الفصل الخامس

مذهب المسيحية

لا يستطيع أحد في العالم الغربي أن يفر من المسيحية فرارًا كاملًا، حتى أولئك الذين يعارضون ما يسمونه الديانة المسيحية لا مناص لهم من التأثر بما يعارضون فيه؛ ذلك لأن المسيحية قد لوَّنت تفكير ومشاعر ما يقرب من سبعين جيلًا من الرجال والنساء في الغرب، كما أنها سرت في القرون القلائل الأخيرة عن طريق المبشرين مع امتداد المجتمع الغربي في جميع أنحاء العالم. وقد برهنت المسيحية في الألفي العام التي عاشتها أنها قادرة — كأسلوب من أساليب العيش — على الانتشار والتنوُّع بدرجةٍ لا يكاد يتصورها العقل. وظهرت بأشكال مختلفة في ثنايا كل ناحية من نواحي النشاط عند الإنسان في الغرب.

«الانتشار والتنوع»، «بأشكال مختلفة» — هذه العبارات البسيطة الواضحة تسوقنا تجاه مشكلة التقينا بها من قبل عندما كنا نناقش عقائد اليهود الدينية، المسيحية ديانة «وحي» إلهها كامل، وهو يسمو عن الصور البشرية للزمان والمكان، بل ويسمو عن العملية التاريخية ذاتها. ولكن المسيحية هي كذلك ديانة تهتم كثيرًا بسلوك الإنسان فوق هذه الأرض، وبرسالتها في الزمن التاريخي، وبالرغم من أن علماءها الدينيين قد جاهدوا جهادًا شاقًّا حقًّا لكي يجعلوها ديانة فردية، إلا أنها ثنائية من بعض النواحي؛ فهي تعترف بوجود (أو بواقعية) الطبيعي وما فوق الطبيعي، أو بوجود الروح والجسد، أو الروحاني والمادي. والمشاهد من الخارج يرى أن المسيحية قد أظهرت قدرة فائقة ومقدرة على التكيف عندما واءمت بين نفسها وبين العالم الطبيعي، دون أن تفقد تحكُّمها في فكرة العالم الذي يقع فوق الطبيعة.

وسوف أحاول في هذا الكتاب أن أدرس المسيحية من الخارج، من الموقف الذي ينكر «وجود» ما فوق الطبيعي، وإن كان — بطبيعة الحال — لا ينكر أن البشرية في واقع الأمر تتطلع إلى ما فوق الطبيعة. وكثيرًا ما شُرحت المسيحية — وخاصة منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر — من وجهة نظر طبيعية تمامًا، وكان يقوم بهذا الشرح أحيانًا رجال يسمُّون أنفسهم مسيحيين. وأكثر من ذلك أن هؤلاء الذين كتبوا في المسيحية، وأنكروا الوجود الحقيقي لما فوق الطبيعي، كانوا خصومًا للمسيحية كديانة منظمة؛ أي كانوا — في الواقع — ضد المسيحية، وكثيرًا ما كانوا ماديين أو وضعيين بالعقيدة. وهناك آخرون كتبوا عن المسيحية باهتمام شديد وخيال بعيد، لما فيها من جمال، أو أُعجبوا بأخلاقها، وإن لم تعجبهم أصولها الدينية. كتبوا ذلك وإن لم يكن بوسعهم قبول العنصر فوق الطبيعي في العقيدة المسيحية، والواقع أن سلوك الكتَّاب الذين نبذوا المسيحية دليل واضح على أنه ليس من غربي يستطيع أن يفرَّ فرارًا كاملًا من تأثيرها.

وسوف أحاول في هذا الكتاب أن أتحاشى أخطاء الكتَّاب غير المسيحيين الذين كتبوا في المسيحية، ولكن ليس هناك من قارئ مسيحي يتسرَّب إلى قلبه الشك لحظة؛ فإن لبَّ الإيمان بالمسيحية، واعتقاد وجود ما فوق الطبيعة، وما هو سماوي، وما إلى ذلك، يقي المؤمن ضد الهجمات الطبيعية والتاريخية، وليس ذلك فحسب «ولكنه يتضمن أيضًا نبذ التفسير الطبيعي والتاريخي». حصل مرة قسيس إنجليزي من المؤمنين بالعقل من مذبح إحدى الكنائس الكبرى خبزًا مقدَّسًا، ونبيذًا مقدسًا، تحولًا بالتقديس إلى لحم الرب ودمه، فقدَّم الخبز والنبيذ إلى كيموي، ونشر تقريرًا من هذا الكيموي بأن الخبز خبز والنبيذ نبيذ، ولكنه بذلك لم يهدم مركز الكنيسة البتة؛ فإن الكيمياء التي تختص كلية بالوقائع والنظريات في الطبيعة، وبالعمليات الطبيعية، ليس لديها ما تقول عن أي شيء يخرج عن نطاق هذه العمليات الطبيعية.

نمو المسيحية الأولى

العهد الجديد هو قصة حياة يسوع المسيح، وموته، وبعثه، وقصة المشاق والصعاب التي لاقتها الأجيال الأولى من المبشرين بالإيمان الجديد الذي يُسمَّى بالمسيحية. ويعتقد المسيحي أن هذه القصة من وحي سماوي، وأن صدقها النهائي لا يخضع للتفسير التاريخي. غير أن الباحثين — برغم هذا — في القرون القلائل الماضية أخضعوا في الواقع نصوص العهد الجديد — كما فعلوا بالعهد القديم تمامًا — لنفس نوع الدراسة اللغوية والتاريخية الصارمة التي استخدموها في النصوص التي لم تَعُد وحيًا أو مقدسة بأي معنًى من المعاني، وما أسماه ألبرت شويتزر ﺑ «البحث عن يسوع في التاريخ» استمر لعدة أجيال، وانتهى إلى نتائج غريبة. ولعل أغرب هذه النتائج ما استنتجته إحدى المدارس من أنه لم يكن هناك يسوع في التاريخ، وأن الشخص المسيحي الذي يمثِّل يسوع أسطوري، أو على الأصح مركَّب من عدة أساطير متنوعة. ومن العدالة أن نذكر أن مثل هذا الشك حتى في دنيا العلم يُعَدُّ غاية في التطرف.

وإن كان الباحثون لم يتفقوا على مصادر الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم على اختلافها، فهم أيضًا ليسوا على اتفاق مطلق على مصادر أو دقة ما يرويه العهد الجديد عن حياة يسوع وتعاليمه، وعن رسالة القديس بولس وأصحابه في أول العهد بالمسيحية. غير أن هؤلاء الباحثين يتفقون اتفاقًا تامًّا على أنه «ليست لدينا رواية معاصرة مباشرة عن أي شيء مما قال المسيح أو فعل» وقد تسيء المشابهة التالية إلى الباحثين المدققين، ولكنها واضحة واقعية للأمريكيين العاديين، وهي ليست مضللة في أساسياتها. هب أنه لا توجد لدينا نُسَخ من خُطب ورسائل لنكولن، ولا توجد لنا عنها سجلات مكتوبة معاصرة. هب أنه لا توجد لدينا صحف، أو روايات تاريخية، أو شيء مطبوع أو مكتوب فيما بين مولده في عام ١٨٠٩م ومماته في عام ١٨٦٥م مما يشير إليه أية إشارة، سوى مرجع غامض أو مرجعين يمكن الرجوع إليهما في مذكرات خاصة لرجل من رجال السياسة البريطانيين. وهب — مع ذلك — أنه قد كانت هناك روايات موجزة عن حياته كتبها في شيخوختهم رجال عرفوه في واشنطن على الأغلب، وربما عرفوه معرفة جيدة حقًّا. ونفرض أنهم اطلعوا على مجموعات مخطوطة تقص حكايات نلسن، وعلى تقارير هواة كتبوها مباشرة عن بعض خطب لنكولن، ونسخة مخطوطة عن ملخص حياة لنكولن بقلم سكرتيره هاي، كتبها في السبعينيات من القرن الماضي — من أمثال هذه المصادر دبج في عصرنا هذا ثلاثة من خير كتَّاب الحزب الجمهوري روايات مختصرة شاعت قراءتها، وكذلك فعل مثل هذا أستاذ — جمهوري أيضًا — في العلوم السياسية، متحمس. وفي كل هذا وصلت إلينا عبارات مثل «دون حقد لأحد» و«حكومة الشعب بالشعب للشعب»، ولكن ربما لم تصل إلينا خطبة كاملة، سوى خطبة جتزبرج. وصلت إلينا روايات عن عفوه عن الحارس النائم من فرمونت، وعن إصداره الإعلان التحرير، وعن تأييده لجرانت. ولكن لم تصل إلينا قصة حياته وزمنه كاملة متتابعة.

ومن الواضح أننا لا يمكن أن نعرف عن لنكولن في هذه الظروف شيئًا يقرب مما نعرفه اليوم. ولكننا — من ناحية أخرى — لا بد أن نعرف أكثر الأمور الأساسية عنه. ولن يكون تصويرنا للنكولن كما كان في الحقيقة مضللًا بأية حال. ومِن ثَمَّ فإنه من المؤكد تقريبًا أن تصويرنا ليسوع ليس مضللًا في الحقيقة بأي معنًى من المعاني، بالرغم من أننا نستمده في الأغلب من القصص الإضافية التي رواها متى، ومرقص، ولوقا. ومن الحكايات التي يُروى أنه رواها، ومن موعظة الجبل (التي ربما كانت نسبتها من حيث اللفظ إلى يسوع في التاريخ كنسبة خطبة جتزبرج إلى لنكولن في واقع التاريخ من حيث نص العبارة).

غير أن هذه المقارنة بلنكولن ليست على أحسن الفروض إلا للاسترشاد. وبالرغم من أن لنكولن جزء من ثقافة أمريكية وطنية، وبالرغم من أن كثيرًا من الأمريكان قد عبدوه بمعنًى ما، إلا أنه لم ينشأ حوله نظام ديني أو فلسفي عظيم. أجل لقد فسَّر عبارته المفسرون بشتى الطرق، ولكن أقواله لم تبلغ في شمولها مدى ما تشمله الديانة، وهي واسعة جدًّا في حقيقة الأمر. وليس بوسعنا هنا إلا أن نذكر بعض المشكلات المعينة الكبرى التي تتصل بالمسيح ورسالته.

ونحن نتساءل أولًا: هل زعم يسوع التاريخي أنه ابن الله، أو أنه الله ذاته؟ لقد لقي رجال الدين المسيحي — كما سوف نرى بعد قليل — مشكلات عسيرة في سنوات تكوين الكنيسة في إيجاد حلٍّ مُرضٍ لما عُرف فيما بعد بمشكلات المسيحية، في الأناجيل الثلاثة المجملة — كما تُسمَّى كذلك — وهي القصص التي رواها متى ومرقص ولوقا، وفي الإنجيل الرابع — بطبيعة الحال — وهو أمعن في الميتافيزيقية، إنجيل يوحنا. في هذه الأناجيل الأربعة يُروى أن يسوع قد استخدم عبارات بحاجة شديدة إلى التفسير الديني — مثل قوله: «مملكة الرب» و«ابن الإنسان» و«أبي» و«ابن الله». إن إنجيل يوحنا غاية في الوضوح، وقد كُتب كما يقول مؤلفه: «كي تؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ابن الله، وإنكم بإيمانكم سوف تكون لكم من اسمه حياة.» والواقع أن ثِقَل التفكير المسيحي كان يميل خلال القرون نحو تأليه المسيح. وكانت آراء الوحدانيين — تحت أي اسم من الأسماء — آراء زنادقة خارجين على الأرثوذكسية.

ويستطيع المرء — برغم هذا — إذا أخذ بالتفسير التاريخي الطبيعي لمصادر العهد الجديد، أن يزعم أن يسوع لم يدَّعِ لنفسه الألوهية قط، وأن مثل هذه العبارات التي ذكرناها آنفًا إنما رُويت محرفة أو استُعملت مجازًا، أو كانت هذا وذاك، وأن يسوع في الواقع لم يكن يهتم بعلم الدين أو بالديانة المنظمة حقًّا، وإنما كان شديد الاهتمام بحث إخوانه من البشر على أن يعيشوا ما نستطيع أن نسميه من غير تعقيد الحياة البسيطة فوق الأرض، بل لقد غالى بعضهم وزعموا أن يسوع التاريخي كان شاذًّا متحمسًا للعودة إلى الطبيعة، بل يرى بعضهم — إن كانوا على ضحولة في المعرفة وتعصُّب في الفكر — أن يسوع كان مزورًا عن عمد، دجالًا، يبرِئ المرضى بالطبيعة. والمهم في هذا الصدد هو أنك إذا اعترفت بأن مصادرنا التاريخية ناقصة وغير دقيقة لا تستطيع أن تستبعد استبعادًا كاملًا أي تفسير لشخصية يسوع تبدو ممكنة ومعقولة من الناحية الإنسانية.

ومِن ثَمَّ فإننا إذا اعتبرنا العهد الجديد مجرد مصدر تاريخي كغيره من المصادر، فإننا لا نستطيع أن نبُتَّ ﺑ «صفة قاطعة» بالطرق التاريخية الطبيعية في مشكلات مثل هذه: هل زعم المسيح أنه إله؟ وهل زعم أنه مسيح اليهود؟ ولا نستطيع حتى أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة الهامة، وإن تكن غير دينية: هل اعتقد المسيح وبشَّر بالمقاومة السلبية أو عدم المقاومة؟ إن النصوص الموجودة تتضارب تضاربًا واضحًا لأصحاب العقل.

ونذكر فيما يتعلق بمشكلة عدم المقاومة نصين معروفين متطرفين، أولهمًا: «سمعتم أنه قيل عين بعين وسِن بِسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا.» وما يناقض ذلك ظاهرًا: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.» وقد ورد هذان النَّصَّان عن يسوع في صفحة واحدة تقريبًا من إنجيل متى. ويمكن التوفيق بينهما، بل لقد تم بالفعل التوفيق بينهما في ملايين الألفاظ التي طُبعت، وبُشِّر بها، تستطيع أن تقول إن يسوع في الصفحة الأولى حذَّر من العراك المبتذل، ومن التوحش، ومن القتال كما يبدو في فيلم رخيص من هوليوود، أو في صورة هزلية. وفي العبارة الثانية كان يحث تلاميذه وأتباعه على قتال روحي من نوع أنبل. والواقع أن هناك ما يستدعي التفسير، وقد كان الإنجيل — بعهديه القديم والجديد — من وجهة النظر الخارجية بالنسبة إلى الرجل الغربي حتى الأزمنة الحديثة جدًّا هو في الحقيقة المصدر الرئيسي لما أسميناه في مقدمة هذا الكتاب المعرفة اللاتراكمية. وليس معنى ذلك أن دراسة الإنجيل ليست لها أهميتها، بل إن دراسته — على نقيض ذلك — ذات أهمية قصوى.

ومن التهور في الرأي بعد هذه المقدمة أن نحاول سرد رواية إيجابية عن يسوع في التاريخ. ويجدر بالقارئ — وبخاصة إذا كان يشكو الجهل الحديث بالإنجيل — أن يقرأ ترجمة حديثة، إن شاء، لإنجيلي لوقا ويوحنا على الأقل، ويكوِّن لنفسه رأيه الخاص. أما كاتب هذا الكتاب فإنه يميل — بتأثير أسباب كثيرة شعورية ولاشعورية وشبه شعورية — إلى الإيمان بأن يسوع في التاريخ كان ما يسميه الألمان «شوورمر» أي متحمس للدين، كان ذا نفْس رقيقة وإن تكن قوية العزيمة، متصوفًا في هذه الدنيا على ما في ذلك من تناقض؛ فهو لم يحط البتة من شأن الملذات الحسية، ولكنه يتمنى أن تتحرر المتعة من الغيرة، بل ومن المنافسة. وكان رجلًا له جاذبية عظمى للمضطربين والبائسين، ذا موهبة كبرى في تفهيم عامة الناس ما يعني (وهذا مما يجعل مَثَل لنكولن الذي ضربناه آنفًا مثالًا طبيعيًّا). وربما كان يسوع أكثر رجولة بدرجة عظيمة مما صوَّره الفن الديني أخيرًا. ومن الواضح أنه استطاع أن يحقق مجد الأنبياء العسير في تحقيقه.

