الفصل الأول

عام الضِّباع، عندما كان الرِّجال جياعًا

(مصر وإسرائيل وجنوب بلاد الشام)

في عام ١١٥٥ قبل الميلاد أنهَت طعنةُ سكينٍ سريعة في الحلق فترةَ حُكم فرعون مصر رمسيس الثالث، والتي استمرَّت اثنَين وثلاثين عامًا. قبل ذلك بعَقدَين من الزمان، كان رمسيس قد حقَّق انتصارًا هائلًا على شعوب البحر، لكنَّه وقع الآن ضحيةً لمؤامرة حريم قذِرة بدأتها إحدى زوجاته، وتُدعى تيي، وابن أصغر له يُدعى بنتاؤر.

لفتَت عملية الاغتيال، المعروفة الآن باسم مؤامرة الحريم، انتباه علماء المصريَّات المُعاصرين لأول مرة من حوالي ١٥٠ عامًا.1 وترِدُ التفاصيل في حوالي ست برديات، ربما كان بعضها أو كلُّها جزءًا من مخطوطةٍ واحدة قَطَّعَها إلى أجزاء لصُّ آثار مغامِرٌ قبلَ بَيْعها لأشخاصٍ مختلفين وأماكنَ مختلفة. أطول هذه الوثائق معروفة الآن باسم بردية تورينو القضائية، وهي محفوظة (وربما ليس هذا مُستغربًا، بالنظر إلى اسمِها الحديث) في المتحف المصري في تورينو بإيطاليا. كان قد اشتراها في الأصل برناردينو دروفيتي، القنصل العام الفرنسي في مصر في أوائل القرن التاسع عشر؛ ثم باعها لملك سردينيا؛ وفي النهاية، وصلَت إلى المتحف المصري بتورينو.2

تحتوي البردية على العديد من تفاصيل المحاكمات الأربع للمُتهَمين الذين اعتدوا عليه. ويبدو أن المؤامرة كانت من تدبير تيي، التي كانت ترغب في تولِّي ابنها من رمسيس الثالث، الأمير بنتاؤر، العرشَ. وكان هناك ما يصل إلى أربعين متآمِرًا مُتهمًا، من الحريم ومن مسئولي البلاط الملكي، والذين حوكموا في أربع مجموعات. وأُدين عددٌ منهم وحُكِم عليهم بالإعدام؛ وأُجبِر العديد منهم على الانتحار في البلاط الملَكي. وكان بنتاؤر من بين المحكوم عليهم بالإعدام، ويُفترض أنَّ الأمر نفسه ينطبق على والدته أيضًا، على الرغم من عدم وجود أي سِجلٍّ لمحاكمتها.

ورغم أنه كان من المعروف أن رمسيس الثالث قد تُوفِّي قبل صدور الأحكام في هذه القضية؛ فإنه ليس واضحًا من هذه الوثائق أن المؤامرة قد نجحَت، وترك علماء المصريات المسألةَ غيرَ محسومة. ولكنْ، يبدو أن المؤامرة قد نجحَت، على الرغم من أن هذه الحقيقة لم تخرُج إلى النور إلا في عام ٢٠١٢، عندما أُجري تصويرٌ مقطعي محوسَب لجسدِ رمسيس الثالث، الذي كان قد عُثِرَ عليه قبل أكثر من قرنٍ من الزمان، في عام ١٨٨١، داخل خبيئة مومياوات الدير البحري بالقُرب من معبد حتشبسوت الجنائزي. وكان الكهنة قد نقلوه إلى هناك لحفظه في أوائل الأسرة الثانية والعشرين، في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، بعد سلسلةٍ من سرقات المقابر الملكية التي امتدَّت لأكثر من قرنٍ من الزمان.

وكما ورَدَ في دورية «بريتش ميديكال جورنال»، كان من الواضح أنَّ حلْقَ رمسيس قد قُطع. كان السكين الحاد الذي تسبَّب في الجرح قد غُرز في رقبته تحت الحنجرة مباشرةً، وصولًا إلى الفقرة العنقية؛ ممَّا أدى إلى قطْعِ القصبة الهوائية وقطْعِ جميع الأنسجة الرخوة في المنطقة. ومن المُرجَّح أن الوفاة كانت فورية، أو شِبه فورية. وبعد ذلك، أثناء عملية التحنيط، وُضِعَت تميمةٌ واقية على شكل عين حورس في الجرح، إمَّا للحماية أو للشفاء، على الرغم من أن أوان مساعدة الملك في حياته الجسدية المادية كان قد فات. إضافةً إلى ذلك، وُضعَ طوقٌ سميكٌ من الكتَّان حول رقبته لإخفاء جرح الطعنة. ولم يتمكن العلماء من الرؤية من خلال القماش السميك وتحديد الإصابة التي قتلَت الملك إلا أثناء تحليل التصوير المقطعي المحوسَب.3
عُثِر على جثةٍ ثانية لرجُلٍ يبلغ من العمر ما بين الثامنة عشرة والعشرين، ويُعرَف باسم «الرجُل المجهول إي»، مع رمسيس الثالث في خبيئة الدفن الملكي في الدير البحري. كانت الجثة ملفوفةً في جلدِ ماعز غير نقي، ولم تكن مُحنَّطة كما ينبغي، وقد اقترح البعض أنها تعود إلى الأمير المُذنب، بنتاؤر. وتشير اختبارات الحِمض النووي إلى أنه ربما كان ابن رمسيس الثالث، ولكنَّ هذا الاستنتاج ليس مُتفقًا عليه بالإجماع بأيِّ حالٍ من الأحوال بين علماء المصريات. تُشير الأدلة الجنائية، ومن ضِمنها الالتواءات في الوجه والإصابات في حلقه، إلى أنه على الأرجح قد قُتِل خنقًا.4
لقد حدَّد الاغتيال الطابعَ العام للقرون التالية في مصر؛ لأن السنوات التي أعقبَت انتصار المصريين على شعوب البحر لم تكن جيدة. على سبيل المثال، لدَينا الآن أدلَّة على أنَّ الجفاف الشديد، والذي يمكن تتبُّعه عبر بياناتٍ غير مباشرة من إيطاليا وحتى إيران (بالأسماء الحديثة) والذي اعتُقد أنه كان أحد العوامل الرئيسية المُسبِّبة لانهيار أواخر العصر البرونزي، ضرب مصر أخيرًا في هذا الوقت تقريبًا. حدث هذا لأنَّ تدفُّق النيل انخفض عندما انخفض هطول الأمطار على هضبة إثيوبيا، وهو وضعٌ استمرَّ قرابة مائتَي عام. وأدَّى هذا، كما هو متوقَّع، إلى أزمةٍ غذائية ومن ثَم إلى مجاعة في مصر، فضلًا عن المشكلات الاقتصادية المُرتبطة بهذا، من بينها عدم دفع الأجور، الأمر الذي بلغ ذروته في هيئة إضرابٍ ومظاهرة للعمال في دير المدينة في السنة التاسعة والعشرين من اعتلاء رمسيس العرش؛ وربما كان أحد أوائل الأحداث التاريخية التي سجَّلَت الإضراب الصناعي.5

وعندما تُوفِّي رمسيس الثالث، انتهى أيضًا هذا العصر في التاريخ المصري، على الرغم من أن أبناءه وأحفاده واصلوا سلالته لأربعة عقودٍ أخرى. وعلى الرغم من أن الثقافة والمجتمع المصريَّين لم ينهارا تمامًا، وأن المصريين لم يختفوا من على وجه الأرض، فلم يكن تحوُّلهم إلى النظام العالمي الجديد ناجحًا جدًّا بعد انهيار العصر البرونزي. ومع أنهم نجَوا، فقد كان ذلك بقُدرة أقلَّ جدًّا؛ فلمْ يعُد من الممكن اعتبارهم من بين «القوى العظمى» في ذلك الوقت، كما كانوا خلال أوْجِ ازدهار الأسرتَين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة.

بدلًا من ذلك، على مدى القرنَين التاليين، كان المصريون مكبَّلين بحكومات تتفشَّى فيها المكائد، فضلًا عن المشكلات المتعلقة بالخلافة والتنافسات التي أسفرَت في بعض الأحيان عن ظهور حاكمَين أو ثلاثة أو حتى أربعة حكام في أجزاءٍ مختلفة من مصر في الوقت نفسه. وفي بعض الأحيان، كان يظهر زعيمٌ قوي، مثل شيشنق الأول، الحاكم الليبي الذي أسَّس الأسرة الثانية والعشرين، ولكنَّ هذا لم يحدُث حتى حوالي عام ٩٤٥ قبل الميلاد، أي بعد أكثر من مائتَي عام من وفاة رمسيس الثالث، ولم يستمرَّ طويلًا.

•••

كان الفراعنة الثمانية الذين خلفوا رمسيس الثالث يُدعَون جميعًا رمسيس (الرابع إلى الحادي عشر)، وشهدَت فترات حُكمهم تدهورًا مطردًا للوضع في مصر. فقَدْ ظلَّ الملكان الأولان، رمسيس الرابع والخامس، على العرش مدَّة عشر سنوات فقط فيما بينهما ولم يفعلا الكثير مما يستحقُّ الذِّكر.6 وهناك أيضًا أسئلة مُحيِّرة تحيط بوفاة رمسيس الخامس؛ لأنه ربما يكون قد وقَعَ ضحيةً لكارثةٍ أخرى — مرض — قد يكون مرتبطًا بانهيار العصر البرونزي. ولا تزال البثور ظاهرةً على وجه موميائه؛ ممَّا يقود إلى اقتراح أنه ربما مات بسبب الجدري حوالي عام ١١٤٠ قبل الميلاد، وهو ما قد تؤكِّده نصوصٌ تذكُر حفر مقابر جديدة له ولأفرادٍ آخرين من عائلته. وقد مُنحَ الرجال الذين تولَّوا الحفر إجازةً مدةَ شهر «على نفقة الفرعون» (أي، بأجرٍ كامل)، وبعد ذلك أُغلقَ وادي الملوك أمام الزوَّار ستة أشهر، ربما كمحاولة لإجراء حجْرٍ صحي.7
وخلال حُكم رمسيس الخامس، استمرَّت مصر في السيطرة على مناجم النحاس في تمناع، في شِبه جزيرة سيناء، لكنه آخِر فرعون مصري يُعثَر على اسمه في تلك المنطقة. وبالمثل، فإنَّ خلفَه، رمسيس السادس، هو الفرعون الأخير الذي يُعثَر على اسمِه في مناجم الفيروز في سرابيط الخادم، التي تقع أيضًا في سيناء. يُفسَّر هذا عادةً على أن المصريين فقدوا السيطرة على منطقة جنوب بلاد الشام أو انسحبوا منها بالكامل، أو كِلا الأمرَين، تقريبًا بحلول عام ١١٤٠ قبل الميلاد أو نحو ذلك.8 ومن المُثير للاهتمام أنَّ قاعدة تمثال برونزي صغير عُثر عليها في مَجِدُّو بواسطة بعثة شيكاغو في ثلاثينيات القرن العشرين منقوشٍ عليها خرطوش رمسيس السادس ويُستَشهَد بها كثيرًا كدليلٍ على أن مَجِدُّو الكنعانية لم تُهزَم حتى هذا الوقت، ولكنَّ هذا في سياق مُتنازَع عليه ولا يمكن استخدامه لدعم أيٍّ من هذه الحجج.9
عندما توفِّي رمسيس السادس في عام ١١٣٣ قبل الميلاد، دَفَنَ العمالُ الذين كانوا يبنون قبره في وادي الملوك عن طريق الخطأ قبرَ توت عنخ آمون، الذي كان بجواره، ومِن ثَم تركوه لهوارد كارتر واللورد كارنارفون لاكتشافه في عام ١٩٢٢. ثم تولَّى ابنه العرش بدوره، باسم رمسيس السابع. لا نعرف الكثير عن حُكمه، لكن النصوص من السنوات العشر (أو أقل) التي حَكمَ خلالها؛ تشير إلى أن أسعار الحبوب ارتفعَت بشكلٍ كبير وأن الاقتصاد كان غير مُستقر.10
وبالمِثل، بعد حُكمٍ قصير، مدةَ عامٍ واحد فقط، لرمسيس الثامن، الذي ربما كان، باعتباره ابنَ رمسيس الثالث، قد أصبح مُسنًّا بالفعل عندما أصبح فرعونًا؛ استمرَّت المشكلات وانتقلَت للحاكم التالي، رمسيس التاسع (حوالي ١١٢٦–١١٠٨ قبل الميلاد). ظلَّ رمسيس التاسع على العرش ثمانية عشر عامًا، وخلال هذه الفترة كانت القلاقل تتزايد في مصر، وتحديدًا في شكل سرقات مقابر ومجاعة واضطرابات تسبَّب فيها «الأجانب» بالقُرب من قرية العمَّال في دير المدينة. ربما كان هذا هو الوقت الذي فقدَت فيه مصر السيطرةَ لأول مرة على النوبة العُليا ومناجم الذهب الموجودة هناك. ومن المُحتمَل أيضًا أن يكون حُكم مصر قد انقسم أثناء حُكمه؛ ممَّا يُنذِر بأمرٍ شائع الحدوث على مدى القرون القادمة.11
ومن بين الوثائق القانونية من هذه الفترة برديات سرقة المقابر؛ كما أصبحت تُعرَف. وهي عبارة عن اثنَي عشر نصًّا أو أكثر، تمتدُّ من عهد رمسيس التاسع إلى الحادي عشر، وتشمل ما يُسمَّى ببردية أبوت وبردية ليوبولد أمهرست من السنة السادسة عشرة لحُكم رمسيس التاسع. وفي داخلها، نجِدُ أوصافًا تفصيلية لسرقة المقابر داخل المقبرة الملَكية، وكذلك في المقابر الخاصة. ويبدو أنَّ معظم عمليات النهب كانت قد حدثَت للتوِّ خلال هذه السنة السادسة عشرة. وقد قُبِضَ على عددٍ من سارقي المقابر، وانتُزِعَت منهم الاعترافات أثناء الاستجوابات والمحاكمات اللاحقة. وقد حُكِمَ على اللصوص جميعًا بالإعدام، على الأرجح بالخازوق، لأنَّ هذا كان الحُكمَ المعتاد لسرقة المقابر الملكية.12
ومع ذلك، فقد بدأت عمليات السرقة قبل ذلك؛ لأننا نعلم أنه في وقتٍ ما قبل السنة التاسعة من حُكم رمسيس التاسع، اقتحم لصوصٌ مقبرةَ رمسيس السادس. ومرةً أخرى قُبِضَ على بعض هؤلاء اللصوص. وفي برديةٍ مجزَّأة في ليفربول بإنجلترا، تُعرَف باسم «بي ماير بي»، اعترف أحدُ المقبوض عليهم قائلًا على وجه التحديد: «لقد أمضيتُ أربعة أيامٍ في اقتحامها [المقبرة الملَكية]، وكنا خمسة. فتحنا المقبرةَ ودخلناها. وجدنا سلةً موضوعة على ستِّين صندوقًا.» ثم وصَفَ العثور على مراجلَ برونزيةٍ وأحواض غسيل برونزية وأشياء برونزية أخرى مختلفة. كما فتحوا صندوقَين مليئَين بالملابس، التي وُصِفَت وصفًا تفصيليًّا.13 وكون الأشياء المذكورة أغراضًا من البرونز، وليست من الذهب، أمرٌ مثيرٌ للاهتمام جدًّا وقد يكون انعكاسًا لانحدارٍ في الرخاء منذ أيام توت عنخ آمون.
وللأسف، انقطع النص عند هذه النقطة، لذا لا نعرِف ماذا وَجَدوا أو ماذا أخذوا، وكيف اكتُشِفَت سرقتهم، أو العقوبة التي طُبِّقَت عليهم لاحقًا، رغم أنه من المُرجَّح أنها كانت عقوبة الإعدام. ومع ذلك، فإننا نعرف أنه عندما عُثرَ على مومياء رمسيس السادس في عام ١٨٩٨، داخل مقبرة أمنحتب الثاني حيث كانت قد نُقِلَت لاحقًا لحفظها، كان من الواضح أنها كانت قد «تعرَّضَت لهجومٍ وحشي من لصوص المقابر، حيث قُطِّعَت الرأس والجذع إلى أشلاء بفأس.» وكما يُورِد عالِم الآثار البريطاني بيتر كلايتون: «كان الكهنة قد أعادوا بورعٍ لفَّ القطع على لوحٍ؛ في محاولةٍ لجعلها تُشبه الشكل البشري. وعندما فحصها إليوت سميث في عام ١٩٠٥، وجَدَ أجزاء من جثتَين أُخريين على الأقل مُتضمَّنة في الأغلفة: اليد اليُمنى لامرأة واليد اليُمنى المشوَّهة والساعد لرجُلٍ آخَر. وحيث كان من المفترَض أن يوجَد عنق الملك، كان موجودًا عظْمُ وركه الأيسر المُنفصل وجزءٌ من حوضه.»14
استمرَّت بعض المشكلات من زمن رمسيس التاسع حتى زمن خليفته، رمسيس العاشر، الذي حكَمَ لفترةٍ وجيزة في نهاية قرنٍ مُضطرب هو القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ووفقًا للسجلَّات الشحيحة من عهده، كان من بين هذه المشكلات الرئيسية الافتقار المستمرُّ إلى الغذاء، وانخفاض الأنشطة المرتبطة بالعمل (ربما بسبب الجوع) إضافةً إلى وجود أجانب إضافيين غير مذكورين في دير المدينة وما حولها.15 كان خليفته هو آخِر رمسيس — رمسيس الحادي عشر — الذي كان حُكمه علامةً على بداية القرن الجديد ونهاية الأسرة العشرين.

