّ بثباتٍ طوالَ هذا الوقت ثمَّ أخذتِ الآنَ تنفخُ نسيمًا باردًا؛ بسرعة ثمانيةٍ وعشرين مِيلًا في الساعة حسب مؤشِّري. كان الجوُّ بالأصل باردًا جدًّا، ورغم هذا كان مِقياس الارتفاع لديَّ يُشير إلى تسعةِ آلاف قدَمٍ فقط. كانت المُحرِّكات تعمَل على نحوٍ رائع، وأخذنا في الارتقاء بثباتٍ وبطريقةٍ رتيبة. كانت رُكامة السُّحب أكثر كثافةً مما كنتُ قد توقعت، لكنها صارت أقلَّ كثافةً في النهاية وتحولتْ إلى سَديمٍ ذهبيٍّ في مُواجَهتي، ثم في لحظةٍ كنتُ قد انطلقتُ خارجًا منه، هُنالِكَ أبصرتُ فوق رأسي سماءً بلا غيوم وشمسًا مُتلألئة؛ كل شيء بالأعلى كان باللونَين الأزرق والذهبي، وكل شيءٍ في الأسفل بلونٍ فضيٍّ لامع، كنتُ أرى على مدِّ بصري سهلًا شاسعًا مُتلألئًا. كانت الساعة العاشرة والربع، وكانت إبرة الباروجراف تُشير إلى اثنَي عشر ألفًا وثمانمائة ملِّي بار. أخذتُ أصعدُ وأصعد، وكانت أُذُناي مُركِّزَتَين على الصوتِ الخافت لأزيز الموتور، وكانت عيناي دائمتَي الانشغال بالساعة، وعداد الدوران، وذراع البنزين، ومِضخَّة الزيت. لا عجبَ في القول بأن الطيَّارين جنسٌ لا يعرِف الخوف. فلِكثرَةِ ما يَشغَل المرء من الأمور لا يجِدُ الوقت ليَقلَقَ بشأن نفسه. نحوَ هذا الوقتِ انتبهتُ إلى مدى عدم إمكانية التعويلِ على البُوصلة عندما تكون على ارتفاعٍ معيَّن فوق سطح الأرض. على ارتفاع خمسة عشر ألف قدمٍ كانت بُوصلتي تشيرُ إلى اتجاه الشرق ودرجة ناحية الجنوب. لكن الشمس والريح أرْشَدتاني إلى اتجاهاتي الصحيحة.

لقد كنتُ آملُ أن أبلغَ هدوءًا سرمدِيًّا في هذه الارتفاعات الشاهقة، لكنْ مع كل ألفِ قدمٍ من الارتقاء كانت العاصِفة تزدادُ قوَّة. كانت طائرتي تُصدِر صريرًا وتَرتجُّ من كلِّ مِفصلةٍ ومسمار برشام فيها وهي تُواجِه العاصفة، وانجرفتْ بعيدًا كورقةٍ عندما أمَلْتُها على جانِبها في المُنعطَف، آخذةً في الانزِلاق مع اتِّجاه الريح بِتَسارُعٍ أكبر، رُبَّما كان أكبرَ من أيَّةِ سرعةٍ تَحرَّك بها إنسان من قَبْل. رغم هذا فقد كان عليَّ دومًا أن أنعَطِف ثانيةً وأُغيِّر وِجهةَ التَّحليق إلى أعلى في قلبِ الريح، إذ لمْ أكن أسعى إلى مُجرَّد تحقيق ارتفاعٍ قياسي فقط؛ فوفقًا لكلِّ حساباتي، كانت أدغال الجوِّ التي أبحثُ عنها تقعُ فوق مقاطعة ويلتشير الصغيرة، وكان من الممكن أن يَضيع جُهدي كلُّه سدًى لو كنتُ اخترقتُ الطبقات الخارجية مِن نقطةٍ أبعَد.