ثم إن الدراسة التقليدية الطبيعية التاريخية للمسيحية تصر على أن هناك قدْرًا كبيرًا في المسيحية المتطورة مما لم يكن من عمل المسيح بأية حال من الأحوال. وهنا أيضًا يغالي الخصوم من النقاد، فيزعم بعضهم أن المسيحية المنظمة في أكثر وجوهها الهامة هي «نقيض» ما دافع عنه يسوع — فهي زاهدة لا مرحة، تميل إلى الاضطهاد دون التسامح، حربية وليست مسالمة، وحتى إن فرضنا أن في ذلك شيئًا من المبالغة، فمن الجلي أن المسيحية المنظمة بها الكثير مما لا يتضح في معرفتنا التاريخية المتقطعة عن يسوع؛ فعندما حل القرن الثاني على الأقل كانت لدينا أصول دينية كاملة دقيقة، وقانون للأخلاق، وجمهور منظم من المؤمنين، ومجموعة مقدسة من القادة — كانت لدينا في إيجاز ديانة عظمى. لقد تجاوزت المسيحية المسيح — أو تجاوزت على الأقل المسيح الذي جمع حوله صيادي الجليل:

«ثم جاء تلاميذ يسوع قائلين له: مَن هو أعظم مَن في مملكة السماء؟ فنادى يسوع طفلًا صغيرًا وأجلسه في وسطهم، ثم قال: الحق أقول لكم، ما لم تتحولوا، وتصبحوا أطفالًا صغارًا، فلن تدخلوا مملكة السماء؛ فمن منكم يتواضع كهذا الطفل الصغير يكن أعظم مَن في مملكة السماء.»

والرجل الذي قام بأكبر جهد في تحويل المسيحية من مذهب يهودي غامض إلى ديانة عالمية هو شاول الطرسوسي، المعروف في المسيحية بالقديس بولس، وهو يهودي يتصف بصفات الهلينية، ومواطن روماني. ولدينا، بالمقاييس العادية لمادة المصادر التاريخية، معرفة مباشرة عن القديس بولس أكثر مما لدينا عن يسوع. ويتفق العلماء عامة على أن أشهر رسائل العهد الجديد التي تحمل اسمه هي في الواقع من عمله، وأن قصة الجهد الذي بذله بولس ومعاونوه في «أعمال الرسل» هي في مجملها قصة دقيقة. وليست لدينا عن بولس — بطبيعة الحال — تفصيلات كثيرة عن حياته الخاصة مثلما لدينا عن كثير من المحدثين ممن هم أقل أهمية منه، كنابليون على سبيل المثال. ولكن لدينا على الأقل ما يكفي لما ينفي الشك عند كل امرئ في وجوده التاريخي.

وتتنوع الآراء الحديثة عن بولس وأعماله وأفكاره تنوُّعها عن يسوع. وهناك تطرف ملحوظ يظهر جليًّا في عنوان الكتاب الذي وضعه بنتام؛ ذلك الكاتب الإنجليزي الثائر في القرن التاسع عشر، وهو «يسوع، لا بولس». وهناك — على وجه العموم — تفسير متطرف يقول بأن الأهداف الإنسانية التي دعا إليها يسوع الرحيم قد تحولت على يدَي بولس — الذي كان يسعى إلى السلطة ويدعو إلى التقشف الصارم — إلى ظلمٍ آخر منظم، وهذا رأي شائع بين الراديكاليين العاطفيين خارج الكنيسة المسيحية، من أمثال بنتام. أما الرأي المناقض في الطرف الآخر فهو أن يسوع كان ثائرًا شيوعيًّا خطِرًا، وإن يكن بغير تأثير. أما بولس فهو الإداري الحكيم، وصاحب النظام الواقعي الذي حد من تطرف تلاميذ يسوع، وجعل الكنيسة المسيحية وسيلة سليمة معقولة تحفظ الجماهير في أماكنها، ويتعذر على المسيحيين الطيبين أن يأخذوا بهذا الرأي كذلك، وإن يكن قريبًا من رأي المكيافيليين الذين جاءوا فيما بعد، مثل جماعة «العمل الفرنسي» في الجمهورية الفرنسية الثالثة.

وقد آمن المسيحيون عامة، كما آمن بولس نفسه، أن عمل الرسول ليس إلا تحقيقًا لعمل السيد، وهو توسعة لرسالته ولكنه ليس إفسادًا لها إطلاقًا. ولم يعرف بولس نفسه يسوع قط، بل إن شارل الطرسوسي في الواقع — كيهودي أصيل — قد عاون في وقتٍ من الأوقات على اضطهاد مجموعة المسيحيين اليهود الصغيرة بعد صلب المسيح. وقصة الإنجيل التي تروي تحوُّله إلى المسيح وهو في طريقه إلى دمشق باتت مَثلًا كلاسيكيًّا لتحوُّل القلب تحولًا مفاجئًا ومعجزًا بشكل ظاهر. ويُستدل من هذه القصة عن بولس أنه كان في حالةٍ من حالات الذهول، كما يُستدل من شذرات الأخبار المبعثرة في المصادر، على أن بولس كان — كما يرى بعضهم — مصابًا بالصرع. ومثل هذا التشخيص الطبي البعيد هو، بطبيعة الحال، مستحيل من الناحية العلمية. ومن الجلي أن بولس لم يكن شخصًا غبيًّا متمسكًا بالقديم عديم الخيال، وإنما كان عبقريًّا. ومن خصائص عصرنا الحديث تردُّد ظهور الفكرة التي تقول بأن عظماء الرجال يمثلون حالات مرضية خاصة. وهذا الرأي يزيدنا علمًا عن بعض مقتضيات الأفكار الديمقراطية الحديثة أكثر مما يبصرنا بحقيقة عظماء الرجال، وبخاصة ذلك الجانب من الرأي الذي يعتقد أصحابه أن التوسُّط مقياس خُلقي وجمالي.

إن أعظم ما قدَّمه بولس لنشر المسيحية هو تمهيد الطريق للانتقال من المذهبية اليهودية إلى العالمية. وقد تمَّت الخطوة الأولى نحو العالمية في ذلك الزمان والمكان — بطبيعة الحال — على أيدي الإغريق. وإنما كان بولس يعبِّر بالكتابة والكلام عن عالمية الإغريق الهلينستية، وكان على علمٍ بالأفكار الدينية والفلسفية الإغريقية. والظاهر أنه وقف في باكورة حياته كمسيحي في وجه الاتجاه التهويدي في الديانة الجديدة. وقد أكسبه عمله كمنظم لقب «رسول الأمميين» وكانت العقبة الكبرى في وجه الأمميين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذابًا «قانون اليهود»، تلك المجموعة المعقدة من الطقوس التي كان يتعلمها اليهودي الوليد كجزء من النمو. والمشكلة في أبسط صورة يمكن أن تُوضع في هذا السؤال: هل يمكن للرجل أن يكون مسيحيًّا بغير ختان؟ وإذا كنت تتوقع من الأممي البالغ أن يتحمل العملية التي كانت قطْعًا جد أليمة في ذلك الحين، فأنت تتطلب الكثير من الطبيعة البشرية الضعيفة. وقد أجاب بولس عن هذا السؤال بصراحة فقال: إن الإغريق، والمصريين، والرومان، الذين يقبلون المسيحية، في حِلٍّ من الختان، وفي حِلٍّ من الامتناع عن لحم الخنزير، وفي حلٍّ من التقيُّد بحرفية القانون؛ «لأن الحرفية تقتل، والروح تهب الحياة».

ولكني أرجو ألا يُضلَّكم هذا النص المشهور؛ فلم يكن بولس فوضويًّا، ولم تكن هذه دعوة إلى المسيحيين الذين اعتنقوا المسيحية فيما بعد إلى أن يفعلوا ما يشاءون؛ فالروح — طبقًا لحياة بولس وأعماله — أمارة، وإن تكن مواسية لصاحبها. وحياة الروح طريقة محددة معينة من طرق العيش. وإن بولس ليبدو في الواقع ﻟ «رَجل من الخارج» كأنه استبدل بالشريعة اليهودية شريعة مسيحية. كما يبدو حقًّا للمتعقل كأنه يحب أن يتلاعب قليلًا باللفظ؛ فهو يقول: «كل شيء عندي شرعي، ولكن ليس كل شيء ضروريًّا، كل شيء عندي شرعي، ولكن كل شيء لا يزيدني علمًا.»

إننا نلتقي هنا بإحدى المشكلات الكبرى العقلية والعاطفية الإنسانية المتكررة. إن الرجل الذي يريد للناس أن يسلكوا سلوكًا جديدًا لا بد له أن يصرفهم عن السلوك القديم، لا بد أن يقول لهم إنهم — وينبغي لهم أن يكونوا — «أحرارًا» في السير في مسالك جديدة، وإن الشريعة، والمواصفات، والعادات، التي نشئوا على طاعتها لا تقيدهم «في الواقع». إن المصلح ثائر بالضرورة باسم الحرية، ولكنه لا يريد للناس في الواقع أن يؤدوا الأعمال المتنوعة المذهلة التي يؤدونها لو كانوا أحرارًا في اتِّباع دوافعهم وشهواتهم الطبيعية، أحرارًا من حساب الضمير والقانون ورجال الدين. إنه يريد لهم أن يؤدوا الأعمال «الصحيحة». ومن الحق أن «الروح يهب الحياة»، وهو يعتقد ذلك فعلًا. ولكن كما قال أحد معاوني بولس: «لا تصدِّق كل روح، وإنما استمع إلى الروح إن كانت من عند الله؛ لأن كثيرًا من المتنبئين قد انتشروا في الأرض.» والمصلح يجد أيضًا أنه لا مناص له من الرجوع إلى القانون. الناس أحرار، ولكنهم أحرار في عمل الحق فقط. ولا يمكن إلا أن تكون النتيجة في صيغةٍ متناقضة، كتلك العبارة الشهيرة لروسو، وهي «إرغام المرء على أن يكون حرًّا». وقد صاغ الفكرة يسوع في عبارة أفضل، فقال: «مَن يريد إنقاذ حياته لا بد أن يفقدها، ومَن يفقد حياته من أجلي فسوف يجدها.»

أما بولس — كرجل إداري، كشخصية عظمى من السلسلة الطويلة للقادة الذين عملوا على أن تصبح الكنيسة المسيحية مؤسسة بالغة التأثير كما كانت — فهو ينتمي بشكل واضح إلى جانب أصحاب النفوذ. ويتبين من رسائله أنه كان يمسك في براعة بقبضة قوية على الجماعات الصغيرة المكافحة التي كانت تنتشر في جميع أنحاء العالم الإغريقي، واستقرت بالفعل في إيطاليا. وليس معنى هذا أن بولس كان من أصحاب السلطة الصارمين المتعسفين، أو حتى النظاميين — وذلك أدهى وأمر. كان يعتمد على فصاحته الشديدة، وعلى جاذبيته الشخصية التي كانت قطْعًا عظيمة جدًّا، وعلى المعرفة الإنسانية التي يدركها رجل وُلد ليشفي الأرواح. ولكن بولس من الناحية العملية لم يكن لينًا البتة، ولم يكن قطعًا على شاكلة مَن نعده نحن الأمريكيين المحدثين متحررًا أو إنسانيًّا.

ومع ذلك فقد كان بولس أكثرَ من رجل إداري، كان عليمًا بأصول الدين، كرَّس — كما رأينا — كلَّ قوَّته لعملية نشْر الكنيسة الجديدة في جميع أرجاء العالم، ولأن يجعل رسالتها جذابة للأمميين. وقد عاش بين آباء الكنيسة ثقة كبرى في المذهب الذي يدعو إلى «التبرير بالإيمان» الذي سوف نعود إليه. أما هنا فيجدر بنا أن نركز اهتمامنا في مسيحية بولس العملية، أو نوع الحياة التي أراد للمسيحيين أن يسلكوها.

ولكنا يجب أن نلاحظ أولًا أن بولس لم يكد قطُّ ليعتقد أن المسيحيين سوف يعيشون أمدًا طويلًا فوق هذه الأرض — شأنه في ذلك شأن أكثر أبناء جيله. وقد قال المسيح نفسه — كما جاء في الإنجيل الأول: «سوف يكون هنا نوع من البقاء، الذي لا يعرف طعم الموت، حتى يشهدوا «ابن» الإنسان قادمًا إلى مملكته.» واعتقد المسيحيون الأوائل أن المسيح سوف يعود في يوم من الأيام ويقضي على هذه الدنيا، دنيا التجربة الحسية. وسوف يكون هناك حساب في النهاية، ونعيم أو جحيم أبدي في عالم آخر. ومن الطبيعي أن أولئك الذين كانوا يؤمنون بهذه العقيدة لم يأبهوا بالمشروعات بعيدة المدى، أو بقياس الميول والاتجاهات، أو بالعمل البطيء الذي يؤديه المرء بتفكيره العام. ولو أن بولس اعتقد أن الكائنات البشرية سوف تبقى في ألفي العام المقبلة على الأقل، لكانت آراؤه — فيما أتصور — أكثر اتفاقًا مع الطبيعة البشرية.

ذلك أن كثيرًا من تعاليم بولس كانت متزمتة بمعنى الكلمة الأمريكي الحديث الشائع على وجه العموم؛ فقد كانت آراء بولس فيما يتصل بالعلاقات الجنسية — على سبيل المثال — صدمة للكثيرين، حتى قبل جيلنا الذي تأثَّر بفرويد، والإصحاح السابع من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، والعبارة الصريحة التي جاءت فيه، وهي «التزوج أصلح من التحرق» هو في الواقع كلام غامض. ليس من شك في أن بولس كان يود لو امتنع الجنس البشري بأسره عن الاتصال الجنسي. ولكن جانب التجربة والخبرة في هذا الرجل العملي جعله يدرك استحالة ذلك، حتى وإن كانت نهاية العالم قريبة منا. ولذا نصح بالزواج المسيحي، وله في الزواج المختلط بين المسيحيين والوثنيين رأي شائق فيه شيء من التسامح.

الحياة الطيبة إذن عند بولس حياةُ زهد فيما يتعلق بالمتَع الحسية، سواء كانت متعة الفراش أو متعة الطعام («لكن اللحم لا يوصلنا إلى الله. وإذا أكلنا لا نتحسن، وإذا لم نأكل لا نسوء»). وهي حياة بسيطة، خالية من الغرور العقلي الذي أسماه الإغريق خاصة بالحكمة: «ألم يجعل الله حكمة الدنيا حماقة؟» وهي حياة خالية من النميمة، والتفاهة، والمنازعات، والغيرة في شئون الحياة اليومية في هذه الدنيا المبتذلة. وهي كذلك حياة خالية من الخطايا البطولية، بل هي فوق هذه الخطايا؛ ذلك لأن بولس — وأقولها مرة أخرى — كان يعمل مع عامة الرجال والنساء، وإليهم كان دائمًا يوجِّه الخطاب. أراد لهم أن يخلصوا أنفسهم من حياتهم الفردية الصغيرة الأنانية، إلى ذلك التيار العظيم الذي لا يتلاطم فيه الموج، وهو حياة الروح.

ذلك أن بولس كان يجمع في شخصه الناحية العملية مع الناحية الصوفية — شأنه في ذلك شأن كثير من الشخصيات الجذابة الأخرى في تاريخ المسيحية. أراد أن يتخلص الناس من الاشتباك بهذا العالم القذر، عالم الحواس، لكي يعيشوا في عالم الروح الطاهر. ولكن حياة الروح الأخرى — عند بولس — ليست حياة الفرد الفذ الذي يبلغ «النرفانا»، أو الذي يتابع أفلوطين إلى النشوة الفلسفية المنعزلة. الحياة الأخرى عند بولس لم تتجاوز أن تكون حياة إنسانية، حياة جهد مشترك، حياة مشاركة، وإيمان، وأمل، وإحسان. وأفضل ما قال بولس هو ما جاء في الإصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس؛ حيث قال:

المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد والمحبة لا تتفاخر، ولا تتعالى، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدًا، وأما النبوات فستبطل، والألسنة ستنتهي، والعلم سيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض. لما كنت طفلًا، كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن، وكطفل كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذٍ وجهًا لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذٍ سأعرف كما عرفت. أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة. هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.