عمومًا، اتَّسم القرن الثاني عشر قبل الميلاد في مصر — فضلًا عن مشكلاتٍ أخرى — بنقص الغذاء والصراعات السياسية. ما مدى مرونة المصريين وصمودهم آنذاك؟ لقد تمكنوا من التأقلُم والاستمرار في الوجود لكنَّهم فشلوا حقًّا في إجراء التحوُّل بشكلٍ صحيح، ولم يتكيَّفوا بشكلٍ جيد جدًّا ولم يتحوَّلوا على الإطلاق. ونتيجةً لذلك، لا نرى فقط مشكلاتٍ مُجتمعيةً، ولكنْ أيضًا انحدارًا سريعًا في دَور مصر السابق كقوةٍ دولية كبرى.

(١) أين موميائي؟

مصر خلال الأسرة الحادية والعشرين
حكَمَ رمسيس الحادي عشر مصر ثلاثين عامًا تقريبًا في بداية القرن الحادي عشر قبل الميلاد، من حوالي ١٠٩٨ إلى ١٠٧٠ قبل الميلاد. كانت فترة حُكمه هي الأطول على الإطلاق مقارنةً بأي فرعون خلال الأسرة العشرين. كانت سنواته التسع عشرة الأولى سلميةً نسبيًّا، على الرغم من استمرار عمليات سرقة المقابر والمجاعة. تذكُر إحدى البرديات امرأةً تمتلك ذهبًا نُهِبَ من قبرٍ، ادَّعَت أنها كانت قد حصلَت عليه مقابل بيع بعض الطعام خلال «عام الضباع، عندما كان الرجال جياعًا». ولكنَّ الأسوأ لم يكن قد أتى بعدُ، فقد اتَّسم النصف الثاني من حُكمه بالتشرذُم وبحربٍ أهلية داخل مصر، وانتهى بحكامٍ مُتنافِسين.16
كانت مصر قد تمكنَت من الاحتفاظ بمُعظم بِنيتها الإدارية حتى هذه النقطة، لكنَّ النظام بدأ الآن في التفكُّك عندما بدأ كبار كهنة آمون في طِيبة في التنافُس مع الملوك على حُكم البلاد. أعلن كبيرُ كهنة آمون المدعو حريحور، الذي ورد ذِكره في «حكاية وِن آمون»، والتي سأناقشها في الفصل الثالث، فرْضَ سيطرته على النوبة وصعيد مصر ومنَحَ نفسَه لقبَ نائب الملك في كوش وكذلك وزير الفرعون. وبحلول السنة التاسعة عشرة من حُكم رمسيس الحادي عشر، كان حريحور يحكم صعيد مصر والنوبة حتى طِيبة. وأصبح هذا يُعرَف الآن بالسنة الأُولى من «النهضة» (من الكلمة المصرية «وحم مسوت» والتي تعني «تجديد الولادات»)، رغم أنه لم يكن نهضةً بالمعنى الذي نفهم به المصطلح الآن.17
وفي الوقت نفسه، تولَّى مسْئُولٌ يُدعى سمندس السيطرةَ في الشمال، أي مصر السفلى، وتحديدًا في منطقة بر-رمسيس في دلتا النيل. وهو أيضًا مذكور في «حكاية وِن آمون»، إلى جانب زوجته تانيت آمون، التي ربما كانت ابنةَ رمسيس الحادي عشر. وظلَّ رمسيس نفسه فرعونًا، ولكن انحدر به الحال في الأساس إلى مجرد حاكمٍ صوري. ومن ثَم، انقسم حُكم مصر، في تلك المرحلة، بين الرجال الثلاثة — رمسيس الحادي عشر، وحريحور، وسمندس — حيث كان حريحور، وسمندس يَدينان بالولاء لرمسيس الحادي عشر ظاهريًّا ولكنَّهما في الواقع يعملان بشكلٍ مُستقل.18
لم تساعد تجزئة مصر البلادَ على التجاوُب مع أزماتِ العصر. ظلَّت سرقة المقابر مشكلةً كبيرةً لدرجة أن حريحور والكهنة الآخرين نقلوا بعض الجثث الملَكية من مقابرها الأصلية في وادي الملوك. على سبيل المثال، وُضِعَت مومياء رمسيس الثاني مؤقتًا في مقبرةِ سيتي الأول في السنة الخامسة عشرة من حُكم سمندس. ولاحقًا نُقِلَت المومياوان مجددًا، حيث انتهى بهما المطاف إلى خبيئةِ الدير البحري، في أواخر القرن العاشر.19
بعد وفاة رمسيس الحادي عشر مباشرةً في عام ١٠٧٠ قبل الميلاد، أصبح سمندس فرعونًا، ومن ثَم أسَّس أسرةً ملكية جديدة، هي الأسرة الحادية والعشرين، وحكَمَ على مدار الخمسة والعشرين عامًا التالية. ويُمثِّل هذا بدايةَ الفترة الانتقالية الثالثة، التي كانت في مُجملها فترةَ اضطراب، تخلَّلَتها فتراتٌ من الفوضى، وقليل من الرخاء النسبي. وحكَمَ هو وخلفاؤه المباشرون من العاصمة الجديدة تانيس في منطقة دلتا النيل على مدى القرن التالي وأكثر، حتى حوالي عام ٩٤٥ قبل الميلاد.20
ومن جانبه، استمرَّ حريحور في حُكم صعيد مصر من طِيبة، مما كان يعني أن البلاد انقسمَت حينئذٍ إلى قسمَين. ويبدو أن الوضع استمرَّ حتى عهد خليفة حريحور، بينوزم الأول، الذي رُقِّي من منصب رئيس الكهنة إلى المَلك بعد وفاة حريحور. كان على الأرجح متزوجًا من حنت تاوي، التي ربما كانت حفيدة رمسيس الحادي عشر، وبذلك ربط كلتا العائلتَين الحاكمتَين الجديدتَين بالسلالة السابقة، وبدأ إعادة توحيد مصر العُليا والسُّفلى.21
واستمرَّت أعمال حماية المدافن في وادي الملوك بنقل عشر مومياوات ملَكية إلى غرفةٍ جانبية داخل مقبرة أمنحتب الثاني. وكان من بين هذه المومياوات جثامين تحتمس الرابع وأمنحتب الثالث ومرنبتاح وسبتاح وسيتي الثاني ورمسيس الرابع والخامس والسادس. وفي عام ١٨٩٨، اكتشف عالِم المصريات الفرنسي فيكتور لوريه، الذي كان قد عُيِّن للتوِّ مديرًا لمصلحة الآثار المصرية، المقبرةَ وجميعَ مومياواتها المَلَكية، ومن ضِمنها رمسيس السادس المذكور أعلاه. وعلى الرغم من أنه حفر المقبرة بعناية ودوَّن يومياتٍ في ذلك الوقت، فإنه لم يُنشَر سوى تقريرٍ أوَّلي عن نتائجه. ومن عجيب المُفارقات أنه بعد فترةٍ طويلة من وفاة بينوزم، نُقِلَت مومياؤه إلى خبيئة الدير البحري لحفظها.22