عندما وصلتُ إلى مستوى التِّسعة عشر ألف قدم، وكان هذا في مُنتصف النهار تقريبًا، كانت الريح عاتيةً جدًّا ممَّا جعلني أنظر بشيءٍ من القلق إلى شدَّادات جناحَي طائرتي، مُتوقعًا أن أراها تَنقصِم أو ترتخي في أيَّةِ لحظة. حتى إنَّني حلَلْتُ مِظلَّة الهبوط ووضعتُها خلفي، وثبَّتُّ خُطَّافها في حلقةِ حِزامي الجلدي، لكي أكون مُستعدًّا للأسوأ. كان هذا هو الوقت الذي يدفع فيه الملَّاح الجويُّ حياتَه ثمنًا لعدَم إتقان الميكانيكي نوعًا ما لعمَلِه. ولكنَّها تماسكتْ بجسارة. كان كلُّ رِبَاطٍ ودعامةٍ تَطِنُّ وتَهتزُّ وكأنها أوتار قيثارة، ولكنه كان منظرًا مَهيبًا أن يرى المرءُ مَقدرةَ هذه الطائرة، مع كلِّ تلك الضربات واللطمات، على أن تَظلَّ قاهرةَ الطبيعةِ وسيِّدةَ السماء. لا رَيبَ في أن ثمَّةَ شَيْئًا إلهيًّا في الإنسان يدفَعُه إلى أن يَرقى إلى مقامٍ أسمى بكثيرٍ من الحدود التي يبدو أنَّ الكون قد فرَضَها عليه؛ أن يرقى، كذلك، بمثلِ هذا الإخلاص المُتفاني والبُطوليِّ الذي أظهرَه غزوُه للسماء. يتحدَّثون عن الانحطاط البشري! فمتى كُتِبتْ هكذا قِصَّةٌ في سِجلَّات تاريخ جِنسنا البشري؟

كانت تلك هي الأفكار التي دارت برأسي وأنا أرتقي بالطائرة ذلك المُسطَّح المائل الهائل والريحُ تلطِم وجهي حينًا وتصفِر خلف أُذنَيَّ حينًا آخر، بينما هَوَتْ تحتي أرضُ السحاب مُبتِعدةً بُعدًا استوتْ فيه الطيَّات والرَّبوات الفضية جميعُها وأصبحتْ سهلًا مُنبسطًا مُتَلَأْلِئًا. ولكني خضتُ فجأةً تجربةً رهيبةً وغير مسبوقة. لقد عاينتُ من قبلُ ذلك الشعورَ الذي يعتري المرءَ عندما يكون داخل ذلك الشيء الذي كان جيراننا يُسمُّونه Tourbillon أي «الزَّوْبَعَة»، ولكنه لمْ يكن بمثل هذه الحجم قط. احتوى ذلك التيَّارُ الضخم الجارِف من الرياح الذي كنتُ أتحدَّثُ عنه، فيما يبدو، على دوَّاماتٍ لا تقلُّ ضخامةً عنه. ودونما سابِق إنذار، سُحِبْتُ إلى قلبِ إحداها. دُرتُ في حركاتٍ دائريةٍ مُدَّةَ دقيقةٍ أو دَقيقتَين بسرعةٍ هائلةٍ كِدتُ معها أفقدُ وعْيي، ثمَّ سقطتُ فجأةً — بجناح الطائرة الأيسر أوَّلًا — هابِطًا عبر القُمع الفراغي الكائن في المركز. هويتُ مِثل صخرةٍ، وخسرتُ ما يُقارِب الألف قدم. لمْ يُبقِني في مِقعدي سوى حِزامي، وذهبتْ عنِّي الصَّدمة وعُسر التنفُّس وأنا مُعلَّقٌ فوق جانِب بدَن الطائرة شِبهَ فاقدٍ للوعي. ولكنني دائمًا ما أكون قادِرًا على بذلِ مجهودٍ فائق؛ وهذه أكبر مَيزة لديَّ بوصفي طيارًا. كنتُ مُدرِكًا لأن الهبوط كان أبطأ. كانتِ الدوَّامة على هيئة المخروط وليس القُمع، وكنتُ قد وصلتُ إلى قِمَّته. بالْتِواءةٍ هائلة، مُلقِيًا وَزْني كلَّه إلى جانبٍ واحدٍ، وازنْتُ أسطح توجيهٍ للطائرة وأبعدتُ مُقدِّمتها عن الريح. وعلى الفور كنتُ قد انطلقتُ خارج التيَّارات الدوَّامية ورُحتُ أنزلقُ بخِفَّةٍ عبرَ السماء. ثم — وبإحساسٍ بالظَّفَر رَغمَ صدْمتي — حوَّلتُ مُقدَّمَها لأعلى وبدأتُ مرةً أخرى في الطيران اللولَبيِّ المُرهِق نحوَ الأعلى. واتخذتُ مسارًا مُقوَّسًا شاسعًا لكي أتجنَّب بُؤرةَ الخطر في الدوَّامة، وسُرعان ما أصبحتُ فوقها سالِمًا. وكانت الساعة قد جاوزَتِ الواحدة للتوِّ عندما وصلتُ إلى ارتفاع واحدٍ وعشرين ألف قدم فوق مستوى سطح البحر. شعرتُ بفرحٍ غامر عندما ارتفعتُ مُتخطِّيًا العاصفة، ومع كلِّ مائة قدمٍ من الارتفاع كان الهواء يسكُن أكثرَ فأكثر. من ناحيةٍ أخرى، كان الجوُّ بارِدًا جدًّا، وشعرتُ بذلك الغَثَيان الغريب الذي يُصاحِب تَخلخُل الهواء. وفككتُ للمرَّة الأولى فوَّهةَ حقيبة الأكسجين التي معي وأخذتُ نَفَسًا من الغاز الرائع، إذ كُنتُ في احتياجٍ إليه. كان بِوِسعي أن أشعُر به يَسري كشرابٍ مُنعِشٍ في عروقي، ثم شعرتُ بنشوَةٍ كادتْ تصِل إلى حدِّ السُّكْر. وأخذتُ أصيح وأُغنِّي وأنا أُحلِّق لأعلى باتِّجاه العالم الخارجي البارِد الساكن.

