الفصل الأول

بَيْنَ الْفَرَّانِ وَالْوَالِي

(١) الْوالِي «كَمِيشٌ»

قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ: عَبْدُ اللهِ جُحَا» فِيما يَرْوِيهِ مِنْ حِكاياتٍ وَنَوَادِرَ عَلَى جُلَسائِهِ:

فِي إِحْدَى سَفَرَاتِي، فِي الْبِلادِ الْبَعِيدَةِ، نَزَلْتُ فِي بَلَدٍ يَتَحَكَّمُ فِي أَمْرِهِ رَجُلٌ مُتَجَبِّرٌ، لا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، وَلا يُعْطِي الْحَقَّ لِصاحِبِ الْحَقِّ.

وَقَدْ وَقَعَتْ لِهٰذا الْوالِي حَوادِثُ غَرِيبَةٌ، فِي أَثْناءِ وُجُودِي فِي بَلَدِهِ، مِنْها الْحادِثَةُ التَّالِيَةُ الَّتِي أَحْكِيها كَما وَقَعَتْ.

(٢) رَائِحَةُ الشِّواءِ

ذاتَ يَوْمٍ: كانَ الْوالِي «كَمِيشٌ» يَجُولُ فِي الطُّرُقاتِ.

شَمَّ الْوالِي — فِي أَثْناءِ سَيْرِهِ — قُتَارًا (رِيحَ لَحْمٍ مَشْوِيٍّ).

كانَ الْقُتارُ يَنْبَعِثُ مِنْ فُرْنٍ قَرِيبٍ.

كانَ الْوالِي «كَمِيشٌ» — فِي ذٰلِكَ الْوَقْتِ — جَائِعًا.

اِرْتَفَعَ قُتارُ اللَّحْمِ، وَسَطَعَتْ رَائِحَتُهُ.

اِقْتَرَبَ الْوالِي «كَمِيشٌ» مِنَ الْفُرْنِ، وَوَقَفَ بِبابِهِ.

(٣) بَيْنَ الْوالِي وَالْفَرَّانِ

لَمْ يُطِقِ الْوالِي صَبْرًا عَلَى الْجُوعِ، لَمَّا شَمَّ الْقُتارَ.

الْوالِي نادَى الْفَرَّانَ بِصَوْتٍ عالٍ.

سُرْعانَ ما حَضَرَ الْفَرَّانُ إِلَيْهِ.

اِنْطَلَقَ الْوالِي يُمْطِرُ الْفَرَّانَ أَسْئِلَةً غايَةً فِي السُّخْفِ.

اِبْتَدَرَ الْفَرَّانَ مُدَاعِبًا. قالَ لَهُ وَهُوَ يَتَشَمَّمُ الْهَواءَ: «شَمِمْتُ رَائِحَةَ شِواءٍ تَنْبَعِثُ مِنَ الْفُرْنِ! خَبِّرْنِي يا رَجُلُ: ماذا تَشْوِي فِي فُرْنِكَ؟»

قَالَ الْفَرَّانُ: «إِنَّهَا وَزَّةٌ، أَحْضَرَها أَحَدُ النَّاسِ لِأَشْوِيَهَا لَهُ.»

قالَ الْوالِي مُتَظَرِّفًا: «تَعْنِي وَزَّةً ذاتَ جَناحَيْنِ؟!»

قالَ الْفَرَّانُ: «ذٰلِكَ ما عَنَيْتُهُ يا سَيِّدِي الْوالِي.»

تَمَادَى الْوالِي فِي سُخْفِهِ، فَقالَ: «لِأَيِّ غَرَضٍ ٱسْتَوْدَعَكَ صاحِبُها إِيَّاها؟»

قالَ الْفَرَّانُ: «أَرَادَ أَنْ أَشْوِيَها لَهُ، وَسَيَحْضُرُ لِيَأْخُذَها!»

قالَ الْوالِي: «أَلَمْ يَقُلْ لَكَ: ماذَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ بِالْوَزَّةِ، بَعْدَ أَنْ تَشْوِيَها لَهُ، وَيَأْخُذَها مِنْكَ؟»

قالَ الْفَرَّانُ: «ماذا يَصْنَعُ إِلَّا أَنْ يَتَغَدَّى بِها، أَوْ يَتَعَشَّى؟!»