•••

من جهةٍ أخرى، عندما تُوفي سمندس في حوالي عام ١٠٤٣ قبل الميلاد، ربما يكون قد دُفنَ في تانيس في أول سلسلة من المدافن من الأسرة الحادية والعشرين. وبعد حوالي خمس سنوات من وفاة سمندس، وبعد حُكمٍ قصير لملكٍ آخَر، اعتلى العرشَ ابنٌ لبينوزم الأول يُدعى بسوسنس الأول واستمرَّ في الحكم مدةً تقرب من خمسين عامًا (من حوالي ١٠٣٩ إلى ٩٩١ قبل الميلاد). ومع اعتلائه العرش، أُعيد توحيد مصر العُليا والسُّفلى. وقد يمثِّل حكمه أيضًا أولَ حالة من التدخُّل المصري مع بلاد الشام منذ ما يقرب من قرنٍ من الزمان.23
تأتي الأدلة جزئيًّا من الأوعية الذهبية والفضية، إضافةً إلى أشياء أخرى، منها تماثيل «الأوشبتي» (تماثيل صغيرة على شكل إنسانٍ توضَع في القبور لمرافقة الشخص المدفون إلى الحياة الآخرة)، والتي عُثر عليها في مقبرة بسوسنس في تانيس. اكتشف عالِم المصريات الفرنسي بيير مونتيه المقبرة في عامي ١٩٣٩ و١٩٤٠، في الفترة الزمنية نفسها التي شهدَت بدايةَ الحرب العالمية الثانية. كان ما وجدَه في المقبرة غيرَ مُتوقَّع؛ فقد وُصِف بأنه أحد أغنى المدافن التي عُثر عليها على الإطلاق في مصر القديمة، ولم يتفوَّق عليه سوى مقبرةِ الملك توت عنخ آمون.24
عندما دخل مونتيه حجرة الدفن لأول مرة، رأى تابوتًا من الفضة الصُّلبة في منتصف الغرفة، محاطًا بأوانٍ برونزية وأشياء أخرى، مع المزيد من الأغراض قبالة الجدران. وقد أكدَت الزخارف الجدارية أن هذه المقبرة هي مقبرة بسوسنس الأول. وقد أخطر مونتيه الملك فاروق، الذي كان يحكم مصر الحديثة في ذلك الوقت، وانتظر حتى وصل الملك إلى الموقع قبل فتح التابوت. يروي عالم المصريات بوب براير القصة، قائلًا: «عندما فُتِحَ التابوت في ٢٣ مارس ١٩٣٩ … كُشفَ عن قناعٍ ذهبيٍّ يُغطي الفرعون الميت منذ زمنٍ طويل.» ومع ذلك، لم يكن بسوسنس. بل أشارت النقوش الهيروغليفية إلى أن المومياء الموجودة في التابوت كانت مومياءَ ملكٍ غير معروفٍ سابقًا، هو شيشنق الثاني. وكان هذا غريبًا للغاية؛ لأنه بناءً على اسم هذا الملك، كان ينتمي إلى الأسرة التي تلَتْ سلالة بسوسنس، والتي ربما حكَمَت بعد قرنٍ من الزمان، خلال الأسرة الثانية والعشرين. وعلاوةً على ذلك، لم يكن شيشنق وحدَه في الغرفة الأمامية، حيث عُثِر هناك أيضًا على مومياوَي آخِر ملِكَين من الأسرة الحادية والعشرين: سي آمون وبسوسنس الثاني؛ وقد وُضِع نعشُ شيشنق بينهما.25
وكما يذكر براير، إذا كان شيشنق الثاني موجودًا في مقبرة بسوسنس الأول، فأين كان بسوسنس إذن؟ هل كانت هذه حالةً أخرى من حالات نقْلِ مومياء ملكية أو إخفائها في العصور القديمة؟ كما اتضح، لم تكن المومياء قد ذهبَت بعيدًا جدًّا، ولم يستغرق الأمر من مونتيه وقتًا طويلًا لتحديد هذه الحقيقة؛ ففي العام التالي، بدءًا من منتصف يناير ١٩٤٠، حين استمرَّ مونتيه في إخلاء ما كان في الواقع الغرفة الأمامية للمقبرة من مختلف الأغراض الجنائزية، لاحظ وجود بابَين مَخفيَّين، يكادان لا يُرَيان في الجدار الغربي. وكما كتب لاحقًا: «بدأنا بالفتحة الشمالية. أمكن إزالة الكُتَل الصغيرة بسهولة، ولكننا وجدنا أنفسنا مُتوقِّفين عند كتلةٍ كبيرة من الجرانيت كانت تملأ الممرَّ بالكامل، لدرجة أننا لم نُصدِّق — بعض الوقت — أنه من الممكن استخراجها. وعندما انبعث ضوء مصباح كهربائي من خلال الشقِّ الضيق للغاية، رأينا بالداخل جسمَين معدنيَّين، أحدُهما لامع والآخر أخضر اللون بسبب الأكسيد، وحجرًا ضخمًا.»26
وعندما تمكن مونتيه أخيرًا من إزالة الحجر الذي كان يسدُّ الممر، بِلَفِّ كابلٍ حوله ستَّ مراتٍ وسحْبِه من مكانه بواسطة رافعة، واستمر في السير في الممر، وجد نفسه في غرفةٍ ضيقة. كانت إحدى حجرتَي الدفن في المقبرة، وبها ناووس ضخم من الجرانيت الوردي مُحاط بأوانٍ من الذهب والفضة، إضافةً إلى جِرار كانوبية (كانت تحتوي على أحشاء المومياء المحفوظة) وأشياء أخرى. حتى هذه اللحظة، كان قد مرَّ ما يقرُب من عامٍ منذ أن عثر مونتيه على المقبرة لأول مرة، ولكنْ هل كان قد وجَدَ أخيرًا الفرعون الميت منذ أمدٍ بعيد؟ وكما وصف مونتيه الأمر: «أنبأتنا النقوش التي كانت تُحيط به على اليمين واليسار، وتلك التي كانت منقوشة على الوجه الشرقي؛ أننا كنَّا هذه المرة في مقبرةِ بسوسنس.»27
ومع ذلك، كان من الواضح أن الناووس كان في الأصل مُخصصًا للفرعون مرنبتاح وأنه كان قد وُضِع فيه، وهو أول فرعون يُحارب شعوب البحر ويذكر «إسرائيل»، في عام ١٢٠٧ قبل الميلاد. كانت جميع الخراطيش قد مُحِيَت واستُبدِلَت بها خراطيش بسوسنس، على الرغم من بقاء آثارٍ كافية لجعل القراءات الأصلية مؤكدة. كانت مومياء مرنبتاح قد نُقِلَت مؤخرًا إلى مقبرة أمنحتب الثاني قبل ذلك بفترةٍ وجيزة، وبذلك أصبح هذا الناووس (أعمقُ الثلاثة) متاحًا الآن لاستخدامه مرة أخرى. ولذلك نُقِلَ الناووس، على ما يبدو، من مكانه الأصلي في وادي الملوك إلى هذه المقبرة في تانيس.28
وفي أواخر شهر فبراير، أزاح مونتيه الغطاءَ الثقيل للناووس الوردي. وفي الداخل، كما كتب لاحقًا، كان هناك «ناووس ثانٍ من الجرانيت الأسْوَد على شكل مومياء.» وحسب طرازه، كان هذا الناووس يخصُّ يومًا ما أحدَ نُبلاء الأسرة التاسعة عشرة. ودون مزيدِ انتظار، فتَحَ مونتيه التابوت الثاني. وفي داخله كان تابوتٌ ثالث، مصنوع من الفضة الصُّلبة. وعندما فُتح غطاؤه، لم يكن هناك أيُّ توابيت إضافية؛ فقط قناع من الذهب ولوح مومياء مُذهَّب. وقد غطَّى القناع ولوح المومياء جثمانَ المَلِك، الذي كانت كلُّ أغلفته متحلِّلة تمامًا وكذلك لحمه، حتى إنه كان هيكلًا عظميًّا عاريًا، لكنَّه مُزيَّن بمجوهراتٍ ذهبية. وأكَّدَت نقوش الكتابة الهيروغليفية أنه قد عُثر أخيرًا على بسوسنس الأول، الذي لُقِّب منذ ذلك الحين ﺑ «الفرعون الفضي». استغرق الأمر من مونتيه عشرة أيام أخرى ليُزيل بعناية القناع الذهبي ثم عِظام بسوسنس؛ وفي النهاية نُقِل كلُّ ذلك مع قطعٍ أثرية أخرى من المقبرة إلى متحف القاهرة في شاحنةٍ عسكرية.29
وفي الوقت نفسه، كانت توجَد غرفة دفنٍ أخرى خلف الباب المخفي الآخَر. كانت مُخصَّصة في الأصل لزوجة بسوسنس الأول، موت نِجِمِت، ولكنَّ جسدها كان قد أُزيل في مرحلةٍ ما واستُبدِل به جسد خليفةِ بسوسنس المباشِر، آمون-إم-أوبت. ليس واضحًا لماذا حدَثَ هذا التبادُل، وليس واضحًا أيضًا لماذا كان سي آمون وبسوسنس الثاني وشيشنق الثاني جميعًا في الغرفة الأمامية لمقبرة بسوسنس الأول بدلًا من مقابرهم الخاصة. ربما يكون سي آمون وبسوسنس الثاني قد دُفِنا في المقبرة منذ البداية، لكنَّ عالِم المصريات أيدان دودسون لاحظ أن بقايا النباتات التي وُجِدَت على مومياء شيشنق «يبدو أنها نمَت خلال العِظام حين كان التابوت مُستقرًّا في مياه راكدة»؛ ممَّا يُشير إلى أنَّ مقبرة شيشنق الأصلية ربما تكون قد غمرَتها المياه، ولذلك استلزم الأمر إعادة دفنه هنا في غرفة بسوسنس الأمامية.30
على الرغم من أنَّ مونتيه كان قد وجَدَ مقبرةَ فرعون سليمةً، مع بعض المواد المُذهلة، مثل تلك التي عُثِر عليها في قبر توت عنخ آمون، فقد كان اهتمام وسائل الإعلام العالمية بالحرب العالمية، التي كانت تدور رحاها في ذلك الوقت، أكثر من اهتمامها بفرعون ميِّت منذ أمدٍ بعيد. ونتيجةً لذلك، لم يحظَ هذا الاكتشاف المذهل بالاهتمام والثناء اللَّذَين كان ينبغي أن يحظى بهما، على الرغم من أن الكنوز عُرِضَت في غرفةٍ خاصة داخل متحف القاهرة، وقد أُعيد عرضها حاليًّا في غُرف كانت جميعها تُستخدَم سابقًا لعرضِ كنوز توت عنخ آمون.31

•••

كما عثر مونتيه على مئاتٍ من تماثيل الأوشبتي في مقبرة بسوسنس، كما ذكرنا. وهي مُتناثرةٌ الآن في متاحفَ مختلفة ومجموعاتٍ خاصة، وفقًا لشيرلي بِن-دور إيفيان، التي عملَت أمينةً للآثار المصرية في متحف إسرائيل في القدس.32 يحتوي المتحف على أربعةٍ منها في مجموعته، حيث عُثِر على ثلاثةٍ منها في مقبرة بسوسنس؛ وربما يأتي تمثال الأوشبتي الآخر من مقبرةٍ منهوبة تقع في مكان قريب. كل تماثيل الأوشبتي مصنوعةٌ من النحاس. واحد منها منقوشٌ عليه اسم «بسوسنس»؛ وآخَر يحمل اسم زوجته موت نِجِمِت؛ واثنان آخَران يحملان اسم الجنرال وِنجِباو إنجدِت، الذي دُفِن في غرفةٍ فرعية من مقبرة بسوسنس.
أخضعَت بن-دور إيفيان وزملاؤها تماثيلَ الأوشبتي الأربعة لتحليل نظائر الرصاص، وهي تقنيةٌ يمكن أن تساعد في تحديد مصدر النحاس المُستخدَم في صُنع هذه الأشياء. ومن المُثير للاهتمام أن النحاس في كلٍّ منها يأتي من منطقة وادي عربة في مرتفعات النقب، على الحدود بين الأردن المُعاصِرة وسيناء. وهذا هو المكان الذي تقع فيه مناجم النحاس في وادي تمناع (في سيناء)، والتي تُسمَّى أحيانًا «مناجم الملك سليمان»، وفي وادي فينان (في الأردن). ومن الواضح أن مصر، التي كانت قد تلقَّت الكثير من النحاس المستورَد من قبرص خلال العصر البرونزي، كانت تحصل على بعضه على الأقل من هذه المنطقة. هذا جزء من الأدلة التي تُشير إلى استئناف التجارة الدولية بين مصر وجنوب بلاد الشام بعد فجوةٍ سبَّبها الانهيار.33

(٢) الإسرائيليون والفلستيون

في هذا الفصل الأول أحاول تناوُلَ منطقتَين، وبالتحول هنا لتقديم تفاصيل أكثر شمولًا حول جنوب بلاد الشام قبل العودة إلى مصر، وما سيصبح قصةً متشابِكة أكثرَ من أي وقتٍ مضى، يمكننا أن نتعرَّف على بعض التفاصيل، حول وضع هذه المنطقة في ذلك الوقت، من البردية التي تُسمَّى قائمة آمون-إم-أوبت، والتي عُثِر عليها في عام ١٨٩٠ داخل جرَّة، في موقع الحيبة في مصر. وهي موجودة الآن في تسع نُسَخ معروفة. يذكر جزء من هذه المخطوطة، الذي يسرد الشعوب والأماكن، ثلاثًا من المجموعات التي شكلَت شعوب البحر؛ الشردان (الشاردانا)، والتجيكر، والفلستيين (الفِلِسْطِينِيِّين)، إلى جانب ثلاث مُدن: عسقلان، وأشدود، وغزة.