مِن الواضح جدًّا لي أنَّ فُقدان الوعي الذي أصاب جلايشر، وكوكسويل بدرجةٍ أقل، عندما صعَدا في مِنطادٍ، سنةَ ١٨٦٢، إلى ارتفاع ثلاثين ألف قدمٍ، كان بسببِ السرعة المُفرِطة التي يجري بها الارتقاء العمودي؛ إذ عندما يُنفِّذه المرء بتدَرُّجٍ مُتمهِّل ويُكيِّف نفسه بدرَجاتٍ مُتأنِّية مع الضغط الجوي المُتناقِص؛ فليس ثَمَّةَ وجودٌ لِمِثل هذه الأعراض المُريعة. لقد اكتشفتُ وأنا عند هذا الارتفاع الشاهِق ذاته، وحتى من دون جهاز استنشاق الأكسجين الخاصِّ بي، أنَّني أستطيعُ التنفُّس دون عُسرٍ مُفْرِط. بيْد أن الجوَّ كان قارِسَ البرودة، وكان مِقياس الحرارة خاصَّتي يُشير إلى درجة صفر بمقياس فهرنهايت. وفي الواحدة والنِّصف كنتُ على ارتفاع سبعة أميالٍ تقريبًا فوق سطح الأرض، وكنتُ لا أزال أرتفع بثبات. بيْد أني وجدتُ أنَّه كان من الواضح أن الهواء المُخلخَل يُقدِّم دعمًا أقلَّ لأسطح توجيه طائرتي، وتَبَعًا لذلك ينبغي خفضُ زاوية الصعود إلى حدٍّ كبير. وبات واضِحًا أنه حتى مع خِفَّةِ وزني وعِظَمِ طاقة المُحرِّك كان أمامي نقطة سوف أُكْبَح عندها. وممَّا زاد الطين بِلَّةً أن خَللًا ألمَّ مُجدَّدًا بإحدى شمْعات الإشعال لديَّ وكان ثمَّةَ تفويتٌ مُتقطِّع في شرارة إشعال المحرك. كان قلبي مُثقلًا بالخوف مِن الفشَل.

في ذلك الوقت تعرَّضتُ لتجربةٍ بالغة الغَرابة. حيث مرَّ شيءٌ بجواري مُحدِثًا طنينًا ومُخلِّفًا وراءه أثرًا من الدُّخان وانفجر مُحدِثًا دَوِيًّا عاليًا له أزيز، وباعِثًا سحابةً من البُخار. ساعَتَها لمْ أستطع تَخيُّل ما حدَث. ثُمَّ تذكَّرتُ أن الأرض تتعرَّضُ على الدَّوام للقصفِ بِحجارة النيازك، وأنها ما كانت ستَصلُح للعيش عليها لو لمْ تكن تلك النيازك تتحوَّل، في كلِّ حالةٍ تقريبًا، إلى بُخارٍ في الطبقات الخارجية للغلاف الجوي. ها هو ذا خطرٌ جديد يُواجِه رجلَ الارتفاعات العالية؛ إذ تخطيتُ اثنين آخَرَين عندما كنتُ أقتربُ من حدِّ الأربعين ألف قدم. لا يَسعُني الشكُّ في أنَّ المُخاطرة عند حافَةِ الغلاف الجويِّ للأرض ستكون حقيقيَّةً للغاية.

