الفصل الثاني عشر

بعد مرور بِضع ساعات، وضعَت جيرالدين سماعةَ الهاتف مع تنهيدة استسلامٍ طفيفة. فرفعت الليدي كونيرز عينَيها عن كتابها ونظرَت نحوها مستفسرة.

سألتها: «هل كان ذلك الشخص يريد أن يأتيَ ويُقابلكِ في هذا الوقت من الليل، يا جيرالدين؟»

تثاءبَت جيرالدين.

وأوضحت: «إنه هيو. لقد اتصل من مكتب الحرب أو من مكانٍ ما — ويقول إنه قد عاد لتوِّه من فرنسا، ويريد رؤيتي في الحال. أظن أن بإمكانه الانتظارَ حتى صباح الغد. أنا غير قادرةٍ على إبقاء عينَيَّ مفتوحتَين، فأنا ناعسةٌ للغاية.»

نظرت الليدي كونيرز إلى الساعة.

وقالت: «إن الوقت ليس متأخرًا للغاية، وفي رأيي، إذا كان الرجل المسكينُ مسافرًا طوال اليوم، فإنه يودُّ أن يقول لكِ طابت ليلتُك.»

كشَّرت جيرالدين بعضَ الشيء.

وقالت: «سأذهب إلى قاعة الاستقبال وأنتظره. سيجدني نائمةً على الأرجح.»

نظر إليها الأدميرال من خلف صحيفة «التايمز».

وسألها: «أين ذلك الشابُّ اللطيف جرانيت؟ لماذا لم تُحضريه لتناول العشاء؟»

ذكَّرَت جيرالدين والدها قائلة: «حسنًا، لم نعد إلا عند الساعة الثامنة تقريبًا. لم أظن أنه سيجد الوقت الكافيَ لتغيير ثيابه والعودة إلى هنا بشكل مريح.»

قال السير سيمور: «إنه لطيف، ذلك الشاب. أفضل نوع من الجنود الإنجليز الشباب. يُمكننا أن ننتصر مع الكثير من أمثاله.»

غادرت جيرالدين الغرفة دون أن تُعلق. وكان بإمكانها سماعُ حفيف أوراق صحيفة والدها وهو يُقلبها بينما تبتعد.

وقال والدها متذمرًا: «أنا لا أفهم سبب عدم اختيار جيرالدين لشاب ذكي مثل جرانيت بدلًا من رجلٍ عجوز مثل طومسون. أنا أكره هؤلاء الأطباء العسكريِّين، على أي حال.»

قالت الليدي كونيرز بحماس: «إن الميجور طومسون لديه عقلية ساحرة. وعلاوةً على ذلك، سيصل إلى مكانة متميزة في يوم من الأيام … حتى إنه قد يصبح بارونًا.»

أصدر زوجها صوتًا من حلقه وهو يقول: «من يهتم بذلك؟ إن جيرالدين لديها الأصل العريق، وكذلك المال. كيف اختارت طومسون من بين جميع أحبائها، لا أستطيع أن أتخيل.»

بعد بضع دقائق، استقبلَت جيرالدين، بالرغم من إجهادها، حبيبَها ببهجةٍ شديدة عندما وصل. كان الميجور طومسون لا يزال يرتدي ملابسَ السفر، وبدا بمظهر رجل كان يعمل تحت ضغط قاسٍ لبعض الوقت. ومن ثَم أمسك أصابعها بإحكام للحظة دون أن يتكلم. ثم قادها إلى الأريكة وجلس بجانبها.

وسألها في جدية: «جيرالدين، هل تُقيمين لما أقوله أيَّ وزن على الإطلاق؟»

أكدَت قائلة: «للغاية.»

«أنتِ تعلمين أنني غيرُ معجب بالكابتن جرانيت، ومع ذلك أخذتِه معكِ إلى بورتسماوث اليوم وحتى إنكِ سمحتِ له بمرافَقتكِ على متن المدمرة سكوربيون.»

انتفضَت جيرالدين قليلًا.

وسألت بفضول: «كيف علمت ذلك؟»

هز رأسه بدون صبر.

«لا يهم. لقد سمعت. لماذا فعلت ذلك، يا جيرالدين؟»

«في المقام الأول، لأنه عرَض علينا توصيلنا بالسيارة بعد أن فاتنا القطار. وهناك العديد من الأسباب الأخرى.»

