الفصل الثامن

صنع العالم الحديث: (أولًا) الإنسانية

عاش الناس طويلًا في الأزمنة «الحديثة» ولكن عقولهم لم تُطبَع بهذه الحقيقة انطباعًا قويًّا. ويُعَدُّ عصرنا — الذي اعتدنا أن نَعُدَّ بدايته عام ١٥٠٠ بعد الميلاد — أول عصر يصوغ هذا الاصطلاح صياغة واضحة، ويطبقه تطبيقًا لا تناقض فيه. ولفظة «حديث» بالإفرنجية modern مشتقة من ظرفٍ لاتيني معناه «في هذه الآونة». وقد ظهرت الكلمة في الإنجليزية بمعناها الشائع، الذي يقابل «القديم» في عهد إليزابث. وهذا الوعي بالمشاركة في الجديد، في طريقة من طرق الحياة تختلف عن طريقة السلف، وقد كان هذا الوعي بطريقة من طرق الحياة كما أحسه الكثيرون عند حلول عام ١٧٠٠م وعيًا بحياة «تفضل» كثيرًا طريقة السلف — هذا الوعي في حد ذاته سِمَة من أوضح سمات ثقافتنا الحديثة.

وهذه الثقافة غاية في التعقيد، ونحن لا نستطيع أن نعرف «الحديث» تعريفًا محددًا هنا، ولكنَّا نأمل أن نصوغ شيئًا فشيئًا في الفصول القادمة تعريفًا له. وهنا نجابه مشكلة فصل «الحديث» عن «الوسيط». وهي مشكلة عويصة؛ لأن ملايين المواقف المحسوسة التي نحاول أن نختصرها في هذين المصطلحين العامين لا ترتبط بالطريقة البسيطة التي تتضمنها عاداتنا اللفظية البلاغية في التفكير. إن الوسيط لا يتوقف حيث يبدأ الحديث عند نقطة واحدة في مدار الزمن، وليس الحديث شروقًا ينتهي به ظلام الليل الوسيط. وليس الحديث وليد الوسيط، بل إن الوسيط لم يبلغ مرحلة الرجولة.

والواقع أن التفرقة بين الوسيط والحديث قد أهمت المؤرخين المحترفين كثيرًا في الخمسين السنة الأخيرة أو ما يقرب منها؛ لأن البحث قد طمس التمييز الواضح بينهما الذي رسم حدوده أسلافنا؛ فقد كان التقسيم الفتري بين حديث ووسيط واضحًا في جميع كتب الدراسة في أواخر القرن التاسع عشر: والنهضة، والإصلاح الديني، والإنسانية، والمكتشفات الجغرافية، واختراع الطباعة، وفصم الوحدة الدينية الوسيطة — كل ذلك قد تم حدوثه بصورة واضحة فيما بين عامي ١٤٥٣م و١٥١٧م. وقد حدَّد الأمريكان خاصة للتاريخ الحديث نقطة بداية يرتاحون إليها كثيرًا، وهي عام ١٤٩٢م. وقد تغيَّر كل ذلك اليوم. وردت النهضة خاصة إلى الوراء حتى بلغت ما كان يُعَدُّ في وقتٍ ما «عصورًا وسطى» غير مشوبة فكاد يختفي التمييز بين الوسيط والحديث. وتقارب الاثنان، كالقطارين حين يصطدمان في لحظة واحدة.

هل معيارك «إحياء المعرفة» وتقدير أصح للثقافة اللاتينية الوثنية؟ إن المرحوم شارلس ﻫ. هاسكنز قد دفع في كتابه «نهضة القرن الثاني عشر» هذا المعيار إلى الوراء حتى توغَّل في الأزمنة الوسيطة. أم هل معيارك التقدُّم في العلوم والتكنولوجيا؟ وقد رأينا من قبلُ أن القرون الأخيرة من العصور الوسطى كانت قرون تقدُّم علمي ملحوظ. والواقع — كما يحب الأستاذ جورج سارتون أن يشير — أن الإنسانيين الأصليين لعهد النهضة، والأدباء ورجال الدين، والأخلاقيين، كانوا على الأقل من حيث احتقارهم لنبش العلوم الطبيعية ومن حيث «الاستنباط» ومن حيث احترام سلطان الكلمة المكتوبة كما كان المدرسيون. بل ربما كان من الممكن أن ندفع عن الرأي الذي يقول بأن «النهضة» كما نعرفها معناها «تقهقر» في نمو العلم الحديث. أم هل معيارك اقتصادي، أي نمو اقتصاد مالي، ونظام للبنوك، واتساع في التجارة؟ إن البحث الحديث يدفع أكثر ذلك إلى الوراء حتى عصر الصليبيين، وأوج العصور الوسطى أم هل معيارك قيام الدولة التي عمادها الوحدة الأرضية لتحل محل مجموعة الملكيات الإقطاعية؟ إن من المؤكد أن فرنسا وإنجلترا كانتا دولتين أرضيتين عندما التحمتا في حرب المائة عام في القرن الرابع عشر.

ولكن معالجة الموضوع من الناحية المضادة ممكن أيضًا. متى تنتهي العصور الوسطى؟ إننا إذا أردنا الجدل قلنا إنها لم تنتهِ قط. إن أية افتتاحية صحفية تستطيع أن تشير اليوم إلى «الوسيط» و«الإقطاعي» في شيء من التحقير — كقولها «شوارع بوسطن الوسيطة» و«أصحاب المكاتب الإقطاعيون في واشنطن». وتستطيع إن كنت أكثر جدية واخترت أمثلة محسوسة في مختلف ميادين الثقافة البشرية أن تجد الطرق الوسيطة متغلغلة في وضوح شديد في أوروبا الغربية حتى القرن السابع عشر؛ فهناك النظام القضائي في إنجلترا، ونظام تسليك الأراضي في فرنسا، والمكاييل والموازين الوسيطة في كل مكان، وكثير أيضًا في كل مكان — في أوروبا البروتستانتية وأوروبا الكاثوليكية على السواء — مما حاولنا في الفصول السابقة أن نَصفه بأسلوب الحياة المسيحية. إن المستعمرين البريطانيين الذين وفدوا في القرن السابع عشر إلى فرجنيا وإنجلترا الجديدة جلبوا معهم قدْرًا مذهلًا من صفات العصور الوسطى؛ جلبوا معهم نظام الساحات الشعبية، وأدوات التعذيب التي تُوضع في الأرجل والأعناق، والاعتقاد في الساحرات، وآثارًا من فن بناء المنازل في العصور الوسطى. بل وقد جلب مستعمرو فرنسا الجديدة نظام السادة ونظام الإقطاع، الذي لا تزال آثاره باقية في إقليم كويبك.

وإذن فقد امتدت العصور الوسطى إلى العصر الحديث بطريقةٍ لا تمثلها في الواقع حياة أي كائن عضوي بمفرده. ولا يستطيع التاريخ القصصي التقليدي أن يحيط حقًّا بمركبات التحول الثقافي. ولن نتخلى هنا بأية وسيلة عن المعالجة التاريخية، ولكنا سوف نحاول أن ندمجها بالمعالجة التحليلية. وفي الفصول الثلاثة التالية سنعالج بناء طريقة الحياة الجديدة في القرون المتأخرة، الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر. وسوف ننظر من أجل التحليل في الفن، والأدب، والدين، والعلم والتكنولوجيا، كل على حدة، محاولين ألا ننسى أنها كانت في الحياة الواقعية لمجتمعنا متحدة اتحادًا لا ينفصم.

وبهذه الطريقة سوف نتخلى عن المعالجة الزمنية التقريبية التي لجأنا إليها حتى الآن، وسوف نسير في اتجاه مضاد للقاعدة القائمة في كتابة التاريخ، التي تقبل التقسيم إلى عصورٍ تقسيمًا تقريبيًّا بالقرون — وإن كان لا بد من دفع النهضة إلى الوراء حتى تبلغ القرن الخامس عشر، بل والرابع عشر. وسوف نعالج الإنسانية، والبروتستانتية، ومذهب التعقل، باعتبارها أجزاء مكوِّنة للحياة العقلية في الغرب التي يمكن من أجل التحليل أن تنفصل عن الكل، وتعالج كوحدة خلال القرون التي تقع على وجه التقريب فيما بين عامي ١٤٥٠م و١٧٠٠م التي تفصل العصور الوسطى عن عصر النور. وموضوعنا الرئيسي هو: كيف تحولت النظرة إلى الحياة في العصور الوسطى إلى نظرة أخرى للحياة في القرن الثامن عشر؟ وهذه النظرة إلى الحياة في القرن الثامن عشر، لا تزال، في أعماقها هي نظرتنا إليها، وبخاصة في الولايات المتحدة — بالرغم مما دخل عليها من تعديل في القرنين الأخيرين؛ فالقرون الأخيرة: الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، هي من هذه الناحية «فترة انتقال» في أساسها، وهي في صميمها سنوات الإعداد لعصر «النور». وفي هذا الانتقال نجد الإنسانية، والبروتستانتية، ومذهب التعقُّل (والتاريخ الطبيعي) تفعل فعلها في زعزعة النظرة الكونية الوسيطة، والإعداد للنظرة الكونية الحديثة.

إنها تفعل فعلها — كما هو شأن الأفكار دائمًا عن طريق قلوب الرجال والنساء وعقولهم، وهم رجال ونساء ليسوا — البتة — من أصحاب الفكر الخالص. وهي لا تعلل كل التاريخ الحديث، بل هي — من ناحيةٍ ما — أفكار مجردة نبنيها في عقولنا مجاهدين أن نجعل للماضي معنًى. إننا نعتقد ما نعتقد اليوم، ونسلك سلوكنا، بسبب ما قاله وما فعله — إلى حدٍّ ما — منذ عدة قرون، الرجال الذين نسميهم إنسانيين، أو بروتستانت أو متعقلين.

اصطلاح «النهضة» و«الإصلاح الديني»

حدث ذات مرة أن توءمين من أصحاب الشعر الأحمر؛ الأول: اسمه «النهضة»، والثاني: «الإصلاح الديني»، نالهما الاضطهاد ولحقتهما الإساءة، فانقلبا على زوجة أبيهما: الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، وهي أمٌّ شريرة برغم ضَعفها.

إن كتب التاريخ — بطبيعة الحال — لم تروِ القصة قطُّ بمثل هذه البساطة وهذه الطريقة غير الكريمة. ولم يكن بوسعها البتة أن تبدأ الموضوع كما تبدأ الحكاية الخرافية. غير أن أكثر الأمريكان — إذا استثنينا الرومان الكاثوليك — ممن درسوا شيئًا عن تاريخ أوروبا خرجوا بفكرة أن الحركتين اللتين نطلق عليهما «الإصلاح البروتستانتي» و«النهضة» كانتا متحدتين بطريقةٍ ما في وحيهما والغرض منهما. كانت الحركة الأولى تتجه نحو الحرية الدينية، والثانية تتجه نحو الحرية الفنية، وكلتاهما تعملان من أجل الحرية الخلقية، ومن أجلِ ما أصبح الديمقراطية في القرن التاسع عشر بطبيعة الحال. كلتاهما تهدف إلى «تحرير» الفرد العادي من القيود التي ائتلفت العادة والخرافة لكي تفرضهما عليه في العصور الوسطى.

وحتى هذا الرأي الذي قد يضلِّل كثيرًا ليس «كله» خطأ؛ فما أكثر أتباع لوثر الذين شعروا بنوع من السمو، بإحساس التحرر من الالتزامات الروتينية التي تحصرهم، وبثقة جديدة في قدراتهم الخاصة. ونعرف حق المعرفة أن الفنانين ورجال الأدب، والعلماء والمكتشفين، أحسوا جميعًا بدفعة العوالم الجديدة التي يمكن أن تغري، والفرص الجديدة لأداء الأعمال بشتى ضروبها، وذلك بطرقٍ لم يطرقها أحد من قبل، ومِن ثَمَّ فهي طرق تجعلهم يحسون بأنفسهم، وبأنهم شخصيات فذة. وبالرغم مما في المصطلحات من غموض، إلا أن هناك مغزًى ما من نسبة العصور الوسطى إلى «التسلط» والنهضة والإصلاح الديني إلى «التحرر»، ولكنك إن وقفت عند هذا الحد كان المغزى ضعيفًا.

ذلك لأن الوقائع أشد تعقيدًا من الصيغ العامة التي تستهدف تفسيرها؛ فلقد جاء لوثر إلى سلطته ليستعين بها على إخماد «ثورة الفلاحين». كما أن كثيرًا من الإنسانيين المتحررين في عهد النهضة أقاموا أساتذة الأدب الإغريقي ثقاتًا (متسلطين) لا يجوز لهم مساءلتهم، كانوا نماذج لكلِّ ما كتبوا. وكان شيشرون وأفلاطون محل عبادة عمياء لم يصل إليها أي أستاذ في الأدب من قبل. ومن المألوف في النهضة أن تلتقي في ميدان السياسة بالحاكم المتعسف المستبد. إن النهضة والإصلاح كليهما لم يتَّجها بوعي منهما نحو حرية الفرد ذات الصفة الديمقراطية.

وأبعد عن الصواب من ذلك أن نقول إن النهضة والإصلاح الديني كانا دائمًا يعملان معًا في انسجام لتحقيق هدف واحد؛ فإن الكالفني المخلص كان يفزع عند لقائه بفنان النهضة الذي ينحت النماذج العارية، ويعيش عيشة استهتار وبذخ، ولا يفكر في غده. وكذلك كان لوثر يمقت أرازمس الإنساني، وكان شعور البغض بينهما متبادلًا. وليست المقابلة هنا بين الزاهد المتدين والفنان الذي يخضع في إخلاص لشهواته الحسية بالأمر الهين اليسير. كان أرازمس يحب المسيحية، وكان يحب الإغريقية السليمة، وحديث العلماء بعد مائدة العشاء، وكان يحب الإدراك العام بطريقة أكاديمية، كان ثائرًا جد ضعيف. إن سيرة حياته وشخصيته في الواقع لتتفق إلا في القليل مع الصيغ الجافة التي تعبِّر عن النهضة والإصلاح الديني.

إن الإنسانية في الواقع نظرة إلى الحياة لا تنسجم في أساسها مع ذلك الجانب من الديمقراطية التي تهتم بالرجل العادي، وبرفاهية الجماهير. كان الفنان، والأديب لعهد النهضة يعتقد في طبقة ممتازة — ليست هي طبقة النبلاء الإقطاعية، ولكنها الطبقة الممتازة الحديثة التي تتألف من أصحاب المواهب والفكر. كان لا يأبه — بل كان يزدري — بالكثرة التي لا تتميز في شيء، والتي لا تهتم بالفن أو الفلسفة أو الحياة الكريمة. وعن هذه النظرة الإنسانية إلى الحياة نشأت — إلى حدٍّ ما — تلك النظرة الحديثة المألوفة غير الديمقراطية التي ينظر بها رجال الفن والفكر بازدراء إلى عامة الناس وأوساطهم. إن أكثر حجج الدفاع عن الأرستقراطية في العصر الحديث (وإذا كانت لفظة الأرستقراطية توحي بطبقة النبلاء الأوروبية القديمة التي لا يأبه أحد بالدفاع عنها، فيجدر بنا أن نقول «الصفوة») يرجع إلى مصادر النهضة يلتمس فيها النماذج؛ فإن نيتشه — الذي سار في أثر زميله الأستاذ في بال، جاكوب بركهارت — التمس في الحياة البراقة الوحشية التي عاشها في عهد النهضة أساتذة الفن والحياة الإنسانية أقرب صورة أرضية تحقِّق فكرته عن الإنسان الراقي، أو السوبرمان. وفي الحق أن هناك على الأقل عنصرًا واحدًا في مركب الآراء الإنسانية يمكن أن يُعزى إلى التقاليد الديمقراطية — وذلك هو فكرة انفساح المجال لأصحاب المواهب، والمجددين؛ أولئك الأفذاذ المغامرين الموهوبين. ومع ذلك فإن الديمقراطيين المحدثين في جملتهم يختلفون عن رجال النهضة في نظرتهم إلى الموهبة التي تستحق التشجيع. ومن الواضح أن النقطة الهامة في مبدأ حرية الفرصة للجميع هي هذا السؤال البسيط: الفرصة لبلوغ أي غرض؟ لقد أجاب القرن الثامن عشر والقرن السادس عشر، أو رجال عهد النور ورجال عهد النهضة، عن هذا السؤال — كما سوف نرى — إجابات جد مختلفة.

فالوقائع إذن تثبت أن النظرة الساذجة إلى النهضة والإصلاح الديني اللذين يُعدَّان طليعتين مشتركتين للديمقراطية الحديثة، ليست على شيء من الدقة. ولو أن المدنية الحديثة تأثرت بدقة وعناية بالطرق التي أنارها لها الإنسانيون والبروتستانت لكان من المحتمل ألا تطرق أسماعنا هذه العبارة «قرن الإنسان العادي».