والخلاص أخيرًا، وحتى في هذه العبارة بما فيها من تأكيد على المحبة، وهي عند بعضهم ترجمة عن الإغريقية أفضل من كلمة Charity يقحم بولس وعد المسيحية الأعظم، وهو: «الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذٍ سأعرف كما عرفت. هذه الدنيا (الآن) — حتى هذه الدنيا كما يحاول المسيحيون أن يصنعوها — ليست سوى مكان اختبار للحياة في العالم الآخر (حينئذٍ). إن مَن يخلص فسوف يستمتع في ذلك العالم بالنعيم الأبدي. أما مَن لم يخلص فسوف يعاني هناك عذابًا أبديًّا. وكل المسيحيين الصادقين سوف يخلصون.»

ما هو مقياس المسيحي الصادق؟ يبدو أن بولس — في نظر الرائي من الخارج — يفرض مقياسًا ذا شقين. وهو يعتبره بشكل واضح مقياسًا واحدًا لا مقياسين؛ فالمسيحي الصادق ينبغي أولًا أن ينتمي إلى جماعة مسيحية منظمة (أو كنيسة)، بعد أن يكون قد أدَّى — ويستمر في أداء — طقوس معينة، مثل التعميد والتناول. ويجب ثانيًا أن يكون مسيحيًّا من الداخل، في روحه، وأن يكون قد بلغ تلك الحالة التي لا يفلح الصوفي قطُّ في التعبير عنها بالألفاظ، بالرغم من أنه قد يسميها «نعمة الله» أو «الإيمان»، أو غير ذلك.

والتباين بين الأعمال والإيمان، بين أداء الطقوس والنور الداخلي، يسري خلال تاريخ المسيحية بأسره. و«المسيحي الأرثوذكسي يرى أن أحدهما يستحيل دون الآخر»؛ ﻓ «المسيحي الذي لا يكون طيبًا في داخله لا يمكن بطبيعة الحال أن يسلك سلوكًا طيبا في الخارج». «بيد أننا» نستطيع جميعًا أن نرى خارجه، ولا يستطيع إلا الله وحده أن يرى داخله، ومن أجل هذا فإن المجتهدين في الدين قد يبدءون في أغلب الأحيان بالرجوع إلى مذهب التبرير بالإيمان (أو الروح)، ولكنهم ينتهون — إذا هم أفلحوا في جمع شعب يسير وراءهم — بالرجوع إلى مقياس خارجي، إلى التبرير بالأعمال (أو الحرفية)، وسوف نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى عندما نتحدث عن لوثر.

والشخصية الثانية الكبرى في التفكير المسيحي القديم هي يوحنا، الذي يُعزى إليه الإنجيل الرابع، وثلاث رسائل موجزة رعوية، والكتاب الختامي الرائع في العهد الجديد؛ «رؤيا يوحنا اللاهوتي». ولا بد أن يكون يوحنا هذا — الذي يُمثَّل في التصوير والنحت المسيحي شابًّا غير ملتحٍ، والذي يتميز بذلك بين البقية الملتحية — شيخًا هرمًا عندما كتب الإنجيل الرابع، إذا صح التاريخ الذي حدَّده العلماء لكتابته. والواقع أن شكًّا علميًّا عظيمًا يخيم على الحقيقة التاريخية ليوحنا، حتى إن العلماء المسيحيين المخلصين الممعنين في الأرثوذكسية أنفسهم قد ألِفوا أن يذكروا في كتاباتهم: «مؤلف الإنجيل الرابع أو مؤلفيه» و«مؤلف الرؤيا».

و«الرؤيا» كتابٌ من الوحي مليء بالتنبؤات الممعنة في خفاء المعنى. وقد كان كتاب «الرؤيا» لمدة ألفي عام المستودعَ الذي يَستمد منه أسبابَ القوة كلُّ مَن يسميهم العقليون — بل والمسيحيون الهادئون التقليديون — متهورين مندفعين. «الرؤيا» كتاب يعجز أمامه مَن لا يعتقد فيه، بل ومَن يعتقد فيه من عامة الناس. ويستطيع مَن يبحث عن الخفايا أن يجد فيه أي شيء تقريبًا. وتكاد تجد في الرؤيا كلَّ ما حدث في بضعة آلاف السنين الماضية.

أما الإنجيل الرابع فهو من أهم الكتابات المسيحية. ومؤلفه شخص تحوطه الظلال إذا قيس إلى بولس، ونحن نميل إلى معرفته مما كتب؛ لأننا لا نعرف عنه إلا القليل. ويظهر أن مؤلف الإنجيل الرابع لم يكن إداريًّا، أو رجلًا عمليًّا يحمِّل نفسه تبعة علاج النفوس. ولكن ربما كان من الخطأ — من ناحية أخرى — أن نلمس فيه الميتافزيقي، أو رجل الدين الذي يعزل نفسه عن الدنيا. ومن الواضح أن مؤلف الإنجيل الرابع كان يكتب متأثرًا بتوتر خلقي شديد. ومن رأيه أن مَن يسمونهم المسيحيين، أولئك الذين لم يعرفوا المسيح قط، لا يدركون المغزى العظيم للمسيحية، وهو أن المسيح هو ذلك الاتحاد المستحيل بين الله والإنسان، أو بين العالم الآخر وهذا العالم، أو اللامحدود والمحدود. وما جاهد المتصوفون الأوائل عبثًا في بلوغه بلغه المسيح لمجرد كونه المسيح، ولكن هذا الاتحاد بين الله والإنسان كان يتهدده دائمًا خطر سوء تفسير العامة من الناس، الذين يميلون دائمًا إلى تبسيط فهْم الأمور لأنفسهم بتصويرهم للمسيح إما إنسانًا كاملًا وإما إلهًا كاملًا.

والاصطلاح الذي يستعمله مؤلف الإنجيل الرابع للتعبير عن هذا الاتحاد المعجز بين الله والإنسان هو «الكلمة».

«في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله … والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا (ورأينا مجده مجدًا كما لِوَحِيدٍ من الآب) مملوءًا نعمة وحقًّا.»

وقد كُتبت ألوف الصفحات عن هذه «الكلمة»، وعما يتعلق بها من تصوُّر ديني عن الروح القدس، التي سعت عن طريقها المسيحية الأرثوذكسية منذ ذلك الحين إلى أن تقدِّم للمؤمنين حلقة مفهومة عن العالمين المنقسمين، عالم الرب وعالم الإنسان. والإنجيل الرابع بأسره يتركز حول هذه المعجزة — معجزة الإله الإنسان، ولكنه — فيما خلا العبارات التمهيدية المشهورة — ليس رسالة في أصول الدين. إنه تاريخ المسيح، ولكنها حياة تتركز دائمًا في المسيح باعتباره «الكلمة» التي صارت جسدًا.

«إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه.»

إن الأفكار والمُثُل في المسيحية الأولى ليست إلا جزءًا من تاريخها، حتى عند مؤرخ الفكر. إن أفكار بولس ويوحنا ومئات ممن لم يبلغوا شأوهم في العمل في هذا الحقل كانت تتحوَّل إلى حقائق يلمسها المؤمنون في الطقوس، وفي سلسلة من حفلات التناول المشترك. وكان المؤمنون ينتظمون، ويتماسكون، وتشتد قواهم بما نسميه صراحة في مجتمع غير ديني بالحكومة. وهذان الموضوعان — الطقوس أو الصلاة، والتنظيم الكنسي — لهما أهمية بالغة. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أهميتها بالنسبة إلى أسلوب الحياة المسيحية.

وأهم عمل من أعمال الطقوس في المسيحية هو القربان المقدَّس. والمصدر الرئيسي للقربان هو الوصف الذي ورد بنصه تقريبًا في أناجيل متى ومرقص ولوقا لعشاء المسيح الأخير مع تلاميذه. ويصفه متى بهذه العبارة:

وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.

وهذا مثال رائع لما يراه بعض المؤرخين الطبيعيين إفسادًا للحقائق، أو على الأقل إضافة جاءت في وقت متأخر. هنا كثير من أصول الدين، وبخاصة في عبارة «مغفرة الخطايا». إن أمثال هؤلاء المؤرخين يسلِّمون بأن المسيح نفسه ربما تناول طعامًا أخيرًا في أسفٍ مع تلاميذه، بل ولعله طلب إليهم أن يذكروه. وهم يسلِّمون بأن المسيحيين الأوائل وهم يمارسون التناول المشترك للطيبات — وهو ما نعلم أنهم فعلوه — وسموا بعض وجباتهم المشتركة، بعض ولائم المحبة التي أقاموها، بالاحتفال بذكرى المسيح. وهم يسلمون بأن هذا الاحتفال سرعان ما تحوَّل في الواقع إلى سرٍّ مقدس، إلى المشاركة في حياة المسيح الإله مشاركة معجزة متجددة دائمة، وهي مشاركة — بل مشاهدة للإله — كتلك التي تحدثنا عنها من قبل عند ذكر ديانات الألغاز عند الإغريق. عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، صيغت الأناجيل كما نعلم، وأجرى على لسان المسيح قوله: «هذا هو جسدي.»

ومهما يكن ما تنطوي عليه العملية التاريخية، فمن الواضح أن الكنيسة طوَّرت العشاء الرباني في وقتٍ مبكر جدًّا. والعشاء المقدس — أو التناول المقدس — تطلب أول الأمر أداء بعض الطقوس، وتطلب ثانيًا تحقيق هدفٍ ما — وهو هدف روحاني بطبيعة الحال — من أداء هذه الطقوس. إن المؤمن، وسط العشاء المقدس، يأكل قطعة من الخبز ويحتسي قليلًا من النبيذ من مائدة مشتركة تحوِّلها قدرة الله المعجزة، التي انتقلت في خيطٍ متصل إلى المسيح ثم إلى تلاميذه ثم إلى رجال الدين، إلى مادة سماوية، هي على التوالي جسد المسيح ودمه. وإذا كان سلوك المؤمن كله وحالته العقلية وقت التناول مسيحيًّا حقًّا؛ أي إذا كان في حالة من حالات النعمة، فإن خطاياه السابقة — بهذا العمل — يُعفى عنها، وتُمحى، ويشهد له أمام الإنسان والله بالانخراط في سلك الصفوة المختارة، أولئك الذين سوف يخلصون ويظفرون بالحياة الأبدية في النعيم.

ويتضح حتى من هذا الحديث الموجز أن مذهب العشاء المقدس — إذا نظرنا إليه كمشكلة عقلية مطلقة — يستدعي تفسيرات متعددة، فإن كلمة «التحول» التي استخدمناها فيما سلف قد تسيء إلى كثير من علماء الدين؛ فهم يصرون على أن الخبز والنبيذ لا «يتحول» بالمعنى السوقي لهذه الكلمة؛ أي لا يتحول كيمويًّا. وهناك أيضًا مشكلات عن دور القسيس. هب أنه قسيس لا قيمة له، وأنه هو نفسه من الآثمين، فهل يكون العشاء المقدس الذي يقدمه صحيحًا؟ لقد أجابت الكنيسة الكاثوليكية عن هذا السؤال أخيرًا بالإيجاب، وذلك عندما تحداها جماعة من الزنادقة الناشطين (يُعرفون بالواهبين) الذين أجابوا بالنفي. وهناك مشكلات تتعلق بالمتناوِل، أو الذي يتعاطى العشاء المقدس. ما هي حالة النعمة؟ وكيف يتأكد المؤمن أنه في حالة من حالات النعمة؟ وهل لا بد له من التأكد؟ وهناك مشكلات تتعلق بشكل العشاء المقدس كتلك المشكلة التي فرَّقت فيما بعد بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي: هل يتناول المتناوِل من النوعين (الخبز والنبيذ على السواء) أو من نوع واحد فقط؟

وبرغم أهمية هذه المشكلات من الناحية العقلية في تاريخ المسيحية قديمًا، فإنه لا ينبغي لنا أن نعطيها كل الأهمية. إن المسيحية تَدين بالكثير لتنظيمها، كما تَدين بالكثير لأصولها الدينية. والحقيقة الرئيسية التي تتعلق بتنظيم المسيحية الأولى هي نمو التفرقة بين العلمانيين ورجال الدين؛ فالمسيحية — على خلاف مع الوثنية الإغريقية والرومانية — تكوَّنت فيها طبقة أكليريكية تتميز تميزًا واضحًا عن المؤمنين العلمانيين. وكثير من النقاد يعتقد أن يسوع لم يخطِّط مثل هذه الكنيسة، ولكن ليس بالإمكان إثبات ذلك. ومن المؤكد أن بداية التفرقة بين العلمانيين والأكليروس ظهرت بظهور المسيحية المنظمة؛ أي عند بداية القرن الثاني قطعًا.

وهنا يجب أن نقف مرة أخرى لكي نؤكد العلاقة المتبادلة بين الأفكار وبقية الحياة الإنسانية. إن العقلي المحصن قد يقول إن المسيحية قد وضعت حدًّا فاصلًا قاطعًا بين الله والإنسان، بين هذه الدنيا والدار الآخرة، فكان لا بد لها من أن تكون أكليروسًا محددًا قاطعًا يتوسط بين الله والإنسان، كما اضطر مؤلف الإنجيل الرابع إلى إيجاد «كلمته». وقد يقول خصوم العقل المتطرفون إن المسيحية نشأت بين جماعة من رجال الدين «الطبيعيين» المتعطشين إلى السلطان، فكان لا بد من ابتكار أصول دينية تبرر وجود رجال الدين، ومجموعة من الأسرار المقدسة التي تتطلب رجالًا للدين يحتكرونه، ولا بد أن يكون لهم سلطان معجز. وفي هذا يخطئ العقليون واللاعقليون على السواء؛ فإن المسيحية قد بدأت في عالم شامل من الحروب، والرق، وكل صنوف الشقاء البشري المنتشر. ونداؤها الأساسي هو نداء الخلاص، والكمال العقلي والروحي في عالم منقسم. والأصول الدينية للمسيحية، وأخلاقها وحكومتها، كلها «عوامل مشتركة في تحديد نموها». كل عامل يؤثر في العوامل الأخرى ويتأثر بها.

ومما يسترعي النظر في التنظيم المسيحي القديم شدة تأثير مشكلة الخلايا الفردية، أو الكنائس. لقد تماسك المسيحيون؛ تماسكوا في السنوات الأولى ضد الحماسة المتطرفة، وتلك المغالاة الشديدة في النُّسك من الرهبان والراهبات كما تماسكوا في السنوات المتأخرة ضد الاضطهاد الشديد — وإن يكن في فترات متقطعة — الذي قام به الموظفون الرومان الذين عدُّوا رفض المسيحي أن يضحي في سبيل الإمبراطور الإله دليلًا على الخيانة للدولة، بل تماسكوا ضد المنازعات الدينية الداخلية، وموجات الزندقة، التي صاحبت ما أحرزته الديانة الجديدة من نجاح.

ويشبه تنظيم الكنيسة في شكله كلَّ المشابهة التنظيمَ المدني للإمبراطورية الرومانية. والواقع أن إحدى الوحدات الرئيسية في التنظيم المسيحي — وهو الأبرشية — كانت بهذا الاسم ذاته قسْمًا إداريًّا في الإمبراطورية. وكان الأكليروس بعدما تميزوا من قديم عن العلمانيين مرتبين على درجات من السلطة كما هي الحال في الجيش، كانوا يكوِّنون سُلَّمًا (هيرارشية) من صبيان المذبح وغيرهم من صغار خدم الكنيسة، حتى القسيس، والأسقف، وكبير الأساقفة، والبابا. وكانت الوظيفة الحرجة في تلك القرون الأولى من المسيحية هي وظيفة الأسقف، وهي كلمة مشتقة من اللفظة الإغريقية التي معناها «العريف». وكان الأسقف — كضابط الجيش الكفء يعمل مباشرة مع القسس والعلمانيين ذوي الأهمية في دائرة نفوذه. أما مَن يعلونه من كبار الأساقفة والبطارقة والبابا نفسه فيميلون — كضباط أركان الحرب — إلى الاشتغال باستراتيجية الحركة وتكتيكها، مع الابتعاد عن العامة.