إن الدلالة التي تحمِلها البردية هي أن بقايا المجموعات الثلاث استوطنَت هذه المدن أو استوطنها المصريون المنتصرون، كما زعم رمسيس الثالث. ومن الجدير بالملاحظة ليس فقط أننا نرى التجيكر هنا أيضًا، وكذلك الفلستيين، بل إن المدن المذكورة هي ثلاث من المدن الخمس التي كانت تابعةً لمَا يُسمَّى البِنتابوليس الفلستي؛ كانت أشدود وعسقلان وغزة تقع على الشريط الساحلي في جنوب كنعان عند المدن الحديثة التي تحمِل هذه الأسماء أو بالقرب منها، في حين كانت عقرون (تل مقنة) وجت (تل الصافي) تقعان في الداخل. وتشير الأدلة الأثرية التي كُشفَ عنها في أربع من هذه المدن الخمس (لم يجرِ التنقيب في غزة بعد) إلى أنها كانت جميعها مدنًا كنعانية خلال العصر البرونزي ولكنها بدأت بعد ذلك في إظهار السِّمات المادية للثقافة الفلستية بدءًا من نفس هذا الوقت تقريبًا، أي خلال أواخر القرن الثاني عشر وفي القرن الحادي عشر قبل الميلاد.34
بعد أقل من عَقد من الزمن، بحلول عام ١٨٩٩، تحدَّد أن موقع تلِّ الصافي هو جت الفلستية، وبدأت عمليات التنقيب المشتركة من قِبل عالِم الآثار الأمريكي فريدريك بليس وعالِم الآثار الأيرلندي روبرت ألكسندر ستيوارت (آر إيه إس) ماكاليستر. وبحلول عام ١٩١٤، كان ماكاليستر قد نشَرَ أحد أول الكتب باللغة الإنجليزية المُخصَّصة بالكامل للفلستيين، بعنوان «الفلستيون، تاريخهم وحضارتهم». وتجدَّدَت عمليات التنقيب في الموقع وبدأت تحت إشراف آرين مائير من جامعة بار إيلان في عام ١٩٩٦ وأسفرت عن الكثير من المعلومات الجديدة؛ وسوف أشير إلى بعض هذه البيانات أدناه.35
وكما قال كارل إيرليك من جامعة يورك، بدا في البداية أن الفلستيين كانوا سيصبحون «الوريث الشرعي للإمبراطورية المصرية القديمة في كنعان». ولكن لم يكن مُقدَّرًا لهذا أن يحدث. فبدلًا من ذلك، استولى بنو إسرائيل على معظم ما كان يُعرَف بأرض كنعان، وبعد العداء مع الفلستيين منذ عهد ملك بني إسرائيل شاول، وكذلك مع داود ثم ابنه سليمان، في نهاية المطاف «مكانة وريث مصر» في المنطقة «انتقلت … إلى إسرائيل.»36 كان بنو إسرائيل مُتفرِّدين في هذه الفترة من ناحية كونهم مُمارسين للتوحيد. ويُنظَر إليهم بشكلٍ متفاوت إما على أنهم وافدون جُدد على الساحة أو متوارون في الخلفية لبعض الوقت، لأن الإطار الزمني المُحدد والوسيلة التي أثبت بها بنو إسرائيل وجودهم تدريجيًّا في أرض كنعان يُشكِّلان قضيةً معقدةً ومثيرةً للجدل.
تناوَلَ العديد من العلماء هذا الموضوع، وفي طيَّاته الفرضيات التي تتعلق بالقصة التوراتية لخروج بني إسرائيل من مصر وغزوهم العسكري لكنعان، الذي أدى إما إلى إبادةٍ جماعية أو إلى اندماجٍ أكثر سلميةً كما هو موصوف على نحوٍ مُتباين في سفرَي يشوع والقضاة في الكتاب المقدَّس العبري. اقتُرِحَت أيضًا احتمالات أخرى تُصوِّر بني إسرائيل على أنهم بدو رُحَّل أو شِبه رُحَّل يتسللون سلميًّا إلى المنطقة، أو فلَّاحون من المرتفعات ثاروا على السادة الكنعانيين، أو أنهم حتى تطوَّروا تدريجيًّا إلى «بني إسرائيل» من داخل الجماعة السكانية الكنعانية المحلية. وتُعرَف هذه النظريات باسم نموذج «الغزو»، ونموذج «التسلل السِّلمي»، ونموذج «الفلاحين الثائرين»، ونموذج «بني إسرائيل المُستتِرين».37 وقد دارت أحدث المناقشات حول اعتبارات أكثر أنثروبولوجية لعرقية بني إسرائيل، وخاصةً بالمقارنة مع الشعوب الأخرى التي ظهرَت أيضًا في المنطقة، تقريبًا، خلال الفترة نفسها.38 وتشمل هذه الشعوب الفلستيين الذين استولوا على المنطقة الساحلية لجنوب بلاد الشام.
وبغضِّ النظر عن النظرية التي يعتنقها الباحثون، فإننا نعلم على وجه اليقين أن نقشًا على نصب تذكاري للنصر للفرعون مرنبتاح، عثَرَ عليه السير ويليام ماثيو فليندرز بيتري في عام ١٨٩٦، يزعم أن المصريين هزموا شعبًا يُدعى «إسرائيل» كان يعيش في أرض كنعان بحلول حوالي عام ١٢٠٧ قبل الميلاد. ونعرف أيضًا أنه بغضِّ النظر عن الأحداث السابقة والوسائل التي دخل بها بنو إسرائيل إلى الصورة، فقد تأسَّست المستوطنات الإسرائيلية الأولى بحلول نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد أو نحو ذلك، وسرعان ما تزايدَت أعدادها تزايدًا هائلًا خلال أوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد. ولقد ثبت ذلك بفضل عددٍ كبير من عمليات المسح الأثري التي أُجريَت في المنطقة منذ ستينيَّات القرن العشرين على الأقل.39
ونظرًا لهذه الحقائق، وبغضِّ النظر عن أنَّ بني إسرائيل ظلُّوا يُعانون في سيناء لعدة عقود، أو كانوا موجودين بالفعل في الأرض ولكنْ «مُستتِرين»، أو كانوا يتسللون إلى الأرض ببطءٍ على مدى قرون؛ فربما يكونون ببساطة قد استغلُّوا الفوضى التي حدثَت في كنعان أثناء الانهيار. كان الفراغ السياسي والعسكري الناجم عن انسحاب المصريين، وتدمير المدن الكنعانية المختلفة، يعني أن بني إسرائيل ربما يكونون قد انتقلوا إلى مناطقَ لم يكن بوسعهم — في الظروف الطبيعية — احتلالها دون مساعدة. ونتيجةً لهذا، صار في مقدورهم الاستيلاء على كل أرض كنعان أو معظمها بحلول نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.40
وبينما ظلَّ هذا السيناريو تخمينيًّا، فإنه يوفِّر بشكلٍ معقول «الكيفية» المفقودة في معظم الفرضيات الأخرى. ولأولئك الذين يؤمنون بالتدخُّل الإلهي المُعجِز، ليس هناك حاجة لمزيدٍ من التحقيق، ولكن، يظلُّ السؤال قائمًا لبقية الناس حول ماهية الطريقة الأخرى التي كان من الممكن أن يهاجم بها بنو إسرائيل المدن الكنعانية المهيبة ويستولوا عليها بنجاح. في الظروف العادية، كان من المُستبعَد أن يتمكنوا من فعل ذلك، على الأقل بمفردهم. ومع ذلك، بمجرد غزو شعوب البحر الساحلَ الكنعاني كجزءٍ لا يَنفصم من الكوارث الأخرى (الجفاف، والمجاعة، والتمرُّد الداخلي، إلى آخِر ذلك) التي جعلَت الحضارة الكنعانية في أضعف حالاتها، وبمجرد انسحاب المصريين من المنطقة، ربما كان بنو إسرائيل قادِرين على احتلال أنقاض المدن الكبرى والاستيلاء على بعض المدن الأصغر بأنفسهم، ومن ثَم إكمال غزو كنعان. من المُرجَّح أن الكتَّاب التوراتيِّين اللاحِقين أعطوا بعد ذلك الفضلَ الكامل في الاستيلاء على المدن الكنعانية وتدميرها لبني إسرائيل دون حتى أن يأتوا على ذِكر دور شعوب البحر؛ لأنهم لم يعرفوهم، باستثناء الفلستيين التوراتيين الذين تسبَّبوا في متاعب كثيرة لشاول وداود على مدار حُكمهما.41

•••

تشير الدراسات الحديثة العهد المُتعلقة بتغيُّر المناخ التي أجرَتها دافنا لانجوت من جامعة تل أبيب وزملاؤها إلى وجود صلةٍ مُحتمَلة بين بني إسرائيل والفلستيين الأوائل من حيث التوقُّف المؤقَّت للجفاف الشديد. يبدو أنه بدءًا من عام ١١٥٠ قبل الميلاد، وبالتأكيد ليس بعد حوالي عام ١١٠٠ قبل الميلاد، كان هناك ارتفاع في الرطوبة المتاحة في جنوب بلاد الشام؛ ممَّا أدى إلى خلق ظروفٍ مناخية أكثر رطوبةً قليلًا، مما سمح بدوره ﺑ «زراعة مكثَّفة للزيتون والحبوب».42
ربما استمرَّت الظروف الأفضل في هذه المنطقة حتى عام ٩٥٠ قبل الميلاد تقريبًا، وهو ما يتوافق مع الفترة الزمنية التقريبية نفسها لأول ظهورٍ لبني إسرائيل. وكما تقول لانجوت وزملاؤها: «لقد مكَّن تحسُّن الظروف في المرتفعات خلال العصر الحديدي الأول من استعادة نشاط الاستيطان، الذي كان بمثابة الخلفية لظهور إسرائيل القديمة … ومن المُمكن أن ظروفًا مُماثلة في أجزاءٍ أخرى من المرتفعات في بلاد الشام قد أدَّت إلى تَكَوُّن أنظمة استيطانٍ مُماثلة أسفرَت عن نشأة أممٍ توراتية أخرى؛ الآراميين في سوريا، والعمونيين والموآبيين في شرق الأردن.»43
وقد دُعِّمَت هذه الفكرة الآن بدراسةٍ جديدة أخرى، تقترح أن هذه المنطقة على وجه الخصوص كانت واحدةً من المناطق الوحيدة التي زاد فيها عدد السكان بالفعل، بدلًا من أن ينخفِض، في بداية العصر الحديدي، أي الفترة التي أعقبَت الانهيار مباشرةً. إن كان الأمر كذلك، فإن الزيادة السكانية قد تكون نتيجةً مُحتمَلة للممالك الجديدة التي تأسَّست في جنوب بلاد الشام، من بينها إسرائيل ويهوذا، وكذلك موآب وعمون وأدوم، على الرغم من استمرار المناقشات العلمية حول وجود سُكان بالفعل في هذه المناطق، ربما، كما اقترح البعض، من البدو الرُّحَّل، الذين نجَوا من الانهيار أو الذين كانوا جميعًا من الوافدين الجدد إلى المنطقة الذين هاجروا إليها في أعقاب الانهيار.44

(٣) الملك داود

مصدرنا الأساسي لمَا حدث بعد ذلك هو الكتاب المقدس العبري، حيث قيل لنا — إذا أخذنا القصة على عواهنها دون تمحيص — إن الفلستيين تسببوا في مشكلاتٍ لأمَّة بني إسرائيل الوليدة وملكها الجديد شاول وأبنائه في وقتٍ لاحق في القرن الحادي عشر. وصلَت الأمور إلى ذروتها عندما قاتل شاول وذُريته الفلستيين في وادي يزرعيل، على مسافةٍ غير بعيدة عن مَجِدُّو (هرمجدون التوراتية). وهناك، في حوالي عام ١٠١٦ قبل الميلاد على جوانب جبل جِلْبُوع، وفقًا للرواية التوراتية، قُتل شاول وثلاثة من أبنائه في المعركة وعُلِّقَت جُثثهم على أسوار مدينة بيت شان (سِفر صموئيل الأول، الإصحاحات ٢٨–٣١؛ سِفر صموئيل الثاني، الإصحاح ١؛ سِفر أخبار الأيام الأول، الإصحاح ١٠).

وبعد ذلك بفترةٍ وجيزة، استولى أحد أبناء شاول المُتبقِّين، إشبعل (أو إيشبوشث)، على النصف الشمالي من المملكة الإسرائيلية الفتيَّة في حين أن داود أعلن نفسه ملكًا على يهوذا، النصف الجنوبي من المملكة (سِفر صموئيل الثاني، الإصحاح ٢: الآيات ١–٤، و٨). وفي النهاية، استولى داود على الجزء الشمالي أيضًا، وأنشأ ما نُسمِّيه الآن مملكة إسرائيل الموحَّدة حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد.45

مما يؤسَف له، أنه ليس لدَينا أيُّ دليل مؤكَّد من أي مصادر أثرية أو مصادر من مَنْقوشات كتابية لتأكيد هذه القصص التي رواها الكتاب المُقدَّس العبري؛ لذلك ليس لدَينا طريقة لتأكيد دقَّتها بشكلٍ مُستقل، لكنْ رغم أنها مثارُ كثيرٍ من الجدل، فإنها تبدو معقولة، خاصةً بالنظر إلى الأحداث الأخرى التي كانت تجري في المنطقة الأعم خلال هذه الفترة الزمنية. وعلاوةً على ذلك، حتى وقتٍ قريب لم يكن لدَينا أيُّ دليلٍ من خارج الكتاب المقدس يشهد على الوجود الفعلي لداود، على الرغم من غرابة ذلك. تغيَّرَ كلُّ ذلك في عام ١٩٩٢.

خلال صيف ذلك العام، كانت جيلا كوك تعمل مهندسةً معماريةً للبعثة الأثرية في موقع تل دان (لايش القديمة)، الواقع شمال بحيرة طبريا في إسرائيل المعاصرة. كان أبراهام بيران، وهو عالِمُ آثار منذ فترةٍ طويلة ويحظى بالاحترام وأستاذٌ في كلية الاتحاد العبرية بالقدس، يُشرف على أعمال الحفر. كان قد مضى عليه أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا وهو يحفر في تلِّ دان بحلول ذلك الوقت، منذ عام ١٩٦٦. يقع الموقع نفسه في وسط محميةٍ طبيعية جميلة تضمُّ منابع نهر الأردن الجليدية ومطعمًا رائعًا يقدِّم الأسماك للسيَّاح والسكان المحليين.

كان هدف كوك في ذلك اليوم هو أن ترسُم بدقَّة وتسجِّل الحجارة في جدارٍ كانوا قد اكتشفوه مؤخرًا. ومع ذلك، فقد خرج مشروعها عن مساره عندما صنع ضوء الشمس الساطع ظلالًا على حجرٍ واحد تحديدًا، كاشفًا عن وجود نقشٍ محفور على سطحه، لم يكن أحدٌ قد لاحظه من قبل. كان هذا النقش مكتوبًا باللغة الآرامية، باستخدام حروفٍ فينيقية. وعندما تُرجِم النصُّ لاحقًا، أحدَثَ ضجةً كبيرة؛ لأنه احتوى على عبارة «بيت ديفيد» أي، «بيت داود». وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُعثَر فيها على نقشٍ يذكر الملك داود المذكور في الكتاب المقدس؛ بل كانت هذه هي المرة الأولى التي يُعثَر فيها على أي دليلٍ على وجود الملك داود خارج الكتاب المقدس.46
fig8
شكل ١-١: نقش تل دان مع إبراز عبارة «بيت ديفيد». الصورة بإذن من أورين روزِن عبر ويكيميديا كومُنز.

اتضح أن الحجر ربما جاء من نصب تذكاري أكبر حجمًا أُقيم على الأرجح حوالي عام ٨٤١ قبل الميلاد، أي بعد قرنٍ ونصف تقريبًا من حُكم داود (حوالي ١٠٠٠–٩٧٠ قبل الميلاد). وفي العام التالي، عثرَت البعثة على شظايا إضافية تنتمي إلى النصب التذكاري نفسه، على الرغم من وجود العديد من القِطع المفقودة. ومع أن هذا الأمر لا يزال موضوعًا لبعض النقاش والجدل العلمي، يبدو أن النقش كان يُحيي ذكرى الاستيلاء على تلِّ دان على يد ملكٍ آرامي يُدعى حَزَائِيل، الذي كانت قاعدته تقع إلى الشمال مباشرةً في آرام-دمشق والذي حكَمَ حوالي ٨٤٢–٧٩٦ قبل الميلاد. وسنلتقي به مرةً أخرى أدناه.