إن بعض ميراثنا الديمقراطي قديم جدًّا في الواقع، يرجع في قِدَمه إلى حضارة الإغريق والعبريين. وبعضه حديث نسبيًّا، يرجع في حداثته إلى الآلة البخارية. وبعضه نَدين به للإنسانيين، ولكن بقدْر أقل مما تصوِّر لنا عادة كتبُ الدراسة التقليدية في الأجيال القليلة الماضية. ويجب أن نحذر المبالغة في عصر ديمقراطيتنا؛ فهو لا يزال في الميزان، ولا يزال في حداثته، ولا يزال قوة نامية مكافحة في عالمٍ تعوَّد — لأمد طويل — طرقًا أخرى للحياة.

مدى «الإنسانية»

إن مجرد ثورة البروتستانت ضد الكنيسة الكاثوليكية أكسبهم على الأقل اسمًا مشتركًا، مهما تكن الفوارق بين الأنجليكان والأنينوميان (أو الفوضويين) أو مَن ينكرون وجوب تعميد الأطفال. وليس هناك مثل هذا الاسم المفرد الذي يشمل أولئك الذين يتحدون إلى حدٍّ ما في ميادين الفن والأدب والفلسفة في أنهم لا يحبون فنون العصور الوسطى وآدابها وفلسفتها. وأفضل ما نسميهم به «الإنسانيين» وهو اصطلاح استُخدم في حدود أوسع وفي حدود أضيق مما يرتاح إليه مؤرخ الفكر ارتياحًا كاملًا. الإنساني يمكن — في الوقت الحاضر خاصة — أن يكون من رجال الدين الذين يحاولون الاستغناء عن إلهٍ شخصي، ويمكن أن يكون مصلحًا تربويًّا يرى أننا نبالغ في دراسة العلوم الطبيعية ونقصر في دراسة الإنسانيات، أو فيلسوفًا يرى أن البشر أعلى من الحيوان وإن يكن أدنى من الآلهة، أو غير ذلك. وحتى إذا نحن حصرنا أنفسنا في هذا الفصل في حدود أولئك المعجبين — باليونان والرومان — بل مَن يحذون حذوهم، من رجال النهضة الذين نَصِفهم عادة بالإنسانيين، فإننا بذلك نهمل الكثير مما لا ينبغي إهماله.

وإذن فلنأخذ الإنسانية على أنها نوع من التعبير العام الذي يدخل تحته كلُّ مَن كانت نظرته العالمية لا هي دينية أساسًا ولا هي عقلية أساسًا. وبهذا المعنى لا يتحتم أن تكون الإنسانية موقفًا وسطًا بين ما وراء الطبيعة في الدين والطبيعة في العلم، وإن تكن قد وقفت في كثير من الحالات هذا الموقف تمامًا. إن الإنسانية تميل في هذه القرون الحديثة الأولى إلى نبذ العادات العقلية والمُثُل التي سادت العصور الوسطى، وبخاصة ما تمثَّل منها في المدرسية، ولكنها لا تقبل البروتستانتية، ولا تقبل النظرة العقلية إلى الكون باعتباره نظامًا كالآلة يؤدي وظيفته باطراد وبغير استثناء. الإنساني ثائر كبير على النظرة الكونية في العصور الوسطى، وليست له نظرة كونية واضحة خاصة به. الإنساني فردي عظيم، يريد أن يكون نفسه، وإن يكن رأيه غير واضح فيما يتعلق بتصرُّفه في نفسه. وهو مدين للعصور الوسطى بأكثر مما يعترف، وبخاصة فيما يفخر به، وهو المعرفة. وهو — إذا استثنينا ليونارد دافنشي وقلة أخرى — ليس بالعالم، بل ربما كان وصف ليوناردو بالمخترع أفضل من وصفه بالعالم.

وقد بينَّا من قبلُ كيف أن بعض سمات النهضة الملموسة يمكن أن تُردَّ إلى وقتٍ مبكِّر من العصور الوسطى كما تصورها الكتب المدرسية القديمة. ولكن إذا كان دانتي في القرن الثالث عشر يعرف اللاتينية القديمة، وإذا كان جيوتو يصوِّر تصويرًا شعبيًّا، وإذا كان فردريك الثاني (ستوبرمندي) شديد التطلع إلى عالم الحواس، قوي العقل فاتر العواطف كأي حاكم مستبد في عهد النهضة، إذا كان ذلك كذلك إلا أنه من الحق أيضًا أن الإنسانية لم تبلغ أوجها إلا في أواخر القرن الخامس عشر. ويجب أن نحاول عاجلًا أن نعرف — على الأقل في خطوط عريضة — ما معنى هذه الأشياء من حيث كونها نظرة معينة إلى العالم. ولكن دعنا أولًا نحدِّد مدى الإنسانية في عهد النهضة.

إن أبسط نشاط بشري يمكن أن نخص به «النهضة» ونميزها به عن نشاط العصور الوسطى هو في كثير من النواحي ما نسميه البحث العلمي، أو بتعبير أقدم من هذا، ولا يزال نافعًا، هو المعرفة؛ فلقد كان الإنسانيون الأصيلون — بالمعنى التاريخي الضيق للكلمة — في الواقع باحثين، وإن يكن مركزهم في المجتمع — أو على الأقل مركز الكبار منهم من أمثال أرازمس — له من المكانة بين الطبقات الحاكمة ما ليس للبحث العلمي في الوقت الحاضر (إن المشابهة الحقيقية هي اليوم بطبيعة الحال مع العلوم الطبيعية؛ فقد كان لأرازمس في القرن السادس عشر ما يشبه المركز الأدبي الذي يتمتع به أينشتين اليوم). كان للإنسانيين ما لم يكن لأسلافهم في العصور الوسطى، كانت لهم معرفة مباشرة باليونانية. وأمكنهم الاتصال بأصولِ أكثر الكتابات الإغريقية التي كُتب لها البقاء. إن الإغريقية تسرَّبت شيئًا فشيئًا إلى الغرب على أيدي المئات ممن لا نذكرهم اليوم من الباحثين؛ فهي لم تأتِ بغتةً بعد سقوط القسطنطينية في عام ١٤٥٣م عندما فرَّ الباحثون البيزنطيون من الأتراك. والواقع أن الباحث في العصر الوسيط بعد القرن الثالث عشر لم يكن البتة يجهل الإغريقية كما كنا نحسَب. وفي أخريات القرن الرابع عشر كان أي شاب محب للبحث طموح يستطيع أن يتصل بالإغريقية، وكذلك حاول الإنسانيون أن يكتبوا اللاتينية كما كان يكتبها شيشرون وأتباعه. أي إنهم تخلَّوا عمدًا عن لاتينية العصور الوسطى التي كانت لغة طبيعية، تكتبها وتتحدث بها طبقة المثقفين — برغم صغرها — لمجرد احترام التقاليد الذي ألِفوه. أما الباحثون الإنسانيون فقد أحيوا متعمدين لغةً ميتة — لغة كانت إلى حدٍّ ما ميتة موتًا عميقًا منذ ذلك الحين. لقد أخرجوا ما في اللاتينية من حياة وصقلوها وهذَّبوها. وكانت لديهم المطبعة فتيسرت لهم سهولة الاتصال بعضهم ببعض أكثر مما تيسَّر لأسلافهم في العصور الوسطى. وقد كان الإنسانيون فئة قليلة ممتازة لا يهمهم أن يكون لهم جمهور كبير. بل إن بعضهم سخط على المطبعة لأنها ابتذلت المعرفة، والواقع أن المطبعة في تلك الأيام الباكرة لم تمس الجمهور الديمقراطي إلا في الدين. وسوف نحاول أن نبيِّن فيما يلي مدى ما بين الباحثين الإنسانيين وأسلافهم في العصور الوسطى من تغيُّر في الروح. ولكنا نجد على أية حال في إخلاصهم للإغريقية وفي لاتينيتهم الشيشرونية وفي احتقارهم للمدرسيين علاماتٍ تكفي لأن نميزهم بها.

وفي الفنون الجميلة أخرج رجال النهضة الكبرى — في القرن السادس عشر، أو عهد الإحياء الفني عند الإيطاليين — أعمالًا تختلف جد الاختلاف عن أعمال العصور الوسطى، وقد أخرجوها تقليدًا مقصودًا — من ناحية على الأقل — للرومانيين، الذين بقيت آثارهم في العمارة والنحت منتشرة في إيطاليا التي كانت لها القيادة في الفن والأدب في الحركة الإنسانية. ولكنهم لم يُخرِجوا هذه الأعمال فجأة، بل كانوا يَدينون لأسلافهم من العصور الوسطى بقدْرٍ يفوق ما يعترفون به.

وربما كان التغيُّر أشد ما يكون، والانتقال أوضح ما يكون، في فن العمارة. والواقع أن الفن الغوطي الشامخ لم يكن في الحقيقة شعبيًّا في إيطاليا، وسرعان ما أخذ البناءون القوس المستديرة، والقبة، والرسوم القديمة، والخطوط التي ترى أن الأفقي شيء لا يصح تجاوزه. لقد أخرجوا في الواقع طرازًا مركبًا من عناصرَ لكلٍّ منها أصل قديم، ولكنها عندما ينضم بعضها إلى بعض تكون شيئًا جديدًا، شيئًا أصيلًا؛ فليس من الرومان، وليس من الإغريق مَن شيَّد بناء يشبه «القديس بطرس» في روما كل الشبه أو يشبه قصور النهضة في فلورنسة. وكلما اتجه هذا الطراز شمالًا اختلط بالتقاليد الوسيطة المحلية وتمخَّض عن صورٍ مختلطة عجيبة مثل القصر الفرنسي الشهير في شامبور. وكله ينتمي إلى النهضة في بساطة التكتل والأفقية في الطوابق السُّفلى، وكله غوطي مسرف يتطلع إلى أعلى في السقوف والمداخن. وتنم قصور الإقطاعيين في إنجلترا، بالرغم من خلوها من التحصين، وبالرغم من أنها لم تَعُد قلاعًا كقلاع العصور الوسطى، عن آثار غوطية في قلب القرن السابع عشر.

وكذلك في النحت والتصوير يتميز إنتاج القرن السادس عشر بصورة واضحة عن إنتاج القرن الثالث عشر؛ فإن صورة رافائيل تختلف عن صورة جيوتو. وكذلك ليس «داود» — بغض النظر عن حجمه البطولي — لميخائيل أنجلو تمثالًا يمكن أن ينسجم مع كاتدرائية غوطية، ومع ذلك فإن الرجل العادي غير الخبير الذي يلجأ إلى مشاهدته يرى أن التصوير والنحت في عهد النهضة يبدوان متصلين بالتصوير والنحت في العصور الوسطى بطريقةٍ لا يبدو أن كاتدرائيتي شارتر والقديس بطرس في روما متصلتان بها. ولو أنك اتخذت معيارًا للقياس غيرَ دقيقٍ ما نستطيع أن نسميه في بساطة ﺑ «الطبيعي» أو «بما يشبه الحياة»، وهو ما تسجله آلة التصوير التي ترسم أمارات الحياة، لوجدت أن الفنانين منذ القرن الثالث عشر يتجهون نحو هذا «الطبيعي» ويبتعدون عن تقاليدَ معينةٍ قد تكون وقد لا تكون «بدائية»، وأكثر ما تنطبق هذه التقاليد على الفن البيزنطي، الذي كان جافًّا، كهنوتيًّا، مسطحًا، لا يحاول أن يسبق آلة التصوير أو التلوين التقني (تكنيكلر)، إنني أحاول هنا جاهدًا أن أروي ولا أحكم. غير أن هذه الميادين هي في صميم ذلك النوع من المعرفة اللاتراكمية التي تُعرف بالذوق؛ حيث تكون كل لفظة مدحًا أو هجاء. واليوم على وجه العموم إذا قلنا عن الصورة إنها توحي بالرسم الفوتوغرافي كنا بذلك نعيبها — أي إن القرن الثالث عشر الوسيط والسادس عشر الناهض التقيا في فن التصوير والنحت ضد الفن البيزنطي، والنهضة هي وليدة العصور الوسطى بصورة واضحة، على الأقل في نقطة فنية رئيسية جدًّا.

وكذلك الأمر بشكلٍ أشد جلاء فيما يتعلق بالأدب الخيالي، فإن الصفات الظاهرة البارزة لا تفرِّق بين عهد النهضة وقمة العصور الوسطى بمقدارِ ما تشير إلى استمرار واضح في التطور. ومن المؤكد أن استخدام اللغة الوطنية ليس مقياسًا؛ لأن اللغات الوطنية كانت تُستخدم في الشعر والرواية، في الأدب للتباين مع الفلسفة، حتى قبل أن استخدمها كتَّاب كبار في العصور الوسطى من أمثال دانتي وشوسر. وليس من شك في أن أشكالًا معينة — وبخاصة في الشعر — وضروبًا معينة من الأسلوب المصقول تميِّز العمل بحيث تمكن نسبته إلى الإنسانيين؛ فالمقطوعة الشعرية، التي تُعرف بالسونيت على سبيل المثال شكلٌ يمكن أن نعزوه على الفور لعهد النهضة. غير أن الاستمرار منذ القرن الثالث عشر يسترعي النظر برغم ذلك. ومن الأمثلة المحسوسة لذلك الأدب الفاحش، فإذا أنت قرأت بترتيب زمني نماذج من «فابليو»، وإحدى قصص شوسر الماجنة، وطرفًا من بوكاشيو، وشيئًا من رابيليه، فأنت تسير من العصور الوسطى إلى قلب النهضة، وأنت تنتهي برجل يُوصف دائمًا بالإنساني على التوالي. ومع ذلك فإن رابيليه لديه خصب، وفحش صبياني، وجدة وصمت كذلك بالغوطية. وقد تبدو معرفته المتنوعة الواسعة لأول وهلة إنسانية، ولكنها معرفة تراكمت مع قليل من الإحساس الكلاسيكي بالنظام.

وفي المقطوعة التالية يصف رابيليه في إسهاب وبما يمثِّل المعرفة الإنسانية في جميع الميادين أفضل تمثيل، نباتًا عجيبًا (خياليًّا) يسميه باتاجروليون على اسم بطله بانتاجرويل.

«وجدت أن النباتات تُسمَّى بوسائل شتى، بعضها يُسمَّى باسم أول مَن كشفها، وعرفها، وأظهرها، وزرعها، وحسَّنها بالتزريع، وجعلها مناسبة، مثل: مركيورياليس الذي اشتُق اسمه من ميركري؛ وباناسيا من باناس، ابنة اسكولابيوس؛ وآرموا من آرتميس؛ وهوديانا، ويوباتوريام من الملك يوباتور؛ وتلفيون من تليفوس؛ ويوفوربيوم من يوفوربوس، طبيب ملك جوبا؛ وكليمنوس من كليمنس؛ والقبياديوم من القبيادس؛ وجنتيان من جنتيوس، ملك سكلافونيا. وكانت هذه الميزة فيما سبق تقدَّر قدْرًا كبيرًا — ميزة تسمية النباتات المكتشفة حديثًا، إلى درجة أنه لما ثار الجدل بين نبتيون وبالاس حول تسمية الأرض التي كشفاها معًا، إلى أيهما تنتمي — وإن تكن قد تسمَّت فيما بعدُ باسم أثينا نسبة إلى آثينى وهي منيرفا — مما أدى إلى أن يقتل لينكس ملك سيثيا غدرًا الشاب تربتوليموس، الذي كان سيريس قد أرسله إلى البشر لكي يدلهم على فائدة الحنطة التي لم تكن معروفة من قبل. وذلك لكي يفرض اسمه — بعد قتله — ويُسمَّى مخترعًا لنوع من الحبوب نافع جدًّا وضروري لحياة الناس، فيكتسب بذلك الشرف والمجد الخالد. وبسبب هذه الفعلة الشريرة وهذه المحاولة الخائنة حوله سيريس إلى فهد صغير. وهناك أعشاب ونباتات أخرى تحتفظ بأسماء البلدان التي نُقلت منها، مثل: التفاح الميدي من ميديا حيث وُجد لأول مرة؛ والتفاح البيوني — وهو الرُّمان — الذي وُجد في بونقيا؛ وليجوستيكوم الذي نسميه لوفاج، الذي وُجد في ليجوريا، ساحل جنوا؛ وكاستانز أو برسيك أو شجر الخوخ، أو سابين، أو ستاكاس من جزر هيريس التي امتلكها؛ وسبيكا كلتيكا، وغيرها.»

وفحش رابيليه بمثل هذا العمق في المعرفة، فيه من المعرفة مما لا يمكن لغير الإنساني أن يلمس كلَّ ما فيه من فحش؛ فهو يذكر قوائم مطولة، كأنها الأوراد، من الصفات التي ليس فيها ما لا يمكن طبعه — أو ما لم يمكن طبعه — سوى الموضوع الأصيل.