كانت إبرةُ الباروجراف تُشير إلى واحدٍ وأربعين ألفًا وثلاثمائة ملِّي بار عندما صرتُ أُدرِك أنني لا أستطيع التقدُّمَ أبعدَ من هذا. على مستوى حالتي البدنية، لم يكن الجُهد بَعدُ أكثرَ ممَّا بِوسعي تَحمُّله، ولكنَّ طائرتي كانت قدْ وصلتْ إلى أقصى حدٍّ لها. لمْ يُوفِّر الهواءُ المُنخفِض الكثافةِ دعمًا قويًّا للأجنحة، فكان أدنى مَيلٍ يتحوَّل إلى انزلاقٍ جانبي، في حين كانت الطائرة تبدو بطيئةَ الاستجابة لأجهزة توجيهها. وربما كانتْ ألف قدمٍ أخرى ستُصبِح ضِمن حدود استطاعتنا لو كان المُحرِّك في أحسن حالاته، لكنَّه كان لا يزال يُفَوِّت شرارة إشعاله، وكان يبدو أن اثنتين من أسطواناته العشر قد تعطَّلتا. لو لمْ أكن قد وصلتُ بالفِعل إلى المنطقة التي كنتُ أبحثُ عنها فلن أتمكَّن إذن أبدًا من رؤيتها في هذه الرحلة. لكن ألمْ يكن من الجائز أن أكون قد بلغتُها؟ رحتُ أُحلِّق في دوائرَ مثلَ صقرٍ عِملاقٍ فوق مستوى الأربعين ألف قدمٍ تاركًا الطائرة الأُحاديَّة السطح تُوجِّه نفسها، وأخذتُ أُدقِّقُ النظر فيما حولي بمنظاري ماركة مانهايم. كانت السماء صافيةً تمامًا؛ ولم يكن ثمَّةَ ما يدلُّ على تلك الأخطار التي كنتُ قد تخيَّلتها.

ذكرتُ أنني كنتُ أُحلِّق في دوائر. فخطر لي فجأةً أنني سوف أُحسِن صُنعًا إذا اتَّخذتُ مسارًا مُقوَّسًا أكثرَ اتِّساعًا وأمَطتُ اللِّثام عن رُقعةٍ جويَّةٍ جديدة. فلو دخل الصياد غابةً من غابات الأرض، لكان من شأنه أن يَتوغَّل فيها إن أراد العُثور على طريدته. كان تفكيري قد هداني إلى الاعتقاد بأنَّ أدغال الجوِّ التي كنتُ قد تخيَّلتُها تقعُ في مكانٍ ما فوق مُقاطَعة ويلتشير. ومن شأن هذا المَوضِع أن يكون جِهةَ الجنوب والغرب مِن مَوقِعي. حدَّدتُ اتِّجاهاتي عن طريق الشمس، لأنَّ البُوصلة كانت بلا جدوى وما كان للأرض من أثَرٍ يُرى؛ لا شيء سوى سهلِ السُّحب الفِضيَّة البعيدة. على أيَّةِ حال، حدَّدتُ اتِّجاهي بأدقِّ ما أمكنني وأبقيتُ مُقدَّم الطائرة مُتَّجِهًا صوْبَ الهدف مُباشرةً. وقدَّرتُ أنَّ مَخْزُوني من الوقود لم يكُن ليدُوم لأكثرَ مِن ساعةٍ أخرى أو نحوَ ذلك، ولكن بِوسعي استغلاله حتى آخر قطرة، لأنه يمكن لطيَرانٍ شِراعيٍّ مَهيبٍ واحدٍ بالطائرة أن يُوصلني إلى الأرض في أيِّ وقت.

انتبهتُ فجأةً إلى شيءٍ جديد؛ لقد فقَدَ الهواء أمامي صفاءه البلُّوري. وامتلأ بخيوطٍ رفيعة طويلة مُخَلْخَلة من شيءٍ ما لا أستطيع تَشبيهَه إلَّا بخيوطٍ دقيقةٍ جدًّا من دُخان السجائر. وظلَّ مُعلَّقًا في الجِوار على هيئة ضفائرَ ولفائفَ، تدور وتنجدِلُ ببطءٍ تحت ضوء الشمس. وعندما انطلقتِ الطائرة الأُحاديَّةُ السطح عَبْرَه، شعرتُ بنكهة زيتٍ خفيفة على شفتيَّ، وكان يُوجَد وسَخٌ دُهنيٌّ يَعلو الأجزاء الخشبية من الطائرة. بدا وكأن ثَمَّةَ مادةً عُضويةً مُتناهية الدِّقَّة مُعلَّقة في الغلاف الجوي. لم يكن بها أثرٌ للحياة. كانتْ أوَّلِيَّةً ومُنتشرة؛ إذ كانت مُمتدَّةً على العديدٍ من الهِكتارات المُربعة ثم مُشكِّلة حدًّا بعيدًا في الفراغ. لا، لم تكن كائنًا حيًّا. ولكن، ألا يُمكِن أن تكون بقايا كائنٍ حي؟ ولكن الأكثر أهمية، ألا يُمكن أن تكون طعامَ كائنٍ حي، كائنٍ حيٍّ هائل، تمامًا مِثلما أنَّ المواد الزَّيتيَّة البسيطة في المُحيط هي طعام الحوت العظيم؟ كانتِ الفكرةُ تدور في ذِهني عندما نظرَتْ عيناي لأعلى ورأيتُ أروعَ مَشهدٍ رآه إنسانٌ على الإطلاق. تُرى، هل لي أن آمُلَ في نقْلِه إليكم تمامًا مِثلَما رأيتُه بنفسي يومَ الخميس الماضي؟