وربما لم يكن هناك فارق في المجتمعات المسيحية الأولى بين العلمانيين والأكليروس — وربما كان رجال الأكليروس الأوائل يعينون أنفسهم، ولكنهم يثبتون في وظائفهم بحسن نية إخوانهم من المؤمنين. ثم جاء التنصيب، وهو التقديس الرسمي الذي يؤهل المرء لكي يؤدي وظيفة القسيس المعجزة. ولم يظهر التنصيب بسبب بعض التعاليم مثل العشاء الرباني فحسب، وهي التعاليم التي كانت تتطلبه، وإنما ظهر أيضًا لأن حمى الحماسة التي انتابت الإخوان والأخوات في الدين بلغت حد التطرف. والواقع أنك تستطيع أن تجد مشكلات القائمين على التنظيم وحلول هذه المشكلات واضحة جدًّا حتى في كتابات بولس. ومع ذلك فقد كان في بعض هذه الأصول الديمقراطية — وبخاصة فيما يتعلق بوظيفة الأسقف — شيء من العقل؛ لأن هؤلاء الموظفين المختارين كانوا يُنتخبون بتصويت الجماعة، بما نسميه «الانتخاب». كان الأساقفة الأوائل يُنتخبون بتصويت الأكليروس وبعض العلمانيين ذوي النشاط. وحتى في العصور الوسطى كان أساقفة الكنيسة الكاثوليكية يُنتخبون انتخابًا شرعًا من الأكليروس المنتظمين في سلك الكاتدرائية. وإنما كان السُّلم الوظيفي (الهيرارشية) في الكنيسة المنظمة — في واقع الأمر — قائمًا بوضوحٍ على نظام التعيين. وكان الأسقف بالتأكيد معادلًا في أبرشية للملك، أو على الأقل للكولونيل. والأساقفة المجتمعون في المجالس كانوا هم الجماعات الناشطة المنظمة التي توجِّه المسيحية وجهتها الأخيرة.

ولم يكن للكنيسة — خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى التي تهمنا في هذا المقام — رئيس واحد على الأرض. وكان لا بد للتنظيم النهائي للسُّلم الكامل وعلى رأسه البابا أن ينتظر فصل الشرق عن الغرب في الإمبراطورية، بين ما صار الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية وما صار الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ومن الحق أن أسقف روما في الزمان القديم قد زعم لنفسه حقوقًا خاصة للسيادة على الأساقفة الآخرين. ويعتقد الذين يميلون إلى الشك ممن هم خارج الكنيسة أن الرومانيين أصحاب المصالح منذ الجيل الثالث أو الرابع قديمًا بعد المسيح قد أقحموا على العهد الجديد تلك الفقرات التي أقامت التقليد البطرسي على أساسٍ من الكتاب المقدس، والمسيح — طبقًا لهذا التقليد — هو الذي خطَّط البابوية الرومانية. جاء في إنجيل متى أن يسوع قال لتلميذه: «وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس، وفوق هذه الصخرة سوف أبني كنيستي. ولن تسود ضدها أبواب جهنم.» وفي هذه العبارة ما نسميه في الموضوعات غير الموقرة تورية؛ لأن اللفظة الإغريقية التي تدل على «بطرس» هي بعينها اللفظة التي تدل على «الصخرة». وجاء في التقاليد القديمة أن بطرس رحل إلى روما ذاتها، وأسَّس الكنيسة هناك، ثم مات شهيدًا.

وليس بوسع أحد اليوم أن يميز بين ما رسمه المسيح وما جاء عرضًا في هذه السلسلة من الحوادث. ومهما يكن من أمر، فإن أسقف روما — طبقًا للتقاليد البطرسية — يتعين أن يكون رئيس الكنيسة. ومركز روما الأدبي، ومكانتها في الأوضاع العامة التي كانت لها في ذلك الحين صفة القِدَم، وهجرة الأباطرة منها فيما بعدُ مُؤثرِين عليها القسطنطينية؛ كل ذلك جعل رياسة أسقف روما ما نحب أن نقول إنه أمرٌ لم يكن منه مفر. ومهما يكن من أمر فإن كلًّا من بطارقة القسطنطينية (والبطريق لقب شرقي)، وأنطاكية، والإسكندرية، كان يؤمن إيمانًا ثابتًا بأهميته، إن لم يكن بسيادته. وفي المجادلات الكبرى التي ثارت بشأن الزندقة لم تكن أسقفية روما في موقف السيادة دائمًا بأية حال من الأحوال. وقد ذكرنا من قبل أن الكنيسة الشرقية قد انفصلت نهائيًّا عن الكنيسة الغربية. وقد بُذلت جهود للجمع بينهما؛ لأنه من العار أن يكون هناك طريقان متنافسان إلى السماء، ولكن ما إن حلَّ القرن الحادي عشر حتى كان الفصل نهائيًّا.

ولما بلغت الموجة الكبرى للهرطقة أوجها في القرن الثالث كانت المسيحية قد بلغت رشدها. أصبحت عقيدة قوية يتجادل فيها الرجال والنساء في كل أمر يمكن الجدل فيه تقريبًا. ولا نستطيع في كتابٍ من هذا الطراز أن نحاول أن نسرد حتى الهرطقات الرئيسية، وهي تمتد على مدًى فسيح لما أسميناه المعرفة اللاتراكمية. وهي تمثِّل للخارجي ما يبدو كأنه رد الفعل الطبيعي لعدد كبير من المتعلمين وأنصاف المتعلمين الذين تُتاح لهم فرصة المناقشة الحرة لهذه المسائل الكبرى، مسائل الحق والباطل، والخلاص والنقمة، وسلوك الإله مع الإنسان. أما ما يجعل هذه المناقشات هرطقة بدلًا من أن تكون مجرد اختلاف في الرأي (كما يحدث في المناظرات) فهو أن مثل هذا الاختلاف في الرأي في الأوقات المضطربة يُترجم إلى عمل اجتماعي وشعبي. بيد أن توالي الانقسام إلى جماعات متضاربة يفسد وحدة العمل التي تبدأ بها الحركة، والتي تحاول جاهدة أن تتمسك بها.

أما جماعة المسيحيين الرئيسية، وهي المجموعة التي شقَّت طريقها خلال الاضطهاد والهرطقة وأمست الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فقد احتفظت بوحدتها وعزَّزتها — كما يبدو للمشاهد من الخارج — لأنه كان يتحتم عليها أن تكافح الهرطقة أحيانًا وأن تهادنها أحيانًا أخرى؛ ذلك لأن سيادة الهرطقة — وأعني بها الخلاف في الحكم على القيم — قد تكون في شباب أية حركة من الحركات علامةً على القوة دون الضعف. ولكن ربما كانت المبالغة في الانقسام في الرأي سببًا في قتل الحركة. في حين أن قدْرًا معينًا من الخلاف يعززها. والظاهر أن الكنيسة الكاثوليكية قد اشتد ساعدها بسبب الهرطقة التي تغلبت عليها.

وقد امتدت هذه الهرطقات فشملت الجانب الأكبر من السلوك والعقائد البشرية. وتركَّز بعضها حول الأسرار المقدسة، كسرِّ صلاحية العشاء المقدس الذي يدبِّره قسيس آثم. وتركَّز بعضها الآخر حول الطقوس الفعلية، كذلك النزاع الذي نشب حول الطريقة التي يتحدد بها تاريخ عيد القيامة. ويتركز بعضها حول مسائل السلوك، مثل امتناع القسيس عن الاتصال الجنسي. ويتركز بعض منها حقًّا في موضوعات سامية من موضوعات أصول الدين (أو فلسفته). وهناك مجموعة من الهرطقيين يُسمَّون «أصحاب المعرفة» اشتقوا اسمهم من اللفظة الإغريقية التي تدل على المعرفة. وتتألف من هذا المذهب دراسة ممتعة وسط الأمور المعقدة — كأنها رقعة الشطرنج — التي يستطيع العقل البشري أن يبنيها بالألفاظ والمشاعر. وقد كان «أصحاب المعرفة» هؤلاء في الأغلب من المثقفين في العالم الإغريقي الروماني، يبحثون عن السحر — السحر المركَّب — وكانوا على دراية بأكثر المذاهب المتنافسة في العالم الإغريقي الروماني، وبفلسفاته، وبخاصة فلسفة نابلي. وبالرغم من تنوُّعهم الذي يحيِّر الألباب، فإنهم يميلون إلى الاشتراك في أمر واحد معيَّن، وذلك هو الاعتقاد بأن عالم الحس هذا شر، أو هو غير موجود، أو — بصورة أبسط — إن الحياة التي نحياها كل يوم وهمٌ باطل. وكان شخص يسوع عندهم جذابًا، ولكنه يسوع صانع المعجزات، يسوع الرب. أما طبيعته البشرية، وأما مشاركته في هذه الدنيا، فلم يعترفوا قطُّ بها.

ونستطيع على أية حال أن نأخذ الجدل النهائي الذي ثار حول العلاقة بين يسوع والإله الواحد — الإله الآب — مَثلًا لعصر الهرطقة كله. وينطوي هذا الجدل في كثير من نواحيه على أكثر مما ذهب إليه «أصحاب المعرفة». وأخيرًا قبلت المسيحية الرسمية في عام ٣٢٥م في مجلس نيقية بالقرب من القسطنطينية عقيدة التثليث، أو ما نادى به أثانسيوس. والثالوث الله الآب، ويسوع المسيح الابن، والروح القدس — طبقًا لهذه العقيدة — أشخاص حقيقيون، عددهم ثلاثة، ولكنهم واحد أيضًا. وبقيت المسيحية وحدانية، تثليثها يسمو على الرياضيات. أما المذهب المضاد، مذهب آريوس، فهو على الأقل يميل إلى التوحيد في كثير من نواحيه — إن لم يكن توحيديًّا بالضبط كما نعرف مذهب التوحيد في أمريكا في القرن العشرين — وكانوا يميلون إلى أن يُخضِعوا يسوع للإله، وأن يتصوروا وجوده لاحقًا له في الزمن، ونابعًا منه أو — وأحب أن أقرر هنا أن عِلم الدين أمرٌ دقيق — إنه أدنى من الإله الآب بشكلٍ ما. والتعابير الحرجة التي تصوِّر النزاع هي: أثاناسي (أي من نفس جوهر الآب)، وآري (أي شبيه بجوهر الآب). والفارق في المصطلحين اللذين يعبِّران عن هاتين الفكرتين ينحصر في حرف واحد هو باليونانية i وباللاتينية j، وقد اتخذت العامة التي تميل إلى النكتة، والتي لا تفوتها مثل هذه الأمور، هذا الفارق الحرفي، موضعًا للفكاهة، وتندرت بأن هذين الحزبين من رجال الكنيسة الموقرين إنما يختلفان في حرفٍ من حروف الأبجدية. وقد انحدر إلينا من هذا الموقف تعبير بالإنجليزية ما زلنا نستعمله هو jot ومعناها ذرة أو نقطة، وتُستخدم للدلالة على الأمر التافه.

ولا ينبغي أن يسوقنا هذا المَثَل القديم من التشكك القديم الذي يقوم على أساسٍ لفظي إلى الاعتقاد بأنه لم يكن هناك فارق حقيقي بين الأثناسيين والآريين، ومِن ثَمَّ فإن مجلس نيقية كان بوسعه أن يختار أثناسيوس أو آريوس لأنهما سواء. وقد ذكرنا من قبل عند الحديث عن الإنجيل الرابع كيف أن التجاذب المثمر بين هذا العالم والعالم الآخر كان أمرًا واقعيًّا وحاسمًا في المسيحية. وليس بوسع المسيحية أن تقبل المنطق الذي يلزم للاختيار بين هاتين العقيدتين اللتين لا تتفقان من الناحية المنطقية. ولو أنها أخذت بمذهب «أصحاب المعرفة» لانساقت إلى متاهة من السحر، والغثيان، وإنكار هذه الدنيا. ولو أخذت بمذهب آريوس لانساقت إلى قبولٍ مجرد لهذه الدنيا يقوم على أساس من العلم أو الإدراك العام. أما الكاثوليكية — وهي المسيحية التقليدية — فقد وضعت قدمًا ثابتة في كل من العالمين.

وكان الإمبراطور قسطنطين — وهو مسيحي على الأقل من الناحية السياسية — هو الذي دعا مجلس نيقية إلى الانعقاد. وما إن حل عام ٣٢٥م حتى سادت الهرطقة اليهودية التي كانت غامضة فيما سبق العالم الإغريقي الروماني. وعاشت بقايا الجماعات الوثنية عدة قرون أخرى، واتخذت المسيحية الظافرة كثيرًا من المعتقدات والعادات الوثنية وجعلت منها قديسين محليين وعادات وخرافات محلية. ولكن النصر كان برغم هذا كاملًا بدرجة تدعو إلى العجب، وأصبحت المسيحية في القرن الرابع ديانة العالم الغربي.

العقيدة المسيحية

وهنا، والكنيسة ظافرة منتصرة، يجب علينا أن نحاول عرض العقيدة المسيحية بين عامة النساء والرجال في صورة منظمة. وسوف أقوم بذلك دون أن ألجأ إلى دقائق علوم الدين، مُركِّزًا اتجاهي نحو تلك الشخصية الأسطورية؛ شخصية الرجل المتوسط. وعلى القارئ أن يدرك أن الخلاف في الرأي — في كل نقطة تقريبًا مسجلة في الصفحات القلائل الآتية — كان قائمًا في مكان ما، وفي وقت ما، وفي أكثر الأوقات غالبًا، بين أولئك الذين يُسمُّون أنفسهم المسيحيين. وبعض هذا الخلاف يمسُّ نقطًا دقيقة حقًّا.

ولما حل القرن الرابع كانت العقيدة في ظهور المسيح للمرة الثانية في وقتٍ قريب، وما يترتب على ذلك من انتهاء العالم، قد فترت بطبيعة الحال. ومن حينٍ إلى آخر يظهر المتنبئون المسيحيون الذين يتنبئون بظهور المسيح للمرة الثانية في وقت قريب، ويجمعون حولهم فِرَقًا صغيرة من المؤمنين، ومِن ثَمَّ فقد تجمَّع الميلارايت وسط ولاية نيويورك، في القرن التاسع عشر المستنير، يرتدون الثياب البيضاء، وهم على يقين، يتوقعون نهاية العالم. ولكن هذه العقائد الكلياستية (أي التي تؤمن بعودة المسيح وسيادته ألف عام) كما يسمونها فنيًّا، عقائد جريئة، لا تدخل في العقيدة الرسمية المسيحية المقبولة. كما يجب أن نلاحظ أن المسيحية — من وجهة نظر مصير الفرد — لم تفقد البتة إحساسها بقضاء الله في الناس قضاء مباشرًا لا رادَّ له. ويتوقع كل مسيحي عند الموت أن يواجه حساب ربه النهائي.

والمسيحي يعتقد في إله واحد، يتجسد في الثالوث، وهو كائن كامل خلق الدنيا والإنسان، وأراد للإنسان أن يحيا الحياة السعيدة التي تحكي عن جنات عدن. ولكن آدم — أول إنسان — الذي خلقه الله حرًّا، اختار أن يعصي الله بارتكابه الخطيئة. ونتيجة لخطيئة آدم طُرد الإنسان من الجنة بإرادة إله عادل، وحُكم عليه بحياة ناقصة على الأرض. ولكن الله لم يتخلَّ عن أتباعه. ويُروى في العهد القديم أن شعب الله المختار أقاموا الصلاة لله في هذه الدنيا القاسية، وبعد ألفي عام من الظلام أرسل الله ابنه الوحيد — يسوع المسيح — لكي يمكِّن للناس من الغفران من الإثم، والعودة لا إلى جنة عدن، ولكن إلى مملكةٍ شبيهة بها ليست على هذه الأرض، ولكنها في السماء. والمسيح، وهو الإله الذي صار إنسانًا، قد مات على الصليب حتى تُتاح الفرصة لكل امرئ لكي يتحاشى الموت.