إن هذه الدراسة المقارنة في الفحش تؤكد لنا على الأقل المشقة الكبرى في تصنيف الأعمال الفنية (بأوسع معاني الفن، الذي يشمل الأدب) بحيث تتفق مع تعميمات الفلسفة وعلم الاجتماع الكبرى — وقد تكون صفة الفحش غير محدودة بزمان، ومِن ثَمَّ فهي محك غير سليم. إلا أنا لا نكاد نجد سمة ظاهرة وحيدة من السهل تمييزها يمكن أن تفرِّق في وضوح بين الفن الوسيط وفن النهضة.

والواقع أن القارئ الذي تدبَّر ما سبق ربما وصل إلى هذه النتيجة؛ وهي أنه ما دامت العصور الوسطى كانت دينية قبل كل شيء، وما دامت النهضة كانت تعني على الأقل محاولة الرجوع إلى الوثنية، أو عدم التدين، بل اللادين؛ فإن الوسيط يجب أن يرتبط بالكنيسة وفن النهضة يجب أن يتمتع بحرية بوهيمية. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما. فما إن بلغت النهضة أوجها حتى كان المثَّالون والمصوِّرون يقلِّدون العري القديم كما كانوا يقلدون كل شيء قديم. وبدأ الفنان يحيا نوعًا من الحياة ما زلنا نفترض أنه يحياها — حياة الانطلاق، وعدم الحشمة، والمجازفة، ولكنها حياة شائقة. وإن سيرة بنفنوتو سليني التي كتبها بقلمه، والتي يرجع إليها دائمًا أولئك الذين يريدون أن يبسطوا القرن السادس عشر بوصفه أنه قرن الفنان، لتضع أسطورة الفنان باعتباره العبقري الذي يعلو على العفة كما يعلو على حياة الملل. ومع ذلك فلو أن فيلون كتب سيرة حياته بنفسه فلربما تفوَّق فيها على سليني. وتستطيع بطبيعة الحال أن تزعم أن فيلون ليس في الواقع من العصر الوسيط، وأنه يبشر بالنهضة.

غير أن هناك مشقة كبرى في قبول هذا الحكم: إن العصور الوسطى تساوي الدين والتزمت، والنهضة تساوي الوثنية والانطلاق؛ ففي خلال النهضة وهي في أوجها كان الفنان يعمل للكنيسة ويعالج موضوعات دينية. ولو أنك فكَّرت في أعمال هؤلاء الرجال ذات الشهرة العالمية، وهي أعمال بلغت من الشهرة بحيث تبدو للرجل العميق الثقافة في هذه الأيام سوقيةً مبتذلة — مثل العشاء الأخير لليوناردو، ومادونا لرافائيل، والصور الحائطية التي رسمها ميخائيل أنجلو في كنيسة سستين، وما إليها — لتبين لك أنها كلها دينية في موضوعها. وقد يقول قائل إن هذه الأعمال دينية ظاهريًّا فحسب، وإن روحها دنيوية، حسية، وثنية، إنسانية، وعلى نقيض ذلك كانت الحال في العصور الوسطى. إن مادونا التي رسمها رافائيل ربما كانت — كما يقولون — صورًا لنساء إيطاليات فلاحات، ليس فيها من الروحية أكثر مما عند الفائزات في مسابقة جمال أمريكية. وهذا التباين بين مادونا من تصوير رافائيل — وكلها جسد — وبين العذراء المنحوتة على الطراز الغوطي — وكلها روح — لمما يدعو إلى ضلال الرأي؛ فإن مادونا رافائيل ليست إلا خلفًا لعذراء العصور الوسطى، وهي لا تهتك سلفها بأية حال من الأحوال؛ هذا السلف الذي كان أبعد ما يكون عن مبدأ مجرد. والواقع أننا نبالغ في تزهد العصور الوسطى وتطلعها إلى العالم الآخر، ومن أجل هذا أساسًا نجد أن فن النهضة فيه جدة، وفيه وثنية، وفيه إنسانية. إن فناني النهضة الذين وهبوا أكثر حياتهم الفنية إلى جعل العقائد المسيحية محسوسة، مرئية، إنما كانوا يؤيدون وظيفة ورثوها عمن سبقوهم في العصور الوسطى. ولم يصبح الفن دنيويًّا بحتًا إلا تدريجًا، وفي الأزمنة الحديثة نسبيًّا، حتى كاد يختفي الفن الديني. وهنا أيضًا نجد أن الحديث يرجع في جذوره العديدة الثابتة لا إلى القرن السادس عشر، ولكن إلى القرن الثامن عشر.

طبيعة الإنسانية

ومهما يكن من أمر فلقد كان الإنسانيون ثائرين واعين بثورتهم، سواء أكان اهتمامهم الرئيسي بالبحث، أم الفلسفة، أم الفن، أم الأدب. وهم محدثون إلى أقصى حد من حيث إدراكهم أنهم في ثورة ضد آبائهم رجال العصور الوسطى. وربما كان الباحثون والفلاسفة — وهم إنسانيون بالمعنى الضيق — أوضحهم تعبيرًا؛ فإن أرازمس وأمثاله قد عبَّروا تعبيرًا حرًّا عن ازدرائهم للمدرسيين، أتباع أرسطو المستعبدين له البائسين، أولئك الذين أساءوا إلى اللغة النبيلة، لغة هوراس، وشيشرون، أولئك الخاملين الذين ينفقون الوقت في النزاع حول عدد الملائكة الذين يمكن أن يستقروا على طرف الإبرة. إننا ما زلنا نردِّد نقدهم اليوم، بالرغم من أن الأفق أمامنا أفسح من الأفق الذي كان يحيط بهم. ومن الحق أنهم كانوا في ثورة على المذهب المدرسي المتداعي، ولم يثوروا على المذهب المدرسي الناضج في القرن الثالث عشر، الذي لم يحاولوا محاولة جدية أن يستردوه.

وحتى رجال الفن كانوا في ثورة، يجاهدون عمدًا أن يُلقُوا عن كواهلهم تقليدًا كانوا يشعرون بعبئه. وكان المذهب الغوطي المتأخر في حالة من التدهور تشبه حالة المذهب المدرسي المتأخر. وإن أولئك القوم الذين كانوا يقطنون شمالي الألب لم يرحِّبوا بالأساليب الإيطالية الحديثة في كل الفنون إلا لأنهم كانوا ثائرين على التعقيدات والسخافات التي تغلغلت في الفن الغوطي المتأخر. إن أسلوب النهضة في بدايتها كان بسيطًا، يخلو نسبيًّا من الزخرفة، ويتحاشى عن عمد غزارة الفن الغوطي، ويبحث عن عمد في النماذج الكلاسيكية عن البساطة والنظام.

وربما كان الإنسانيون والبروتستانت على السواء ثائرين في الصميم لأنهم أحسوا أن الفجوة المألوفة التي تفصل بين المثالي والواقعي قد بلغت في أخريات الأزمنة الوسيطة درجة سحيقة ظاهرة، وهذه الفجوة — بالرغم من إلفها — كانت بالنسبة إلى كل امرئ حساس أمرًا لا يُطمأن إليه. وهذه الفجوة التي كانت شديدة الوضوح خلال العصور الوسطى بلغت من العمق في القرن الخامس عشر درجة لا نستطيع مهما بذلنا الجهد في التفسير أن نردها إلى سبب. كان المثالي لا يزال مسيحيًّا، ولا يزال يهدف إلى الوحدة، والسلام، والأمن، والنظام، والاستقرار. أما الواقع فهو الحروب المتوطنة، وانقسام السلطة حتى في ذروتها، حتى في البابوية التي ينبغي أن تمثل الوحدة الربانية الثابتة الموقرة، والتنافس على الثراء والنفوذ، فترة من فترات القلاقل.

ومِن ثَمَّ فإن هذه الحركة المركَّبة في الفنون والفلسفة التي نسميها الإنسانية — كانت كالبروتستانتية إلى حدٍّ ما — ثورةً مقصودة، ثورة على أسلوب من أساليب العيش كانت تراه فاسدًا، معقدًا، عقيمًا، لا هو بالصادق، ولا هو بالجميل. وكأن الإنسانيين يفتحون نافذة يتسرَّب منها النسيم العليل، كما يؤدون أعمالًا سارة كثيرة أخرى.

وبالرغم من ذلك فإن تشبيهات الإنسانيين بدأت تختفي عن أنظار الناس أجمعين ما عدا المخلصين لها. وسرعان ما بدأ فن النهضة ينمي الرغبة في الزخرفة، والولع بالتفصيلات، وغزارة اللون، مما كان يليق بالقرن الخامس عشر. ونستطيع بعبارة أدق أن نقول إن الإنسانيين الظافرين انقسموا في أغلب الفنون إلى مدرسة تُغرَم بالتفصيل والخصوبة وأخرى تميل إلى الاقتصاد والزهد؛ ففي فن البناء — مثلًا — نجد التطور يسير في ناحية ممثلًا في بلاديو، وهو إيطالي عاش في القرن السادس عشر وأُغرم بالبساطة الكلاسيكية الصارمة التي سارت في أثر توجيه أساتذة المدارس، ثم اتجه نحو الكلاسيكية الجديدة التي نعرفها في الولايات المتحدة باسم «الاستعمارية». كما سار التطور في ناحية أخرى تتجه مباشرة نحو الباروك (الزخرفة) ثم في القرن الثامن عشر نحو الروكوكو (الزخرفة الزائدة التي تخلو من الذوق)، وهي أساليب تكثر فيها المنحنيات وتعزر فيها الزينات. أما في الكتابة فإن الإنسانيين لم يكونوا في أي وقت من الأوقات أبسط فعلًا من خصومهم المدرسيين. وسرعان ما بلغت البحوث عندهم الذروة من حيث الادعاء والدسامة وعمق أساتذة الجامعات. وفي شيء من الخلط حل أفلاطون محل أرسطو كفيلسوف. وحتى في الأدب الخيالي ابتعد الأدباء عن مُثُل البساطة (وهي المُثُل التي لم تأخذها النهضة قطُّ مأخذ الجد) حتى إنك لتجد في القرن السادس عشر حركتين أدبيتين أخذتا بنوع من الغلو والغموض في نجاحٍ لم يتحقق مثله حتى عهد قريب جدًّا — وأقصد بهما «التلطُّف في التعبير» في إنجلترا «والتلميح» في العبارة في إسبانيا. وقد أدَّت الشعبية الحديثة بين أنقى رجال الفكر إلى معرفتنا مرة أخرى بالشعراء الميتافيزيقيين في إنجلترا في القرن السابع عشر، أولئك الشعراء الذين لم يكونوا قطعًا على بساطة أو وضوح أو منطق معقول، وسرعان ما خلقت النهضة لنفسها فجوتها الخاصة بين الواقعي والمثالي.

ذلك لأن النهضة لم تكن في الواقع فوضوية، شأنها في ذلك شأن حركة الإصلاح البروتستانتي؛ فلقد ثارت النهضة على حلول سلطة — أو مركَّب من المُثُل والعادات والنُّظم — محل أخرى، ولم تكن هذه السلطة الجديدة بأية حال من الأحوال منقطعة الصلة عن سابقتها أو أقل منها تعقيدًا. ثم إن الإنسانيين كثوار كان عليهم أن يجاهدوا جهادًا شاقًّا في سبيل الحط من شأن سلطة بائدة. وفي خلال ذلك كثيرًا ما لجئوا إلى لغة التحرير، على الأقل إلى حد المطالبة بالحرية في التربية الجديدة، والتحرُّر من قواعد المدرسية، والمطالبة بالحرية للفرد كي يسير وفق هواه، ولا يكون مجرد ببغاء يردد أرسطو. بيد أن الإنسانيين لم يؤمنوا فعلًا بأن الإنسان طيب وحكيم بالطبيعة، وكانوا في ذلك أشد مغالاة من البروتستانت، الذين منهم مَن كان لا يرى ضرورة تقيُّد المسيحي بالقواعد الخلقية. أو بعبارة أخرى قُل إن شئت إن الإنسانيين لم يتحرروا قطُّ من التقاليد الفكرية الطويلة التي سادت العصور الوسطى، التي كانت تبحث عن السلطان — أو تبحث عن الحل — في الأعمال المدونة للمشاهير من السلف؛ فالإنسانيون في الواقع أحلوا جملة ما بقي من كتابات الإغريق والرومان، الأدبي منها والفلسفي، محل آباء الكنيسة، وأرسطو، وعلماء العصر الوسيط فحسبه وحيثما كانوا يهتمون بالدين اهتمامًا شديدًا اكتفَوا بنص الإنجيل ودرسوه دراسة حقة في أصله العبري أو الإغريقي. وسرعان ما وضعوا في المحل الثاني من النفوذ مجتمعهم الخاص يتبادلون فيه الإعجاب، وبدءوا العملية الحديثة التي تتركز في الحواشي الدراسية للمتون. غير أنه ما بَرِح لديهم نفس التقدير لسلطان القديم، ونفس عادة التفكير المجرد، بل التفكير الاستنباطي، ونفس العزوف عن إجراء التجارب، وعن البحث بطريقة غير كريمة، مما نجده عند المدرسين. إنهم لم يكونوا في الواقع طلائع البحث العلمي الحر الحديث، بل كانوا مدرسيين أشد غرورًا وأكثر اهتمامًا بشئون الدنيا.

إن ما ذكرت في الفقرة السابقة فيه مبالغة شديدة، وإنما قصدت به أن أؤكد رأيًا بعينه، وهو أن العلماء الإنسانيين لم يكونوا متحررين أو ديمقراطيين بالمعنى الحديث. إنما كانوا فئة ممتازة من رجال العلم، جد فخورين بمعاييرهم العلمية، لديهم أكثر ما عُرف من عيوب عن الباحثين: الغرور، والتملك، والشحناء، والفزع الشديد من ارتكاب الأخطاء، وكان عندهم قسط كبير من إحدى الفضائل الكبرى للباحثين، وهي فضيلة الشهوة العارمة للجهد العقلي الشاق. أما نصيبهم من براعة النقد، ومن القدرة على تحديد المشكلات وحلها، فمن المؤكد أنه لم يزد عما ينبغي أن يتوافر للباحث؛ فلم يكونوا عمالقة في الفكر كما يبدون لنا اليوم. إنما كانوا روادًا يسيرون في بطء على أرضٍ لم تُمهَّد بعد.

لقد وضعوا للبحث الحديث نمطًا ومعايير. وفي دراسة اللغات القديمة أدخلوا النظام، والدقة، والأدوات التي تأخذها كأمرٍ مسلَّم به، كالمعاجم «القواميس» المرتبة ترتيبًا أبجديًّا. كما طوَّروا معايير النقد التحليلية والتاريخية. وما برح المثال المشهور من إنجازات هؤلاء الباحثين من الأمثلة الطيبة التي توضِّح طرقهم في أحسن حالاتها. كان البابوات في مستهل العصور الوسطى قد أيدوا نفوذ «المحكمة البابوية»، التي كانت بالفعل تقوم على أساس ثابت من تقاليد بطرس، بما يُعرف ﺑ «هبة قسطنطين»، وهي وثيقة زعموا أنها صدرت من الإمبراطور قسطنطين وهو يغادر روما لكي يؤسس عاصمته في القسطنطينية، وقد استخلف فيها البابا في روما، وأسلمه السلطان المباشر على الأرض التي تحيط بروما، والتي عُرفت فيما بعد ﺑ «ولايات الكنيسة»، وقد أثبت أحد الإنسانيين الأوائل — واسمه لورنزو فالا، الذي تُوفي في عام ١٤٥٧م — أن هذه الوثيقة مزورة؛ ذلك أن لغة الوثيقة لم تكن تلك اللغة التي كان من الممكن أن تُكتب في مستهل القرن الرابع بعد الميلاد. وقد أثبت فالا ذلك بوسائل أصبحت مألوفة لنا اليوم جميعًا. أثبت أن بالوثيقة إشارات إلى غير زمانها، كما لو عزا أحد إلى إبراهام لنكولن خطابًا وكانت به إشارة إلى عربة بويك.

ولم يكن التفكير الميتافيزيقي الشكلي عند الإنسانيين سمة من سماتهم الواضحة. كان أصحاب العقول المنظمة المصممة على الإجابة عن «المشكلات الكبرى» في تلك القرون الحديثة الأولى إما من رجال الدين، وإما من العقليين على أية صورة من الصور. لم يكن الإنسانيون الإيطاليون من أمثال فسينو وبيكو، ولاميراندولا، مجرَّد أفلاطونيين. إنما كانوا من أتباع الأفلاطونية الحديثة، كانوا من أصحاب العقول المرنة الذين يعتقدون في هذه الصوفية المدرسية الممعنة في الفكر. ومن الحق — بوجه عام — أن الإنسانيين في أكثر أنحاء أوروبا قد رحَّبوا بأفلاطون لكي يريحهم من أرسطو، كفيلسوف أقرب إلى المسيحية التي تحجرت برغم بقائها مقدسة، والتي كانوا فعلًا في حاجة إليها. ووقع أرازمس وتوماس مور وكوليه وغيرهم من أبناء الشمال تحت تأثير أفلاطون. وليس من شك في أن الرأي القائل بأن هؤلاء الرجال إنما تخلَوا عن سلطان أرسطو لكي يحتموا في سلطان غيره يمكن أن يكون محلًّا للمبالغة. غير أنه من المؤكد أنهم لم يضيفوا إلى المعرفة الأفلاطونية إلا قليلًا، ولم يكونوا في الواقع فلاسفة أساسًا.