فلْتَتَخيَّلوا قنديل بحرٍ مثل الذي يَجوب بِحارنا في الصَّيْف، له شكلُ الجرسِ، وحجمه هائل؛ أضخم بكثير، في تقديري، من قُبَّة كاتدرائية القديس بولس. كان لونه وردِيًّا فاتحًا مُعرَّقًا بلونٍ أخضر باهت، لكن البِنية الضخمة كانت في مُجملها هشَّةً للغاية لدرجَةِ أنَّها كانت تبدو كمُجرَّد رسمٍ كفافيٍّ شفَّافٍ في مُقابِل السماء الداكنة الزُّرقة. كان يَخفِقُ بإيقاعٍ مُرهَفٍ ومُنتظم. وكان يتدَلَّى منه مِجَسَّان طويلان مُتهدِّلان أخضرا اللون، يتمايلان ببطءٍ للخلفِ والأمام. مرَّ هذا الطَّيف البهيُّ فوق رأسي رُوَيدًا في وقارٍ ساكن، وبِخفَّة وهشاشة فُقَّاعة صابون، وسرى مع تيَّار الهواء في طريقه المَهيب.

استدرتُ بطائرتي الأُحاديَّةِ السطح نِصف استدارة، لَعلِّي أستطيع أن أُتبِعَ هذا المخلوق الجميل نظراتي. عندها وجدتُ نفسي في لحظةٍ في وسط أسطولٍ كامل من تلك المخلوقات، من كلِّ الأحجام، لكن لم يكن أيُّهم في مِثل ضخامة الأول. كان بعضهم صغيرًا جدًّا، لكنَّ الأغلبية كانوا في حجم مِنطاد متوسط الحجم، وكان لهم نفس دَرَجة الانحناء إلى حدٍّ كبير عند القِمَّة. كانت تلك المخلوقات تتمتَّع برقَّةٍ في بِنيَتِها وألوانها ذكَّرتني بأجود أنواع الزجاج الفينيسي. كانت الدَّرَجات الفاتحة من اللونَين الورديِّ والأخضر هي الألوان السائدة فيها، لكنها كانت تتمتَّع كلها بتقزُّحٍ لَونيٍّ مُحبَّبٍ حيث كانت الشمس تتلألأ عبر أشكالها اللطيفة. انجرَف بضع مئات منها مع الريح مارِّين بي، سِربٌ خياليٌّ عجيبٌ من أساطيل السماء المجهولة الغريبة؛ مخلوقاتٌ تناغمتْ أشكالُها ومادَّتها تناغمًا كبيرًا مع هذه المُرتفعات الصافية حتى إن المرء ما كان لِيَستطيع تخيُّل وجودِ أيِّ شيءٍ بهذه الرِّقَّة ضِمن النطاق الواقعي للبصر أو السمع على الأرض.

لكن سُرعان ما تحوَّل انتباهي إلى ظاهرةٍ غريبةٍ جديدة؛ حيَّاتُ الهواء الخارجي. كانت عبارةً عن لَفائفَ طويلةٍ ناحِلَةٍ مُدهِشة من مادَّةٍ شِبهِ بُخارية، وكانت تَلتفُّ وتنجَدِلُ بسرعةٍ هائلة، مُحلِّقةً في مسارٍ دائري مرةً تِلْوَ أخرى بسرعةٍ هائلةٍ حتى إنَّ الأعيُنَ لا تتمكَّن من مُتابعتها إلا بشقِّ النفس. كان طول بعض هذه المخلوقات الشبيهة بالأشباح يصِل إلى عِشرين أو ثلاثين قدمًا، لكن كان من الصعب إدراكُ قياس مُحيط جِسمها، لأنَّ حدود أجسامها كانت ضبابيةً جِدًّا لدرجةٍ أنها كانت تبدو وكأنها تتلاشى في الهواء المُحيط بها. كانت ثعابين الهواء هذه ذات لونٍ رَماديٍّ فاتحٍ جدًّا أو بلون الدُّخان، مع بعض الخطوط الأكثر دُكنةً داخِلًا، ممَّا أعطى انطباعًا بتركيبٍ عضويٍّ له أبعاد مُحدَّدة. تحرَّك أحدُها بخفَّةٍ مارًّا بِمُحاذاة وجهي تمامًا، فشعرتُ بتلامُسٍ باردٍ ورطب، لكنَّ بِنيَتها كانت غير واضحة جدًّا لذا لم أستطع ربطَها بأيِّ تصوُّرٍ عن خطرٍ مادي، وكذلك كان حالي مع المخلوقات الجميلة الشبيهة بالأجراس التي كانت قد سبَقتْها. لم يكن التماسُك في أجسامها يزيد على التماسُك في الزَّبَد الذي يطفو ناتِجًا عن تكسُّر مَوجة.