إمكان الخلاص، والفرصة لتجنُّب الموت عن طريق بعْث المسيح، تلك هي هبة الله، ولا بد للمرء أن يكون مسيحيًّا صادقًا لكي يظفر بالخلاص، ولا بد من أن يمر بتجربة «التحول»؛ أي الإدراك الروحي لهبة النعمة التي أتى بها المسيح. ويجب أن يكون عضوًا في كنيسة، في موقف طيب، وأن يؤدي بعض الطقوس المعينة. وعندما تتلقاه الكنيسة يخضع لمراسم التعميد المقدسة، التي تطهره من آثامه عن طريق بعض الطقوس، ويشارك بالعشاء المقدَّس في إحياء المعجزة التي جاء المسيح بالخلاص للبشرية عن طريقها وذلك بين الحين والحين. وإذا ما سقط في الإثم عاد إلى الكمال الروحاني بالاعتراف إلى أحد القسس، وبالتوبة المقدَّسة. وزواجه أيضًا أمر مقدس. وأخيرًا، والموت يقترب، يقوم له أحد رجال الدين — إذا أمكن ذلك — بمسح جسده كله بالزيت المقدس، ليُعِدَّه بطريقة كريمة للقاء حسابه الأخير.

وإذن فإن للمسيحي شريعته التي ينبغي له مراعاتها، كما أن له قواعده الخلقية — وهي أقل دقة — التي يتبعها. ولم تَعُد المسيحية في القرن الرابع طائفة من الناس المتواضعين أو العصاة، تمارس الاشتراكية في السلع المستهلكة، وتزدري المكانة في المجتمع والثراء؛ فقد يكون المسيحي غنيًّا، وقد يكون ما نسميه في هذه الدنيا ذا نفوذ، بل لقد كان هناك بالفعل أخلاقيون مسيحيون شكَوا من أن المسيحيين الأغنياء كانوا يحاولون أن يشتروا لأنفسهم الخلاص، بالرغم من فشلهم في العيش طبقًا للمُثُل المسيحية في حياتهم، وهذه المُثُل هي، إلى حدٍّ ما، نفس المُثُل التي تنادي بها أكثر الديانات السامية: الأمانة، والرحمة، والصحو، وحياة تميل إلى الزهد، ولكنها ليست بالنسبة إلى المسيحي العادي حياة الأكفان والرماد. وأود أن أؤكد أن حياة الحواس لم تكن عند المسيحي العادي كما كانت في كثير من الديانات الشرقية وهمًا من الأوهام. ولم تكن شرًّا كلها، بل ولم تكن بشكلٍ واضح مجرد مرحلة من مراحل تقدُّم الروح، ولم تكن بالتأكيد مرحلةً من مراحل التقمص الروحي الذي ورد في أية ثقافة من ثقافات الشرق المعقدة. إن هذه الدنيا لا يمكن أن تكون كلها سوءًا في نظر المسيحي؛ لأن الله هو الذي خلقها. وهذه الدنيا في نظر المسيحي تهيئ الفرصة لأن يحيا المرء حياة طيبة تُعِدُّ صاحبها لحياة الخلاص الكاملة.

وبالرغم من أن المسيحية باعتبارها كنيسة عظمى قد قبِلت التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في هذه الدنيا، فإن العقيدة المسيحية لم تكفَّ عن توكيد المساواة بين جميع بني الإنسان أمام الله. إن الأرواح البشرية لا يمكن أن تمنح الرُّتب. وسوف تُبعث يوم الحشر، إما بين المنعَم عليهم، وإما المغضوب عليهم، ولن يكون للمرتبة أو الثروة أو النفوذ أي تأثير في هذا الحكم الرهيب. ويجب أن نقر حقًّا — لكي نكون واقعيين — أن تعاليم المسيح تميل إلى أن تقول للمسيحي العادي إن علو المرتبة، والثروة، والنفوذ، إن لم تكن حواجز في طريق الخلاص، فهي على الأقل معوقات. وفي رأي بعض الناس أن مذهب المساواة بين الأرواح هذا أمام الله الذي تؤكده المسيحية باطراد هو إما كلام لا معنَى له، وإما نوع من المخدر لكي يبقى الفقير فقيرًا، ونستطيع أن نتواضع أكثر من ذلك ونستنبط أن هذا المذهب قد أمد ثقافة الغرب بنوع من التقدير الأدنى لكرامة الإنسان، أو بالفصل الواضح بين الكائنات البشرية وغيرها من الكائنات الحية.

وأخيرًا فإن المسيحي — وبخاصة في القديم وفي العصور الوسطى — قبل نمو العلم الحديث، كان يعتقد أن الله ورسله (من ملائكة وقديسين) يسهمون دائمًا في كلِّ ما يجري في هذه الدنيا. أجل إن المسيحي كان يميِّز بين الحدث الطبيعي — وهو أمر عادي — والحدث فوق الطبيعي، وهو أمر غير عادي. ولكن لم تكن لديه قطْعًا آراء علمية أو عقلية عن الأحداث العادية في هذه الدنيا، بل لم يرَ أن المتوسط شيء عادي. كان يرى أن الله يستطيع أن يصنع أمورًا — بل هو قد صنعها — لا يستطيع الإنسان والحيوان وعناصر الطبيعة أن تصنعها من تلقاء نفسها. وإن شئت فقُل إن المسيحي كان يؤمن بالخرافة، وإنه كان يعيش في عالم من المخاوف والآمال غير المعقولة. كان يهوذا الإسخريوطي عند الرجل المسيحي الثالث عشر من مجموعة محزنة للغاية؛ فلم يشأ أن يربط نفسه بأي شيء قد يعيد بأية صورة سوء هذا العدد. وإذن فقد كان الأمر غير الطبيعي في ذهنه واقعيًّا كالأمر الطبيعي، وبل وغالبًا ما يمكن التنبؤ به مثله كذلك — هذا إن لم يكن غير الطبيعي شائعًا شيوع الطبيعي. ويمكنك أن تقابل غير الطبيعي بالوسائل العتيقة الدينية المجربة. إن الشيطان قد يعود بطبيعة الحال، ولكن المسيحي كان يعرف وسيلة — بل وعدة وسائل في العصور الوسطى — يطرد بها الشيطان. وليست الأمور الطبيعية، أو الأمور غير الطبيعية، في هذه الدنيا في نظر المسيحي الصادق معادية في أساسها. كلاهما جزء من خطة الله. والمسيحي الصادق كان «يعرف» على الأقل ما يكفي لأن يلائم بين سلوكه في هذه الدنيا وبين الأحداث الطبيعية وغير الطبيعية على السواء، وكان «يعتقد» بما يكفي لأن يجعله يحس أن أمامه فرصةً طيبة للخلاص — وذلك بالرغم من أن المسيحي لا ينبغي له قطُّ أن يثق كل الوثوق، وفي بذاءة وصلف — في خلاصه.

أسباب انتصار المسيحية

إذا أنت سألت: لماذا شقَّت المسيحية طريقها بين المذاهب الكثيرة المتنافسة في العالم الإغريقي الروماني؟ كان الجواب على ذلك يسيرًا؛ وذلك أن المسيحية صادقة، وأن الصدق يسود بإرادة الله. ولكن المسيحيين — حتى الطيبين منهم — على الأقل منذ بداية الكتابة التاريخية والاجتماعية الناقدة الحديثة، عجزوا عن مقاومة الإغراء بأن يقدموا لانتصار المسيحية أسبابًا تاريخية طبيعية ملموسة. وقد تنوَّعت الإجابات وكثرت، وكثيرًا ما كانت كراهية المسيحية دافعًا إليها. ومِن ثَمَّ فإن بعض العقليين من غير المسيحيين اعتقدوا أن المسيحية قد انتصرت لأنها اجتذبت إليها الطبقة العاملة المستعبَدة في العالم الإغريقي الروماني بجهالتها وخرافتها وضعْفها. وأصر بعضهم على أن المسيحية قد قدَّمت لكل امرئ شيئًا ما، وأنها أخذت بغير خجل عن كلِّ منافسيها. وأكد بعضهم ما نسميه اليوم جانب الهروب في المسيحية، وجاذبيتها للمتعبين واليائسين من الرجال والنساء في مجتمع مريض.

ويجب أن نؤكد هنا — وفي كل صفحات هذا الكتاب — أننا إذا اعتبرنا انتصار المسيحية حدثًا طبيعيًّا في التاريخ، فإن عوامل كثيرة جدًّا كان لها أثر في هذا الانتصار. وليس بوسعنا — بما لدينا من علم ومعرفة — أن نزن هذه العوامل وأن نقيسها ونصوغها في معادلة. وليس بوسعنا إلا أن نؤكد بأن ظهور المسيحية لا يمكن أن يكون له تفسير دون أن يكون هناك عنصر من عناصر الصدق، ولا نستطيع هنا إلا أن نستعرض العناصر الأرضية المألوفة، وأن نحاول الملاءمة بينها على صورة تقريبية.

هناك أولًا سلسلة كاملة من العوامل التي تدور حول عنصر التوفيق في المسيحية، وهذا العنصر التوفيقي (وأقصد بالتوفيق الجمع بين العناصر المستمَدة من الأديان المختلفة) يتناوله مبسطو الأمور باعتباره التفسير الكامل، في حين أنه لا يعدو أن يكون جزءًا من التفسير فحسب. فإنك قد تجد في روايات الألغاز الإغريقية، وفي قصة إيزيس، وقصة مترا، وفي اليهودية، وفي العقائد الأخرى من العالم الهلينستي «نماذج» من كلِّ ما اعتقد فيه المسيحيون — كطقوس الطهارة والإله الذي يموت ثم يُبعث، والعذراء التي تحمل، ويوم الحساب، وحفلات الربيع، وحفلات الانقلاب الشتوي، والشياطين، والقديسين، والملائكة. أما ما لا تجده خارج المسيحية فهو ذلك «الكل» الذي يكوِّن العقيدة والعبادات المسيحية. فإذا قلت إن المسيحية استعارت من الثقافات الأخرى، فإن ذلك من الناحية التاريخية الطبيعية ليس بالتفسير الكامل للمسيحية، وهو كقولنا إن دراسة مصادر مؤلفات شيكسبير تفسير كامل لعظمتِها. ويهمنا أن نذكر هنا بطبيعة الحال أن المسيحية فيها من عناصر العقيدة والعبادات ما هو مستمَد من مصادر متنوعة، بل قد يكون من الحق أن القلة المعروفة والكثرة المجهولة التي شكَّلت العقائد المسيحية في القرون الأولى كانت ماهرة من الناحية العملية في اختيارها مسحةً أرفية هنا، ومسحة مترية هناك، في العقيدة الجديدة. غير أن هذه الصورة، صورة الآباء الأوائل يرسمون خطوط المذهب الجديد قصدًا، كأنهم مديرو شركة أمريكية يخططون للسوق إنتاج سلعة جديدة، هذه الصورة غير صحيحة من الناحية التاريخية والسيكولوجية، فوق أنها مبتذلة تسيئ إلى الشعور. كلا، إن الآباء الذين أسَّسوا المسيحية لم يكونوا من واضعي الخطط المتعمدين، ولم يكونوا قطعًا يفكرون على نسق هؤلاء. إنما كان عملهم التوفيقي إلى حدٍّ كبير عملًا لا شعوريًّا. نعم إن المسيحية تشترك في جانبٍ منها مع قصة إيزيس — مثلًا — غير أن ذلك لا يرجع إلى أن المسيحيين رسموا عامدين مريم العذراء على صورةِ ما ورد في قصة إيزيس، وإنما يرجع إلى أن إيزيس ومريم كلتاهما عاونتا على سد الحاجة إلى صورة للأم المواسية.

ثم إن هناك — ثانيًا — بعض الصدق في قولنا إن المسيحية — بما وعدت من خلاص في عالم آخر لتعويض ما في هذه الدنيا من فقر وظلم وآلام — أثبتت أنها عقيدة شديدة الجاذبية للعامة في الإمبراطورية الرومانية المتداعية، كما أن هناك أيضًا بعض الصدق في الإيمان — الذي يتصل بهذا القول اتصالًا وثيقًا — بأن المتعبين، والسئومين، والمنهوكين والمثاليين بالطبيعة من الطبقات الممتازة، يرون في المسيحية إما طريقًا خلابًا للهروب من عالمٍ لا يحبونه وإما تحدِّيًا مثيرًا للنهوض بهذا العالم. والمسيحية تفسح مجالًا واسعًا لإرضاء البشر، ليس بسبب التوفيق بين مصادرها فحسب، بل كذلك بسبب رفضها الباتَّ أن تختار إما هذه الدنيا وإما الدار الآخرة دون توسُّط. ومن الحق أن كثيرًا من أسباب الرضا هذه كانت من النوع الذي يشير إليه السيكولوجي في العصر الحديث بألفاظٍ مثل التعويض والهروب، والتي أطلقنا عليها دائمًا لفظًا مألوفًا جميلًا، هو السلوى. وإذن فقولنا إن المسيحية ديانة للضعفاء، والبسطاء، والمظلومين، قولٌ صادق، والأناجيل صريحة في ذلك.

ومن ناحية ثالثة أحرزت المسيحية تقدُّمًا ملحوظًا بين الطبقات العليا ورجال الفكر، سواء أكانوا من الإغريق أم من الرومان. وإنا لنجد في وقتٍ مبكر جدًّا أمثلة مبعثرة هنا وهناك لرجال ونساء من أسرٍ كريمة تحوَّلوا إلى هذا المذهب الجديد المزدرَى. وليس من شك في أن مثل هذا التحوُّل من وجهة نظر رجال الاجتماع شديد الشبه بتحوُّل ابن صاحب رأس المال إلى الشيوعية في العصر الحاضر. وواضح أن المسيحية في قرونها القلائل الأولى لم تَرُقَ للراضين المطمئنين. أما أولئك الذين تحوَّلوا إلى المسيحية فقد سبق لهم أن خرجوا على التقاليد التي نشئوا عليها. بيد أنه من الخطأ أن تتحدث عن جاذبية المسيحية باعتبارها جاذبية عاطفية محض؛ فإن القواعد الدينية الناشئة لهذا المذهب الجديد بلغت درجة من التعقيد والتقدير العقلي تكفي لأن تجتذب رجالًا من ذوي الميول الفلسفية. وإذن فإن من عوامل النصر النهائي للمسيحية قواعدها الدينية التي اتحدت في نهاية القرن الثاني اتحادًا قويًّا بالتقاليد الفكرية الإغريقية. والواقع أن الإغريق المتأخرين أحلوا المحاورات الدينية محل المحاورات السياسية القديمة في المدينة الحكومية إلى حد كبير، وامتدت هذه المحاورات الدينية — كما امتدت المحاورات السياسية من قبل — حتى بلغت طبقات من السكان ليس من عادتها أن تشتغل بالبحث المجرد. ولما بلغ الجدل الآري قمَّته لم يكن عجيبًا أن يسألك حلاقك في القسطنطينية أو الإسكندرية عما إذا كنت تظن أن الابن كان في الحقيقة قديمًا قِدَم الآب.

والمسيحية من ناحيةٍ رابعة كانت تجتذب نوعًا آخرَ من الأفراد الذين لهم أهميتهم القصوى، أولئك هم الرجال «العمليون» المبرَزون في النشاط والتنظيم. ومن الأوهام التي أزالتها المسيحية، وهو وهمٌ يقوم في أذهان المحافظين أحيانًا بشأن الثائرين (وقد كان المسيحيون الأوائل ثائرين)، هو أن الحركات الثورية تموج كلها بأشخاص غير عمليين. ويصْدُق هذا بطبيعة الحال على حركاتٍ جريئة صغيرة هامشية — وحتى في هذه الحركات يحتمل أن يوجد قليل من الرجال أصحاب العقول القوية. ومن قديم كانت الحركات الثورية تجتذب رجالًا يرون فيها ولا شك فرصةً لإشباع أطماعهم وحبهم للنفوذ، بل ورغبتهم في الثراء، ولكنهم يرون فيها أيضًا فرصة لإنجاز بعض الأعمال، ولتطهير هذا العالم المضطرب وجعله مكانًا أفضل، والرجال الذين اشتغلوا في الكنيسة المسيحية الأولى: الشمامسة، والقسس، والأساقفة، أولئك الرجال المسئولون عن التنظيم المسيحي الذي يدعو إلى الإعجاب، والمسئولون عن تلك الصفات الكامنة في القوة «السياسية» الداخلية التي تفوَّقت فيها المسيحية بشكل ظاهر على منافسيها في الثقافات الشرقية؛ هؤلاء الرجال — مهما يكن شأنهم — يستحقون أن يُنعَتوا بألفاظ الثناء الأمريكية الحديثة المباركة، وهي قولنا عن الرجل إنه «كفء» أو «عملي».