إنما هم الكتَّاب الخياليون والفنانون الذين يقتربون من صميم النظرة الإنسانية إلى الحياة: بترارك، ورابليه، وشيكسبير، وسرفانتيس، والمصوِّرون، والمثَّالون، والموسيقيون، ممن لا نزال نذكر أسماءهم — أمثال هؤلاء هم الذين تلمَّسوا طريقًا بين المسيحية التقليدية كما تحددت من العصور الوسطى والتعقل الجديد الذي يبدو كأنه يمحو من الكون كلَّ ما فيه من سحر وغموض. ولما حل القرن السابع عشر استطاع بعضهم — من أمثال ملتن — أن يُدخِل شيئًا من الرهبة والغموض في العالم الذي كان العلم يحاول أن يوضحه. ولكن قلَّ من الفنانين مَن أمكنه أن يقبل عالم بيكون وديكارت. ومنذ هذه القرون بدأ عند الفنان انعدام الثقة في العالم الذي نعرفه في العصر الحديث.

وقد رأينا أن هؤلاء الفنانين كانوا ثائرين عن عمد — بدرجةٍ ما — ضد التقاليد المسيحية الحديثة. لقد نبذوا سلطة من السلطات، ولكنهم — وهذا أمر غاية في الأهمية — اضطُروا إلى البحث عن سلطة أخرى، بل ربما خلقوا هذه السلطة خلْقًا؛ فإن قبول الباحثين لأية عبارة مما سطَّر أي كاتب إغريقي أو روماني قديم لم يكفِ رجال الخيال هؤلاء. وقد رجع هؤلاء الفنانون إلى اليونان وروما، شأنهم في ذلك شأن أي امرئ يمس كل أمر عقلي. ولكنهم — كمهندسي العمارة — أعادوا تشكيل موادَّهم في صورة جديدة. والواقع أننا نستطيع أن نحاكي فن العمارة — بالرغم من أنه قد يبدو فنًّا غير شخصي — إذا أردنا أن نقوم بتصنيف هؤلاء الكتاب وفقًا لنظامٍ من النُّظم، بالرغم مما في ذلك من مشقة.

من المهندسين المعماريين لعهد النهضة — ونستطيع أن نربط اسم بلاديو بهذه الفئة — مَن وُجد في نماذجه الكلاسيكية البساطة، والانتظام، والاعتدال (بلا ضخامة)، والهدوء، والزخرفة الرشيقة (بغير خشونة). وكذلك من رجال الفن والأدب في عهد النهضة مَن رجع إلى القدامى فألفى لديهم نفس هذا السلطان، ووجدوا أن القدامى كانوا «كلاسيكيين»؛ أي إنهم وجدوا — في الأساس — ذلك المَثل الأعلى للجمال والخير، الذي لم يختفِ قطُّ حتى الآن من التربية الغربية الرسمية. وجدوا أن الإغريق والرومان — أولئك الذين لهم قدرهم، وأولئك الذين نستطيع أن نقرأهم — كانوا قومًا مهذبين منظمين، معتدلين في كل شيء، لا يثقون بالحوشي، أو الهائج، أو المنطلق بغير قيد، أو المتحمس، متحررين من الخرافة ولكنهم ليسوا على غير دين، يسلكون زمام أنفسهم، رجال خيال ناضجين، ولم يكونوا عقليين ذوي أفق ضيق. ويستطيع المرء أن يسترسل في هذا الوصف. والواقع أننا سوف نعود إلى بعض أوجه هذه المُثُل — ويكفينا هنا أن نذكر أن هؤلاء المعجبين في عهد النهضة بثقافة الإغريق والرومان الكلاسيكية قد وجدوا في هذه الثقافة «النظام» قبل كل شيء، ولم يروا ما يظن الأستاذ جلبرت موري (الذي ذكرنا رأيه من قبلُ في هذا الكتاب) أنه كان من الممكن أن يُشاهَد فيها لولا أن أجيالًا من أمثال هؤلاء الإنسانيين قد كبتوه كبتًا تامًّا — وأعني به الخصب، واللون، والانطلاق الوحشي، وتطلع الكائن الأرضي الصغير إلى النجم، وإلى المغامرة الجريئة، والخيال البعيد.

وسنطلق هنا على هذا «القصد» ليقابل «الخصب» الذي قد تُفسَّر به الكلاسيكيات. وتستطيع أن تجد آثارًا من هذه الصفة حتى في أوج النهضة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وبخاصة لدى الإنسانيين الباحثين أصحاب الخيال من أمثال أرازمس. وعند مونتيني جانب كبير منها، بالرغم من أن مونتيني يمسك نفسه دائمًا عن التمسُّك بأي اتجاه من الاتجاهات. وهذه الكلاسيكية «المقتصدة» أمست حركة، أو أسلوبًا جديدًا، أو طريقة من طرق الحياة. وبلغت أوج ازدهارها في فرنسا في القرن السابع عشر، ويُعَد عصر لويس الرابع عشر في كثير من الوجوه مثالًا طيِّعًا لهذا المَثل الأعلى.

وإليك قطعة من بوالو تبيِّن في شكلها ومادتها الاتجاه الكلاسيكي في عصره؛ الوضوح، والوقار، واحترام الرأي القديم، وعدم الثقة في غير المألوف، والشاذ، والابتعاد عن المعايير السائدة:

لما كان الكتَّاب قد ظفروا بالإعجاب لعدة قرون، ولم يَحُطَّ من قدْرهم إلا فئة قليلة من الناس ذوي الأذواق الشاذة (فهناك دائمًا أذواق فاسدة) فإن إلقاء الشك على قيمة هؤلاء الكتَّاب هو إذن من باب النزق، أو الجنون. فإذا كنت لا تلمس في كتاباتهم جمالًا فلا تحكم بأن الجمال فيها معدوم، وإنما احكم على نفسك بالعمى وانعدام الذوق. إن جمهرة الناس لا تخطئ في حكمها على إنتاج القرائح في نهاية الأمر. إننا لم نَعُد نشك اليوم في قيمة هومر أو أفلاطون أو شيشرون أو فيرجيل. إنما هذا أمر انتهى فيه الجدل؛ لأن عشرين قرنًا قد اتفقت على حكمها عليه. إنما المسألة هي البحث عن مبعث الإعجاب بهؤلاء الكتَّاب في عدة قرون. وعليك أن تتفهم ذلك أو تتخلى عن الأدب، وتؤمن بأنك تفتقر إلى الذوق وإلى الاستعداد ما دمتَ لا تحس ما أحسه الناس جميعًا.

إن العلاقة بين هذا النقد «المقتصد» والمسيحية ليست البتة من الأمور الهينة؛ فقد كان كبار الكتَّاب في العصر الفرنسي الكلاسيكي الذين ربما كانوا خير مَن يمثل هذه العلاقة كاثوليكيين مخلصين أو كانوا على الأقل كاثوليكيين يؤدون كل شعائر الكاثوليكية. وحقًّا كان من قبيل حب التظاهر الباطل أن يخرج الكاتب منهم على الكاثوليكية. ثم إنه لم يكن من اليسير على الكاتب أن يظفر بالتقدير في بلاط لويس الرابع عشر إذا كان زنديقًا أو متشككًا. غير أن الكلاسيكيين كانوا في كثير من الأحيان لا ينفصلون إلا بخيط دقيق عن العقليين، أولئك الذين كانوا يشنون هجومًا على أي شكل من أشكال الديانات الموحَى بها. ومن الجلي أن أمثال بوالو، وبوسويت، بل وراسين — وأهم من هؤلاء قراؤهم — لا يمكن أن يكونوا من المتحمسين، أو المتصوفين، أو البروتستانت مع احتفاظهم بنوع التذوق الذي كان يشكل جانبًا من اتجاههم، وهذا التذوق وكثير مما يُعزى إليهم غير ذلك، كالقواعد الأساسية المشهورة للدراما الفرنسية، كانوا جميعًا يرون أنه يتفق اتفاقًا كاملًا والشعور العميق والإحساس بالغموض، وعجز الناس عن السير في حياتهم دون الاسترشاد بعون الله. لقد أحسوا أنهم كانوا مسيحيين طيبين.

وهكذا كان أكثرهم، ولكنهم كانوا مسيحيين مستنيرين طبقًا لقواعد الدين ولم يكونوا مسيحيين إنجيليين، وربما ندم بعضهم — كما ندم راسين — في أخريات حياتهم على ماضيهم الدنيوي، ثم انقلب إلى التقوى مخلصًا فيها مع اتِّباعه لتقاليدها. وربما كانت هناك على حافة هذا العالم هرطقات مثل مذهب جينسن، الذي سُمِّي كالفنية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والذي كان في الواقع تفسيرًا للمسيحية جافًّا وكلاسيكيًّا. وربما تجاوز بعض الأعضاء المتسامحين من أمثال الأسقف فنيلون هذا الحد إلى نوع من الهرطقة أحدث، إلى مذهب السكون الذي ربما كان حركة تمهيدية للإيمان العاطفي في الخير الطبيعي الذي عُرف في القرن الثامن عشر. غير أن كثرة هؤلاء الإنسانيين الكلاسيكيين كانوا بالتأكيد على هامش المسيحية، أو على الأقل مسيحيين لا يندفعون نحو تقليد المسيح، مسيحيين الكنيسةُ في نظرهم نظامٌ قبل كل شيء للأفراد الجموحين بطبعهم الذين كان يعوزهم ما عند هؤلاء الإنسانيين من إحساس، وتربية وشعور بما يليق وما لا يليق.

من اليسير — ومما يغري — أن ننظر إلى أسلوب الحياة وطرائق التفكير عند الإنسانيين الكلاسيكيين باعتبارها غير مؤثرة في تكوين العقل الحديث، وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية، وباعتبارها أمرًا يهتم له الأستاذ في المدرسة — أو رجل مثل ت. س. إليوت — ولكنه لا يتغلغل خاصة في تفكيرنا ومشاعرنا. ومع ذلك فإن مؤرخًا للفكر فرنسيًّا ممتازًا — هوتين — زعم بأن ما أسماه «الروح الكلاسيكية» التي تميل إلى اعتبار العالمي، والمنتظم، والموحَّد، مقياسًا من المقاييس، وباعتيادها التبسيط، وباعتقادها في القواعد والمعادلات؛ كل ذلك عاون على تكوين الحالة العقلية التي نسميها «التنوير». ومن المؤكد أن الثائرين من أمثال فولتير قد تأثَّروا تأثُّرًا بالغًا بالأساتذة الكبار في القرن السابع عشر. وسوف نعود إلى هذا الموضوع الذي يتصل بالعلاقة بين الروح الكلاسيكية وعصر «التنوير». وكان الإنسانيون الكلاسيكيون يعتقدون في عهدهم أنهم عثروا على قاعدة للحكم، على معيار، على مقياس دقيق للتذوق، على شيء يمكن أن يقف مع مركب العصور الوسطى جنبًا إلى جنب كنوع من التنظيم العملي لهذا العالم المضطرب.

ونحن الأمريكيين نميل بمشاعرنا نحو الإنسانيين ذوي الأذهان الخصبة. وكثيرًا ما نَعُدُّهم — بمعانٍ لها أهميتها القصوى — صانعي أسلوب حياتنا. وهؤلاء هم أبطال النهضة الأصيلة، أولئك الرجال الذين يشوقنا أن نقرأ أعمالهم، حتى في كتب الدراسة — مثل سليني، الذي قتل، وزنى، ونحت، ورسم، وتحدَّث إلى الملوك والبابوات. وليوناردو دافنشي، الذي صوَّر، وبنى، وكتب، واخترع الطائرات والغواصات (على الورق) وهندَّس كذلك. ثم هناك أيضًا ملوك من أمثال فرنسيس الأول ملك فرنسا، وهنري الثامن ملك إنجلترا، الذين لم يظهروا بمظهر الملوك فحسب، والذين لم يكتفوا بحذق صنوف الرياضة والصيد التي لا محيص عنها للمراكز السامية في الطبقة العليا في المجتمع الغربي حتى الولايات المتحدة في عام ١٩٥٠م، ولكنهم أجادوا كذلك اللغات القديمة، وكانوا على فطنة، قديرين على قرض الشعر أو كتابة المقال، وعشاقًا عظامًا إلى جانب ذلك بطبيعة الحال. وهناك أُسَر بأَسْرها، كأسرة بورجيا، تتبرع بالأفراد الجذابين الذين لا يترسمون التقاليد.

إن سمات هذا الطراز من الأفراد لا يمكن أن يخطئها المرء. نعم لقد كان هناك على كر العصور مَن كان يهدف إلى الأسمى في اجتهاد وحماسة. بل إن الروح بأسْرها في بعض العصور كانت أحيانًا تضطرم بالحماسة، والاندفاع، كما كان يضطرم عصر النهضة؛ فقد كانت أمريكا مثلًا في أواخر القرن التاسع عشر تعيش في عصرٍ عظيم يتصف بالاندفاع. كما لاحظنا فيما سبق أن فلاسفة التاريخ قد وصفوا ثقافتنا الغربية كلها من عهد اليونان إلى ما بعده، أو من العصور المظلمة إلى ما بعدها، بأنها «فاوستية»، «نوردية»، «ديناميكية» في كفاحها وقلقها. غير أن في جهاد النهضة وهي في أوجها نوعًا من قساوة الطفولة التي تلفت النظر، نوعًا من تحديد الغرض المباشر والانكباب عليه. ويمدنا سليني بثروة ضخمة من الأمثلة. وإليك واحدًا منها:

«بعدما قطعت صلتي بالملعونة كاترينا، وبعدما اختفى من باريس ذلك الشاب البائس المسكين الذي تآمر معها على الإساءة إليَّ، عزمت على أن أقوم بتنظيف زخرفتي لفونتنبلو، وهي من البرنز، وأن أصقل كذلك تمثالي النصر، اللذين كانا يمتدان من الزاويتين الجانبيتين إلى الدوائر الوسطى في الباب الخارجي. ومن أجل ذلك صحبت إلى بيتي فتاة مسكينة في نحو الخامسة عشرة من عمرها. وكانت غاية في جمال الهيئة، حية، بشرتها حمراء. ولما كانت ريفية إلى حدٍّ ما فقد كانت مُقِلة في الحديث، سريعة في شهيتها، وفي عينيها نوع من الوحشية، وقد أطلقت عليها اسم سكوزونا، في حين أنها كانت تُدعى جيانا. وبمعونتها أتممت فونتنبلو وتمثالي النصر اللذين صمَّمت أن أُزيِّن بهما الباب الخارجي. ومن جيانا هذه أنجبت طفلة في السابع من يونيو في الساعة الثالثة بعد الظهر من عام ١٥٤٤م. وأسميت الطفلة كنستانتيا، وقد رفعها فوق النبع السنيور جيدو جيدي، أحد أصدقائي المقربين، وهو طبيب الملك. ووقف وحده للطفلة أبًا روحيًّا؛ لأن العادة في فرنسا أن يكون للطفل أب روحي واحد، وأمَّان روحيتان، وإحدى هاتين الأمَّين كانت السنيورا مادالينا، زوجة السنيور لويجي ألاماني، أحد أعيان فلورنسة، وشاعر مجيد. أما الأم الثانية فكانت سيدة فرنسية من أسرة كريمة، زوجة السنيور ريكاردو دل بين، وهو كذلك مواطن من فلورنسة وتاجر معروف، وكانت هذه الطفلة أولى بناتي وأبنائي على ما أذكر، وقد خصصت الأم بنفقة رضيت عنها عمتها، التي أسلمتها لرعايتها، ولم تَعُد لي بها معرفة بعد ذلك.»

ولا يسترعي انتباهنا هنا الانحراف الجنسي، أو الانعدام المطلق الظاهر للإحساس بالإثم عند سليني. إنما يسترعي نظرنا تركيز فكره في نفسه بصورة بادية، وانعدام وعيه بغيره كأشخاص، أو كأحياء جديرين بالاهتمام — أعني براءته الصبيانية.