«مثل ماذا، على سبيل المثال؟»

«حسنًا، لقد فضَّلنا أنا وأوليف وجودَ مُرافق وكان الكابتن جرانيت أكثرَ قَبولًا. لقد سافرنا في سيارة أعطاها له عمه لتوه، ذات محرِّك بقوة ستين حِصانًا من طراز بانهارد. لم أستمتع مطلقًا بركوب سيارةٍ أكثرَ من ذلك في حياتي.»

قال طومسون ببطءٍ: «أنتم جميعًا حَمْقى للغاية. سأخبركِ بشيءٍ الآن، يا عزيزتي، قد لا تُصدِّقينه، لكنه من أجل مصلحتك، ومن الضروري بالنسبة إليَّ أن يُصبح لديَّ بعضُ العذر للطلب الذي سأطلبه. إن جرانيت قيد الاشتباه في مكتب الحرب.»

كرَّرَت جيرالدين بهدوء: «قيد الاشتباه؟»

تابع طومسون قائلًا: «لم يثبت أي شيء ضده، وأنا أقول لكِ بصراحةٍ إن بعض القيادات يعتبرون هذه الفكرة سخيفة. لكن من ناحيةٍ أخرى، هو تحت المراقبة باعتباره جاسوسًا ألمانيًّا محتملًا.»

ظلَّت جيرالدين ثابتةً للحظة. ثم أخذَت تضحك بشدة. وجلسَت، بعد لحظة، تمسح عينَيْها.

وسألَتْه بجدِّية: «هل أنت جادٌّ حقًّا، يا هيو؟»

أكَّد لها، في برودٍ بعض الشيء: «بالتأكيد.»

فمسحَت عينَيها مرةً أخرى.

وتنهدت، وهي تربتُ على يده وتقول: «هيو، يا عزيزي، إنك تعتني بمستشفياتك ومُصابيك بشكلٍ أفضل بكثيرٍ من السعي خلفَ الاكتشافات الوهمية كهذه. لا أعتقد أنك ستُحقِّق نجاحًا باهرًا في إدارة المخابرات. وبالنسبة إلى مكتب الحرب، فأنت تعلم رأيي فيهم. الكابتن جرانيت جاسوس ألماني، يا للعجب!»

تابع طومسون قائلًا: «لم نتوصَّل أنا ومكتب الحرب إلى هذه الشكوك دون سبب. ربما ستنظرين إلى الأمر بمزيدٍ من الجدِّية عندما أُخبركِ أنه لن يُسمَح للكابتن جرانيت بالعودة إلى الجبهة.»

كرَّرت قائلة: «هل قلت لن يُسمَح له؟ هيو، أنت لست جادًّا!»

قال في إصرار: «أنا لم أكن أكثرَ جديةً في حياتي من قبل. ولست في وضع يسمح لي بإخباركِ أكثرَ من الحقائق المجردة، وإلا فقد أُفصح عن بعض الأدلة التي حتى أنت ربما تُقرِّين أنها تُلقي ضوءًا غريبًا إلى حدٍّ ما على بعض أفعال هذا الشاب. ونظرًا إلى هذا، رغم ذلك، لا يمكنني فعل أكثر من أن أحذرك، وأتوسلَ إليكِ»، تابع قائلًا: «أن تستجيبي لإرادتي بخصوص التوقف عن المزيد من التعارف معه.»

سادت لحظةُ صمتٍ غريب. إذ بدا أن جيرالدين تُحدق في جدران الغرفة. بينما تقبض يدُها على الأخرى، وأصابعها متشابكة بعصبية.

ثم قالت في حسم: «أول شيء سأفعله في صباح الغد أني سأرسل في استدعائه ليأتيَ ويُقابلني.»

اعترض طومسون بشدة: «لن تفعلي شيئًا من هذا القبيل.»

أدارت رأسها ونظرت إليه. كان يُدرك العداء الذي نشأ مثل جدارٍ بينهما. ولم يُظهر وجهُه، مع ذلك، أي علامة.