والمسيحية من ناحية خامسة ورِثت عن أصولها اليهودية شمولًا أوقفها موقفًا قويًّا، وقد استطاعت خلال سنوات نموها الحرجة أن تتمسك به؛ ذلك أن المسيحية كانت دائمًا ترفض أن تحالف أي مذهب آخر. وحتى ما أسميناه التوفيق في المسيحية — وقد رأينا أن المسيحية من وجهة نظرنا فيها عنصر توفيقي — يستحق أن يُوصف بكلمة أقوى في التعبير من كلمة «الاستعارة». كان المسيحيون يضمون أو يتخذون لأنفسهم عقيدة أو عبادة، ويصرون في غيرة أنها احتكار للمسيحية. كانت الثقافات الأخرى كلها من غير شك تتفق وعبادة الإمبراطور. ولم يستطِع المسيحي أن يضع ذرة من بخور على مذبح مقدَّس لقيصر ويبقى مع ذلك مسيحيًّا طيبًا. ومن المؤكد أن التقاليد المسيحية بالغت في أهوال الاضطهاد — الرسمي وغير الرسمي — التي كان يتعرض لها المؤمنون، كما أنها بالغت في مدى إيثار المسيحيين المضطهدين القسوةَ الشديدة على الارتداد عن الدين. ومع ذلك فقد تعرَّض المسيحيون للاضطهاد حينما كان المؤمنون بمترا مثلًا هم المفضَّلين عند الجيش الروماني القوي. والاضطهاد — عندما يبلغ درجةً معينة — يقوي الفئة المضطهدة بطريقة دنيوية بحت. والاضطهاد على أقل تقدير يدفع المضطهدين إلى وحدةٍ أشدَّ تماسكًا وأكثر نظامًا. وقد تميز المسيحيون الأوائل بالوحدة بالرغم من ظهور الزندقة عندما خف الضغط.

وموجز القول أن المسيحية — من وجهة نظر طبيعية وتاريخية — لم تتغلب على منافسيها لسبب واحد، وإنما تغلَّبت عليهم لتوافر عدة عوامل مساعدة في آنٍ واحد، وهي عوامل يؤثِّر أحدها في الآخر. كان وعد المسيحية بالخلاص وعدًا محسوسًا جذابًا كأي وعد تقدَّم به منافسوها. والخلاص في المسيحية لا يأتي إلا بعد الموت، ويمكن — بمعنًى ما — أن يكون مؤكدًا إذا كان الفرد فقيرًا، متواضعًا، محرومًا. وقد أكسبت هذه الحقيقة المسيحية جاذبية عظمى للجماهير العاملة في الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك فقد أفسحت دقائق القواعد الدينية في العقيدة الجديدة المجال لأصحاب الفكر، كما أن مداها في التصوف جعل الفرار من هذه الدنيا مسكنًا لكثير من أصحاب النفوس العاطفية والخيالية. وكذلك كانت للمشكلات العملية المتصلة بتنظيمٍ ما كان من غير شك قوة عظمى فوق هذه الأرض جاذبية عظمى للرجل العملي الذي يتميز بطاقاته الإصلاحية. كما أن الإحساس بالرسالة، والإحساس بالانفصال عن الجماعات الوثنية والاستعلاء عليها، وصنوف الاضطهاد التي كانت تقوم بها حكومة كانت ترى في سلك أتباع المذهب الجدد ما يحيرها وما قد تعده خيانة، كل ذلك اتحد ليجعل من المسيحيين الأوائل فريقًا متضامنًا في العمل؛ فتماسك المسيحيون، وتعاونوا، طوال عهد الإمبراطورية. وكان المسيحيون يديرون الإمبراطورية وهم على بُعدٍ زمني من المسيح يساوي بُعْدنا عن المهاجرين الأوائل إلى فرجنيا وإنجلترا الجديدة.

لم يكونوا مثل الصيادين في الجليل الذين أنصتوا لكلمات يسوع. ومع ذلك فقد كانت هذه الكلمات أمامهم، كما هي أمامنا اليوم: «إنه لأيسرَ للجملِ أن يدخل في سَمِّ الخياط من أن يدخل الرجل الغني مملكة السماء.» و«بارك الله في الوديعين؛ فهم الذين سوف يرثون الأرض.» «ولذلك أقول لكم لا تفكروا في حياتكم، وفيما تأكلون، وفيما تشربون. ولا تفكروا في أبدانكم، وفيما تلبَسون.» والمقابلة التي تقدِّمها الآن ليست عادلة — كما أود أن أوضح — وإن تكن واقعية؛ لأن الأغنياء، والمتكبرين، وأولئك الذين يهتمون بما يأكلون، وما يشربون، وما يلبَسون، يَرُودون الكنائس في هدوء منذ نحو سبعين جيلًا، وينصتون إلى هذه الآيات، ولا يلبثون على ثرائهم، وتكبُّرهم، وعلى شديد اهتمامهم بما يأكلون، وما يشربون، وما يلبَسون.

وإذن فهناك مشكلة. هل كان انتصار المسيحية هو في الوقت عينه فشل المسيحية «الحق»، المسيحية البدائية، مسيحية يسوع؟ إن العصاة داخل الكنيسة المسيحية وخارجها قد اتهموها خلال هذه الأجيال السبعين أو ما يقرب منها بالتخلي عن الطريق المسيحي لكي تسير على الطريق الدنيوي. وقد وجَّهوا إلى هؤلاء المسيحيين الظافرين قول المسيح: «ماذا يجدي المرء، إذا هو كسب الدنيا كلها، وخسر نفسه؟» وقد حان الوقت لكي نُقدِم على تلك المهمة الشاقة؛ مهمة تقدير مكانة المسيحية المنظمة في تقاليد المجتمع الغربي.

أسلوب الحياة المسيحية

ربما يزعج القارئ أننا نُصِرُّ دائمًا على أن نكتب عن المسيحية من الخارج باعتبارها سلسلة من العلاقات بين الكائنات البشرية. ولكننا يجب أن نذكر الحكمة في ذلك في ثبات مرة أخرى؛ لأننا إذا نظرنا إلى المسيحية هذه النظرة، توقَّعنا أن تكون المسيحية الظافرة في مجلس نيقية — العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم — مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل، ولو أن المرء — من ناحية أخرى — اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية، لخرج من ذلك قطْعًا لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب، بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتًا.

ولنضربْ لذلك مثالًا وضعيًّا: إن الولايات المتحدة في عام ١٩٥٠م لا تشبه كثيرًا إنجلترا الجديدة في عهدها الأول. قفْ لحظةً في بليموث عند التل الذي يتمتع بالحماية وتقوم عليه المنازل الأنيقة، التل الذي يُعرف باسم «صخرة بليموث»، وراقبْ جمهور السائحين الصاعدين التل في عرباتهم، وانظر إليهم وهم يفحصون الصخرة (بمختلف التعليقات، وكثير منها نكات) ويشترون التذكارات، والملبن الممزوج بالماء الملح، وزجاجات الصودا من الباعة المتجولين، ثم ينطلقون. إنك لو فعلت هذا لما وجدت مندوحة عن التعجب عمَّا عسى أن يظن آباؤنا المهاجرون بكل هذا. هل يتعرفون إلى أبنائهم الذين خلفوهم؟ أم هل يشعرون أن أمريكا التي نجحت كل هذا النجاح الضخم قد كسبت الدنيا ولكنها خسرت نفسها.

كلٌّ منَّا منذ القرن الرابع مسيحي على صورة من الصور، وهو على أقل تقدير مسيحي ﺑ «الاعتراف». ولم يكن بوسع الكثيرين من أفراد المجتمع الغربي أن يعترفوا صراحة وجماعة بالإلحاد، أو اللاأدرية، أو بمذهب الاتصال بالله، أو بأية عقيدة أخرى غير المسيحية إلا خلال القرون القلائل الأخيرة، وقد كان الكفار الذين يجاهرون بكفرهم قلة نادرة في ألف السنة التي استغرقتها العصور الوسطى. ولما كان الناس جميعًا مسيحيين، فلم يكن هناك مفر من أن تكون المسيحية هي كل شيء لكل الناس؛ فلقد كان القديس فرانسيس، وأرازمس، ولويولا، ومكيافيلي، وباسكال، ووزلي، ونابليون، وغلادستون، وجون روكفلر، جميعًا مسيحيين، ونستطيع بطبيعة الحال أن نقول إن بعضًا من هؤلاء فقط كانوا مسيحيين حقًّا، ولكنك لا تستطيع أن تصنِّف المسيحيين كما يستطيع عالم النبات أن يصنِّف النبات. ومهما يكن من أمر فإنك لن تستطيع في تصنيفك أن تظفر بنوع الاتفاق الذي يظفر به العالم بأنواع النبات.

ولو أنك أردت أن تتجنب الأفكار المجردة وما ليس بالأمر الواقع مما لا بد أن يصاحب أية محاولة للتعميم على مستوًى رفيع، فلا مناص لك من أن تقصد الآباء أنفسهم، أولئك المواطنين في الدولة العالمية الرومانية الذين التمسوا في المسيحية طريقًا للخلاص من المصاعب التي واجهوها في مجتمع ملحد، وهم في كثير من النواحي صفوة مجتمعهم، رجال صمَّموا على أن يصلوا إلى جذور المتاعب التي يحسونها. وهم ليسوا بالتعبير الحديث — من المتهربين. وبعضهم من الباحثين، رجال ربما لا يَعْدون أن يكونوا باحثين — مثل جيروم — لو كانوا في مجتمعٍ آخر وثقافة أخرى، وقد وُلد بعضهم إداريين، ولكنهم تحولوا إلى باحثين فكريين أو عاطفيين بسبب الأزمة التي واجهوها، مثل إمبروز، بل وأوغسطين، وبعضهم طموح، مثالي، يريد الإصلاح، والكمال، لا يرضيهم حتى العالم الآخر، مثل ترتوليان، ولكنهم يشتركون جميعًا في إحساسهم بالرسالة، وإحساسهم بالانتماء إلى شيء يتجاوز أي أمر عرفه الناس أو أحسوه من قبل. يوجِّهون جميعًا أنظارهم نحو إيمان عاطفي جديد، إيمان مستحدَث، مغامر، غازٍ — وإن يكن من بينهم الرجل المتحذلق ورجل العمل.

وقد سمحت فعلًا الكنيسة المسيحية — من الناحية التاريخية — بتنوُّع أساليب الحياة، بل وسمحت بقدْر من التنوُّع في تفسير الحياة تفسيرًا عقليًّا، في ظل الإطار العام للمسيحية. وكلنا يعرف تكاثر الطوائف الذي بدأ منذ الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر واستمر بعد ذلك. والمدى واسع بين الموحِّدين و«العبدة المقدسين» وأتباع الكنيسة الأسقفية العليا، وهو مدًى يَمُسُّ النواحي العقلية والعاطفية. ولم تكن الوحدة مذهبًا لا مناص من اتباعه، ولم تكن وحدة شاملة، ولم يُقصد بها التشابه في كل مكان، لم تكن كذلك حتى قبل لوثر، في تلك الأيام التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدِّم فيها للغرب وحدة دينية.

وقد كان القدَّاس، والمذاهب، وطريقة تعليم أصول الدين، وكثير غير ذلك متشابهًا بطبيعة الحال، وكانت لغة القسيس في الصلوات هي اللاتينية. وكانت هناك حكومة كنسية منظمة طبقًا لسُلَّمٍ متدرج، يمكنها أن تفض المنازعات، وبوسيلة عنيفة — إذا اقتضى الأمر ذلك — وهي استبعاد حزب من الأحزاب من المجتمع المسيحي. وقد تم كل ذلك بحلول القرن الرابع، وهو من مميزات المسيحية في العصور الوسطى. ودعنا الآن ننظر في قطاعٍ كامل ممكن من العبادات الفعلية في القدَّاس في الغرب خلال القرون الأولى من المسيحية بعد استقرارها. إنك ترى الرهبان في الدير يتوقَّفون عن أعمالهم الصامتة في الحديقة أو المكتبة، كما ترى في بلاط الزعيم الجرماني — الذي اقتطع لنفسه جزءًا غنيًّا عندما تدهور الحكم الروماني — قسيس الأمير يقدِّم العشاء المقدس لبلاط الأمير، الذي يضم محظياته الكثيرات. وفي روما يرأس البابا بنفسه قدَّاسًا عظيمًا في كنيسة لاتيران، ويحضره المتسولون، والتجار، والجنود، والموظفون، وكلُّ مَن تبقَّى في المدينة المتداعية. وفي القرية الفرنسية الصغيرة ترى القسيس يتعثر في طقوسٍ لا يكاد يفهمها أمام جمهور من المصلين يتكون من الفلاحين الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة. وبالقرب من ذلك، في إحدى «الفيلات» المحصنة ضد عصابات السلب والنهب العديدة المتزايدة، ترى السيد، وهو روماني غالي فخور بثقافته، ملحد في قلبه وفي حياته الخاصة، يتثاءب في أثناء القداس الذي ساقته إليه زوجته. وعلى ضفاف الراين، ترى فرقة صغيرة من الجند وهي تستمع إلى قدَّاس من قسيس ملتحق بالجيش يلقيه قبيل انطلاق الجند في دورياتهم. والنقطة التي أود إبرازها هي أن أسلوب الحياة، أو «ما يمارسه» الراهب، والزعيم، والمحظية، والتاجر، والمتسول، والفلاح، والرجل المهذب، والجندي، كان مختلفًا جدًّا في واقع الأمر، ومتصلًا بطرقٍ شتَّى بما يُسمَّى في أصول الدين المسيحي ﺑ «هذه الدنيا».

وقد اندفعت المسيحية — رغم هذا — اندفاعًا شديدًا نحو ما يسميه الفلاسفة بالوحدانية. وإن ما يجعل الرجل وحدانيًّا — في الصميم — هو اعتقاده أن الكون يدور في تصميمه بطريقةٍ ما حول «الجنس البشري»، أو على الأقل حول ناحيةٍ من نواحي الإنسان، أو قدرة من قدراته؛ فالمسيحي لا يستطيع أن يقبل النظرة التعددية التي تقول بأن الإنسان كائن عضوي بين كائنات كثيرة أخرى، في كونٍ لم يُصمَّم للإنسان، أو لأي كائن عضوي آخر. أو قُل هو كون لم يُخطَّط في الواقع من قبل. المسيحي يريد أن يفهم؛ لأن المسيحية ديانة عقلية رفيعة، ولكنه يريد أن يفهم فهْمًا كليًّا، كاملًا، لا فهْمًا جزئيًّا كفهْم رجل العلم، ويستطيع بعض المسيحيين في الواقع أن يكتفوا بالخضوع التام لإلهٍ يفهم كل شيء، ولا تستطيع مخلوقاته أن تفهمه. غير أن هذه العقيدة في عجز الإنسان عجزًا مطلقًا عن الفهم كانت تُعَدُّ في تاريخ المسيحية بعد استقرارها هرطقة، أو هي على حافة الهرطقة الخطرة. وهذا الموقف شبيه بموقف المتصوفين الذين يرون أن هذا العالم المحسوس ليس إلا وهمًا باطلًا.