وقد يبدو أن الإنسانيين ذوي الذهن الخصيب كانوا في الواقع ينبذون «كل» سلطان، لا سلطان كنيسة العصور الوسطى وحدها. كانوا إنسانيين، بمعنى أنهم اعتقدوا أن الإنسان هو معيار كل شيء، وأن كل امرئ مقياس نفسه. شعارهم «الفردية» — كان هؤلاء الرجال فرديين يقابلون «التابعين» الجبناء الذين ينتمون إلى رهبان العصور الوسطى. كانوا قومًا يجرءون على أن يعبِّروا تعبيرًا صادقًا عن أنفسهم؛ لأنهم كانوا يثقون في قدراتهم الطبيعية، في شيء في دخيلة أنفسهم. كانوا ذلك الطراز من الرجال الذي نحبه نحن الأمريكيين، كانوا رجالًا لا يضايقون أنفسهم في شيء — وكأنهم من ولاية تكساس.

ونذكر رابليه هنا مرة أخرى مثالًا لذلك؛ كان يحب أن يسخر من رهبانية العصور الوسطى، ومن خرافتها، ومن تمسُّكها بالعفة، ومن عملها الأرسطاطاليسي، وهو يحرِّر الرجال والنساء من هذا الهراء. وديره الذي يُسمَّى «دير تيليم» كان ديرًا علمانيًّا حقًّا، يقبل الرجال والنساء على السواء، وقد نُقش على مدخله هذا الأمر السار: «افعل ما تشاء».

وأعود فأكرِّر أنه ينبغي لنا أن نتجنب المبالغة في تخليص هذه الحركة من كل عاطفة نبيلة؛ فلقد كان رجال النهضة هؤلاء — إذا نظرنا إلى النهضة من وجهها الرياضي — هم كذلك صانعي العالم الحديث، عاونوا كثيرًا على هدم العالم الوسيط، وبخاصة أوجهه السياسية والخلقية، وأنتجوا كثيرًا من الأعمال الفنية التي تُعَد جانبًا من تراثنا لا مفر لنا منه. ولما حلَّ القرن التاسع عشر كانوا قد بلغوا حد العمالقة، وأدَّوا لأكثر أمم أوروبا العظيمة — ما خلا ألمانيا التي كانت في انتظار جيته — تلك الوظيفة الهامة؛ وظيفة أبطال الثقافة. وأرجو ألا تحسَبوا هذه الإشارة تافهة؛ فلولا شيكسبير لربما اهتزَّ — بل لخفَّ بالتأكيد — اعتزاز البريطانيين بأنفسهم، واعتزازنا أيضًا، ولم يكن بالإمكان أن يحل محله آخر.

غير أن رجال النهضة هؤلاء لم يكونوا البتة يعملون لأهداف كأهدافنا، ولو التقينا بهم أحياء لشق علينا أن نَعُدَّهم من ذوي قربانا. ولا يرجع ذلك — كما سوف نرى في الفقرة الآتية — إلى أنهم لم يستسيغوا الديمقراطية بمعناها الحديث عندنا، بل لم تكن لديهم عنها فكرة ما. وإنما الفارق بيننا وبينهم أعمق من ذلك، أو قُل إن هذا الفارق الأساسي يمتد إلى كل ميادين الحياة. ويمكن التعبير عنه بوسائلَ شتى. إن وراء معتقداتنا الديمقراطية الحديثة نوعًا من التفاؤل، فكرة عن إمكان النظام وانتشار الرفاهية بين الناس أجمعين، وهي فكرة لم تكن لدى رجال النهضة. إننا نؤمن اليوم بالتقدُّم المطرد، وبزمانٍ أفضل في المستقبل هو من طبيعة الأشياء. ونحن نعتقد في الخير الأساسي وفي القدرة على التعلم الكائنة عند الكائنات البشرية العادية. وهناك إيمان أساسي بأن الإنسان ينسجم مع الكون بصورةٍ ما، وإذا عبَّرنا عن الموضوع ببساطة ليست كلها خداعًا، قلنا إن الناس قد خُلقوا ليكونوا سعداء.

هذه في الواقع تعميمات ضخمة غاية في الخطورة، وربما لا تكون هذه المعتقدات سائدة بين أكثر الناس في منتصف القرن العشرين، وربما كنا على أعتاب عصر جديد وإيمان جديد، ولكن هذه المعتقدات كانت بالتأكيد معتقدات الديمقراطية المتفائلة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وفي نهاية أحكامنا العامة عن النهضة يجب أن نعترف بأنه ما دامت هذه القرون الأولى من العصر الحديث كانت منبتًا لآرائنا، وما دامت — فوق كل شيء — قرونًا من التخمر العقلي العظيم ومن التجارب الكبرى، وحيث إنه قد كانت هناك — بوجه عام — حرية للفكر في أكثر أنحاء أوروبا؛ ما دام الأمر كذلك فإنك تستطيع أن تجد أمثلة من كلِّ ما يطرأ على ذهنك في هذه الأيام. فإن كنت من الديمقراطيين أتباع جاكسون وجدت عند «دعاة المساواة الإنجليز» أصولًا لما تعتقد. وقد أكسبت العلوم والمخترعات، والمكتشفات الجغرافية الحياة العقلية اتجاهًا حديثًا. كما كانت الجدة والإثارة من الأمور المألوفة، أو كانت على الأقل توجد دائمًا بجهد ضئيل. وقد كان أحد الإنسانيين في تلك القرون هو الذي أمدنا بالكلمة التي نلخِّص بها الفكرة التي تقول بأن الناس يمكن أن يكونوا سعداء، ويمكن أن يتلاءموا تلاؤمًا طيبًا في مجتمعٍ كامل فوق هذه الأرض — وتلك الكلمة هي «الطوبى، أو المدينة الفاضلة».

وعند هذه الكلمة يجب أن نقف هنيهة نفكِّر فيها. إننا نستخدم كلمة «الطوبى» وفي نفوسنا شيء من السخرية. والكلمة تحمل في طياتها نعمة لا يخطئها المرء تنم عن الأحلام، والأساطير، وغير الواقعي. وليس في ذلك شيء من التعسف؛ لأن «طوبى» سير توماس مور ليست أقرب إلى التفكير الحديث من «جمهورية» أفلاطون. وإذا كنت ذا منحًى خاصٍّ من التفكير والتربية أضفت إلى ذلك أنها «ليست أيضًا أقل في حداثتها من «الجمهورية»» كلاهما من عمل مثاليين ميتافيزيقيين، وكلاهما من ذوي العقول المرنة الذين يأملون أن تتجاوز الروح الجسد بصورةٍ ما. إن كتاب مور يمثل اهتمام أوائل القرن السادس عشر بالمكتشفات الجغرافية و«الطوبى» ذاتها جزيرة قام بزيارتها الملاح رالف هثلوداي — وهي أكثر احتفالًا بالمشكلات الاقتصادية من «جمهورية» أفلاطون. غير أن كليهما متسلط في روحه، ويبدو أن كليهما لم يكن على دراية بالتحول في العلاقات الإنسانية باعتباره عملية مستمرة، بل وتطورًا من ضروب التطور، وربما كان أكثر الكتَّاب الذين أقبلوا عامدين على اختراع نوع من أنواع المدائن الفاضلة متسلطين بطبيعتهم، حتى إن كانوا — كما كان كارل ماركس — ينادون فيما يكتبون بزوال الدولة، أو بهدف بعيد فوضوي آخر واعتباره الغاية القصوى.

كان سير توماس مور أحد الباحثين الإنسانيين، كاثوليكيًّا استُشهد على يدَي هنري الثامن، ولم يكن البتة أحد أولئك الإنسانيين ذوي العقول الخصبة الذين نوليهم اليوم اهتمامًا خاصًّا. وهؤلاء الإنسانيون ذوو العقول الخصبة هم الذين أكسبوا النهضة ذلك اللون الذي يبدو لنا اليوم جذابًا من بعيد. كان هؤلاء المغامرون، المتطلعون إلى المعرفة، المنفعلون في صميمهم، على غير ثقة بأنفسهم وبمكانتهم في العالم. لقد حاولوا جاهدين أن يثقوا بأنفسهم، ولكنهم لم يصيبوا نجاحًا يُذكر. إنهم لم يتمتعوا بذلك الأمن الأكيد الذي بلغه الإنسانيون الكلاسيكيون «المقتصدون». كانوا دائمًا يجرِّبون شيئًا جديدًا، ودائمًا يحاولون أمرًا جديدًا.

وكانت لهم على أية حال غايات خاصة، وأهداف خاصة، وطرق خاصة يسعون إلى اتباعها. كانوا يحقِّرون من شأن السلف، لا من أجل ما عَدُّوه دورانًا منطقيًّا فارغًا فحسب، ولكن كذلك من أجل ما عَدُّوه خوفًا من الحياة — حياة الشهوات — الذي عرفته العصور الوسطى. كان التفكير الجديد عند أفراد الطراز الحديث لعهد النهضة — وقد كان الإنسانيون ذوو العقول الخصبة في قمة حركة التجديد في القرن السادس عشر — كان هؤلاء ينادون صراحة بوثنيتهم في سبيل استمتاعهم بالحياة؛ فلم يكن هؤلاء الإنسانيون وهؤلاء الفنانون يشبهون في شيء أولئك المنحلين الذين ظهروا في أواخر العصور الوسطى، يؤرق ارتكاب الذنوب جُنُوبهم عندما يحاولون أن يمتعوا أنفسهم. كانوا يرقصون رقصة الحياة لا رقصة الموت.

ولكنه كان رقصًا علنيًّا، وكان الراقصون يتألقون. كل راقص يجاهد أن يبز الآخرين في صقله، وحيويته وقدْرته على الاحتمال. وكانت المنافسة بين الجماعات التي رسمت حدود الأرستقراطية على أقوى وأشد ما كانت عليه في أي عهد سبق من عهود المجتمع الإنساني، وربما كانت هذه المنافسة بين الصفوة أفتكَ من تلك المنافسة واسعة الانتشار التي عُرفت في أواخر القرن التاسع عشر. وكانت النهضة عصر البطولة — ويتمثل البطل كفنان، وجندي مغامر، ومكتشف، وباحث بل وسجين. وإذا لم يبلغ المرء حد البطولة، كان فاشلًا في حياته.

والكلمة العظيمة — التي دار حولها كثير من الأدب النقدي والأدب التاريخي — الكلمة التي يبدو أنها تشير إلى هذا المزيج من جميع المواهب الذي يكاد يبلغ حد الجنون، هذه الكلمة هي ما يدل في الإيطالية على «الفضيلة»، وهي كمثيلتها في الإنجليزية الحديثة مشتقة من الأصل اللاتيني الذي يعني «الرجولة». و«فضيلة» النهضة تؤكد «الرجولة» بمعناها لدينا، وتضيف الكثير إلى هذا المعنى. «الفضيلة» مَثَل أعلى من مُثُل الطبقة العليا، يستطيع الشخص الموهوب من الطبقة الأدنى أن يرتفع إليه، وهي كمُثُل الفروسية التي اشتُقت منها إلى درجةٍ ما. ومثل الفضيلة — كمثل الفروسية — يمكن أن يؤكد قانونًا سلوكيًّا لا ينحرف عن المسيحية، ويمكن أن يتحول في يسرٍ شديد إلى قانون الجنتلمان، وهو قانون الحشمة وإن بُولغ في جانب التهذيب منه، كما يصوِّر بالدراسات كاستجليوني في مؤلفه «كتاب البلاط». وكان كاستجليوني يكتب كإنساني، مع كثرة الإشارة إلى الأدب القديم، ولكنه يكاد ينتمي إلى العصور الوسطى من حيث عقيدته التي تنم عن مرونة العقل، عقيدته في صحة المثل الأعلى. والأمير الذي يصوِّره أقرب إلى الأمير الذي صوَّره جون سولزبري في العصور الوسطى منه إلى الأمير الذي صوَّره معاصره مكيافيلي:

«ما دام الأمر لا يكلفنا سوى الألفاظ، قُل لنا بإخلاص كلَّ ما يطرأ على عقلك تعلم به أميرك.»

فأجاب سيدي أوتافيانو:

«أود أن أعلِّمه أمورًا كثيرة أخرى يا سيدتي لو أني عرفتها؛ من ذلك أنه لا بد أن ينتقي من بين رعاياه عددًا من أنبل وأحكم الرجال المهذبين، يشاورهم في كل أمر من الأمور، ولا بد أن يعطيهم السلطة والحرية المطلقة في التعبير له عن آرائهم في كل شأن من الشئون بغير كلفة. وعليه أن يسلك معهم سلوكًا يمكنهم من أن يلمسوا جميعًا أنه يحب أن يعرف الحق عن كل شيء، وأنه يضع كل طريقة من طرق المغالطة موضع الكراهية. وإلى جوار مجلس النبلاء هذا، أنصح أن يختار من الشعب أفرادًا آخرين من ذوي المرتبة الأدنى، يكوِّن منهم مجلسًا شعبيًّا، يتفاهم مع مجلس النبلاء فيما يتعلق بشئون المدينة، سرًّا وعلانية. وبهذه الطريقة يتكون من الأمير (وهو بمثابة الرأس) ومن النبلاء والعامة (وهم بمثابة الأعضاء) هيئة واحدة موحدة تصدر إدارتها عن الأمير خاصة، ولكنها تشمل الآخرين كذلك. وهكذا تكون لهذه الدولة أشكال الحكومات الطيبة كذلك، وهي الملكية، وحكومة الصفوة، وحكومة الشعب.

وأحب بعد ذلك أن أدله على أن العدالة هي أهم المهام التي ينبغي أن يشغل الأمير بها نفسه. ولضمان الحفاظ عليها ينبغي له أن يختار لمناصبها أكثر الناس حكمة وتجربة. أولئك الذين يتميزون ببُعد النظر الصحيح المصحوب بحب الخير؛ لأن بُعد النظر إذا لم يُصطَحب بالخير لم يكن من بُعد النظر في شيء، وإنما يكون دهاءً أو مكرًا. وإذا انعدم هذا الخير فإن مهارة المدعي وحذقه في التعبير لا يؤديان دائمًا إلا إلى تدمير القانون والعدالة وهدمهما. وعندئذٍ يقع وزن أخطاء القضاة على الرجل الذي وضعهم في منصب القضاء.

وأحب أيضًا أن أعلمه كيف أن العدالة تُولِّد كذلك تلك التقوى لله التي هي من واجب الناس أجمعين، والأمراء منهم خاصة، الذين ينبغي لهم أن يحبوه أكثر من أي شيء آخر، وأن يوجهوا كل أعمالهم نحوه كما يوجهونها نحو الغاية الصحيحة، وأن يكرموه ويحبوه دائمًا، كما قال زنيفون، وبخاصة في رخاء، حتى يكون من المعقول أن تنشأ في نفوسهم الثقة فيما بعد وهم يسألونه الرحمة عندما تلم بهم النوائب.»

وليس المزج بين آراء زنيفون وإله المسيحيين غريبًا عن صفاتهم بتاتًا؛ فالنغمة السائدة هي نغمة الأفلاطونية، وقد خُفِّفت حتى يمكن أن تستخدمها الطبقة العليا — ومَن يحذو حذوها ممن يهمه أن يأخذ قواعد التهذيب عن الإنسانية الجديدة.

و«الفضيلة» يمكن من الناحية العملية أن تعني القيام بعمل، أيًّا كان، بطريقة أفضل من طريقة أي فرد آخر. والمهارات التي تقدِّرها الفضيلة هي مهارات البطولة، وضرب الأرقام القياسية، وربما كان الإنسان بغريزةٍ من غرائزه ضاربًا للرقم القياسي، وإنما الأمر يتوقف إلى حدٍّ كبير على أي ميدان من الميادين يريد أن يضرب فيه الرقم القياسي. وقد كانت النهضة في ذلك فوضوية كما كانت في الأوجه الأخرى. ومن الحق أن النهضة لم تكن جوًّا ملائمًا لضرب الرقم القياسي في التزهُّد. ولم يكن الصوم، وقمصان الشعر، والنسك، من الأساليب المألوفة. وكل أمر فيما خلا ذلك جائز. ويُعَد دون جوان — الذي عُرف بغزوه لألف وثلاث سيدات في إسبانيا وحدها — أقربَ إلى تقاليد النهضة في ضرب الأرقام القياسية.

ومن الواضح أن دون جوان في ضربه للرقم القياسي لم يكن سعيدًا كل السعادة. وحتى في الأسطورة كما تُروى بالصيغة الإسبانية الجديدة نجد دون جوان رجلًا بائسًا يدفعه إلى الوقوع في حبائل معشوقاته العديدات حافز شيطاني ليس هو ذلك الذي تسميه هوليوود — كما يسميه أكثرنا — بالجنس. والواقع أن دون جوان أخ لشخصيةٍ أسطورية أخرى، أصبحت بحلول النهضة شخصية أدبية — هي شخصية فاوست، كلاهما يريد شيئًا فيه مبالغة، بل إن إرادتهما ذاتها كانت تتسم بالمبالغة، ولكنهما لا يستطيعان أن يُشبِعا حاجاتهما التي لا تنتهي بالطريقة التي قدَّمتها تقاليد المسيحية من قديم في صورها المختلفة العديدة من الانتماء الصوفي إلى العالم الآخر. إنما كانا يريدان أن يُشبِعا حاجاتهما ماديًّا، في هذه الدنيا وفي هذا الزمان، كما كان يريد غيرهما من الناس. غير أن حاجاتهما لم تكن حاجات غيرهما من الناس، بل إنه لمما يشعرهما بالخجل أن تكون مزاياهما في الجسد والروح من القلة بحيث يمكن سدُّها. كانا يسعيان في قلق شديد إلى شيء لا نهائي يجده أمثال شبنجلر في أهل الشمال، في الرجل الفاوستي. ولكنهما كانا يمثلان النزعة الإنسانية تمثيلًا صادقًا؛ فكانا يريدان كل ذلك عن طريقٍ غير طريق الله، وغير طريق التأمل، أو النرفانا، أو أية طريقة صوفية من طرق إنكار الذات.