ونصُّ النقش المُجزَّأ، كما هو موجود حاليًّا، هو:
… واجهه أبي [عندما] حارب في […]. واستلقى أبي وذهب إلى [أسلافه]. ودخل ملك إ[ﺳ]ﺮائيل سابقًا إلى أرض أبي. [و]جعلني هَدَد ملكًا. وذهب هَدَد أمامي، [و]خرجتُ من السبعة […] لمملكتي/ملوكي، وقتلتُ [ملوكًا] أقوياء، سخَّروا آ[لاف … العجلات] الحربية وآلافًا [من] خيولها. [قتلتُ يهو]رام … ابن أ[خاب]، ملك إسرائيل، وقتلتُ [أخز]يا ابن [يهورام ﻣﻠ]ﻚ بيت داود. وخربتُ [مدنهم وحولتُ] أرضَهم إلى [خراب …].47
أدى اكتشاف هذا النقش إلى وضعِ حدٍّ لنزاعٍ كان مُحتدمًا في الأوساط الأكاديمية، حيث كان بعض العلماء يُشككون في وجود حاكمَي القرن العاشر قبل الميلاد، داود وسليمان، لأنه لم يكن قد عُثِر على أي دليلٍ غير توراتي (أي خارج الكتاب المقدس) لأيٍّ من الملكَين حتى تلك المرحلة. ولذلك، كان اكتشاف هذا النقش، مع ذكره لبيت داود والتلميح الضِّمني لوجود داود التاريخي (الذي أسَّس السلالة)، في غاية الأهمية. كما أن الإشارة إلى داود والسلالة التي أسَّسها تُوحي أيضًا بأن سليمان هو الآخر كان موجودًا على الأرجح؛ لأنه ابن داود.48
وبالمناسبة، ينبغي أن أذكر أنه يمكن رؤية إشارةٍ ثانية مُحتمَلة، وإن كانت موضع جدالٍ كبير، إلى بيت داود على ما يُعرَف باسم مسلَّة ميشع. شاهَدَ مُبشِّر أنجليكاني يُدعى إف إيه كلاين النقشَ، الذي اشتهر بذِكره ﻟ «عُمْري ملك إسرائيل»، لأول مرة وتعرَّف عليه في عام ١٨٦٨ في موقع ذيبان فيما يُعرَف الآن بالأردن. وحتى مع فقدان ثُلث نصِّه حاليًّا، فإنه لا يزال أطول نقشٍ ضخم يُكتَشَف على الإطلاق في الأرض المُقدسة وهو أحد أول النقوش غير التوراتية المُكتشَفة التي تذكُر اسمَ شخصٍ أو مكانًا معروفًا أصلًا من الكتاب المُقدس العبري؛ على سبيل المثال، عُمْري، ملك إسرائيل، وربما بيت داود، أيضًا.49

(٤) أدوم والأَدُومِيَّون

وفقًا للرواية التوراتية، عندما كان داود يُرسي دعائم مُلكه، كانت مملكة أدوم القريبة من بين الأراضي التي غزاها. كانت تقع إلى الجنوب الشرقي من أراضي داود الأصلية، في المنطقة العامة لوادي فينان فيما يُعرَف حاليًّا بالأردن.

قد توفر قصص الكتاب المقدس — عن غزو داود لأدوم — دعمًا إضافيًّا للرابط بين تمناع ومصر، والذي كنتُ قد ذكرتُه سابقًا، حيث تُخبرنا الرواية التوراتية أنه أثناء القتال، أُخرِج ولي العهد الأَدُومِيُّ هَدَد، الذي كان طفلًا في ذلك الوقت، من البلاد إلى مصر؛ حفاظًا على سلامته (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١١: الآيات ١٤–٢٢). وعندما كبر هَدَد، تزوَّج أخت الملكة المصرية وأنجبا ابنًا، هو جَنُوبَث، قبل أن يعود إلى أدوم بعد وفاة الملك داود ويثور لاحقًا على الملك سليمان.50
على الرغم من عدم وجود دليلٍ مُستقل لتأكيد هذه القصة أيضًا، يقترح عالِم المصريات كينيث كيتشن أنه ربما كان بسوسنس الأول هو الذي أعطى هَدَد ملاذًا في مصر، وأعطاه أيضًا «بَيْتًا وَعَيَّنَ لَهُ طَعَامًا وَأَعْطَاهُ أَرْضًا» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١١: الآية ١٨). يتداخل بسوسنس، الذي استمر حُكمه الطويل حتى حوالي عام ٩٩١ قبل الميلاد، والذي الْتقَينا به أعلاه، زمنيًّا مع داود مدةَ عشر سنوات إن لم يكن أكثر. ومع ذلك، فمِن المُمكن أيضًا أن نقترح بدلًا من ذلك أن الواقعة حدثت في عهد ابن بسوسنس الأول، آمون-إم-أوبت، الذي حكَمَ عشر سنوات تقريبًا بعد وفاة والده وبَسَطَ حُكم الأسرة الحادية والعشرين على مصر كلها، سواء العُليا أو السُّفلى، من قاعدته في تانيس.51

كان أول مَن استكشف مملكة أدوم بجديةٍ وتفصيل هو عالِم الآثار الأمريكي المفعم بالحيوية نيلسون جليك في عمليات المسح الأثري التي أجراها في الأردن في ثلاثينيات القرن العشرين. ظلَّ جليك، الحاخام المُكرس والرئيس السابق لكلية الاتحاد العبرية في سينسيناتي، أحد علماء الآثار القليلين الذين ظهروا يومًا على غلاف مجلة تايم وكان ذلك في عام ١٩٦٣. (كان جيمس هنري برستد، مؤسس ومدير المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، قد ظهر سابقًا في عام ١٩٣١.) ربط جليك، متأثرًا بشدة بالكتاب المقدس العبري، مناجمَ النحاس في وادي فينان في منطقة وادي عربة بأنشطة الملك سليمان، واصفًا إيَّاه بأنه أول «قطب نحاس» في العالَم، على الرغم من أن هذا التصنيف يُعتبر الآن مستبعَدًا.

وفي آونةٍ أحدث، بدأ في عام ١٩٩٧ عَقدان من الأبحاث، التي أجراها مشروع الآثار الإقليمي في منخفضات أدوم التابع لجامعة كاليفورنيا سان دييجو ودائرة الآثار العامة الأردنية. وقد أنتج المشروع حتى الآن العديد من المنشورات من علماء مثل توم ليفي ومحمد نجار وإيريز بن يوسف، وغيرهم. وقد أظهرَت أعمالهم البحثية، في مناجم النحاس في وادي فينان، أنه كانت هناك زيادة مفاجئة في استغلال هذه المناجم، فضلًا عن تلك الموجودة في تمناع القريبة، بدءًا من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ثم استمر ذلك حتى القرنَين العاشر والتاسع قبل الميلاد. وربما كان هذا الاستغلال الجديد لخام النحاس في وادي فينان بمثابة تحدٍّ لهيمنة قبرص السابقة على صناعة تصدير النحاس.52
ويقترح البعض حاليًّا أن نشوء أدوم والأدوميين كان مرتبطًا باستغلال موارد النحاس هذه، حيث يقترح إيريز بن يوسف من جامعة تل أبيب أن الإدارة والتشغيل كانا في البداية من رعاةٍ رُحَّل مستترِين من الناحية الأثرية، والذين استغلوا الفرصة للعمل في المناجم عندما انسحبت السلطات المصرية في أعقاب الانهيار. ووفقًا لوجهة نظره، فإن عمَّال المناجم الرُّحَّل استقروا في النهاية وأصبحوا الأشخاص الذين يُسمِّيهم الكتاب المقدس الأدوميين. وقد أثار هذا الطرح الأخير على وجه الخصوص نقاشًا مستمرًّا وحيويًّا. ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه إذا كان قد جرى تعدين للمنطقة قبل زمن سليمان، فإن تسليط الضوء على وجود سليمان في وادي فينان كما فعَلَ جليك؛ إما غير ذي صلة أو ليس بالأهمية نفسها التي تَصوَّرها جليك.53

(٥) خربة قيافة وتل الجِزِر

هناك اكتشافات إضافية قد يكون لها تأثير على حجم أراضي داود، لكنها لا تخلو من الجدل أيضًا. ومن الأمثلة البارزة على ذلك خربة قيافة، التي تقع في وادي السنط إلى الجنوب الغربي من القدس، الذي يُقال إن المعركة بين داود وجالوت دارت فيه. وقد بدأ يوسي جارفينكل من الجامعة العبرية في التنقيب في الموقع في عام ٢٠٠٧. وقد حدَّد تاريخه بأنه يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد وناقَشَ علاقته بالملك داود وحجم أراضيه خلال ذلك الوقت. والموقع ليس بعيدًا عن تلِّ الصافي (مدينة جَت التوراتية) وتل مقنة (مدينة عقرون التوراتية)، اللتَين كانتا مِلكًا للفلستيين، لكنَّ جارفينكل يرى أن موقعه يقع على الجانب الآخر ممَّا هو في الأساس حدودٌ غير مرئية؛ ومن ثَم فهو جزء من مملكة داود بدلًا من كونه ضمن أراضي الفلستيين. كما عرَّف بشكلٍ مبدئي خربة قيافة على أنها مدينة شَعَرَايِمَ التوراتية، المذكورة في الرواية التوراتية عن داود وجالوت (سِفر صموئيل الأول، الإصحاح ١٧: الآية ٥٢ خاصةً)، لكن مثل هذا التعريف لم يتقبله جميع علماء الآثار الآخَرين.54
من بين العديد من الاكتشافات الأخرى، أثمر الموقع نقشَين حتى الآن. أحدهما منقوش حول حافة جرَّة تخزين، بما يبدو أنه خطٌّ أبجدي كنعاني، وقد يتضمَّن الاسم الشخصي إشباعال؛ ربما مالك الجرة. تسبب النقش الآخَر، الذي عُثِر عليه في عام ٢٠٠٨، في مزيدٍ من النقاش. إنه يتألف من خمسة أسطر بالحبر الأسود على شظيةٍ فخارية مكسورة (تُعرَف مثل هذه الشظية المنقوشة باسم «شقفة مرسومة» في المصطلحات الأثرية). لا يزال غير واضح ما تقوله هذه الأسطُر بالضبط، ولكنَّ التفسيرات والترجمات المختلفة تراوحَت بين الدنيوية والخيالية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى عدم اتفاق الجميع على اللغة المُستخدمة؛ يميل معظمهم الآن نحو كونها نسخةً من نصٍّ عبري قديم مُشتق من الفينيقية. تضمنَت إحدى المحاولات الأوَّلية للترجمة الأسطر «احكموا على العبد والأرملة، احكموا على اليتيم والغريب. دافعوا عن الرضيع، دافعوا عن الفقير والأرملة»، ولكنَّ هذا لا يزال موضع جدالٍ كبير.55
هناك أيضًا نقشٌ غير ذي صِلة في موقع تل الجِزِر (أو جَازَرَ)، الذي يقع على مقربة، ويبدو كذلك أن تاريخَه يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد. النقش مشهور بحق، على الرغم من أننا لا نستطيع أن ننسِبه إلى أي عهدٍ محدَّد، سواء عهد داود أو أي حاكمٍ آخَر. هذا هو ما يُسمَّى تقويم تل الجِزِر، وهو نقشٌ مكتوب على الحجر إما باللغة العبرية القديمة (أقدم نسخة معروفة من العبرية) أو ربما فينيقية. عُثِرَ على تقويم تل الجِزِر منذ زمنٍ بعيد، في عام ١٩٠٨، وكان مَن عَثرَ عليها هو آر إيه إس ماكاليستر (الذي ذكرناه آنفًا)، والذي كان يقوم بأعمال التنقيب نيابةً عن صندوق استكشاف فلسطين، الذي كان مقرُّه في لندن. ويصف تقويم تلِّ الجِزِر الأنشطة الزراعية الرئيسية التي أُجريَت خلال العام، ولذلك فهو يوفر نظرةً ثاقبةً للحياة في المنطقة خلال هذا الوقت. وينصُّ على ما يلي: «شهران من الحصاد، وشهران من الزراعة، وشهران من البذر المُتأخِّر، وشهر واحد من تقطيع الكتان، وشهر واحد من حصاد الشعير، وشهر واحد من الحصاد والاكتمال، وشهران من قطْعِ العنب، وشهر واحد من ثمار الصيف.»56