ولكنَّ تجربةً أكثرَ رُعبًا كانت في انتظاري؛ إذ راحتْ كتلةُ بُخارٍ أُرجوانيةُ اللون تتهادى هابِطةً من ارتفاعٍ شاهِقٍ، وبَدَتْ لِعَيني صغيرةً عندما رأيتُها في البداية، ولكنها أخذتْ تكبُر بسرعةٍ مع دنُوِّها منِّي، حتى بدتْ وكأن مساحتها مئاتُ الأقدام المُربَّعة. ومع أنها كانت مُكوَّنةً من مادَّةٍ شفَّافةٍ شِبهِ هُلاميَّة، إلا أنها كانت ذات حدودٍ خارجيَّةٍ واضحة وتماسُكٍ صلبٍ أكثر كثيرًا من أيِّ شيءٍ رأيتُه قبلها. كان يُوجَد كذلك علاماتٌ دالَّةٌ أكثرَ على وجود بِنيَةٍ مادِّيَّة، وبخاصَّةٍ قُرصان مُستديران واسِعان باهِتا اللَّونِ على كلا جانبيها، رُبما كانا عَينَيها، ونتوءٌ تامُّ الصَّلابة أبيضُ اللَّون بينهما يُشبِه مِنقار النَّسر في انحنائه وصلابته.

كانت هيئة هذا المسخ في مُجملها مُرعبةً ومُنذرة بالسوء، وظلَّ يُغير لونه من بنفسجي فاتحٍ جدًّا إلى أرجواني داكن غاضب، كثيف جدًّا إلى حدِّ أنه ألقى بظلٍّ وهو ينساق مع الريح بين طائرتي الأُحاديَّة السطح والشمس. فوق التقوُّسِ العلويِّ لجسمه الضخم كان يُوجَد ثلاثةُ نُتوءاتٍ كبيرة لا أستطيع وصفها إلا بأنها فقاعات هائلة، وكنتُ مُوقنًا عندما نظرتُ إليها من أنها كانت مُعَبَّأةً بغازٍ خفيف للغاية وظيفتُه هي إبقاء الجِرم الشَّائِهِ وشِبهِ الصلب طافيًا في الهواء المُخلخَل. مضى المخلوق قُدُمًا بسرعة، مواكِبًا بسهولةٍ سُرعة الطائرة، ولمسافة عشرين مِيلًا أو يزيد كان بِمثابة مُرافِقي المُرعب، مُحلِّقًا فَوقي مثل طائرٍ جارح ينتظر الانقضاض على فريسته. كانت طريقته في التقدُّم — والتي كانت تجري بصورةٍ سريعة جدًّا بحيث لمْ يكن من السهل مُلاحقته — هي أن يَنفثَ أمامه دَفقةً طويلة دَبِقَة، والتي بدا أنها بِدورِها تسحبُ بقيَّة الجسم المُتَمَعِّج إلى الأمام. كان ليِّنًا وهُلاميًّا جدًّا لدرجة أنه لم يبقَ على شكلٍ واحد مُدة دقيقتين مُتتالِيتين مُطلقًا، ومع هذا كان كلُّ تغيير يَجعلُه أكثر تهديدًا وإثارةً للاشمئزاز من سابِقه.

عرفتُ أنه كان يَنوي الأذى. كان كلُّ تورُّدٍ أُرجواني لجسمه البغيض يُنبئني بهذا. وكانت العينان الضبابيَّتان المُحملِقتان، اللتان كانتا مصوبتين طوال الوقت تجاهي، مُجرَّدتَين من الشعور والرحمة بما يَحمِلان من كراهيةٍ لزِجة. انحدَرتُ بمُقدَّم طائرتي للأسفل كي أُفلتَ منه. وعندما فعلتُ ذلك، انطلق مِجسٌّ طويلٌ بسرعة الوَميض من كُتلةِ الهُلام العائمة تلك، وسقط بِخفَّةِ وتموُّج جِلازِ السَّوط نحوَ مُقدِّمة طائرتي. وهنا دوَّى صوتُ أزيزٍ عالٍ عندما تمدَّدَ للحظةٍ فوق المُحرِّك الساخن، ولكنه ابتعدَ بحركةٍ خاطفة إلى الهواء مرة أخرى، بينما انكمَش الجِسم المُسطَّح الضخم على نفسه وكأنَّما يُعاني من ألمٍ مُباغِت. انحدَرتُ بطائرتي الأُحادِيَّة السطح لأهبِط بها هُبوطًا عموديًّا، ولكن سقط عليها مِجسٌّ مرةً أخرى فجزَّتْهُ مروحتُها الدَّافِعة بسهولةٍ وكأنها كانت تشُقُّ حلقةً من الدُّخان. جاءت تنزلِقُ مِن الخلفِ لفيفةٌ طويلة لَزِجةٌ تُشبِهُ الحيَّةَ وطوَّقتْ خَصري، وأخذَتْ تَسحبُني خارِجَ بدَنِ الطائرة. مَزَّقتُها، وراحتْ أصابعي تغوص في سطحها الخارجي الأملس الشَّبيه بالغِراء، وحرَّرتُ نفسي منها للحظة، ولكن ما إن فعلتُ حتى طوَّقتْ حذائي الطويلَ الرَّقبةِ لفيفةٌ أخرى، فتسبَّبت لي في رَجَّةٍ أمالَتْني للخلْفِ وكِدتُ أسقط على ظهري.