وهذا الاندفاع نحو الوحدانية (ولا أقصد مجرد الوحدانية في الدين) أصبح إذن إحدى خصائص المسيحية العقلية الكبرى. وقد قاومت المسيحية بحزمٍ شديد الدعوة إلى قبول ثنائية «رسمية» برغم الفوارق الهامة التي بيَّنها اتجاه التفكير في المسيحية الأرثوذكسية بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الجسم والروح، بين الطبيعي وما وراء الطبيعي. والواقع أن الهرطقة التي ربما كان الأرثوذكس يخشونها ويمقتونها أكثر من غيرها من الهرطقات التي ظهرت في القرون الأوائل الأولى، هي الثنائية الصريحة، وهي لا تكاد تكون مسيحية البتة، وإنما هي فارسية في نشأتها، وتُعرف باسم «المانيكانية». وقد حلَّت المانيكانية مشكلة وجود الشر بسماحها للإله (النور) وخصمه الشيطان (الظلام) أن يفضا النزاع بحلٍّ وسط. كان الإله في هذا المذهب خيرًا، ولكنه لم يكن قادرًا على كل شيء، وعلى أتباع الفضيلة في هذه الدنيا أن يحاربوا في جانب الإله، ولكنهم لا يضمنون النصر، وهذا الموقف — الذي أثبت تاريخيًّا أنه جذاب لكثير من الناس — قد لفظته المسيحية الأرثوذكسية، ونبذه في حزم، كما لم ينبذه أحد، أعظم الآباء اللاتينيين، وهو القديس أوغسطين، الذي كان مانيكانيًّا قبل تحوُّله إلى المسيحية.

وهذا الاندفاع نحو الوحدانية كان معناه من الناحية العملية أن المسيحية الأرثوذكسية باعتبارها هيئة متحدة — لم تتابع اتجاهًا من اتجاهاتها المميزة، أو حكمًا من أحكامها، أو أسلوبًا من أساليب الحياة، حتى نهايته. ولو أنها فعلت ذلك لتحتم عليها أن تتخلى عن مطلبها الأعظم في الكثلكة، أو العالمية؛ فإن مذاهب الوحدانية لا تؤدي بأية حالة من الحالات إلى التوفيق والشمول بأي نوع من أنواع التتابع المنطقي — بل إنها على عكس ذلك تمامًا؛ فالمثالية الوحدانية أو المادية الوحدانية يمكن أن تكون ضيقة الأفق، متعصبة، لا تقبل عقيدةً غير عقيدتها. وإنما هي الحاجات الفعلية للكنيسة الكاثوليكية الكبرى في إمبراطورية عالمية — الكنيسة الكاثوليكية التي تتبع بمعنًى ما دورَ مثل هذه الإمبراطورية، وإنما هي هذه الحاجات التي جعلت الوحدانية المسيحية واسعة الأفق، شاملة لكل شيء، على غير منطقها، بل وعلى غير ما يتوقع الإنسان. إن المسيحية في صميمها — بكل تأكيد — وحدانية مثالية تنتمي إلى العالم الآخر، ولكن شيئًا ما كان دائمًا يقيمها وسط حرارة هذا العالم وأرضه؛ ففي الغرب نرى — حتى الرهبان الذين فروا من هذا العالم المادي — قد اشتغلوا بتطهير مستنقعاته المادية وأرضه الخراب، كما اشتغلوا بتحسين محصوله، ونسخ كتبه وتصنيفها. نعم إنهم أماتوا الجسد، على الأقل ودام الدافع الروحاني للهيئة التي ينتمون إليها قويًّا. ولكن بعد ما ضعُف هذا الدافع كان هؤلاء الرهبان أنفسهم يأخذون من هذه الدنيا بنصيب كبير حسبما واتتهم الظروف، مما ترتب عليه تنظيم هيئات جديدة مصلِحة.

ولست أرمي من هذا كلِّه إلى القول بأن المسيحية نفاقٌ منظَّم، كما اتهمتها أجيال عديدة من النقاد العقليين المرة تلو الأخرى. وإنما أردت أن أقول على الأقل إن كثيرًا من الرجال الذين تصدوا لقيادة المسيحية المنظمة قد اكتسبوا من قديم نوعًا من الصبر الحكيم مع الكائنات البشرية، وهو صبر يشبه صبر الطبيب الممتاز — إنهم ما لبثوا يعتقدون في مملكة الإله، ولكنها لم تكن مملكة على هذه الأرض، ولم تكن بالتأكيد في زمانهم. أفلا يكون إذن من الحكمة في هذه الدنيا أن تُؤخذ مخلوقات الإله كما هم — إلى حدٍّ ما — دون محاولة لتغييرهم بعنف شديد؟ ثم إن القديس بولس نفسه قد أقرَّ بأن العذرة قد تكون أفضل الأمور، ولكنها فيما يظهر ليست ممكنة عند كل فرد في العالم، حتى مع اقتراب العودة. إن بولس نفسه يؤثِر لأتباعه أن يتزوجوا على أن يتحرقوا.

وإذن فإن العناصر المثالية التي تتصل بالعالم الآخر في المسيحية لم تبلغ حدًّا يمكنها من تحويل «الكنيسة» إلى طائفةٍ صغيرة لا تعترف إلا بأعضائها، طائفة مصممة على أن تعيش وفقًا لأعلى المُثُل، أو أن توجِّه الجماهير — وذلك أشق — إلى أن تعيش وفقًا لأعلى المُثُل، وقد سمحت المسيحية إلى حدٍّ ما، عن طريق الرهباني وعن طريق إصرارها على توافر مؤهلات خاصة في القساوسة الدنيويين، بدورٍ تقوم به الأقلية المثالية، ونجحت — كما سوف نرى في الفصل المقبل — حتى عهد لوثر في السيطرة على أولئك الذين كانوا يريدون فعلًا أن يُنزلوا السماء إلى الأرض، سماء إلههم الخاصة بهم — وذلك بامتصاص هذه الفئة أحيانًا، وبنبذها أحيانًا أخرى. غير أن هذه الأوجه من العقيدة المسيحية التي تتعلق بالعالم الآخر لها برغم ذلك أهمية قصوى؛ ذلك أن هذه الأوجه هي النغمات الصادقة للمسيحية، التي تجعل منها — مجتمعة — شيئًا أكثر من الملاءمة التجريبية الانتهازية مع عالَم معقَّد. وقد كُتبت ملايين الكلمات في هذا الموضوع. وليس بوسعنا هنا إلا أن ننتقي بعض الملاحظات الواضحة.

ومن أوضح هذه الملاحظات، بل لعلها نوع من الأساس في المسيحية في شتى صورها، ملاحظة يمكن أن نعبِّر عنها تعبيرًا بسيطًا إذا قلنا إنها عدم الثقة بالجسد، ونبذ ما للشهوات الطبيعية البشرية، وما للغرائز البشرية من قدرة على توجيه السلوك البشري. وقد ذُكر انعدام الثقة هذا بطريقةٍ عقلية — وإن تكن من الواضح أقرب إلى أن تكون أسلوبًا عاطفيًّا عميقًا منها إلى نظرية من النظريات — في أحد تعاليم المسيحية الكبرى، وهو الخطيئة الأولى، أو «ميل الإنسان الطبيعي نحو السوء» (وسوف نرى في فصلٍ مقبل أن أشد أنواع الهرطقة الحديثة هولًا مما جابهته المسيحية المذهب الذي يقول ﺑ «ميل الإنسان الطبيعي نحو الخير»، وهو المذهب الذي شاع أول ما شاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر). وهذا الشعور بعدم الثقة في الإنسان الطبيعي، الذي يتكوَّن من لحم ودم، يسري خلال المسيحية كلها، ويتخذ صورًا متعددة. ويميل عصرنا هذا الذي تسوده آراء فرويد إلى الاعتقاد بأن المسيحيين الأوائل كانوا مشتغلين بأمور الجنس، وأن خطيئة آدم وحواء الأولى كانت الاتصال الجنسي، وأن الشهوة عند الإنسان الطبيعي التي لا تضع المسيحية فيها أي نوع من أنوع الثقة هي الشهوة الجنسية. وليس من شك في أن هناك جانبًا كبيرًا من الأدب المسيحي يؤكد هذا الانطباع. ونستطيع من مجموعة هذا الأدب المسيحي أن نستخلص عددًا من الحالات التي قد يشغل تاريخها محللًا نفسانيًّا طوال حياته.

وقد يكون من الأقرب إلى الإنصاف أن نقول إن أكثر الفكر المسيحي لا يضع ثقة في الإنسان الطبيعي كله — شهواته للطعام، والشراب، واللعب، والقتال، والزهو، وكذلك الانهماك في الجنس. وقد كانت المسيحية الكاثوليكية دائمًا تجعل مكانة للإنسان الفذ الذي يحب أن يخضع الجسد، وإن كانت لم تشأ — بطبيعة الحال — أن تسمح للفرد بإخضاع جسده إلى حد الانتحار. وكانت المسيحية البروتستانتية أقل من ذلك نجاحًا مع أمثال هؤلاء الناس الذين اضطروا في ظل البروتستانتية إلى تحويل دافع الزهد عندهم نحو إصلاح سلوك الآخرين فوق هذه الأرض. ولم تتخذ المسيحية الكاثوليكية أي إجراء بطولي مع الإنسان العادي. والواقع أن أسلوب الحياة الكاثوليكية التقليدي لم يختلف — من الناحية العملية — عن أسلوب الحياة عند الإغريق في عهد الثقافة العظمى، كما قد يحسب رجل من رجال الفكر المحض، يبدأ بفكرة الخطيئة الأولى وبالأدب المسيحي القديم. وقد ذكرنا أن الإغريقي في العصر العظيم كان يرى أن الإفراط في الأكل والتفريط فيه، وأن النَّهم والامتناع، هذا وذاك كلاهما شر، وأن الرجل العاقل يأكل باعتدال ويتخير الطعام. وكذلك الأمر أيضًا عند الكاثوليكي الطيب. وكان النهم من غير شك عند المسيحي أسوأ كثيرًا من الامتناع عن الطعام — أو هو على الأقل أكثر احتمالًا، وهو لذلك أشد خطرًا. وبقي بعد هذا في أساس المشاعر المسيحية (وربما كان في البروتستانتية وحدها) مما يتصل بهذا الموضوع شيء ينعكس انعكاسًا حسنًا في القول المشهور: «خيرٌ للمرء أن يأكل ليعيش من أن يعيش ليأكل.» ولكن الرأي القائل بأن المسيحية عقيدة كئيبة، وأن المسيحي ليس له أن يستمتع بالطعام، والشراب، وممارسة الحب، في هذه الدنيا، رأي خاطئ. إن الاتجاه نحو الزهد موجود في المسيحية، وإذا أنت أصغيت إليه بأذنٍ ودية، أو أذنٍ معادية، رنَّ في أذنك في كلتا الحالتين. غير أن هناك نغمات كثيرة أخرى، ترن في وقتٍ واحد على أوتارٍ معقَّدة تعقيدًا لا يُصدَّق.

وثمَّة نغمة أخرى، وهي نغمة الإيثار، أو انعدام الشعور بالذات. وهنا أيضًا نلتقي بإحدى المشكلات المجردة الكبرى في الفلسفة، وهي مشكلة الفردية أو الجماعية. وهنا أيضًا نجد في أدب المسيحية الفخم مجالًا يكاد يكون كاملًا، يمتد من طرف إلى طرف؛ فرأي يقول بأن المسيحية عقيدة فردية جدًّا، تهتم بخلاص الروح عند كل فرد من الأفراد. والمسيحي في لحظات التجلي ينفرد بالله، ويكون مسئولًا أمام الله وحده. والدولة، والمهنة، والأسرة، كلها أمور تشغل الذهن في هذه الدنيا عن الطريق القويم. ويمكن أن نستشهد بيسوع ذاته ضد روابط الأسرة:

«وإذ هو يتحدث إلى الناس تجد أمه وإخوته واقفين في الخارج، يريدون أن يكلِّموه. فقال له أحدهم: انظر تجد أمَّك وإخوتك واقفين في الخارج، يريدون أن يكلموك. ولكنه أجاب قائلًا لمن سأله: مَن تكون أمي؟! ومَن يكونون إخوتي؟! ثم مدَّ يده نحو تلاميذه، وقال: هؤلاء هم أمي وإخوتي … لأن مَن ينفِّذ مشيئة الآب في السماء يكون أخي، وأختي، وأمي.»

ومع ذلك فإن هذا القول بعينه يشير إلى الطريق، إلى وجه من أوجه الجماعية المسيحية؛ فالناس جميعًا في الحياة المسيحية الصادقة وحدة، وليست الجماعات الثانوية إلا انحرافات، بل هي أسوأ من ذلك؛ فهي اتجاه نحو الذات المحبَّة لنفسها. والمهم أن يتجنَّب الفرد كل ضروب الانتصار على الآخرين، وكل نجاح على أساس المضاربة، وكل أمر من الأمور التي تثير ذاته وتزيد من حدتها. وكما أن المسيحية — باعتبارها ديانة عظمى في هذه الدنيا — وبخاصة في صورتها الكاثوليكية، لم تبالغ قطُّ في الزهد، فكذلك نجد أنها لم تبالغ قطُّ في إبادة الذات الفردية. إن الأفراد المتنافسين قد اعترفوا بالمسيحية في هذه الدنيا بنجاح تام. وحتى نابليون كان مسيحيًّا بالاعتراف. ولكن المَثَل الأعلى لإنكار الذات كان — برغم هذا — قائمًا. إن المسيحية تحاول أن تروِّض الجموح الشارد في الروح الإنسانية المتنافسة، وتحاول أن تُخضِع حبَّ التسلط الذاتي، والتوحش، والزهو، والكبرياء. وغير ذلك من مظاهر «الإنسان الطبيعي»، وهي مظاهر لا تثق بها كما لا تثق بشهواته الأبسط في الطعام، والشراب، والجنس.

وثمَّة نغمة ثالثة في المسيحية، ليست إلا الوجه الآخر من انعدام الشعور بالذات؛ فليس من واجب المسيحي أن يُخضِع ذاته فحسب، إنما ينبغي له كذلك أن يفتح قلبه بالمحبة والرحمة لكل زملائه. وكثيرًا ما كان العقليون المحدَثون يُصعقون عندما يعرفون أن بعض المسيحيين يُحرِقون، ويُسجِنون، أو — إن لم يفعلوا ذلك — يكبتون زملاءهم الذين يختلفون معهم في الأمور التي تتعلق بأصول الدين. كان العقليون يُصعقون لذلك حتى لقد رفضوا أن يستمعوا إلى نغمة الحب (أو الإحسان) هذه في المسيحية، ولكن الحب قائم، والمسيحية بدونه لا تتم. وليست هذه النغمة هي بعينها التي نسميها اليوم الإنسانية العاطفية. وهي ليست نغمة الإشفاق بصوره المختلفة: على المجرمين، والعاجزين، والفاشلين، وكل أولئك السفلة الذين نتعرف إليهم بين المصلحين الصليبيين من أي نوع من الأنواع، وذلك لأمر واحد، وهو أمر هام؛ ذلك أن المسيحي يجب عليه أن يحب السفلة كما يحب العلية، وهو واجب يبدو أن أكثر الإنسانيين الدنيويين لا يقرونه. إن الرحمة الممزوجة بالمحبة — بكل ما لها من علاقات بالعواطف الرقيقة — فيها مسحة من الشدة، ومن الاستسلام، والخضوع في وجه عالَم لا يتشكل كله بإرادة الإنسان؛ لأن المسيحي ينظر إلى الخطيئة كأنها حقيقة، ولا بد له من العفو عن المذنب، ولا بد له من الإشفاق عليه، أو لا بد له في الواقع أن يحب المذنب بشكلٍ ما. ولكنه لا يحب المذنب لذنبه، وهو إذ يمقت الذنب لا بد له أيضًا من أن يمقت المذنب بشكلٍ ما. وفوق هذا كله لا ينبغي له أن يعتبر الذنب وهمًا، أو نتيجة لبيئةٍ مادية واجتماعية سيئة فحسب، أو نتيجة لعوامل إنسانية بحت. فالرحمة الممزوجة بالمحبة عند المسيحي إذن لا يمكن أن تكون تفاؤلًا عامًّا فيما يتعلق بكمال الإنسان، ولا يمكن كذلك قطُّ أن تكون محض إنسانية.