(٦) الفرعون سي آمون وخبيئة الدير البحري

يظهر موقع تل الجِزِر أيضًا بشكلٍ بارز في مقطع توراتي ينص على أن فرعونًا مصريًّا استولى على المدينة ثم أعطاها لسليمان كجزءٍ من مهر عندما تزوج سليمان ابنة الفرعون (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٩: الآيتان ١٦-١٧). يُخبرنا الكتاب المقدس أن «فِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ صَعِدَ وَأَخَذَ جَازَرَ وَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ، وَقَتَلَ الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَعْطَاهَا مَهْرًا لابْنَتِهِ امْرَأَةِ سُلَيْمَانَ؛ وَبَنَى سُلَيْمَانُ جَازَرَ.»57
لاحظ أن اسم الفرعون الذي فعَلَ هذا بمدينة جَازَر غير مذكور. ومع ذلك، اقترح عددٌ من المؤرخين التوراتِيِّين وعلماء المصريات أنَّ الفرعون سي آمون من الأسرة الحادية والعشرين، الذي حكَمَ عشرين عامًا (حوالي ٩٧٩–٩٥٨ قبل الميلاد)، يمكن أن يكون الحاكم المصري المَعني. هناك بالفعل دليلٌ على مستوى الدمار في جَازَر قد يعود تاريخه إلى هذه الفترة التقريبية ويمكن أن يكون مرتبطًا بحملةٍ شنَّها سي آمون، على الرغم من عدم وجود أيِّ شيءٍ يربطه بها بشكلٍ قاطع.58
fig9
شكل ١-٢: نسخة طِبق الأصل من نقشِ تقويم تل الجِزِر. تصوير إي إتش كلاين.
إذا كان لهذه الرواية أيُّ أساسٍ في الواقع، فقد كان من الواضح أنه كان هناك تغيير في ديناميكيات القوة بعد الانهيار، لأنه لم يحدُث قَط خلال العصر البرونزي أن زَوَّجَ فرعونٌ مصريٌ ابنته لملكٍ أجنبي. ومع ذلك، فقد رأينا بالفعل أن الأمور كانت مختلفة الآن في العصر الحديدي؛ تذكَّر أنه خلال حكم داود، زُوِّجَت أخت الملكة المصرية من الشابِّ هَدَد، ولي عهد أدوم، وفقًا للرواية التوراتية.59 نسمع الآن عن زواجٍ آخَر من هذا القبيل، كان من غير المُمكن تصوُّر حدوثه من قبل. ومع ذلك، يبدو أنَّ سليمان قد اعتنى جيدًا بالأميرة المصرية، ويُقال إنه بنى لها مسكنًا منفصلًا في أورشليم: «وَلكِنَّ بِنْتَ فِرْعَوْنَ صَعِدَتْ مِنْ مَدِينَةِ دَاوُدَ إِلَى بَيْتِهَا الَّذِي بَنَاهُ لَهَا [سليمان]» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٩: الآية ٢٤).
قد يكون مثل هذا الزواج المَلكي، الذي كان يصاحب في كثير من الأحيان نوعًا من التحالف أو المعاهدة المُتبادَلة، جزءًا من محاولةٍ من جانب سي آمون لتدعيم حكمه في مصر؛ لأن الأمور ربما لم تسِر معه على ما يُرام. على سبيل المثال، ربما كان النقل الإضافي للمومياوات الملكية يعكس المخاوف الأمنية في طِيبة. فقد نُقِل بعض هذه المومياوات أولًا إلى مقبرة الملكة إنحابي في العام العاشر من حُكم سي آمون. وفي وقتٍ لاحق (يزعم البعض أنه في العام الحادي عشر من حُكم شيشنق الأول، أي حوالي عام ٩٣٥ قبل الميلاد)، انتهى الأمر بالمومياوات مع مومياواتٍ أخرى، منها تلك التي تخصُّ الملوك: أحمس الأول، وتحتمس الأول والثاني والثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الأول والثاني والثالث، وكذلك أفراد من أسرة بينوزم الثاني في مقبرةٍ بالقرب من الدير البحري. ويبدو أن هذه المقبرة كانت في الأصل مقبرةَ الملكة أحمس نفرتاري من الأسرة الثامنة عشرة، وقد استُخدِمَت مؤخرًا لدفن أسرة بينوزم الثاني.60

كان هذا المخبأ، والذي يُطلق عليه الآن عادةً خبيئةَ الدير البحري (الرقم الرسمي تي تي ٣٢٠)، جيدًا؛ لأنه ظلَّ غير مُكتشَف مدةً تقترِب من ثلاثة آلاف عام. عثر على المقبرة أحد أفراد عائلة عبد الرسول، أثناء بحثه عن عنزةٍ سقطَت في بئر المقبرة، من حوالي ١٥٠ عامًا فقط، أي في وقتٍ ما حوالي عام ١٨٧٠، وفقًا للنسخة الأكثر شيوعًا من القصة التي تُروى الآن. ومع ذلك، لا يُصدِّق هذه القصة إلا قِلة من الناس، وهناك الكثير من التكهُّنات بأنه كان، على الأرجح، يبحث عن مقابر لسرقتها، حيث احتُفِظ بالموقع بعد ذلك كسِرٍّ عائليٍّ محفوظٍ بعناية. تعاملَت العائلة مع المقبرة باعتبارها كنزها الخاص، فباعَت أشياء مختلفة واحدًا تلوَ الآخَر للسياح الأوروبيين والأمريكيين الأثرياء على مدى فترةٍ امتدَّت لنحو عشر سنوات.

تم الكشف عن المُخطَّط أخيرًا في عام ١٨٨١ بواسطة إميل بروجش، الذي أرسله جاستون ماسبيرو، المدير الجديد لمصلحة الآثار المصرية. استأجر بروجش عدة مئات من القرويين المحليين وأزال كل الفراعنة والملكات، الذين كانوا قد أُعيد دفنهم، وبضائعهم من المقبرة في غضون فترة لا تتجاوز ثمانية وأربعين ساعة، متخليًا عن التسجيل الدقيق للموقع المُحدَّد للمحتويات لصالح الإزالة السريعة. أصبحت هذه القصة الآن من بين القصص الأكثر تكرارًا في تاريخ عِلم المصريات الحديث، وكانت مجموعة المومياوات الملَكية والأغراض الجنائزية من بين أكثر الكنوز قيمةً في متحف القاهرة لعقودٍ من الزمن.61 وهي ترقد الآن في سرداب في المتحف القومي مُجهز خصوصًا للحضارة المصرية، في ضاحية الفسطاط بالقاهرة. ومن المؤسِف أن الإزالة السريعة كانت تعني أن كل المعلومات التي تتجاوز الأغراض الفعلية؛ قد ضاعت أو لم تُسَجَّل، ولو كان ذلك قد جرى بطريقةٍ بطيئة ومدروسة، كما كان ينبغي أن تكون الحال، لكان مِن الممكن الحصول على بياناتٍ أكثر بكثير؛ في المقابل، استغرقَت إزالة هوارد كارتر للأغراض من قبر توت عنخ آمون، والتي بدأت في عام ١٩٢٢، عشر سنوات.

(٧) سليمان في مَجِدُّو والقدس

بينما كان كارتر يوثِّق ويزيل بعناية الأغراض الموجودة في مقبرة توت عنخ آمون، بدأ علماء الآثار من المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو أعمال التنقيب في عام ١٩٢٥ في موقع مَجِدُّو، فيما يُعرَف الآن بشمال إسرائيل ولكنه كان يقع في فلسطين التي كانت خاضعةً للانتداب البريطاني في ذلك الوقت. وبعد ثلاث سنوات، في عام ١٩٢٨، اكتشفوا العديد من المباني الكبيرة التي كانت تحتوي على ممراتٍ داخلية مبطَّنة بحجارةٍ قائمة وما بدا أنه أحواض. فسَّر المدير الميداني، بي إل أو جاي، هذه المباني على أنها إسطبلات وأرسل برقيةً إلى جيمس هنري برستد، مدير المعهد الشرقي. وجاء في جزءٍ من البرقية ما يلي: «نعتقد أننا عثرنا على إسطبلات سليمان.»

تصدَّرَت الأخبار عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم، لكنَّ الجدل لا يزال محتدمًا اليوم، بعد قرنٍ من الزمان. يقبل معظم علماء الآثار أنَّ هذه إسطبلات بالفعل، لكنَّ الأغلبية لم تعُد تظنُّ أن مَن بناها هو سليمان. وبناءً على تأريخ الكربون المُشع، وأنماط الفخار، وغيرها من المؤشرات الزمنية، يبدو الآن مرجَّحًا أن هذه المباني قد بُنِيَت إما في القرن التاسع قبل الميلاد، ربما على يد عُمْري أو ابنه أخاب، أو حتى في القرن الثامن قبل الميلاد، ربما على يد يربعام الثاني.62
وعلى نحوٍ مُماثل، بعد عدَّة عقود من الزمن، أجرى عالِم الآثار الإسرائيلي الشهير ييجال يادين وفريقه عملياتِ تنقيبٍ في مَجِدُّو وحاصور، ووجدوا أن بوابة الدخول الكبيرة في كلٍّ منهما تبدو مطابِقة، لما يُعرَف الآن بالبوابة ذات الحجرات الست. كما ألقى نظرة على السجلَّات من أعمال التنقيب السابقة التي أجراها ماكاليستر في تل الجِزِر، وأدرك أن بوابة المدينة كانت مُتطابقة جوهريًّا هناك أيضًا. وأرجع تاريخ كلٍّ من البوابات الثلاث إلى زمن سليمان، وأعلن أنه كان هناك «مخطَّط سليماني» لبوابات الدخول التي يمكن رؤيتها في مثل هذه المدن.63
ومع ذلك، وكما حدث مع «إسطبلات سليمان»، فإن بوابات المدينة هذه أيضًا قد يعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد وعهد عُمْري أو أخاب، أو حتى إلى القرن الثامن قبل الميلاد وعهد يربعام الثاني، وليس إلى القرن العاشر قبل الميلاد وزمن سليمان. ظلَّ النقاش دائرًا لبعض الوقت، وكان في بعض الأحيان محتدمًا للغاية، حيث لا يوجَد اتفاق بين جميع العلماء، ولكن يبدو الآن أن هذا الدليل المُحتمَل على أنشطة سليمان في البناء ربما يكون قد اختفى أيضًا.64

•••

يأتي الدليل النصِّي المُتضمَّن في هذا النقاش من مقطعٍ توراتي واحد يذكر تلك المدن المُحدَّدة كأمثلةٍ يُفترَض أنَّ سليمان تولَّى تحصينها: «وَهذَا هُوَ سَبَبُ التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِبِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِهِ وَالْقَلْعَةِ وَسُورِ أُورَشْلِيمَ وَحَاصُورَ وَمَجِدُّو وَجَازَرَ» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٩: الآية ١٥).

لاحظ أن المقطع يُعطي الفضل أيضًا لسليمان في بناء الهيكل الأصلي في أورشليم («بيت الرب»). ولهذا السبب، وفقًا للرواية التوراتية، لجأ سليمان إلى حيرام، ملك صور، التي كانت تقع في الجزء المركزي من كنعان والواقعة الآن في دولة لبنان المُعاصِرة، وورد أن حيرام زوَّد سليمان بالحِرفيين وحتى بخُطة بناء الهيكل (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٥: الآية ١؛ والإصحاح ٧: الآية ٥١). وعلى الرغم من أن علماء الآثار لم يجدوا بعدُ أيَّ شيءٍ قد يؤكد هذه القصة التوراتية بشكلٍ مباشر (أو حتى فيما يتعلق أيضًا بوجود سليمان، أو حُكمه، أو حجم مملكته)؛ فإن الروايات التوراتية عن حُكمه مليئة بتفاصيل علاقته بحيرام وصور.65
في هذه المسألة، يُخبرنا الكتاب المقدَّس أيضًا على وجه التحديد: «وَأَرْسَلَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ قَائِلًا: «قَدْ سَمِعْتُ مَا أَرْسَلْتَ بِهِ إِلَيَّ. أَنَا أَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِكَ فِي خَشَبِ الأَرْزِ وَخَشَبِ السَّرْوِ. عَبِيدِي يُنْزِلُونَ ذلِكَ مِنْ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ، وَأَنَا أَجْعَلُهُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَرِّفُنِي عَنْهُ وَأَنْقُضُهُ هُنَاكَ، وَأَنْتَ تَحْمِلُهُ، وَأَنْتَ تَعْمَلُ مَرْضَاتِي بِإِعْطَائِكَ طَعَامًا لِبَيْتِي.» فَكَانَ حِيرَامُ يُعْطِي سُلَيْمَانَ خَشَبَ أَرْزٍ وَخَشَبَ سَرْوٍ حَسَبَ كُلِّ مَسَرَّتِهِ. وَأَعْطَى سُلَيْمَانُ حِيرَامَ عِشْرِينَ أَلْفَ كُرِّ حِنْطَةٍ طَعَامًا لِبَيْتِهِ، وَعِشْرِينَ كُرَّ زَيْتِ رَضٍّ. هكَذَا كَانَ سُلَيْمَانُ يُعْطِي حِيرَامَ سَنَةً فَسَنَةً» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٥: الآيات ٨–١١؛ وانظر أيضًا سِفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح ٢: الآيات ١–١٦).66

وفي هذا السياق، تحدَّث حيرام أيضًا عن إرسال حِرفيين مهَرةٍ لمساعدة سليمان، على النحو التالي: «وَالآنَ أَرْسَلْتُ رَجُلًا حَكِيمًا صَاحِبَ فَهْمٍ «حُورَامَ أَبِي»، ابْنَ امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ دَانَ، وَأَبُوهُ رَجُلٌ صُورِيٌّ مَاهِرٌ فِي صِنَاعَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْحِجَارَةِ وَالْخَشَبِ وَالأُرْجُوانِ وَالأَسْمَانْجُونِيِّ وَالْكَتَّانِ وَالْقِرْمِزِ، وَنَقْشِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّقْشِ، وَاخْتِرَاعِ كُلِّ اخْتِرَاعٍ يُلْقَى عَلَيْهِ» (سِفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح ٢: الآيتان ١٣-١٤).

بما أنه لا يوجَد أيُّ جزءٍ من هيكل سليمان قائمًا حتى الآن، فإن الوصف التوراتي هو كل ما لدَينا لنعتمد عليه (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٦: الآيات ١٤–٢٢). ونتيجةً لذلك، وكما قد يتوقَّع المرء، ليس هناك نهاية للنقاش العلمي حول شكله الفعلي، ولكن يبدو أنه يتناسَب مع وصفٍ ما يُطلِق عليه علماء الآثار معبدَ «القاعة الطويلة»؛ أي مبنًى مُستطيل طويل كان المرء يدخله من جانبٍ قصير ويتقدَّم إلى غرفةٍ رئيسية طويلة، وفي نهايتها غرفةٌ أصغر بكثير تُعرف باسم «قُدس الأقداس»؛ حيث من شأن المرء أن يحتفظ بشيءٍ مثل تابوت العهد.