وهذا الإحساس بتجاوز الحدود، كانوا لا يستشعرونه في الحياة الواقعية إلا بمحاولة ضرب الرقم القياسي، وبهذا الاندفاع المقصود نحو المبالغة في الصفة التي أسميناها الخصب. وفي الفنون الجميلة كان هذا السعي نحو تحقيق المبالغة يتقيد بدرجةٍ من الاحترام كان الكل يحسها إزاء إنتاج الإغريق والرومان؛ فكان فنان النهضة لا يزال يشغل عقله وهو يصور الأمور الطبيعية الواقعية في هذه الدنيا بمشكلاتٍ لا تجعله يحس الحاجة إلى أن يكون حوشيًّا، أو تجريديًّا، أو غير مفهوم، إنه يستطيع أن يقوم بأعمال «كبرى»، كما كان ميخائيل أنجلو. ومهما يبلغ إعجابك بميخائيل أنجلو فلا مناص لك من الاعتراف بأن في أعماله — صورة داود وصورة الإله وآدم وحواء في كنيسة سيستس — شعورًا بالجهد، وبالنضال البطولي لبلوغ البطولة والقوى الخارقة. والواقع أن مجرد وضع الإله — الإله القوي صاحب الجلالة، ولكنه إله لا يخلو البتة مع ذلك من صفات «الفضيلة» — في صورةٍ بسقف الكنيسة كان مثالًا لما يمكن أن يقوم الإنسانيون ذوو العقول الخصبة بعمله؛ كما كان يلائم عقول البابوات ذوي النزعات الإنسانية. ولم يكن ذلك لأن العصور الوسطى — وهي في أوجها — كانت موسوسة في زيادة تقريب الله من الناس بتصويره أو نحته؛ ففي «يوم الحساب»، وكان من الموضوعات التي يؤثرها النحاتون في أوائل العصور الوسطى خاصة، كان لا بد من ظهور الله في الصورة، ولكنه لم يبدُ قطُّ في صورة الفارس الكامل. وفي أواخر العصور الوسطى كان هناك ميل إلى حصر التمثيل المادي في يسوع، والعذراء، والقديسين، كأن الله لم يكن في الواقع من نوع الإنسان.

وتتضح هذه الصفة من صفات النهضة — صفة السعي إلى تحقيق الفذ، والمبالغة، والعظمة — بصورة جلية في الكتابة بكل ضروبها — حتى في أعمال الباحثين. وقد ذكرنا من قبل أساليب التلطف في التعبير والمقابلة. والواقع أنه ليس من بين الكتَّاب مَن لم يجتهد في مرحلة من مراحل حياته الأدبية في أن يكوِّن نفسه، حتى يمسي نفيسًا، صعب المنال، كثير التشبيهات والصور الخيالية. ويصادفنا أحيانًا تكدُّس للتفصيلات العلمية، والحكايات القديمة الغريبة، وغرائب التجارب بجميع صنوفها، بدرجةٍ لا يصدقها العقل، كما نجد عند رابليه. ولما جاء الكتَّاب الفرنسيون المتأخرون الذين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية المقتصدة، وأذهلهم هذا الخصب وعدم التقيُّد بالشكل عند رابليه، عَدُّوه «غوطيًّا»، في حين أنه بالطبع لم يكن. إنما كان مجرد إنساني خصب الذهن، متحررًا إلى أقصى حد، لو أنه عاش في القرن الثالث عشر لما ارتاحت نفسه كرجل من رجال الفكر (ولو عاش في القرن الثالث عشر لما اشتغل بالكتابة، وإنما مارس بكل قلبه وقدرته مهنته الطبية، لا يزعجه — بغير وجه حق — ما هو عليه من جهل). وأحيانًا تظهر هذه الصفة في أسلوب نثري، ولو أنها بدت في أي عصر آخر لكانت صفة مصطنعة لا تُستساغ، كما نجد في «دفن الرماد» لسير توماس براون. وقد تقول إن ذلك من أثر الأسلوب اللاتيني البائد عندما بلغ أوجه في تكلُّف المعنى وأناقة اللفظ على يد شيشرون. ولكنه الأسلوب الذي كان هؤلاء الكتَّاب يرونه ملائمًا، وهو شيء كانوا يسعون إليه عن قصد وعمد. وكان الكاتب في عهد النهضة لا يعرف كيف يقف. وقد يكون هذا عيبًا في كل عصر من العصور الأدبية، ولكنه كان في تلك الأيام شائعًا بصفة خاصة، ولا يَصدُق هذا على الكتَّاب الأوائل ذوي العقول الخصبة من أمثال رابليه وحدهم، وإنما هي صفة نلمسها كذلك عند الكتَّاب المتأخرين، ومن بينهم الشاعر الإنجليزي سبنسر، الذي ينظم «الملكة الحسناء» في ثمانين فصلًا، ولا تنتهي بذلك القصيدة.

وأخيرًا أحب أن أنوِّه إلى أن صفة المبالغة هذه تظهر في عمل رجل عاش بعدما اندثرت مزايا النهضة بوقت طويل، ذلك هو توماس ولف الذي أضفى عليه كل النقاد الأمريكان في فترةٍ ما صفة «النهضة» وهو روائي من كارولينا الشمالية، مات في عام ١٩٣٨م. ولم يتجاوز النقاد حدود الصواب، ولم تكن لهم مندوحة عن استخدام وصف «النهضة»؛ ذلك أن رغبات ولف كانت كلها شهوات، وكل شهواته عارمة. وهو يروي في قصته «الزمان والنهر» كيف — وهو طالب في هارفارد — اتصل بالمكتبة اتصالًا قويًّا، وكانت تحوي حتى في ذلك الحين نحوًا من مليونين أو ثلاثة ملايين مجلد، وشرع يقرؤها جميعًا، صاعدًا وهابطًا بين رفوف المكتبة، ليسحب هذا الكتاب أو ذاك. وفي لحظة عظيمة من لحظات تركيز الذهن، يسجل مضمونه في زاوية من زوايا عقله، ويضمه إلى محصوله. وقصَّر كثيرًا حتى عن أن يتم المليون الأول، غير أن هذا لا يعني إلا أن النهضة لا يمكن أن تعود، وليس من شك في أن الانغماس في قراءة ولف يوضح لنا الصفة التي حاولنا عرضها.

ولا ينبغي لنا أن نحسَب أن هؤلاء الإنسانيين ذوي العقول الخصبة كانوا جميعًا شديدي الاندفاع، وأن أحدًا منهم لم يستمتع قطُّ بلحظة هدوء؛ فلقد كان بعضهم ينهك إذا طال عمره. وكان بعضهم يشق طريقه وسط الزوابع والإرهاق لما اتفق عالمهم على أن يسميه الحكمة. ويبدو أن بعضهم كان له دائمًا نوع من الحكمة فيما يتعلق بالكائنات البشرية، غير أن الهدوء والحكمة وحالة الاتزان في حكمهم — مما ينشأ عن أسلوب الحياة في عهد النهضة يختلف جد الاختلاف عما يماثله عند الباحثين في العصور الوسطى، وما نجده عند كلاسيكي «مقتصد» مثل بوالو. وينتمي شيكسبير — في حياته كلها وفي محيطه — إلى ما أطلقنا عليه اسم الإنسانيين ذوي العقول الخصبة. كان يتصف بأكثر مميزات النهضة، وكان يتأثر أكثر نماذج النهضة. كان رجلًا حكيمًا، ولكنك إن حكمت عليه من كُتبه — ومن حسن حظنا أن كتبه هي كل ما لدينا من وسيلة للحكم عليه — ألفيت لديه مرارة لا تلمسها في المسيحية الأرثوذكسية، ولا تلمسها في عصر «النور». عنده ما عند النهضة بأكملها من احتقار لكثرة العدد، ولما هو مبتذل؛ فلم يكن البتة ديمقراطيًّا. وليس لدينا دليل قاطع على أن شيكسبير كان مسيحيًّا، ومن المؤكد أنه كان يفتقر إلى حرارة المسيحيين، وإلى مشاعر المسيحي إزاء إرادة الله. ولم ينظر إلى القدَر، أو إلى الكون أو إلى طبائع الأشياء على أنها من الأمور التي قُصد بها الإنسان، أو حتى من الأمور التي قُصد بها امتحان البشر. والظاهر أنه لم يعتقد البتة في تعديل هذه الأمور، ومن الواضح أنه لم يبحث عن الأسباب الطيبة، وهو ينتهي إلى حالة شبيهة بحال مونتيني بصورة مذهلة، بالرغم من أن مونتيني لم يبلغ مبلغ شيكسبير في درجة الخصوبة أو الاضطراب في الجو الفكري. العالم عنده مكان ممتع، بل ومثير للإنسان في شبابه، ولكنه ليس بالمكان الجميل، ومن المؤكد أنه ليس بالمكان المعقول.

إن النزعة الإنسانية في أوائل العصر الحديث ليست من الاتجاهات التي يمكن تلخيصها في وضوح. وقد ذكرت من قبل أن العالم الطبيعي الذي يريد أن ينظم الحيوان، أو النبات، أو أن يصنفهما أجناسًا مختلفة لا يتوقع أن يكون تصنيفه محكمًا شاملًا؛ فهو يعلم أن أجناسه — في واقع الحياة — تتنوع وتتداخل، وهو يدرك أن عمله لا يمكن أن يبلغ درجة الكمال. وكذلك نجد أن بعض مَن أخذ بالأساليب والمعتقدات الإنسانية كانوا موحدين بالله إلى حدٍّ ما، بل كانوا يسيرون وفقًا للتقاليد المسيحية مباشرة؛ فهناك مثلًا سير توماس مور، الذي يُعَد الآن في الواقع القديس توماس مور. وكذلك نجد بعضًا من الإنسانيين يقتربون جدًّا من العقليين الذين سوف نتعرض لهم في الفصل العاشر. إنهم يقتربون من الاعتراف بالنظرة الآلية إلى الكون. غير أن الاتجاه الإنساني برغم ذلك اتجاه يمكن عزله ووصفه مستقلًّا إلى حدٍّ ما. إنه يختلف عن المسيحية الغربية التاريخية في عهده في أنه لا يثق بالنزعة المدرسية ولا يثق بكل مركَّب العصور الوسطى، وفي أنه يمقت أوجه البروتستانتية في العهد القديم ذات النزعة الإنجيلية. وهو يختلف عن الاتجاه العقلي في أنه يتشبث — أو يريد أن يتشبث — بالفكرة التي تقول بأن الإنسان ليس كله جزءًا من الطبيعة، وأنه أمهر الحيوانات فحسب، «بل إنه في الواقع ليس كله بالحيوان»، وذلك بالرغم من انحياز الاتجاه الإنساني إلى الإيمان بتفوُّق الأمر الطبيعي على رسميات العصور الوسطى، ومقدساتها، وتقاليدها.

الإنساني يرى في الكائن البشري، الكائن البشري بأكمله ومركَّبه، المعيار الذي يقيس عليه. وإذا أردنا أن نبالغ في التبسيط قلنا إن شعاره: لا تكن إنسانًا رفيعًا (متدينًا) ولا تكن إنسانًا وضيعًا (آليًّا). كانت الإنسانية في مجموعةِ قيمها — كما بينَّا من قبل — تشمل مدًى فسيحًا متدرجًا من السلوك المادي مثلما يشمل أي نظام للقيم غربي آخر عظيم. قد يكون الإنسان معيار كل شيء، ولكنه ليس معيارًا دقيقًا يُؤخذ به في كل حين؛ فهو مثلًا يستطيع أن يشرب الخمر في توحُّش، كما يستطيع أن يتناول قليلًا من أكواب النبيذ فيلمع باعتدال في ذكائه وفطنته، ويستطيع كذلك أن يتناول قليلًا من النبيذ يصلح به معدته، أو أن يمتنع امتناعًا قاسيًا، ويحاول أن يمنع الآخرين عن تعاطي أي نوع من أنواع المشروبات الروحية. وفي القرون الأربعة أو الخمسة الأخيرة مالت قطْعًا تلك الأقلية المهذبة — التي تحب أن تسمي نفسها إنسانية — نحو السلوك الثاني، وكانت تستهدف الاعتدال الذي يُدخِل البهجة في النفوس، ولكن الإنسانية في أيام النهضة التي كانت أشد من ذلك عربدة لم تحصر نفسها في هذه الحدود. كانت تستطيع أن تعربد مع رابليه، وأن تتهذَّب مع مور، وأن تتعالم مع أرازمس، وأن تنشط في حماسةٍ مع سليني، وأن تتشكك وتتسامح مع مونتيني، بل أن تكون نابليونية تضم سيدات فاتنات ورجالًا مهذبين — كما كانت الحال في بلاط لورنزو العظيم في فلورنسة.

الاتجاهات السياسية في النزعة الإنسانية

إن القرنين اللذين نعالجهما هنا كثيرًا ما يُطلق عليهما في التاريخ السياسي «فترة الإطلاق». ومن الحق أن الدولة الدنيوية الحديثة في هذين القرنين قد انبثقت عن دولة العصور الوسطى في جميع أرجاء العالم الغربي، حتى حيثما كانت الوحدة الأرضية ليست الحكومة القومية كما نعرفها — كما كانت الحال في جرمانيا — إنما هي أراضي أمير، أو مدينة حرة، ربما لا تزيد في مساحتها عن سابقتها في العصور الوسطى. وأبسط ظاهرة عملية لهذا التحول تتمثل في وجود سلسلة وحيدة من السلطة في الوحدة الأرضية الجديدة — يعززها نظام متدرج من محاكم القضاء والقوة المسلحة، من الشرطة والجند — يدفع أجورها، ويديرها، ويدبِّر أمرها أولئك الذين يتربعون في قمة السلسلة. وقد بقيت آثار الإقطاع في كل مكان تقريبًا، وهذه الدولة الحديثة لم يكن البتة لديها ذلك التنظيم الدقيق وذلك التسلسل في السلطة الذي يفترض أن يقوم على أساسه الجيش الحديث. غير أن الاختلاف عن نواة العصور الوسطى المعقدة من الحقوق والواجبات، ومن توازن السلطات وقيود العادات، كان عظيمًا جدًّا. إن الدولة الحديثة — حتى إن أنت اعتبرت روسيا السوفيتية نهاية تجسيدها — لم تكن في أي وقت من الأوقات ذلك المجتمع المجنَّد، المنظم تنظيم جماعة النمل، الذي يقصد إلى الكفاية بغير تورُّع، كما تصورها ناقدوها الكثيرون. إنما هي من الناحية التاريخية قد نشأت — على الأقل إلى حدٍّ ما — عن الحاجة إلى التقنين والكفاية والحاجة إلى شيء من الحد من ميل الإنسان إلى الضلال، وإلى التراخي، وإلى التفرد.

ونستطيع مرة أخرى أن نضرب المَثل بثنائية بسيطة: إذا أنت أوضحت أوجه التباين بين السلطة (الإرغام) والحرية (التلقائية)، وجدت في هذه المباينة أن الدولة الحديثة في جميع أشكالها — حتى عندما تكون هذه الأشكال ديمقراطية — تنتمي إلى جانب السلطة. وهناك بطبيعة الحال أشكال متنوعة من الناحيتين التاريخية والجغرافية، ويمكن أن تقترب بعض الدول من الجانب المطلق من التسلط أكثر من غيرها. غير أنها جميعًا كانت تمارس رقابة سياسية على أكثر الأفراد أشد مما ألِفته العصور الوسطى.