عندما سقطتُ أطلقتُ النار من فُوَّهتَيْ بُندقِيَّتي كِلتَيهما، مع أنَّ تَخَيُّل قُدرَةِ أيِّ سلاحٍ بشريٍّ على شَلِّ حركة تِلك الكُتلة الهائلة كان في الواقع أشبَهَ بِمُهاجمة فيلٍ بِقاذِفَةِ بازلَّاء. رغم هذا فقد صوَّبتُ عليها أفضلَ ممَّا كنتُ أُدرِك؛ لأن إحدى الفقاعات الضخمة على ظهر ذلك المخلوق انفجرتْ مُحدِثةً صوتًا عاليًا نتيجةً للثقْبِ الذي أحدَثَه فيها رصاص الخُردُق. كان من الواضح جدًّا أن حَدْسي كان صائبًا، وأن هذه الأكياس الهوائية الشفَّافة الضخمة كانت مُنتفِخةً بغازٍ رافع، لأنه في لحظةٍ واحدة انقلب الجسم الضخم الشبيهُ بالغَيمة على جنبه، وأخذ يتلوَّى باستِماتةٍ لاستعادة تَوازُنه، بينما كان المِنقار الأبيض ينطبِق وينفرِج في هياج رهيب. ولكنَّني كنتُ بالفعل قد انطلقتُ مُبتعدًا بواسطة أشدِّ انزلاقٍ جَرُؤتُ على إتيانه انحدارًا، ومع استمرار مُحرِّك طائرتي في العمل بكامل قوته، كانت المروحة الدافعة المنطلقة بأقصى سرعةٍ وقوَّةُ الجاذبية آخِذَتين في قذفي نحوَ الأسفل مثل نَيزكٍ جوي. ورأيتُ على البُعد ورائي بقعةً ذات لونٍ يميل إلى الأُرجواني الباهِت آخذةً في التضاؤل سريعًا والذَّوَبان في زُرقة السماء الكائنة وراءها. وخرجتُ سالِمًا من أدغال طبقة الهواء الخارجية المُهلِكة.

ما إن صرتُ في مَأمنٍ مِن الخطر حتى كبحتُ المُحرِّك، فلا شيء يُمزِّق أيَّةَ طائرةٍ قِطعًا أسرع من الانحدار من مُرتَفَعٍ بكامل طاقتها. كان هبوطًا رأسيًّا حلزونيًّا عظيمًا من ارتفاعٍ يُقارب الثمانية أميال؛ أولًا، إلى مستوى رُكامة السحب الفضية، ثم إلى مستوى السحابة المُنبِئة بالعواصف الكائنة تحتها، وأخيرًا، وسط المطر المُنهمر، إلى سطح الأرض. وعندما انفصلتُ عن السحاب أبصرتُ قناة بريستول أسفل منِّي، ولكني ظفِرتُ بمسافة عِشرين مِيلًا من التَّحليق نحوَ الداخل؛ إذ كنتُ لا أزال أملك بعض الوقود في خزَّان وقود طائرتي، قبل أن أجِدَ نفسي مَعزولًا في حقلٍ على بُعد نصف ميلٍ من قرية أشكومب. وهناك حصلتُ على ثلاثِ صفائحَ من الوقود من إحدى السيارات المارَّة، وبعد السادسة بستِّ دقائق من تلك الليلة هبطتُ بالطائرة هبوطًا ناعمًا في مرجة بيتي بمدينة ديفايزيس، بعد رحلةٍ ما خاض مثلها إنسانٌ على وجه الأرض حتى الآن قطُّ وظلَّ على قيد الحياة ليروي قصته. لقد عاينتُ جمال المُرتفعات وعاينتُ رُعبها؛ وما أحاطتْ معرفةُ البشر بجمالٍ أعظمَ ولا رُعبٍ أشدَّ من ذلك.