ولكنَّ الشكل الأكثر شيوعًا للمعابد في جنوب بلاد الشام في ذلك الوقت؛ كان معبد «القاعة الواسعة»، وهو معبدٌ أقصر بكثير، ويدخل إليه المرء من منتصف الجانب الطويل. ويُمكننا أن نرى مثالًا على هذا في معبد القرن العاشر قبل الميلاد في موقع عراد، على مقربةٍ من بئر السبع فيما يُعرف الآن بجنوب إسرائيل. ومعبد «القاعة الطويلة» أكثر شيوعًا في الشمال، على سبيل المثال، في موقع عين دارة في شمال سوريا؛ حيث يوجَد معبدٌ يُظَن أنه أقربُ مثالٍ موجود لمَا كان عليه هيكلُ سليمان.67 ومِن المحتمَل أيضًا أن الحِرفيين الذين عملوا مع حيرام أحضروا معهم مُخطَّط الخطة الفعلية لبناء المعبد، فضلًا عن المواد التي كان سيُشَيَّد بها.
كما قيل لنا إنَّ سليمان، كنوعٍ من الامتنان، أعطى حيرام عشرين مدينةً تقع فيما يُعرف الآن بشمال إسرائيل، لكنَّ حيرام رفض قبولها (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٩: الآيات ١٠–١٤). إضافةً إلى ذلك، تعاوَنَ الاثنان في إرسال بعثةٍ عبْر البحار إلى أوفير (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ٩: الآية ٢٦؛ وسِفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح ٨: الآية ١٧، و٩: ١٠)، التي لم يتأكد موقعها مُطلقًا. وعلاوةً على ذلك، يُخبرنا الكتاب المقدس أن حيرام أرسل بعثاتٍ إلى تَرْشِيشَ (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١٠: الآيتان ٢١-٢٢؛ وسِفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح ٩: الآية ٢١)، والتي غالبًا ما يجري تحديدها على أنها تارتيسوس في إسبانيا، على الرغم من عدم وجود أساسٍ ثابت لمثل هذا التحديد.68 وقد اقتُرِح مؤخرًا أن الملك سليمان ربما كان معنيًّا أيضًا بالانضمام إلى البعثات الفينيقية إلى إسبانيا في هذا الوقت، وخاصة إلى منطقة وَلْبَة، للحصول على الفضة وغيرها من السلع؛ رغم عدم وجود دليل على ذلك على الإطلاق، وتفتقر الفرضية إلى أي دليلٍ مادي داعم.69

(٨) شيشنق/شيشق

في هذه المرحلة من قصتنا، تشابكَت العلاقات بين مصر وجنوب بلاد الشام مرةً أخرى، ولكنْ هذه المرة كان ذلك لأنَّ مصر كانت تستعيد عافيتها أخيرًا، بفضل شيشنق الأول. اعتلى شيشنق الأول عرش مصر في منتصف القرن العاشر، حوالي ٩٤٥ قبل الميلاد، بعد بسوسنس الثاني، الذي حكم مصر بعد وفاة سي آمون. كان سي آمون وبسوسنس الثاني آخِر ملكَين من الأسرة الحادية والعشرين؛ وكما ذكرتُ آنفًا، فقَدْ دُفِنا في الغرفة الأمامية لمقبرة بسوسنس الأول. وكان شيشنق أولَ ملك لسلالةٍ جديدة، هي الأسرة الثانية والعشرين.70
كان شيشنق من أصلٍ ليبي، على الرغم من أن عائلته عاشت في مصر لأجيال، وكان عمُّه، أوسركون الأكبر، ملكًا لمصر بالفعل قبل سي آمون مباشرةً. أبقى شيشنق العاصمة في تانيس ولكنَّه فرَضَ سيطرةً أوثقَ على طِيبة بتعيين ابنه أوبوت رئيسًا لكهنة آمون. وقد حلَّ هذا محلَّ الخط الوراثي السابق وأعاد إلى مصر قدْرًا من الوحدة لعدَّة عقود. وهو أيضًا أول ملكٍ يترك سجلَّات للعمليات العسكرية في بلاد الشام منذ انهيار أواخر العصر البرونزي.71
وهنا قد يتدخل الكتاب المُقدَّس العبري لِلَعب دوره مرةً أخرى أيضًا؛ لأنه من المُفاجئ أن يُخبرنا أنَّ فرعونًا مصريًّا يُدعى شيشق حاصَرَ القدس وحمل معه كميةً لا تُحصى من الذهب والكنوز الأخرى من المدينة والقصر والمعبد بعد بضع سنواتٍ من وفاة الملك سليمان، أي في الفترة ما بين ٩٣٠ و٩٢٥ قبل الميلاد. «وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ لِلْمَلِكِ رَحُبْعَامَ، صَعِدَ شِيشَقُ مَلِكُ مِصْرَ إِلَى ‌أُورَشْلِيمَ؛ وَأَخَذَ خَزَائِنَ بَيْتِ الرَّبِّ وَخَزَائِنَ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ. وَأَخَذَ جَمِيعَ أَتْرَاسِ الذَّهَبِ الَّتِي عَمِلَهَا سُلَيْمَانُ» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١٤: الآيتان ٢٥-٢٦).72
على الرغم من أن البعض يجادل في ذلك، فإن معظم المؤرِّخين التوراتيِّين وعلماء المصريات يرَون أنَّ الفرعون شيشق المذكور في الكتاب المقدَّس لا يمكن أن يكون أيَّ أحدٍ سوى شيشنق الأول. ويستند هذا جزئيًّا إلى نقشٍ أمَرَ شيشنق بنقشِه على ما يُعرَف ببوابة بوباستيت في معبد الكرنك في مصر، والتي شكَّلَت جزءًا من أول توسعةٍ رئيسية للمجمع منذ الأسرة العشرين. وعلى الرغم من أنَّ هذا النقش أيضًا محلُّ جدالٍ كبير؛ فإنه مُدرَجٌ فيه أسماء عددٍ من المدن التي هاجمها شيشنق في أراضي ما كان يُعرَف بمملكة إسرائيل الموحَّدة في عهد داود وسليمان. ومن بين هذه المدن مَجِدُّو، إلى جانب مدنٍ أخرى في وادي يزرعيل، منها تعنَك وشُونَم.73

وقد أثارت قائمة شيشنق للمدن المحتَلَّة قدْرًا كبيرًا من الاهتمام وبعضَ الشكوك على مرِّ السنين، ولكنْ ربما جاء تأكيدُ دقَّتها قبل قرنٍ من الزمان تقريبًا، في أواخر عام ١٩٢٥، عندما استخرج علماء الآثار بجامعة شيكاغو، الذين عملوا خلال موسمهم الأول في مَجِدُّو، قطعةً حجريةً منقوشًا عليها خرطوشة شيشنق الأول. كان المُنَقِّب السابق للموقع، جوتليب شوماخر، قد استخرجها عندما كان يحفر هناك من عام ١٩٠٣ إلى عام ١٩٠٥، ولكنْ لم يُدرِك أحدٌ أهميتها، ولذلك أُلقِيَت على كومةٍ من التراب بجوار خندق تنقيب، حيث وجدَها فريقُ شيكاغو بعد عشرين عامًا.

كان جيمس هنري برستد قادرًا على ترجمة الكتابة الهيروغليفية الموجودة على القطعة المُستخرَجة عندما زار فريقه في مارس ١٩٢٦، وسرعان ما انتشر الخبر في جميع أنحاء العالم عن الاكتشاف الذي توصَّلوا إليه؛ ممَّا أحدَثَ ضجةً كبيرة مثل الضجة التي أعقبَت ذلك بعامَين، مع اكتشاف «إسطبلات سليمان». ويبدو أن هذه القطعة تؤكِّد ادعاء شيشنق، حيث يُعتقَد أنها جاءت من نصب تذكاري منقوش، يبلغ ارتفاعه في الأصل ربما عشر أقدام، وكان من المُفترَض إنشاؤه في مدينة مَجِدُّو بعد استيلاء القوات المصرية عليها.74 ومع ذلك، فإننا لا نعرف في أيِّ المستويات في مَجِدُّو عُثِر عليها؛ حيث إن رجال شوماخر لم يُسجِّلوا موقع القطعة.
رغم ذلك، اعتقد بعض العلماء في مرحلةٍ ما أنهم تمكنوا من تحديد المدينة التي عند مَجِدُّو والتي استولى عليها شيشنق، وهي الطبقة المعروفة لدى المُنقبين باسم مَجِدُّو ٦إيه. وقد احترق كليًّا هذا المستوى، الذي وُصِف تارةً بأنه آخِر مدينةٍ كنعانية وتارةً أخرى بأنه أول مدينة إسرائيلية بُنيَت في الموقع، في وقتٍ ما خلال القرن العاشر قبل الميلاد. وقد عثَرَ مُنقِّبُو شيكاغو على هياكلَ عظميةٍ غير مدفونة، لا تزال ملقاةً في المنازل المدمَّرة وعلى بقايا أعمدةٍ خشبية وأشجار لا تزال في الموقع. واقترح آخرون بدلًا من ذلك أن الدَّمار قد يُعزى إلى قوات الملك داود أو حتى إلى الفلستيين. ومع ذلك، فإن الأدلة — التي تشمل الجدران المُتشقِّقة والمائلة، إضافةً إلى الهياكل العظمية والأشجار والأعمدة المحروقة — تشير بقوةٍ، بدلًا من ذلك، إلى زلزال، ربما يكون قد دمَّر أيضًا مجتمعاتٍ محلية قريبة.75
الأمر المُثير للاهتمام بشكلٍ خاص، بشأن هجوم شيشنق على مَجِدُّو، هو أن المدينة ربما كانت موجودةً بالفعل داخل مملكة إسرائيل الشمالية بحلول ذلك الوقت. وقد أسَّس يربعام هذه المملكة الشمالية في الوقت نفسه الذي أسَّس فيه رحبعام مملكةَ يهوذا الجنوبية، بعد انقسام المملكة الموحَّدة إلى المملكتَين المُنفصلتَين بعد وفاة سليمان. كانت هناك علاقة بالفعل بين يربعام وشيشق في ذلك الوقت، حيث تنصُّ الرواية التوراتية على أنه قبل وفاة سليمان هرب يربعام إلى مصر وكان يعيش هناك، مُختبئًا تحت حماية شيشنق/شيشق: «وَطَلَبَ سُلَيْمَانُ قَتْلَ يَرُبْعَامَ، فَقَامَ يَرُبْعَامُ وَهَرَبَ إِلَى مِصْرَ إِلَى شِيشَقَ مَلِكِ مِصْرَ. وَكَانَ فِي مِصْرَ إِلَى وَفَاةِ سُلَيْمَانَ» (سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١١: الآية ٤٠).76
وهذا يعني أنه إذا كان شيشنق قد شَنَّ بالفعل حملةً عسكريةً على مَجِدُّو والمدن الأخرى في وادي يزرعيل، كما يشير نقشه في الأقصر وشظية النصب التذكاري في مَجِدُّو؛ فإما أنه كان يقاتل قوات يربعام، الرجل الذي كان يحميه حتى وقتٍ قريب، أو — كما اقترح ناداف نعمان من جامعة تل أبيب — ربما كانت حملة شيشنق إلى الشمال تهدف جزئيًّا، وفي المقام الأول، إلى وضْعِ يربعام على عرش مملكة إسرائيل الشمالية. ولكنَّ مثل هذا العمل لم يرِدْ ذِكره في الرواية التوراتية، وإن كان من المُمكن أن يكون قد حُفِظ ذات يوم في «سِفر أخبار الأيَّام لملوك إسرائيل» المفقود الآن (انظر، على سبيل المثال، سِفر الملوك الأول، الإصحاح ١٤: الآية ١٩).77
ومن النقاط المُثيرة للاهتمام أنَّ القائمة التي نجَت ووصلَتنا — للمدن التي هاجمها شيشنق الأول — «لا» تشمل أورشليم، وأنَّ «مسار الرحلة» لا يتَّفق مع إدراجها في الحملة المُسجلة على بوابة بوباستيت. ومع ذلك، هناك مساحاتٌ شاسعة من الجدران التي أضافها شيشنق إلى الساحة الأمامية في الكرنك؛ ومن المُرجَّح أنَّ شيشنق لو ظلَّ على قيد الحياة، لكانت أُضيفَت لوحاتٌ ونقوشٌ إضافية، تشتمل على حملةٍ واحدة أو أكثر من الحملات الأخرى، التي ربما كانت تشمل الهجوم على أورشليم.78