ومن المؤكد أن نظرية الدولة المطلقة بلغت في تلك السنوات من الصراحة ما بلغته في أي عصر آخر (ويبدو أن نظرية الحكم الشامل الحديثة لا تحب أن تقف صراحة ضد أمثال هذه الألفاظ التي لها جاذبيتها ﻛ «الحرية» و«الديمقراطية»). وقد اخترع هوبز الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر للدولة الحديثة لفظة «لفاناتان» أو الوحش الضاري. وقد لبث هذا الاصطلاح منذ ذلك الحين سبَّة بين الكتَّاب المتحررين، واستغل هوبز صورة قديمة من صور النظريات السياسية، لها ماضٍ طويل من الاحترام من عهد روما حتى العصور الوسطى، وهي نظرية التعاقد. غير أنه حرَّف هذه الفكرة — التي استُخدمت على وجه الجملة في جانب التحرر — وواءم بينها وبين نظريته في التسلط مواءمة قوية. كان التعاقد من قبلُ يفترض وضع «قيود» على جميع أطرافه — سواء منهم الحاكم والمحكوم — ولكنه يقيم فوق كل شيء نوعًا من الحدود يمكن للفرد في نطاقه أن يستقل. أما هوبز فيرى أن جميع الأفراد إنما يقبلون التعاقد لكي يتجنبوا الحرب المفزعة التي يشنها كل فرد ضد المجموع التي لا بد أن تسود لو أن الإنسان بقي على «حالة الطبيعة» (وسوف نعود إلى هذه الفكرة عن حالة الطبيعة. أما هنا فيكفينا أن نذكر أن هوبز كان يَعُد هذه الحالة مؤلمة إلى درجة أنها ربما لم يكن لها من قبل في الواقع وجود). وهؤلاء الأفراد يتعاقدون فيما بينهم على خلق السيد، وهو صاحب السلطة الذي يسن القوانين التي تجب على الجميع طاعتها، والتي تحل النظام محل الفوضى في حالة الطبيعة. «ولكن ليس هناك تعاقد بين الفرد أو أي مجموعة من الأفراد وبين السيد» السيد المطلق، وعلى الفرد أن يطيع السيد طاعة مطلقة، ولا يتحوط هوبز في الواقع إلا من ناحية واحدة فقط، وتلك هي أن السيد إنما يوجد لحفظ النظام، ولكي يكفل للفرد الأمان، فإن هو فشل في تحقيق هذا الغرض وسادت الفوضى في الدولة وأمست الحياة غير آمنة، حُقَّ للفرد أن يحمي حياته وأمنه بقدْر طاقته. غير أن هوبز لم يَضع قلبه في هذا التحفظ الفرضي، وإنما كان يضع قلبه مع إعلاء السيد فوق التعاقد الذي خلق وجوده.

ولم تكن نظرية التعاقد — كما سوف نرى — أرضًا ثابتة تحت أقدام المتحزبين للحكم المطلق في شكله الذي تميزت به النهضة، وهو الملكية المطلقة، بل لقد أضحت حافزًا من أقوى الحوافز التي دفعت إلى إقحام الآراء الديمقراطية. بيد أنه كانت هناك معاقل بأسْرها من الحجج والنظريات يلجأ إليها أولئك الذين ينادون بالحكم الملكي المطلق ويتلمسونها في المعرفة التاريخية الحديثة التي كانت ميسَّرة لجميع الأفراد المتعلمين، فاستمدوا الحجة من الإنجيل — وبخاصة من العهد القديم — ومن تاريخ اليونان والرومان، ومن أدب الكهان (بالنسبة إلى الكاثوليك على الأقل)، بل ومن بذور المعرفة الفجة الأولى، كعلم ما قبل التاريخ وعلم السلالات. ولا يجوز لنا أن ندهش لأن هذه الميادين بعينها كانت مصدرًا هامًّا لخصوم الملكية المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ذلك أن الإدراك العام يدلنا دائمًا على أن الشيطان يستطيع كذلك أن يقتبس من الإنجيل — الأمر الذي لا ينكره إلا أصحاب العقول البالغة في مرونتها.

وقد يكون من الممل ومما لا يجدي أن نستعرض عددًا كبيرًا من هذه الحجج التي تدافع عن إطلاق الحكم. ومن الأمثلة الطيبة نظرية الأبوة، التي بلغت كمالها بين الكتَّاب الإنجليز في الكتاب الذي أنفق لوك في تمزيقه وقتًا طويلًا، وهو كتاب «الأبوة» لسير روبرت فيلمر. إن نظرية الأبوة تستحق الدراسة كمثال للوسائل المعقدة المنحرفة لما استحدثنا له في الوقت الحاضر التعبير ﺑ «التبرير» أو لما هو أشد من ذلك مدعاة للاستخفاف. ومن الجلي أننا لا نعالج هنا نظريات علمية، أو معرفة تراكمية، وإنما نحن نعالج جانبًا هامًّا من جوانب تاريخ الفكر، أو جانبًا هامًّا من جوانب العلاقات الإنسانية.

إن الكاتب الملكي يسعى — في أبسط عبارة — إلى أن يعبِّر باللفظ عن الأسباب التي تحتم على الأفراد أن يطيعوا حكومة الدولة المركزية الجديدة وهي حكومة يرأسها ملك رئاسة رمزية على الأقل. إنه في النظرية الأبوية يستغل المشابهة بين علاقة الأبوة والبنوة وبين علاقة الملك والرعية، وهو يتلاعب بالاستعارات التي تطلق على الرعية اسم «الأطفال» أو «القطيع»، كما يسمي الملك «الأب» أو «الراعي» أو ما شابه ذلك. وحتى اليوم — وفي الولايات المتحدة — حيث يحكم الزائرون الأوروبيون المغرمون بإلقاء الأحكام العامة بأن الأطفال في الولايات هم الذين ينشئون الآباء في كثير من الأحيان، حتى في هذه الحالة نجد أن الشعور بأن علاقة الأبوة والبنوة العادية هي علاقة الطاعة من جانب الطفل، وأن هذا الشعور لا يزال قويًّا جدًّا. وقد اختلفت قوة هذا الشعور باختلاف الزمان والمكان، غير أن أثر الميراث الثقافي الغربي الذي يعزِّز هذا الشعور قوي للغاية. ويرى الكثيرون أن هذه العلاقة هي من حقائق الحياة. وقد كان المجتمع العبري الذي جُمع فيه العهد القديم مجتمعًا أبويًّا للغاية، الابن فيه تحت رقابة أبيه المشددة، وإنك لَتجد نصوصًا ملائمة تؤكد أن عقوق الأبناء شرٌّ من الشرور، وأمر غير طبيعي، حيثما تنقلت في العهد القديم. و«قوة الأب» في المجتمع الروماني كذلك كانت قوة مطلقة في أيام الجمهورية، بل تمتد إلى حياة الابن. وبتسرُّب القانون الروماني إلى المجتمع الوسيط انتقلت فكرة السلطة الأبوية الثابتة. وكذلك استغلت المسيحية سلطان الأبوة، والمشاعر التي نمت حول هذا السلطان. وقد شاعت الاستعارة من التعبير بالراعي والقطيع طويلًا، وأُطلق اسم «الآباء» على قسس الكنيسة.

وكان من اليسير أن تمتد الاستعارة من الكنيسة إلى الدولة، وبخاصة لأن الدولة الحديثة النموذجية الجديدة في البلدان الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء استولت — حيثما استطاعت — على النفوذ الروحي، وعلى لب العواطف البشرية، التي كانت في العصور الوسطى تتركز في نظام الكنيسة. ولا نعرف على وجه اليقين كيف انتقل هذا النفوذ عن قصد وعمد. غير أنه مما لا شك فيه أن أمثال فيلمر لم يكونوا من أصحاب الميول العقلية الذين قد يسائلون أنفسهم قائلين إن البابا قد استطاع أن يجعل الفكرة التي تقول بأنه أب مقدس جد نافعة في تعزيز نفوذه، فلماذا لا نعزز سلطان الدولة إذا نحن لم نكفَّ عن التأكيد بأن مَلِكنا هو أبو الشعب؟ بل على العكس من ذلك كان فيلمر يعتقد صحة نظرياته، كما كان توم بين يعتقد صحة الآراء المناقضة.

غير أن النظرية الأبوية هي عبارة عن مجموعة من الحجج التي تعتمد في قوة إقناعها إلى حدٍّ كبير على المشاعر، لا على قوة المنطق وأثر التدريب بالنسبة إلى أولئك الذين يعتنقونها. إنها استعارة وليست نظرية، ويمكن ألا تكون صحيحة أو صادقة لأي امرئ يزعم لنفسه أنه لا يشعر أن الملك أب بأية حال من الأحوال بالنسبة إليه، وبخاصة إذا التزم المرء حدود الإنسانية والتعقل فإنه يستطيع أن يقول بأن هناك نوعًا واحدًا من علاقة الأبوة والبنوة، وهو النوع الذي نسميه بيولوجيًّا، والذي ربما كانوا في تلك الأيام يسمونه طبيعيًّا. ويمكن أن تُنبَذ النظرية الأبوية — باعتبارها تبريرًا لطاعةٍ لا مراء فيها من الرعية إلى الملك (أو من المواطن للحكومة) — بصورة أشد إذا تدفقت المشاعر في اتجاه صحيح، وذلك إذا أنت استبدلت استعارة أخرى مضادة بهذه الاستعارة، وزعمت أن في استعارتك من الصحة ما للاستعارة الأخرى. وهذا هو ما فعله أتباع لوك حينما زعموا أن العلاقة الصحيحة بين الرعية والملك هي علاقة الوكالة؛ فالمَلِك ليس أبًا لرعاياه، وإنما هو وكيل عنهم، وهو موجود ليكفل لهم حكمًا طيبًا، فإن أخفق في ذلك فلهم كل الحق في فصله كما يفصل المرء وكيلًا عنه لا تثبت جدارته. ويرى أكثر الأمريكيين أن نظرية الوكالة في الحكم هذه نظرية معقولة جدًّا. غير أنه مما لا شك فيه أن النظرة الأبوية كانت خلال التاريخ الغربي الطويل أكثر تمثيلًا للرأي العام.

والواقع أن النظرية الأبوية على أية صورة من الصور تبدو — عند الكتابة في العلاقات الاجتماعية — نظرية خالدة. وكلنا يعرف أن علماء النفس المحدثين قد أكدوا — متأثرين بفرويد — أهمية علاقة الأب بالابن. وكذلك كان لا بد لعلماء النفس أن يكتبوا في النظريات السياسية، فرجعوا مرة أخرى إلى النظرية الأبوية. ومن الحق أنهم يؤكدون ازدواج الشعور عند الابن؛ فهو يحس بالاعتماد على أبيه، كما يحس الرغبة في الثورة عليه، ومن الحق أنهم يَعُدون أنفسهم علماء، ويزعمون أنهم يضيفون إلى مجموع المعرفة التراكمية. ولكني أنصح القارئ أن يطَّلع على الكتاب الحديث الذي أخرجه مستر جفري جورر، وعنوانه: «الشعب الأمريكي». ستجد أن مستر جورر يفسِّر سياستنا وثقافتنا إلى حد بعيد بمركَّب الأب ومركَّب أوديب، ويخرج علينا بتفسير فرويدي عجيب لحب الذكور الأمريكان لشرب اللبن. ومن المرجح جدًّا أن يجد أبناء القرن الثالث والعشرين أن تطبيق مستو جورر لتشبيه الأبوة العتيق من السخافة على الأقل بالدرجة التي نرى بها تطبيق سير روبرت فيلمر.

وهناك حجج أخرى تُساق في جانب الملكية المطلقة. ومن هذه الحجج ما يعود إلى السابقة الرومانية لا في عهد الجمهورية، ولكن في عهد الإمبراطورية المتأخرة، وذلك عندما كانت الدولة الرومانية مستقرة على نظام بيروقراطي وعلى رأسها أمير مُطْلَق. ومن الشعارات التي شاعت حين ذاك «أن ما يَسرُّ الأمير له قوة القانون». وهذه العبارة تعرض الأمر في صراحة تامة، وربما كانت أشد الحجج إثارة من وجهة نظر الجمهوريين.

ومهما يكن من أمر فإن العبارة المقدسة التي تداولها التاريخ هي «حق الملوك المقدس»؛ فالملك إله على الأرض، وليس في هذا زيغ عن الدين. وفي تفسير النظرية المَلِكُ هو وكيل الله في أرضه، والاعتراض على إرادته اعتراض على إرادة الله، وهو تجديف وكفر. الملك هو مَن يَصبُّ الله عليه الزيت المقدس — والواقع أن ملوك أوروبا طبقًا لسوابق العصور الوسطى كانوا يمسحون في حفل التتويج بزيت مقدس خاص، ونستطيع — بطبيعة الحال — أن ندرج أكثر الحجج التي تؤيد الحكم الملكي المطلق تحت هذه الحجة.

ومما له دلالته أن الحجج الأساسية في جميع هذه الآراء التي تدافع عن الحكم المطلق الحديث كلها تقليدية؛ ذلك أن فكرة التعاقد مع قليل من التحريف تصوِّر لنا ما أسماه هوبز «الوحش الجبار» الذي يحل محل الدولة المسيحية الإقطاعية التي نادى بها جون سولزبري. ومع قليل من التحريف كذلك تتحور فكرة الراعي الروحاني والأب المسيحي إلى الملك الأب الذي لا يجوز عصيانه.

إن المعجبين بالعصور الوسطى يدهشون بصفة خاصة لما يَعُدونه انحرافًا في النهضة عن مذهب حق الملوك المقدس الذي عرفته العصور الوسطى. إن من مبادئ العصور الوسطى كما يزعمون — وهم على حق بالنسبة إلى التعبير اللفظي — أن الحاكم يحكم بالحق المقدس ما دام يحكم كما يشاء الله. إنه يحكم بالحق المقدس لا بمعنى أن الحق ملك، وهو حق لا يُمارى فيه، ولكن بمعنى أن الحق عدل من الناحية الخلقية. فإذا ما أساء الحكم ولم يحكم طبقًا للحق المقدس فإنه عندئذٍ يفقد حقه في الحكم، ولرعيته حق التحلل من واجب الطاعة، ولثورتهم ما يبررها. وهنا لا بد لنا أن نتساءل مَن ذا الذي يقضي بأن الملك يحكم طبقًا لإرادة الله؟ وهب أن فئة من الناس في الدولة تقول بأنه يحكم طبقًا لإرادة الله، وأن فئة أخرى تقول إنه لا يحكم طبقًا لها، مَن يهدينا إلى الصواب؟ إن التفكير في عهد النهضة وفي العهد الوسيط كان بوسعه أن يجيب عن هذه الأسئلة بدرجةٍ من اليقين لا تتوافر لنا؛ لأن نفوسهم لم تساورها الشكوك بعدُ في أن إرادة الله أقل وضوحًا من الحقيقة العلمية، التي لا يمكن بطبيعة الحال أن تكون من صفات هذه المشكلات. إن العقل الوسيط وعقل الإنسانيين على السواء كان يؤمن أشد الإيمان بأن إرادة الله هي في وضوح أية حقيقة من الحقائق فوق هذه الأرض.

إن الحجة التي نَعُدها اليوم — على الأقل بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية — دامغة قاطعة لا تُساق قطُّ في وضوح وجلاء. وتلك هي الحجة التي تقول بأن الطراز الجديد من الدولة الملكية أشد كفاية من الدولة الملكية القديمة، وأن الملك لا بد أن يتمتع بالسلطة المطلقة لكي يمحو الآثار المتبقية من الحكم الذاتي الإقطاعي، ولكي يحكم العقل، ويضع المعايير، حتى يستطيع رجال الأعمال من الطبقة الوسطى الحديثة أن يكون لهم رواج في سوقٍ أوسع وفي ظروفٍ أكثر أمنًا وأقوى طمأنينة. إن تبرير نظام من النظم ﺑ «منفعته» — وهو نوع من سباق الحجة مألوف لدينا — ينشأ في الواقع دفاعًا عن الملكية، ويظهر ذلك حتى عند بيير دبوا في أوائل القرن الرابع عشر. بيد أن هذه الحجة عند أكثر الكتَّاب الذين نتعرض لهم هنا تختلط بكثير من الحجج الأخرى. والظاهر أن «كتَّاب السياسة» الفرنسيين، أولئك الكتَّاب الذين وضعوا الأمة ممثلة في التاج فوق الأحزاب الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، والذين فعلوا ذلك في الحروب الدينية التي نشبت في أواخر القرن السادس عشر — الظاهر أنه كانت لديهم في أذهانهم أمثال هذه الآراء الحديثة التي يمكن أن نسميها قومية. غير أنهم لم يتحدثوا باللغة التي نتحدث بها اليوم.

ومن خيار هؤلاء الكتَّاب جين بودين الذي يُعَد في الحق في كثير من الأحيان أكثر من كاتب سياسي. كان بودين باحثًا إنسانيًّا، ذا معرفة واسعة، وصاحب اهتمامات عديدة. وله مكانة هامة في تاريخ الكتابة التاريخية باعتباره أحد الكتَّاب الأوائل الذين عُنوا بالطرق التاريخية المنظمة، وربما كان في التاريخ السياسي أكثر الكتَّاب اتزانًا في موضوع السيادة الشائك. وهو بطبيعته رجل معتدل معقول. وقد كتب في أواخر القرن السادس عشر، عندما استرد أرسطو قيمته بعد التحقير الذي لَحِق بآرائه على أيدي الإنسانيين الأوائل، وهو يتميز بقوة الإدراك العام الذي نلمسه في سياسة أرسطو. وينتهي بودين إلى مدافع عن الحق المطلق للأمير صاحب السيادة؛ فصاحب السيادة — طبقًا لبودين — يعلو على القانون، ولا بد له أن يعلو باعتباره واضع القوانين. غير أن بودين يسارع فيصف ذلك بأنه مبدأ شرعي فحسب. أما من الناحية الخلقية فالأمير بطبيعة الحال يرتبط بقانون الإله وقانون الطبيعة، وبآداب اللياقة. فإذا هو لم يتقيد بهذه القوانين كان حاكمًا مستبدًا، وإن كان صاحب السيادة في ظاهر الأمر، ويسوق بودين كذلك الحجة الأبوية، ويدعمها بنظرية «قوة الأب» الرومانية ومجموعة المقتبسات الإنجيلية المألوفة.