وما عزمتُ عليه الآنَ هوَ أن أذهبَ إلى هناك مرةً أخرى قبلَ أن أُهدي العالم ثِمار تجربتي. والسببُ الذي يدعوني إلى هذا أنه لا بُدَّ حَتْمًا أن يكون معي شيءٌ أُظهِره على سبيل البُرهان قبل أن أضع قصةً كهذه بين أيدي بني جلدتي مِن البَشَر. صحيحٌ أنَّ آخرين عمَّا قريبٍ سوف يَسلكون مَسلكي وسوف يؤكدون ما قلتُه، بيْدَ أني أتمنَّى أن أُقنِعَهم من البداية. لن يكون من الصعب أسْرُ تلك الفقاعات المُتقزِّحة الجميلة التي تَسبح في الهواء. إنها تنساق ببطءٍ في سبيلها، وتستطيع الطائرة الأُحاديَّة السطح السريعة أن تعترض مسارها المُتأني. من المُرجَّح أن تتبدَّد في طبقات الغلاف الجوي الأثقل، وربما يكون كل ما سأجلُبُه معي إلى الأرض هو كومة هُلام صغيرة غير مُحدَّدة المعالم. ومع ذلك فلا ريب في أنه يُوجدُ هناك شيء ما يُمكنني بواسطته أن أُقيم الدليلَ على قصتي. نعم، سوف أذهب، حتى ولو كنتُ سأتعرَّض لخطرٍ إذا ما فعلتُ ذلك. ويبدو أن الأشياء المُرعبة الأرجوانية هذه لن تكون كثيرة. ومن المُحتمَل ألَّا أرى واحدة. وإن فعلتُ فسأهبط رأسيًّا بالطائرة على الفور. وفي أسوأ الأحوال فإن بُندقية الشوزن موجودة دائمًا وكذلك معرفتي ﺑ…»

لسوء الحظِّ ثمَّةَ صفحة مفقودة من المخطوطة في هذا الموضع. وفي الصفحة التالية، بخطٍّ كبير غير مُنتظم، مكتوبٌ:

«ثلاثة وأربعون ألف قدم. لن أرى الأرض ثانيةً أبدًا. إنهم تحتي، ثلاثة منهم. يا إلهي أعِنِّي؛ يا لها من ميتةٍ شنيعةٍ يموتها المرء!»

تلك بحذافيرها هي رواية جويس أرمسترونج للأحداث. لم يُشاهَد الرجل منذ ذلك الحين. وقد انتُشلتْ أجزاءٌ من طائرته المُحطَّمة في ضَيعة السيد باد لاشينجتون عند التُّخوم بين مقاطعتَي كِنت وساسكس، على بُعد بضعة أميالٍ من الموضع الذي عُثِر فيه على دفتر الملاحظات. لو صحَّتْ نظرية الطيَّار التعِس بأن أدغال الجوِّ هذه، كما أسماها، لا تُوجَد إلا فوق جنوب غربي إنجلترا، فظاهِر الأمر إذن أنه قد هرَب منها بالسُّرعة القصوى لطائرته الأُحاديَّة السطح، ولكن هذه المخلوقات المُرعِبة عاجَلَتْهُ والتَهمَتْه في بُقعةٍ ما من الغلاف الجوي الخارجي فوق المكان الذي عُثر فيه على البقايا المُروِّعة. إن أمر الصورة الذهنية لتلك الطائرة، وهي تمرُّ بسرعةٍ عبر السماء، وتلك الأشياء المُرعبة المُستعصِية على الوصف مُحلِّقة تحتها بنفس السرعة وقاطعة عليها الطريق دومًا من جِهة الأرض بينما أخذتْ تُطْبِق تدريجيًّا على ضحاياها؛ لهُوَ أمرٌ من شأن رجلٍ يُثمِّن قيمة صحَّته العقلية أنْ يُفضِّل عدم الخَوض فيه. ثَمَّةَ كثيرون، حسبَ عِلمي، لا يزالون يَسخرون من الحقائق التي سجَّلتُها هنا، ولكن حتى هُم يَجِب أن يُقِرُّوا بأن جويس أرمسترونج قد اختفى، وإنني لأُزَكِّي لهم كلماتٍ قالها هو بنفسه: «لعلَّ دفتر المُلاحظات هذا يُبيِّن ما أحاول فِعله، وكيف فقدتُ حياتي وأنا أفعله. ولكن، من فضلكم، لا تتفوَّهوا بِهُراءٍ حول حوادثَ عارِضةٍ أو أمورٍ غامضة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