(٩) المَنْحل

يذكر شيشنق أيضًا موقع رحوف في قائمته الطوبوغرافية في الكرنك. كانت رحوف مدينةً كنعانية كبرى تقع في وادي بيت شان (بيسان)، وقد نجحَت بطريقةٍ ما في الانتقال إلى العصر الحديدي دون أن يلحق بها أذًى تقريبًا. وهي واحدةٌ من أكبر التِّلال الأثرية في جنوب بلاد الشام، وتتكوَّن من تلةٍ منخفضة يُهيمن عليها تل علوي في الطرف الجنوبي، وتُغطِّي ما بين عشرة إلى أحد عشر هكتارًا (حوالي خمسة وعشرين فدَّانًا). وقد عُرفَت منذ عام ١٩٣٩، عندما عثر عالِمَا آثارٍ معروفان، هما روث عميران، المُتخصِّصة في الفخَّار، وأبراهام بيران، الذي نَقَّب في تلِّ دان، على السطح على قطعة فخار منقوشة بنقشٍ بالكنعانية البدائية، وكانت المنطقة محورًا لعمليات تنقيبٍ أثريةٍ مكثفة وواسعة النطاق، أشرَفَ عليها عميحاي مزار من الجامعة العبرية من عام ١٩٩٧ حتى عام ٢٠١٢.79
ويبدو أن المدينة نجَت من الدمار الذي لحق بها على يد شيشنق أيضًا، إلا أنها دُمِّرت بفعل زلزال أدَّى إلى تدمير الطبقة السادسة فيها خلال الثلث الأخير من القرن العاشر قبل الميلاد (ربما الزلزال نفسه الذي دمَّر الطبقة التي تحمل اسمًا مشابهًا وهو ٦إيه في مَجِدُّو والمذكور أعلاه). تصدَّرَت رحوف عناوينَ الأخبار قبل بضع سنواتٍ عندما اكتُشِف مَنْحل، أو منشأة لتربية النحل، في المرحلة التالية، الطبقة الخامسة، والتي دامت خلال السنوات المُتبقِّية من القرن العاشر قبل الميلاد وحتى الربع الأول من القرن التاسع قبل الميلاد. يبدو أن الروابط الأجنبية لم تكن غريبةً على مدينة هذا المستوى، حيث عُثِر على فخَّارٍ فينيقي وقبرصي وحتى يوناني في الموقع، وكذلك تمائم من الفخار المصري وعِظام سمكِ الفرخ النيلي.80
بُنِي المنحل في قلب منطقةٍ حضرية كثيفة داخل المدينة، وليس على مشارفها كما قد يظنُّ المرء.81 وعثَرَ المُنقِّبون على ٣٠ خليةَ نحلٍ؛ وقد قدَّرُوا أن عدد خلايا النحل ربما بلغ في الأصل ١٨٠ خلية، أُقيمَت في ثلاثةِ صفوفٍ متوازية. وكانت كلُّ خليةِ نحلٍ تتكوَّن من أسطوانةٍ مجوَّفة مصنوعة من الطين غير المحروق المخلوط بالقشِّ، وكان طولها أقلَّ بقليلٍ من متر (ثلاث أقدام)، وكان حجمها يزيد قليلًا عن خمسين لترًا. وكان أحد طرفَي الأسطوانة مغلقًا باستثناء «فتحة طيران» صغيرة تسمح للنحل بالدخول والخروج كما يحلو له. وكان الطرف الآخَر مزوَّدًا بغطاءٍ طيني قابلٍ للإزالة، كان يسمح لأصحاب خلية النحل بفتح الخلية والوصول إلى العسل.
وداخل الخلايا عُثِر على بقايا أقراص العسل، إضافةً إلى بقايا نحلٍ حقيقي — عيون وعضلات وأرجُل وأجنحة — وهي أول بقايا نحلٍ عُثِر عليها في الشرق الأدنى القديم. ومن المثير للاهتمام أن بدا هذا النحل نحلَ عسلِ الأناضول، وليس نوعًا أكثرَ محلية، مما يعني أنه من المُحتمَل أنهم اسْتَجلَبوه عمدًا لمسافة حوالي خمسمائة كيلومتر. وقد اقترح المُنقِّبون، في الواقع، أنَّ أسراب النحل هذه «اسْتُجْلِبَت إلى وادي بيت شان، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، من إحدى الدول الحيثية الجديدة/اللوفية في جنوب تركيا».82
ويُقدَّر أنَّ كلَّ خليةِ نحلٍ كان يمكن أن تُنتج ما يصل إلى خمسة كيلوجرامات من العسل سنويًّا، إضافةً إلى نصف كيلوجرام أو أكثر من شمع العسل؛ مما يعني أن الخلايا المائة والثمانين كان يمكن أن تُنتِج ما يقرب من ألف كيلوجرام من العسل وما يقرب من مائة كيلوجرام من شمع العسل سنويًّا، وربما يكون هذا جزءًا من السبب وراء ذِكر إسرائيل القديمة عدَّة مرَّاتٍ في الكتاب المقدَّس العبري باعتبارها «أرضًا تفيض لَبَنًا وعَسَلًا» (على سبيل المثال، سفر الخروج، الإصحاح ٣: الآية ٨؛ وسفر العدد، الإصحاح ١٤: الآية ٨؛ وسفر التثنية، الإصحاح ٣١: الآية ٢٠). إنَّ كلَّ ذلك العسل وشمع العسل أكثرُ بكثير ممَّا كان يمكن استهلاكه محليًّا؛ لذا اقترح علماء الآثار أنَّ السكَّان ربما كانوا يُتاجرون أو يَبيعون كلًّا من العسل وشمع العسل؛ وكان شمع العسل مطلوبًا بشدة لمجموعةٍ متنوعة من الاستخدامات، منها الاستخدامات الطبية.83
عُثِر على جرَّة بالقُرب من المنحل، مكتوبٍ عليها «مِلك نِمْشِي»، ولذلك اقترح المُنقِّبون أن المنحل ربما كان مملوكًا لعائلة نِمْشِي، والتي كانت تَعُد في النهاية يَاهُو — ملك إسرائيل في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد — من بين أحفادها. ومع ذلك، دُمِّر المنحل لاحقًا في حدثٍ عنيف، ربما زلزال آخر، ممَّا أدَّى إلى دفن خلايا النحل تحت ما يقرُب من مترٍ من الطوب اللَّبِن المتساقِط والعوارض الخشبية المُحترِقة. كما أدى هذا الحدث المُدمِّر إلى إنهاء الطبقة الخامسة في أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، ولكننا سنلتقي بالموقع مرةً أخرى، وكذلك يَاهُو، في الصفحات التالية.84

(١٠) خلفاء شيشنق

يبدو أن حملة شيشنق أثَّرَت على نظام الحُكم في موآب وعمون وأدوم أيضًا، وربما كان ذلك نابعًا من رغبة مصر في استعادة مناجم النحاس التي كانت تُسيطر عليها سابقًا. قبل بضع سنوات، عُثِرَ على جُعران لشيشنق مُلقًى على الأرض أثناء مسحٍ سطحي في منطقة مناجم النحاس في وادي فينان، وربما كان ذلك بمثابة أثَرٍ باقٍ من اهتمامه بهذه المنطقة.85
ويبدو أيضًا أنه كان يُنَمِّي علاقاتٍ دبلوماسية، وليس عسكرية، مع قوًى أخرى في ذلك الوقت، من ذلك إرساله تمثالًا له إلى جبيل، حيث وضع الملك أبيبعل على الفور عليه نقشَه الخاص، المكتوب باللُّغة الفينيقية، كما سنرى في الفصل الثالث. ومع ذلك، يبدو أن شيشنق توفي حوالي عام ٩٢٤ قبل الميلاد، ربما بعد فترةٍ وجيزةٍ من حملته على إسرائيل ويهوذا. وربما دُفن في تانيس، لكنَّ قبره لم يُعثر عليه أبدًا.86
وقد أرسل ابنه وخليفته أوسركون الأول تمثالًا له إلى جبيل أيضًا، وأضاف إليه إليبعل، ملك جبيل، نقشه الخاص على الفور.87 ولذلك يبدو أن أوسركون حافَظَ على العلاقات الدبلوماسية المصرية مع جبيل، وربما مع قوًى أخرى في ذلك الوقت أيضًا. وربما حكَمَ أوسركون الأول مدةً تصِل إلى خمسةٍ وثلاثين عامًا، من عام ٩٢٤ إلى عام ٨٨٩ قبل الميلاد، حتى القرن التاسع قبل الميلاد. ولم يُحَدَّد حتى الآن مكان قبره، مثل قبر والده. وخَلفَه على عرش مصر فرعون عادي إلى حدٍّ ما، وهو تاكيلوت الأول، الذي لا يُعرَف عنه سوى القليل. وربما كانت فترة حُكمه هي الفترة التي كان شيشنق الثاني، الذي عُثِر على تابوته في مقبرة بسوسنس الأول، قد حكَمَ باعتباره فرعونًا منافسًا. هناك أيضًا مجموعتان أُخرَيان من الأسماء المَلَكية التي تنتمِي إلى مَن حملوا اسم شيشنق (يُشار إليهما اليوم باسم شيشنق الثاني ب، وشيشنق الثاني ج)، والآراء مُنقسمة بين كونهما ملكَين حقيقيَّين للفترة الغامضة نفسها، أو على نحوٍ بديلٍ نُسخة مُبكِّرة من ألقاب شيشنق الأول، وخطأ إملائي ارتكبه كاتبٌ قديم.
ومع ذلك، فإن الفرعون التالي، أوسركون الثاني، الذي يُعتقَد الآن أنه حكَمَ تقريبًا من ٨٧٢ إلى ٨٣١ قبل الميلاد، أرسل على الأرجح ألفًا من المشاة للقتال في معركة قَرقُور، كجزءٍ من تحالُف حُشِدَ ضد شلمنصر الثالث ملك آشور في عام ٨٥٣ قبل الميلاد، والذي سيُناقَش في الفصل الثاني والذي ساهم فيه أخاب أيضًا بالمركبات والقوات. عُثِر على مزهريةٍ مِن المرمر منقوشٍ عليها خرطوشة أوسركون الثاني في السامرة، في القصر المنسوب إلى عمري وأخاب؛ فيُحتمَل أن يعكس هذا نوعًا إضافيًّا من العلاقة بين أخاب وأوسركون. في مرحلةٍ ما، أرسل أوسركون أيضًا تمثالًا لنفسه إلى جبيل، ولكنْ على عكس تماثيل أسلافه شيشنق الأول وأوسركون الأول، فإن مَن كان يحكم جبيل في ذلك الوقت لم يَنقُش اسمَه على التمثال.88
في مصر، كانت نهاية عهد أوسركون الثاني، وكذلك عهد خليفته شيشنق الثالث (٨٣١–٧٩١ قبل الميلاد)، محاطة بمشكلاتٍ داخلية، شملَت أعمال تمرُّدٍ وحربًا أهلية. وبحلول عام ٨١٠ قبل الميلاد تقريبًا، انقسمَت مصر إلى أربعة أقسام، يحكمها أربعة فراعنة في الوقت نفسه.89 كان من الواضح أنَّ مصر تمرُّ بحالةِ انحدار.

وسرعان ما أدَّى هذا الوضع إلى الاستيلاء التدريجي على جنوب مصر على يد ملوك كوش من النوبة، الذين كانوا أسياد البلاد جميعها (وإن ظلَّ بعض الملوك المحليين على قيد الحياة) باعتبارهم الأسرة الخامسة والعشرين من حوالي ٧٥٠ قبل الميلاد فصاعدًا. قاد النظام الكوشي انتعاشةً في اقتصاد مصر وقوَّتها، ولكن في النهاية وجَدَ نفسه مُنجرفًا إلى الصراعات بين دويلات المدن الشامية وآشور، حيث أدَّت غزوات آشور لمصر في نهاية المطاف إلى إجبار ملوك النوبة على التراجُع إلى معاقلهم في عام ٦٦٤ قبل الميلاد.

واستُعِيد الاستقلال على يد الأسرة السادسة والعشرين، التي حكمَت من صا الحجر في دلتا النيل، والتي انتقل أعضاؤها من تابِعِين لآشور إلى حلفاء لآشور ثم إلى أسياد مصيرهم. ومع ذلك، فإن الغزو الفارسي في عام ٥٢٥ كان بمثابة نهاية مصر كقوة قائمة بذاتها، وانتقلَت لاحقًا خلال القرن الرابع قبل الميلاد إلى أيدي الإسكندر الأكبر وخلفائه المقدونيين، البطالمة. وبوجهٍ عام، على الرغم من أنَّ مصر نجَت من انهيار العصر البرونزي على نحوٍ أفضل من بعض المناطق الأخرى، لم تستعِد حقًّا مجدَها السابق مطلقًا.

(١١) تلخيص موجز

إذا عَرَّفْنا «النجاح» بأنه العودة إلى مستويات ما قبل الانهيار من الوحدة والمشاركة في شبكات التجارة الدولية، فإن مصر بعد الانهيار لم تُحقق نجاحًا كبيرًا. وكما رأينا بالتفصيل، فقد استمرَّت مصر، ولكن فقط على مستوًى أدنى من الوجود الاجتماعي والثقافي، مع انقسام الإدارة إلى فصائلَ حاكمةٍ، ودور دولي محدود، وقوة ضئيلة نسبيًّا في معظم الأوقات. وبوجهٍ عام، لم تعُدْ مصر كما كانت قَط، ولم ترتفع مطلقًا إلى المكانة القوية التي احتلتها ذات يومٍ خلال فترة المملكة الحديثة. ونادرًا ما كان حاكم مثل شيشنق الأول قادرًا على محاولة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في الأسرة الثامنة عشرة أو أوائل الأسرة التاسعة عشرة أو اكتساب ثروة مثل تلك المعروضة في قبر بسوسنس الأول، ولكن في كل مرةٍ كان ذلك مؤقتًا فقط.

أما سكان جنوب بلاد الشام، فسوف يكونون نقطةَ توتُّر تدفع لمزيدٍ من المناقشة، سواء في الصفحات الأخيرة أدناه أو بواسطة علماء آخرين في المستقبل. لا يزال هناك نقاشٌ نَشِط حول كيفية دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان وتوقيته، والنقاش لا يقتصر على هذا الموضوع فحسب، بل إن ثمَّةَ موضوعًا آخَر مفتوحًا للنقاش حول كون الكنعانيين الجنوبيين قد فشلوا في اجتياز التغيرات إلى العصر الحديدي واستوعبتهم الممالك الجديدة في المنطقة، من بينها إسرائيل ويهوذا وأدوم وعمون وموآب، أم ينبغي النظر إليهم على أنهم نجحوا في التحول وشكلوا بالفعل جزءًا عرقيًّا مهمًّا يمكن التعرف عليه من السكان داخل هذه الممالك المُقامة حديثًا.

وعلى سبيل المقارنة، كان أداء كلٍّ من آشور وبلاد بابل أفضل كثيرًا من أداء مصر أو جنوب كنعان في القرون التي أعقبَت الانهيار. ومع ذلك، فقد واجهَتَا أيضًا نصيبهما العادل من التحديات، كما سنرى لاحقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