ونغمة رابعة تسري في المسيحية، هي انعدام ثقتها بضروب معينة من التفكير. وهنا نلتقي بصعوبات تتعلق بمعاني الألفاظ، كما نلتقي بالصعوبات العادية فيما يتصل بمدى التفكير المسيحي وعالميته. إن المسيحية ليست ضد الفكر بمعنًى مبسط؛ فلقد رأينا من قبل أن أصولها الدينية بناء عقلي على كثير من الدقة والتعقيد. وسوف نرى أن المسيحية المنظمة لما بلغت أوجهَا في العصور الوسطى أولت العقل تقديرًا كبيرًا. ولكن المسيحية كانت دائمًا تَعدم الثقة في نوع التفكير الذي تسميه اليوم «التعقُّل»، وكانت دائمًا تخشى أن يستبعد العقل البشري بتفكيره عنصرَ ما وراء الطبيعة. ومِن ثَمَّ فإنه وإن يكن من الظلم الفاحش للمسيحية أن نقول إنها كانت دائمًا تقف في وجه الحرية العقلية الكاملة، ومن الظلم الفاحش أن نقول إن العلم الحديث قد تطور رغمًا عمَّا في المسيحية من غموض، أقول إن كان هذا أو ذاك من الظلم، إلا أن في كلا هذين الحكمين المتطرفين مسحةً من الصدق؛ فالمسيحي — على أقل تقدير يجب عليه عند نقطة معينة أن يبدأ في الإيمان بما لم تُقِم الدليلَ عليه تجربتُه الحسية، وأدواته، وعلمه. والواقع أن المسيحي يرى في العقل المحض تقريرًا من المتعقل لذاته غير مستحَب، أو ربما يرى فيه إثمًا أسوأ من تقرير الذات الذي يبديه الرجل الحسي أو المتظاهر. إن الرجل الطبيعي يستطيع أن يفكر كما يستطيع أن يشتهي. ولا يستطيع أن يكون ذا إيمان إلا الرجل الروحاني، ولا يستطيع غيره أن يملك «مادة الأمور التي يضع فيها آماله، والدليل على الأمور التي لا تُرى»؛ لأن المسيحية خلال عصورها كلها آمنت إيمانًا ثابتًا بوجود الله. وهذا الكون في نظر المسيحي مشكلة في نهاية الأمر — مشكلة عقلية، كما هي مشكلة خلقية وعاطفية. وهناك إله لا يجد مشكلة في أي أمر من الأمور، إله — إذا أجزنا لأنفسنا أن نستخدم في وصفه تعبيرًا بشريًّا — يفهم الكون. وليس بوسع الناس أن يضعوا أنفسهم في مكان الله، وهم لا يستطيعون ذلك قطْعًا بنوع النشاط الذي يألفونه في علاقاتهم اليومية بعضهم ببعض فوق هذه الأرض. وإنما يستطيعون عن طريق تدخُّل الإله تدخُّلًا حرًّا معجزًا أن يكتسبوا — بلون آخر من ألوان النشاط. نوعًا من الوثوق يتجاوز ما نسميه المعرفة.

يستطيعون أن يكونوا على ثقةٍ — وإن كانوا لا يستطيعون أن يعرفوا كما يعرفون مثلًا أن شجر البلوط ينمو من جوزة البلوط — من أن الله موجود، وأن الكون ليس بالمكان المحير، أو حتى المعادي، كما يبدو للرجل حينما يفكر، أو يدبِّر، أو يساوره القلق، وأن الكون حقًّا قد خُلق للإنسان ولقصة خلاصه. ونوع النشاط، وحتى «النشاط» هنا كلمة يشك في استعمالها من ناحية الأصول الدينية، الذي يصل الناس عن طريقه إلى الوثوق، يجب أن يكون له اسم من الأسماء — على الأقل كأنواع النشاط البشري الأخرى، ما دمنا نحن البشر مرتبطين بالألفاظ بدرجةٍ ليس منها مفر. هذا النشاط نسميه «الإيمان» وهو ليس بالتفكير، أو الشعور، أو أي شيء آخر يستطيع السيكولوجي أو الفسيولوجي أن يحققه في معمله، كما لا يستطيع الكيموي في معمله أن يحقق معجزة العشاء الرباني.

المسيحي إذن يتشبث بوجود الله، ويثبت على الاعتقاد بأن هذه الدنيا، دنيا الحواس، ليست بالكون كله، ولكن المسيحية — وهذه هي النغمة الأخيرة التي سوف أطرقها — تعزو إلى عالم الحواس أهميةً عظمى، ودرجة كبرى من الواقعية؛ فهذه الدنيا هي المكان الذي يُمتحن فيه المرء لدخوله في العالم الآخر. إن إيمان المسيحي الذي جاهدنا فيما سلف أن نفصل فصلًا تامًّا بينه وبين أنواع النشاط البشري الأخرى، يعلِّمه أن أنواع النشاط الأخرى هذه لا غنَى عنها لخلاصه، وأنه لا بد من إحكام قيادتها هنا في هذه الدنيا. إن المسيحي الطيب رجل طيب، وأقصد أنه طيب بالمعنى الذي أوضحه رجال الأخلاق من الإغريق والعبرانيين وضوحًا تامًّا.

ولكن المسيحي — فوق هذا — يريد غيره من الناس أن يكون طيبًا. إنه يريد أن يجعل هذا العالم الناقص أقرب ما يكون إلى ذلك العالم الكامل الذي يحدِّثه عنه إيمانه.

إن المسيحية عقيدةٌ مصلِحة جدًّا من الناحية الخلقية، وهي — كما سوف نرى بالتباين عندما نبلغ العقيدة المتفائلة في الكمال الإنساني الذي نادى به أسلافنا في عصر النور في القرن الثامن عشر — عقيدةٌ متشائمة من عدة نواحٍ، ليس لديها أفكار محسوسة خاصة بها تتعلق بالتقدُّم في هذه الدنيا، في حين أن لديها أفكارًا محددة جدًّا بشأن هذه الدنيا باعتبارها، واديًا لا بد أن تسيل فيه الدموع. ومع ذلك فقد كانت المسيحية قبل القرن الثامن عشر بوقت طويل، وقبل ظهور نظريات التقدُّم أو التطور والإيمان بها بوقت طويل أيضًا، ديانة مصلِحة من الوجهة العملية، يهمها أن تجعل هذه الدنيا مكانًا أفضل للبشر، مكانًا أكثر سلامًا، وأكثر رفاهية، وأكثر ودًّا، وأكثر رقة مما هو. كانت المسيحية تؤمن بالإصلاح، إن لم تؤمن بالتقدُّم الحتمي.

وبالرغم من أن التواضع من أعظم فضائل المسيحية، إلا أن المُثُل العليا لأسلوب الحياة المسيحية تبدو «أرستقراطية» للناظر إليها من الخارج، وهي على الأقل أرستقراطية مثلما كان المَثل الأعلى لأسلوب الحياة عند الإغريق؛ فإن ترويض شهوات المرء الكبرى، والقضاء بتاتًا على الشهوات الأخرى التي لا تظهر ظهور الشهوات الحسية، كشهوة الشهرة، والثراء، والنفوذ، والموازنة الدقيقة بين العقل والإيمان، والعمل الثابت مع تصور العطف دائمًا نحو الزملاء حتى تكون هذه الدنيا مكانًا أفضل؛ إن مثل هذا العيش لم يكن قطُّ ممكنًا للغالبية العظمى من الناس. ولكن المسيحي برغم هذا لا بد أن يأمل دائمًا أن يعيش الناس جميعًا على هذه الصورة. وهنا نلمس الفارق الحقيقي بين المُثُل الرفيعة الشاقة التي سادت العصر الأعظم في تاريخ الإغريق، وبين مِثْل تلك المُثُل في المسيحية. إن الرجل المهذَّب الإغريقي — كما يتمثل في أرسطو — لا يأمل أن يرفع الجماهير إلى معاييره، ويكفيه أن يُعَدُّوا الأساس المادي الذي يمكنه من أن يحيا حياة الجمال والخير. أما «الرجل المهذب» المسيحي فلا يمكن أن يكون كذلك بالمعنى الذي اكتسبته هذه الكلمة في عصرنا، وهو المعنى المحدود الذي فيه شيء من التعالي. إنما هو يريد للعالم كله أن يكون مسيحيًّا. ولا بد له من أن يمد المعايير الأرستقراطية إلى مستوًى ديمقراطي.

ونستطيع بصفة عامة جدًّا أن نقول إن «المسيحية» المنظمة — بروتستانتية وكاثوليكية — قد أنجزت ما كان قادتها يرونه توفيقًا بينها وبين هذه الدنيا، دنيا اللحم والدم، وإنها لم تحاول أن تفرض الاتجاه نحو الزهد عنوة، أو تفرض إنكار الذات إنكارًا تامًّا، أو حب الزملاء، أو تجاوز العقل المتحفظ في استعلائه وتصوُّفه، أو الرغبة القوية في القيام برسالة تطهير هذه الدنيا القذرة؛ فالمسيحية خفَّفت وطأة الريح على الحَمَل الذي جُذَّ شَعره، بل وخفَّفت قطْعًا۔ باعتراف خصومها — وطأة الريح على راعي الحَمَل. أي إن الكنيسة قد قبلت عالم الغني والفقير، والقديم والمذنب، كما هو، ولم تتطلع إلى أكثر من أن تبقى الأمور على أرض مستوية إلى حد كبير. أما مسيحية كل يوم، التي تخلو من البطولة، فقد تعرَّضت طوال القرون لنوعين من الهجوم: هجوم من الداخل، وهجوم من الخارج.

أما الهجوم من الداخل فمأتاه رجال ونساء يريدون أن يدفعوا المسيحية فوق هذا التوفيق مع اللحم والدم. وليس من شك في أن محاولة فهم التجربة المسيحية من الخارج بالطرق التاريخية الطبيعية، يشوِّه هذه التجربة. ولكنا يجب أن نتمسك بالتجربة الأخيرة؛ فمن ناحية من النواحي، وهي الناحية التي اخترنا هنا عمدًا أن نسير وفقًا لها، كان سنت فرانسيس الأسيسي، وكالفن ووزلي، ومسز ماري بيكر إدي — مهما اختلفت تجربتهم المسيحية الباطنية — مسيحيين هاجموا جميعًا المسيحية الرسمية القائمة باسم مسيحية أنقى وأعلى في مثاليتها. وفيما خلا ذلك كانوا — بطبيعة الحال — أشخاصًا مختلفين. وعملهم في هذه الدنيا شديد الاختلاف. ولكن نمط التفكير يجب أن يتضح؛ ذلك أن الكنيسة في لحظةٍ معينة من الزمان والمكان تبدو لأحد أعضائها غير مخلصة للمُثُل المسيحية؛ فهي تظهر كأنها تسمح للمسيحيين أن يزدادوا قوة وثراء، وتسمح لهم بارتكاب الزنا، وتسمح لهم بالتخمة والكبرياء، وأن يكونوا عاديين، ما داموا يرودون الكنيسة. وهذا ما لا يطيقه الثائر؛ فهو يعود إلى المسيح، ويطهِّر المسيحية من انحلالها، ويحث العامة من الرجال والنساء أو يوحي إليهم أن يأخذوا دينهم مأخذ الجد.

وهذا الثائر المثالي مشكلة دائمة للمحافظين الذين يديرون الكنائس المسيحية، كاثوليكية كانت أم بروتستانتية، كما يديرون في الواقع أكثر المؤسسات البشرية. وليس من شك في أن الكثيرين من هؤلاء المحافظين يقولون كذلك — أمام الجمهور على الأقل — إن هذا الثائر هو بوجه عام باعث على التنبيه والإيحاء. ومهما يكن من أمرٍ فإن على المحافظ أن يقابله. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى لوثر تنجح عادة — ولا تنجح دائمًا — في ترويض هؤلاء الثائرين، وفي امتصاصهم في جسم التقاليد المسيحية، التي كانوا من غير شك يؤدون فيها عملية التخمير التي لها قيمتها. هكذا يبدو للخارجي — على سبيل المثال — مصير سنت فرانسيس الأسيسي، الذي ربما انصرف إلى الهرطقة لو أن سلطات الكنيسة عاملته بصرامة أشد. أما لوثر فإن المثاليين المسيحيين والمجددين الأكثر تطرُّفًا كانوا في الواقع من المنحرفين — وقد ثاروا فعلًا على الكنائس التي لم تكن لها — فيما يبدو — عقائد ثابتة يثور المرء عليها. وفيما دون هؤلاء الثائرين المتطرفين، الذين كانوا كذلك مثاليين متطرفين، كان هناك دائمًا مسيحيون ممن يمارسون المسيحية يَسمُون فوق المستوى غير البطولي للمسيحية العادية — وهؤلاء رجال ونساء لا يكفون عن حثِّ زملائهم على حياةٍ أقرب — على الأقل — إلى المُثُل المسيحية من حياة الغالبية.

أما الهجوم من الخارج فهو ينبذ المُثُل المسيحية، أو كثيرًا منها، وكان لا بد للمسيحية المنظمة أن تواجه صعوبة التوفيق بين مُثُلها الأرستقراطية وبين ضرورة الوصول إلى المبتذل وقبول هذه الدنيا الناقصة بعض القبول، وكان عليها كذلك أن تواجه رجالًا لا يحبون مُثُلها، حتى المخفَّفة منها التي قبِلتها المسيحية في أكثر الأحيان من الناحية العملية. وكان هؤلاء الخصوم عديدين متنوعين، وبخاصة عندما تمتعوا بشيء من حرية الكلام في الأربعمائة السنة الأخيرة أو ما يقرُب منها. وكان من بين هؤلاء دعاة مذهب اللذة، والطبيعيون، وهم أولئك الرجال الذين يعتقدون أن الكائنات البشرية يجب أن تعمل ما تشاء بقدْر استطاعتها، وأن الحاجات البشرية طيبة في أساسها، وأن الجسم البشري شيء جميل، وأن الملذات الجسدية شيء كذلك جميل، هؤلاء هم الرجال الذين يرون المسيحية، حتى في ممارستها العادية، كئيبة، زاهدة، غير واثقة بالجسم وملذاته. وقد كان من بين خصوم المسيحية الماديون الفلسفيون، وأصحاب العقول الجامدة الذين لا يحبون أفلاطون ومؤلف أو مؤلفي الإنجيل الرابع، والوضعيون الذين يستنكرون مثل هذه الألفاظ، والروح، والإيمان والنفس. وكان من بينهم كذلك المتشككون الحقيقيون، وهم رجالٌ لا يثقون بالسماء كما لا يثقون بهذه الدنيا، وكان من بينهم كذلك كلُّ مَن ينكر إمكان وجود ما فوق الطبيعة، أو المعجزة، أو المقدس — على اختلاف آرائهم الوضعية في الكون. وكان من بينهم أيضًا العاطفيون الإنسانيون الذين ينبذون مذهب الخطيئة الأولى فيعتقدون تبعًا لذلك أن الناس طيبون بالطبيعة، وأن بعضهم لا يتصف بالخبث إلا لأن المجتمع يريد لهم أن يكونوا كذلك.

وقد كان للهجوم من الخارج في القرون القلائل الأخيرة من الأهمية ما لم يكن له منذ الأيام الأخيرة من عهد الوثنية الإغريقية الرومانية. وكان على المسيحية في الأزمنة الحديثة لا أن تقابل هؤلاء وحدهم، من أمثال سنت فرانسيس، الذي كان يرى أن المسيحيين لا يشبهون المسيح بدرجة كافية، إنما كان عليها أن تقابل أولئك الذين كانوا يرون أن المسيح نفسه أسطورة، أو رجلًا جريئًا في الرأي، أو بدائيًّا، أو حتى رجلًا منحرف التفكير. كان على المسيحية في إيجاز أن تقابل تحديات كثيرة وأن تواجه جبهات متعددة. وقد شغلت قصة أصول هذه التحديات أو قصة نشأتها، وصراعها مع قيم المسيحية القائمة، مكانة رئيسية في تاريخ الفكر في بلاد الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