أَمْعَنَ الْوالِي فِي سَماجَتِهِ، سَأَلَ الْفَرَّانَ: «يَتَغَدَّى بِها أَوْ يَتَعَشَّى؟! كَيْفَ يَسْتَأْثِرُ بِها وَحْدَهُ؟ لا رَيْبَ فِي أَنَّهُ رَجُلٌ غَيْرُ كَرِيمٍ، لا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي نَفْسِهِ! ما أَجْدَرَ هٰذا الرَّجُلَ بِالزَّجْرِ والْعِقابِ.»

قال الْفَرَّانُ: «بِماذا يَأْمُرُنِي السَّيِّدُ الوالِي؟»

قالَ «كَمِيشٌ»: «أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ أَيُّها الْفَرَّانُ: أَلَا تَسْتَكْثِرُ عَلَى هٰذا الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِذاتِ الْجَناحَيْنِ، دُونَ أَنْ يُشْرِكَ فِيها أَحَدًا مِنْ أَصْحابِهِ؟»

تَحَيَّرَ الْفَرَّانُ وَارْتَبَكَ. سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ.

قالَ الْوالِي: «أَنْتَ — فِيما أَرَى — بارِعٌ ذَكِيٌّ! لا رَيْبَ فِي أَنَّكَ تَعْلَمُ ما أُرِيدُ. أَنا لا أَطْلُبُ مِنْكَ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا، لا يُكَلِّفُكَ جُهْدًا كَبِيرًا.»

قالَ الْفَرَّانُ: «لِلسَّيِّدِ الْوالِي أَنْ يَأْمُرَ، وَعَلَيْنا أَنْ نُطِيعَ!»

قالَ الْوالِي: «لا تَتَوَانَ — لَحْظَةً واحِدَةً — فِي إِرْسالِ ذاتِ الْجَناحَيْنِ إِلَى دَارِي، بَعْدَ أَنْ تَشْوِيَها، لِأُمَتِّعَ نَفْسِي بِأَكْلِها.»

اِشْتَدَّتْ حَيْرَةُ الْفَرَّانِ. سَأَلَ الْوالِيَ مُتَعَجِّبًا: «ماذا أَقُولُ لِصاحِبِها حِينَ يَحْضُرُ لِيَطْلُبَها؟»

أَقْبَلَ الْوالِي عَلَى الْفَرَّانِ مُشَجِّعًا. قالَ: «ما أَيْسَرَ عَلَيْكَ أَنْ تُخْبرَ صاحِبَ الْوَزَّةِ أَنَّ وَزَّتَهُ طارَتْ. قُلْ لَهُ: إِنَّ وَزَّتَهُ اسْتَرَدَّتِ الْحَياةَ، بَعْدَ أَنْ شَوَيْتَها، وَأَنْضَجْتَ لَحْمَها. وَما لَبِثَتْ أَنْ رَفْرَفَتْ بِجَناحَيْها طائِرَةً.»

قالَ الْفَرَّانُ: «أَمُصَدِّقِي هُوَ إِنْ قُلْتُ ذٰلِكَ لَهُ؟!»

قالَ الْوالِي: «سِيَّانِ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ. لا تُبالِ بِهِ.»

قالَ الفَرَّانُ: «كَيْفَ أَصْنَعُ إِذا لَجَّ فِي غَضَبِهِ؟»

قالَ الْوالِي: «لا تَتَرَدَّدْ فِي إِحْضَارِهِ، لِتَحْتَكِما إِلَيَّ! أَنا الْكَفِيلُ بِرَدْعِهِ، وَرَدِّهِ إِلَى الصَّوابِ.»

كانَ الْفَرَّانُ عارِفًا بِطِباعِ الْوالِي.

لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَةِ الْفَرَّانِ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ الْوالِي.

لَمْ يَتَرَدَّدِ الْفَرَّانُ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ (طاعَةِ الْأَمْرِ وَإِنْفاذِهِ).

أَرْسَلَ الْوَزَّةَ — بَعْدَ إِنْضاجِها — إِلَى الْوالِي «كَمِيشٍ».

(٤) صاحِبُ الْوَزَّةِ

بَعْدَ قَلِيلٍ: حَضَرَ صاحِبُ الْوَزَّةِ.

طَلَبَ مِنَ الْفَرَّانِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْوَزَّةَ الْمَشْوِيَّةَ.