وليس من الإنصاف أن نقول إن كل التفكير السياسي عند الإنسانيين والكلاسيكيين في أوائل القرون الحديثة يميل إلى ناحية الحكم المطلق؛ فهناك منذ بداية إحياء الآداب القديمة اليونانية والرومانية بمعناها في عهد النهضة اتجاه واضح يمكن أن تتابعه متابعة الخط المستقيم في التفكير السياسي الغربي حتى الثورة الفرنسية التي جعلت بروتس أحد أبطالها. وذلك الاتجاه هو الإيمان ﺑ «الجمهورية الكلاسيكية» التي تجعل ليفي من أبطالها، والتي تتميز بكراهية الرومان للملوك، كما تتميز في كثير من الأحيان بانعدام الثقة في عامة الناس المتقلبين.

وهنا نلتقي مرة أخرى بلفظةٍ لها تاريخها، ويمكن مِن ثَمَّ أن تكون غامضة. إننا نميل نحن الأمريكيين إلى أن نحسَب أن «الجمهوري» ليس إلا طريقة أخرى نعبِّر بها عن «الديمقراطي» — ويختلف هذا كلية عن غرام الأحرار منَّا بالقول بأن حزبينا — الجمهوري والديمقراطي — يتشابهان تشابه العصا بالعُصيَّة، ولكن «الحكم الجمهوري الروماني» لم يَعْدُ أن يكون ذلك النظام الروماني السياسي، الذي كان — وظل كذلك حتى تأسيس الإمبراطورية — نظامًا أرستقراطيًّا من الناحيتين السياسية والاجتماعية. وهذه الفكرة — فكرة الجمهورية الأرستقراطية — التي كان ذيوعها في العصور الوسطى محدودًا، فلم يتوسَّع أحد في بسطها، بدأت تنتعش في عهد النهضة. وهي بطبيعتها لا يمكن أن تكون من عقائد الجماهير، بل لقد كانت مذهبًا يسود — قبل كل شيء — بين الفنانين ورجال الفكر، وبخاصة مَن كان منهم من أرومة طيبة — باعتباره من صفات الأرستقراط. وهو مذهب — عند معتنقيه — لا يتفق بطبيعته مع أي نمط من أنماط التفكير البسيطة، العامية المتكررة. إن الجمهورية الكلاسيكية تحررية دائمًا تقريبًا، أكثر منها جماعية، أو اشتراكية، أو هي — على الأقل عندما تؤكد أن النظام الذي لا بد منه للمجتمع يتطلب رعاية الطبقات الدنيا — عبارة عن جماعية «النبلاء الملتزمين بالمسئولية»، أو الجماعية التي أطلق عليها الإنجليز في القرن التاسع عشر اسم «ديمقراطية المحافظين». إنك حيثما تجد رجالًا يسعون نحو إصلاح أساسي ثوري للمجتمع لكي يتخلصوا من الفقر بمجهود الفقراء، لا بد أن تجد أن هؤلاء الرجال في تلك القرون الحديثة الأولى إنما يستوحون الدِّين أكثر مما يستوحون النزعة الإنسانية، بل إنهم ليستوحون نوعًا متعصبًا من أنواع الطائفية الدينية.

وهناك نوع من أنواع الجمهورية الإنسانية يُصوَّب في صميمه ضد ملكية معينة. في أخريات القرن السادس عشر زادت الحروب الدينية الأهلية الكبرى من حدة التفكير السياسي في فرنسا، وتمخضت عن مجموعة من النظريات ديمقراطية في ظاهرها. وظهر من الهيوجونوت أمثال إتيان دي لابواتي وفرنسوا هوتمان يعارضون أشد المعارضة كلَّ نظريات الحكم المطلق الملكية، وأصروا على أن تكون السلطة العليا في أيدي الشعب بدلًا من الملكية المطلقة. وساق مؤلف كتاب «دفاع ضد الاستبداد» — وهو على الأرجح دي بلسي مورناي — نظرية التعاقد وكثيرًا من التاريخ الوسيط وتاريخ الكتاب المقدس ليبرر الثورة الفعلية، بل وسفْك دماء المستبدين. وتستطيع أن تستمد مما كتب في هذا الموضوع شيئًا قريبًا جدًّا لما أمسى فيما بعدُ مذهب حقوق الإنسان والحاجة إلى حكومة دستورية في أيدي هيئة برلمانية تمثيلية، وسيادة القانون، وما إلى ذلك، وهي الآراء التقليدية التي سادت القرن الثامن عشر. غير أن روح هذه الكتب لا تَمُتُّ قطعًا إلى القرن الثامن عشر بِصِلة. روحها من العهد الوسيط، على الأقل لاعتمادها كالمألوف على حججٍ أساسها السوابق التاريخية أو الإنجيلية، وما تنوء به من دراسات عويصة. ولم يكن هؤلاء الرجال مثيري شغب بأية حال من الأحوال؛ فلم يكونوا جماهيريين، بالرغم من أن عدالة مطالب الجماهير هي التي كانت تحرك نفوسهم، ويحس المرء أنهم بالضرورة ضد الملكية لأن الملكية الفرنسية كانت تقف في وجههم، ولكنهم كذلك كانوا جمهوريين بالضرورة؛ إذ لم يكن هناك مجال آخر للاختيار. وقد أقام بعضهم مبدأ «القيادة الطبيعية»، وما أبعدهم عن توماس بين أو بنيامين فرانكلين؛ فقد كانوا جمهوريين، ولم يكونوا ديمقراطيين.

غير أن هناك نمطًا آخر أقرب إلى مركز هذه الجمهورية الأرستقراطية، أقرب إليه بمعنى أنه قدَّم النموذج الذي عاش في القرن التاسع عشر في رجالٍ أمثال لورد بيرون، بل عاش في القرن العشرين في رجل مثل ولفرد سكاون بلنت أو في ذلك الرجل الأمريكي العجيب الذي يمثِّل هذا الطراز، وهو المرحوم جون جاي تشابمان. وكذلك يُعَد مثالًا يدعو إلى الإعجاب آلجرنون سيدني، وهو رجل إنجليزي من أسرة نبيلة مات شنقًا في عام ١٦٨٣م، مستشهدًا في سبيل الحكم الجمهوري، ولم تُنشر «بحوثه بشأن نظام الحكم» إلا في عام ١٦٩٨م، وقد وجدت في القرن التالي جمهورًا كبيرًا من القراء، وهي عبارة عن تاريخ روماني كامل، مروي في ضوء قواعد التهذيب التي صاحبت الكلاسيكية البريطانية زمنًا طويلًا. وفيها يهاجم الحق المقدس ويدافع عن السيادة الشعبية، وهي لا تشفُّ عن مذاهب اجتماعية ثورية؛ فهي في الواقع تتحدث بلغة الدستوريين المعتدلة. ولو أن سيدني عاش في القرن التالي لكان مثالًا طيبًا للأحرار المعتدلين لا يشوب آراءه «هراء جمهوري». كان سيدني ضد آل ستيوارت الناشئين وضد مذهبهم في الحق المقدس، وكان يدافع عن وجود طبقة حاكمة إنجليزية تكون لها كل الفضائل الرومانية وتخلو من كل رذائل الرومان.

وينتمي ملتن نفسه من حيث آراؤه السياسية — إلى هذه الفئة من الجمهوريين الأرستقراط، وهو إنساني بطبعه وتطبُّعه، وهو أميلُ إلى الجانب المقتصِد منه إلى الجانب الخصب، وليس من شك في أن أهم كتاباته النثرية (آريو باجيتيكا) وهو من الأدب الكلاسيكي الذي يدافع عن حرية الكلام، وما يترتب عليها من حريات أخرى. ولا شك أن ثقافة الغرب لم تخلُ في أي وقت من الأوقات من نوع من أنواع الدفاع الفصيح عن حرية الكلام، ولم تكن هذه الثقافة قطُّ تدعو إلى التحكم بدرجةٍ تخمد كل شرارة تومض في سبيل الحرية. غير أنَّا نشك في أن ملتن حتى في هذه العجالة كان يبشر بالآراء التي تدور حول المبدأ الذي يقول: «دعه يفعل» وما ينطوي عليه من فائدة لحرية الفرد. ومهما يكن من أمر فإن قراءة آريو باجيتيكا جنبًا إلى جنب مع «الحرية»، الكتاب الذي وضعه جون مل في عام ١٨٥٩م تدريب ممتع على البحث في تاريخ الفكر بالرغم مما فيه من حرج. إن فصاحة ملتن الكلاسيكية المتدفقة قد تقف في سبيل إدراك ما يرمي إليه، ولكنه بالرغم من ذلك يدافع عن الحرية للصفوة من الناس، وللإنسانيين، وللرجال من أمثاله. وهو في هذا يختلف عن مل الذي يدعو للحرية حتى للمتهورين، والمخطئين، والجهال، يدعو إليها — في إيجاز — لعامة الناس.

وتظهر الصفة الأرستقراطية في آراء ملتن السياسية والخلقية واضحة جلية في كتابته التي لا تبلغ مبلغ آريو باجيتيكا في أهميتها؛ فهي تبدو في كتابه «الطريق السهل المباشر لإقامة دولة مشتركة حرة»، أو في رسالته «الهدامين». والكتاب الأول محاولة فاشلة يقاوم بها استدعاء الملك شارل الثاني، وبطبيعة الحال كان ملتن يمقت الطائفيين وآمالهم الفجة في تحقيق السعادة في هذه الدنيا. كما أن إخفاق البيوريتان المعتدلين في إقامة مستقَرٍّ يريح النفس ويقع بين طائفة الإنجيليين وطائفة المؤمنين بالعصر الذهبي المسيحي، إخفاقهم هذا قد كشف له عن الحقيقة: وكغيره من المدافعين عن حرية الفرد من المهذبين والمثقفين أثبت ملتن في النهاية أنه إنما قصد في الواقع إلى الدفاع عن التهذيب وعن الثقافة، ولم يقصد إلى حرية الرعاع الذين لا يفكرون. وأوشك في آخر الأمر أن يفقد الثقة في تصويت العامة أفرادًا، أو جماعات يكون لها تأثيرها. وبلغ بهذه العقيدة مبلغًا دفعه إلى أن يجعل الهيئة التشريعية في تخطيطه للدولة المشتركة هيئة لها دوام ذاتي تستولي على مناصب التشريع مدى الحياة. وتكون بذلك أشبه بمجلس الشيوخ دون أن يكون لأفرادها ألقاب موروثة.

غير أن أكمل عمل قامت به مدرسة الإنسانيين هذه ذات الميول التي لا أقول إنها يسارية بالضبط، ولكنها على أية حال تتجه نحو نوع شعبي من أنواع الحكومة الدستورية، أكمل عمل في هذا الباب كان لرجل إنجليزي من رجال القرن السابع عشر وهو «المحيط» لجيمس هارنجتن. والكتاب في شكله صورة لدولة مشتركة خيالية، أو لمدينة فاضلة. وربما أملت عليه هذه الصورة الحاجةُ إلى تفادي الرقابة التي فرضها الدكتاتور الجديد كرومويل في عام ١٦٥٦م، وهو العام الذي نُشر فيه الكتاب. والكتاب عبارة عن رسالة في الحكم. وهي رسالةٌ عصرَ فيها ذهنه، واعترف فيها بصفة خاصة بأهمية توزيع الثروة والبناء الطبقي، وهي تنادي بدولة دستورية المصالحُ فيها متزنة اتزانًا صحيحًا، وتضم مجلسًا للشيوخ من الأرستقراطيين الطبيعيين ومجلسًا تمثيليًّا شعبيًّا يؤيد أو يرفض اقتراحات الشيوخ. ولهارنجتن آراء حديثة كثيرة، من بينها الاقتراع السري، والتعليم العام الإجباري. والواقع أن «المحيط» يمكن أن يُعَد من أعمال العقليين، وقد كان تأثيره في القرن التالي عظيمًا. غير أن هارنجتن كان صاحب أسلوب كلاسيكي، وعقل كلاسيكي، وهو في هذا الكتاب أقرب إلى أن يلخص عصارة تفكير الإنسانيين المعتدلين من الناحية السياسية، منه إلى أن يشق طريقًا جديدًا.

ولا يمكن بالضرورة أن تكون طائفة الإنسانيين من الوضوح والتحديد كما كانت الطائفتان الأخريان في أوائل القرون الحديثة — وأعني بهما البروتستانت والعقليين؛ فقد كان الإنسانيون وهم يبحثون عن معايير، وعن سلطة يستندون إليها، وهو مسعًى كان خلال تاريخ الغرب بأسْره من ضروب النشاط الأساسية التي تمارسها الطبقات المثقفة حتى وهم يحسَبون أنهم ينبذون «كل سلطان» كانوا يرجعون إلى شيء إنساني بصفة خاصة — لا هو مقدس ولا هو حيواني — وكانوا في اتجاههم هذا يميلون من الناحية العملية إلى أن يكون من نتائجه الأولى تنوُّع عجيب من المعايير والسلطات الممكنة؛ لأن لفظة «إنساني» بالتعبير البسيط كلمة واسعة المعنى يمكن أن تمتد حتى تشمل كل شيء — تقريبًا — بما في ذلك المقدس والحيواني.

ونستطيع — لسهولة العرض ولعلمنا جيدًا أن ما نبذله من جهد منظَّم في تبويب الأفكار لا بد أن يكون ناقصًا — أن نفصل بين هؤلاء الإنسانيين الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ونقسمها قسمة تقريبية إلى طائفتين أطلقنا على إحداهما: «الخصبة»، وعلى الأخرى: «المقتصدة». وأكثر الأوائل من الطائفة الخصبة بمعنًى ما، حتى إذا كانوا من الباحثين المتنبهين، وما إن حل القرن السابع عشر حتى كان أكثر الرجال الذين تهمهم الإنسانية بصفة خاصة ممن ينتمون إلى الطائفة المقتصدة أو النظامية. ونستطيع — في شيء من السذاجة، أو من البساطة على الأقل — أن نقول إن أكثر الرجال الأوائل الذين رحلوا إلى اليونان والرومان التمسوا لديهم الحرية التي تكفُل للمرء أن يكون نفسه، وأن يساير ميوله، حتى إن كانت هذه الميول سلسلة من الانحرافات، كما نستطيع أن نقول إن الرجال المتأخرين — الذين مهَّد لهم الأوائل الطريق إلى اليونان والرومان، بل جعلوا دراستهم جزءًا من البرنامج المدرسي العادي — التمسوا لديهم النظام، والهدوء، والترتيب، والبساطة. الطائفة الأولى تميل إلى الاعتقاد بأن الغالبية تمكِّن الأقلية من الحرية في تنمية فردياتهم أو قُل إنهم لم يأبهوا بالغالبية. أما الطائفة الثانية، التي عرفت أهوال الحروب الدينية، فكانت تُعنى عناية كبرى بالجماهير، وبالطرق التي تكفُل لهم مكانة محترمة، أو قُل في إيجاز إنهم كانوا ملكيين ومدافعين عن السلطان. ولم تكترث كلتا الطائفتين قلبيًّا أو بصورة فعالة بما نسميه اليوم قضية الديمقراطية. وحتى الجانب الفرعي من الكلاسيكيين الإنسانيين، وهم الجمهوريون الأرستقراطيون، مثل آلجرنون سيدني، لم يكونوا ديمقراطيين.

وقد خلَّف الإنسانيون أعمالًا فنية لا تَبلى، واشتركوا في تحطيم الاتجاهات الوسيطة، كما اشتركوا بشكل إيجابي في إقامة الدولة الدنيوية الحديثة بمعاييرها التي ترمي إلى التسوية وباتجاهها نحو الكفاية. ولكنا على وجه الجملة لا نضمر في نفوسنا اليوم من النزعة الإنسانية بمقدار ما تُحدِّثنا به كتب الدراسة. إن الإنسانيين لم يكونوا البتة البناة الرئيسيين للعالم الحديث، كما لم يكونوا صانعي العقل الحديث، وبمقدار ما كان لهذين القرنين من أثر في صنعنا على الصورة التي نحن عليها، كان أصحاب الأثر الأكبر هم البروتستانت والعقليين، ورجال العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