تَظاهَرَ الْفَرَّانُ بِالدَّهْشَةِ. قالَ لِصاحِبِ الْوَزَّةِ مُتَحَسِّرًا: «آهِ، لَوْ عَلِمْتَ ما حَدَثَ. إِنَّ لِوَزَّتِكَ — يا سَيِّدِي — لَنَبَأً عَجِيبًا؛ لَمْ أَرَ لَهُ طُولَ عُمُرِي مَثِيلًا!»

قالَ صاحِبُ الْوَزَّةِ: «أَيَّ نَبَإٍ تَعْنِي؟!»

قالَ الْفَرَّانُ: «ما إِنْ شَوَيْتُ وَزَّتَكَ وَأَنْضَجْتُها، حَتَّى رَأَيْتُ رُوحَها تَعُودُ إِلَيْها مَرَّةً أُخْرَى.»

صَمَتَ الْفَرَّانُ لَحَظاتٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَائِلًا: «ما أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ أَنِّنِي رَأَيْتُها تَنْتَفِضُ بَعْدَ ذَبْحِها وَشَيِّها! ما أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ أَنَّنِي رَأَيْتُها — بِعَيْنَي رَأْسِي هَاتَيْنِ — تُرَفْرِفُ بِجَناحَيْها، وَتَمْلَأُ الدُّنْيا جَلَبَةً وَصِياحًا. مَا أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ أَنِّي رَأَيْتُهَا تَطِيرُ مُبْتَهِجَةً بِعَوْدَةِ الْحَياةِ إِلَيْها.»

(٥) قُدْرَةُ ٱللهِ

غَضِبَ صاحِبُ الْوَزَّةِ مِمَّا سَمِعَ. حَسِبَ الْفَرَّانَ يَمْزَحُ أَوَّلَ الْأَمْرِ صَرَخَ مُغْضَبًا حانِقًا. قاطَعَ الْفَرَّانَ قائِلًا: «أَلا تَكُفُّ عَنْ مُزاحِكَ السَّمِيجِ؟ دَعْ عَنْكَ هٰذا الْهَذَرَ!»

قالَ الْفَرَّانُ: «إِنِّي لا أَمْزَحُ، وَلا أَهْذِرُ. إِنَّ ما أُخْبِرُكَ بِهِ حَقٌّ صُرَاحٌ: حَقٌّ لا رَيْبَ فِيهِ وَلا مُزاحَ.»

اِشْتَدَّ غَضَبُ الرَّجُلِ. سَأَلَ الْفَرَّانَ مُسْتَنْكِرًا: «أَيَّ عَبَثٍ تَرْوِي؟! أَلا تَسْتَحِي مِمَّا تَقُولُ؟»

قالَ الْفَرَّانُ: «ما بالُكَ تَتَعَجَّلُ فِي لَوْمِي، وَتُسْرِفُ فِي شَتْمِي؟ أَلَسْتَ مُؤْمِنًا بِقُدْرَةِ اللهِ؟ كَيْفَ تَسْتَكْثِرُ عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْئًا؟ هَلْ يُخَامِرُكَ شَكٌّ فِي أَنَّهُ — سُبْحانَهُ — يُحْيِي الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ فِيمَ الْعَجَبُ إِذَنْ مِمَّا حَدَثَ لِوَزَّتِكَ؟»

صَرَخَ صاحِبُ الْوَزَّةِ قائِلًا: «أَلا تَكُفُّ عَنْ هَذَرِكَ! أَلا تُحَاسِبُ نَفْسَكَ عَلَى ما يَفُوهُ بِهِ لِسانُكَ؟ كَيْفَ تَقُولُ إِنَّنِي غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِقُدْرَةِ اللهِ؟! أَنَسِيتَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا؟ أَنَسِيتَ أَنَّهُ — سُبْحانَهُ — خَلَقَ لِطَبائِعِ الْأَشْياءِ قَوانِينَ لا تتَخَطَّاها؟»

(٦) تَجَمْهُرُ النَّاسِ

طالَ الْحِوارُ بَيْنَ الْفَرَّانِ وَصاحِبِ الْوَزَّةِ. تَجَمَّعَ النَّاسُ حَوْلَهُما.

سَأَلَهُما النَّاسُ عَنْ سَبَبِ ما بَيْنَهُما مِنْ نِزاعٍ.

رَوَى لَهُمْ صاحِبُ الْوَزَّةِ قِصَّتَهُ مَعَ الْفَرَّانِ.

غَضِبَ النَّاسُ عَلَى الْفَرَّانِ، حِينَ سَمِعُوا الْقِصَّةَ.

تَكاثَرَ الْجَمْعُ. ضَيَّقُوا الْخِناقَ عَلَى الْفَرَّانِ. كادُوا يَكْتُمُونَ أَنْفاسَهُ، وَهُمْ مُحِيطُونَ بِهِ. ساوَرَ الْخَوْفُ الْفَرَّانَ.

خَشِيَ سُوءَ الْعاقِبَةِ. تَلَمَّسَ سَبِيلَهُ إِلَى الْهَرَبِ.

كانَ كُلَّما حاوَلَ أَنْ يُفْلِتَ مِنْ ناحِيَةٍ، سارَعَ النَّاسُ إِلَى اللَّحاقِ بِهِ، فَلا يَمْلِكُ إِلَّا أَنْ يَتَّجِهَ إِلَى ناحِيَةٍ أُخْرَى. وَلٰكِنَّ النَّاسَ لَمْ يَدَعُوهُ يُفْلِتُ، بَلْ كانُوا يُتابِعُونَهُ وَيُحَاصِرُونَهُ مِنْ جَمِيعِ النَّواحِي. اِنْدَفَعَ الْفَرَّانُ إِلَى الْجَمْعِ كالْمَجْنُونِ! اِخْتَرَقَ زِحامَهُمْ. لَكَمَ أَقْرَبَ الثَّائِرِينَ إِلَيْهِ، بِقَبْضَةِ يَدِهِ الْمَشْدُودَةِ.

كانَتْ لَكْمَةً عَنِيفَةً، أَطارَتْ إِحْدَى أَسْنانِهِ.

اِشْتَدَّ هِياجُ النَّاسِ مِمَّا رَأَوْا. تَأَلَّمُوا لِما أَصابَ الرَّجُلَ الَّذِي كُسِرَتْ سِنُّهُ. تَأَلَّبُوا عَلَى الْفَرَّانِ (تَجَمَّعُوا عَلَيْهِ). أَوْسَعُوهُ صَفْعًا بِالْأَكُفِّ، وَلَكْمًا بِالْأَيْدِي، وَرَكْلًا بِالْأَقْدَامِ.

كادَ الْفَرَّانُ يَهْلِكُ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ.

زادَتْ حَيْرَتُهُ. اِشْتَدَّ بِهِ الْحَرَجُ، وَسُدَّتْ أَبْوَابُ الْفَرَجِ.

أَحَسَّ بِأَنَّهُ إِذا اسْتَسْلَمَ لِلْيَأْسِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لا شَكَّ هالِكٌ بَعْدَ لَحَظاتٍ.

اِنْدَفَعَ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ الحانِقِ، كالسَّهْمِ الْمارِقِ.

(٧) فِي أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ

اِنْتَهَى بِهِ الْفِرَارُ إِلَى مَسْجِدٍ، فِي نِهايَةِ الطَّرِيقِ.

حاوَلَ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَأْمَنًا. اِتَّجَهَ إِلَى مِئْذَنَةِ الْمَسْجِدِ.

كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّهِ أَنَّهُ وَجَدَ الْبابَ المُؤَدِّيَ إِلَى سُلَّمِ الْمِئْذَنَةِ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْراعَيْهِ.

أَسْرَعَ إِلَى السُّلَّمِ الْحَلَزُونِيِّ الدَّائِرِ يَصْعَدُ فِيهِ، بِكُلِّ جُهْدِهِ.

أَحَسَّ مِنْ وَرائِهِ بِحَرَكَةٍ عَلَى سُلَّمِ الْمِئْذَنَةِ.

أَدْرَكَ أَنَّ النَّاسَ يُلاحِقُونَهُ. عَرَفَ أَنَّهُمْ يَصْعَدُونَ إِلَى الْمِئْذَنَةِ.

أَمامَهُ أَمْرانِ، لا ثالِثَ لَهُما. أَمْرانِ أَحْلاهُما مُرٌّ:

إِمَّا أَنْ يُواجِهَ الثَّائِرِينَ، وَيَلْتَحِمَ بِهِمْ؛ فَيَمُوتَ صَفْعًا بِالْأَكُفِّ، وَلَكْمًا بِالْأَيْدِي، وَرَفْسًا بِالْأَقْدامِ!

وَإِمَّا أَنْ يَتَشَجَّعَ، وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ فَوْقِ مِئْذَنَةِ الْمَسْجِدِ العالِيَةِ؛ فَيَكُونَ مَصِيرُهُ الْمَوْتَ مُتَرَدِّيًا، مُهَشَّمَ الْأَعْضاءِ.

لا سَبِيلَ إِذَنْ إِلَى الْفِرَارِ. فَأَيَّ الْمِيتَتَيْنِ يَخْتارُ؟!

أَكَمَلَ صُعُودَهُ إِلَى أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ، حَيْثُ يُطِلُّ عَلَى الطَّرِيقِ.

وَجَدَ نَفْسَهُ يَقْفِزُ إِلَى الْأَرْضِ بِكُلِّ قُوَّتِهِ.

ما أَعْجَبَ الْمُفاجَأَةَ الَّتِي حَدَثَتْ لَهُ!

لَمْ يَهْلِكِ الرَّجُلُ، لَمَّا رَمَى بِنَفْسِهِ مِنْ فَوْقِ الْمِئْذَنَةِ.

قَدَرٌ نَجَّاهُ. هٰكَذا أَرادَ اللهُ!

سَقَطَ الرَّجُلُ عَلَى أَحَدِ الْمَارَّةِ فِي الطَّرِيقِ.

كانَتْ سَقْطَةً قاتِلَةً، صَرَعَتِ الرَّجُلَ الْمارَّ فِي الطَّرِيقِ وَأَهْلَكَتْهُ، وَحَفِظَتْ حَياةَ الْفَرَّانِ وَنَجَّتْهُ.

(٨) مُدْيَةُ الْجَزَّارِ

تَضاعَفَ سُخْطُ النَّاسِ، حَينَ رَأَوْا ذٰلِكَ الْمَنْظَرَ الْأَلِيمَ.

اِزْدادَ ارْتِباكُ الْفَرَّانِ. حارَ فِي أَمْرِهِ: كَيْفَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ غائِلَةَ الثَّائِرِينَ؟ حانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ. رَأَى دُكَّانَ جَزَّارٍ.

وَجَدَ أَمامَهُ مُدْيَةً (سِكِّينَةً). خَطِفَ السِّكِّينَةَ.

أَرَادَ أَنْ يُخِيفَ النَّاسَ بِها، وَيُبْعِدَهُمْ عَنْهُ.

تَظاهَرَ الرَّجُلُ بِالْجُنُونِ. لَوَّحَ بِالسِّكِّينِ فِي الْهَوَاءِ.

فِي ذٰلِكَ الْوَقْتِ، كُنْتُ أَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ، مُمْتَطِيًا حِمارِي.

وَقَفْتُ عَلَى جانِبِ الطَّرِيقِ، أَنْظُرُ ما يَحْدُثُ.

كانَ حِمارِي عَلَى بُعْدِ خَطَواتٍ مِنَ الرَّجُلِ.

أَهْوَى الرَّجُلُ بِمُدْيَتِهِ عَلَى ذَيْلِ حِمارِي.

قَطَعَتِ الْمُدْيَةُ ذَيْلَ الْحِمارِ الْمِسْكِينِ.

فَزِعَ النَّاسُ مِنَ السِّكِّينِ. تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ شَيْئًا.

قالَ الْجَزَّارُ لِلْفَرَّانِ: «ما ذَنْبُ الْحِمارِ، حَتَّى تَجْنِيَ عَلَيْهِ، وَتَقْطَعَ ذَيْلَهُ؟ وَلِماذا تَأْخُذُ سِكِّينِي دُونَ إِذْنٍ مِنِّي؟»

لَمْ يَرُدَّ الْفَرَّانُ عَلَى سُؤَالِ الْجَزَّارِ، وَهَمَمْتُ أَنا بِالْكَلامِ، أُناقِشُ الْجَزَّارَ فِيما صَنَعَ. وَلٰكِنِّي آثَرْتُ الصَّمْتَ.

أَيْقَنْتُ أنَّهُ لا جَدْوَى فِي كَلامِي مَعَهُ.

بَلْ خَشِيتُ أَنْ يَجُورَ عَلَيَّ، وَيَمُدَّ يَدَهُ بِالسِّكِّينِ إِلَيَّ.

فُرْصَةٌ أَتاحَتْ لِلرَّجُلِ سَبِيلَ الْفِرارِ.

اِنْطَلَقَ النَّاسُ فِي أَثَرِهِ. ظَلَّ يَجْرِي، والنَّاسُ يُلاحِقُونَهُ.

اِنْتَهَى بِهِ الْفِرارُ إِلَى دارِ الْوالِي: «كَمِيشٍ»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