سألَت بهدوءٍ يُنذر بالسوء: «كيف ستمنعني؟»

فأجاب: «بتذكيركِ بواجبكِ تجاه بلدك. جيرالدين، يا عزيزتي، لم أتوقَّع أن أُضطر إلى التحدُّث معكِ بهذه الطريقة. وعندما أخبركِ أن الأشخاص المسئولين في مكتب الحرب، وهم مسئولون متخصِّصون ومهنتهم هي تشمُّم رائحة الجواسيس، قد أعلنوا أن هذا الشابَّ مشتبَهٌ به، فأنا بالتأكيد أشعر بخيبة أملٍ لأني وجدتكِ تتبنَّين قضيتَه بكل حماس. إنها ليست مسألة شخصية. صدقيني»، ثم أضاف، بعد لحظة توقُّف: «مهما كان تحيُّزي الشخصي، فإن ما أقوله لكِ الآن لا يتأثَّر على الإطلاق بأي شعورٍ بالغيرة. لقد أخبرتُكِ بما أعرفه وعليكِ أن تُقرري إلى أي مدًى ستتعاملين مع هذا الشاب في المستقبل. لكنني أمنعكِ، ليس باسمي ولكن من أجل بلدنا أن تُخبريه بكلمةٍ واحدةٍ مما قلته لك.»

فقالت: «هل وصلَت الأمور إلى هذا الحد، إذن، أنت توجه اتهامات ضد رجلٍ وتحرمه من حقِّ الاستماع إليه؟»

قال موافقًا: «إذا اخترت أن تُفسري الأمور على هذا النحو، أجل. أنا فقط تخيلت أنه بالنظر … بالنظر إلى الأشياء المفترَضة بيننا، ربما ستقتنعين بكلامي.»

ثم مال قليلًا نحوها. ولو أنها كانت تنظر إليه، لكانت قد تأثَّرت بالنعومة المفاجئة لعينَيه الداكنتين، والجاذبية الطفيفة التي بدَت على وجهه الخالي من التعبير عادة. لكنَّ عينَيها، بغضِّ النظر عن ذلك، كانتا مثبتتَين على الخاتم الماسيِّ الذي يلمع في إصبَعِها الثالث. ومن ثَم شدَّته ببطء وسلمته له.

وقالَت: «هيو، إن الأشياء التي تتحدَّث عنها لم تَعُد موجودة بيننا. أنا آسفة، لكنني أعتقد أنك ضيِّقُ الأفق ومتشكِّك. إن لديك مهامَّك الخاصة للقيام بها. يبدو لي أنه من الشائن قضاءُ وقتك في الاشتباه بالجنود الذين قاتلوا من أجل مَلِكهم وبلدهم، واتهامهم بمثلِ هذه الجريمة النكراء.»

سألها بحزن: «ألا يُمكنكِ أن تثقي بي أكثرَ من ذلك بقليل، يا جيرالدين؟»

قالت بحدَّة: «كيف؟ أنا أحكم فقط من خلال الحقائق، والأشياء التي قلتَها لي، واتهاماتك ضد الكابتن جرانيت. لماذا تترك مهنتك الأساسية كي تُحقق في قضايا التجسس المشتبه بها؟»

«لا يمكنكِ تصديقُ أنني سأفعل ذلك إلا إذا كنت مقتنعًا أنه من واجبي، أليس كذلك؟»

قالَت له باختصار: «لا أستطيع تفهُّم أن هذه هي مهمتك على الإطلاق.»

فنهض مِن مكانه.

وقال: «أنا آسفٌ جدًّا، يا جيرالدين. سأحتفظ بهذا الخاتَم. فأنت حرةٌ تمامًا. لكن … انظري إليَّ.»

اضطُرَّت إلى أن تفعل ما أمرَها به رغمًا عنها. إذ بدا موقفها الخاص، الذي ظنَّته محترمًا وصحيحًا، على نحوٍ مفاجئ ضعيفًا. وتولَّد لديها شعورُ طفل غاضب.

ومن ثم ترجَّاها قائلًا: «جيرالدين، خُذي على الأقل نصيحةَ رجل يُحبك. تريَّثي.»

وحتى عندما فتح الباب شعرت برغبة مفاجئة في مناداته ليعود. لكنها سَمِعته يعبر الردهة، وسمعت الباب الأماميَّ يُفتح ويُغلَق. فجلسَت ونظرت بنوعٍ من الذهول إلى الحيِّز الفارغ على إصبعها. ثم نهضَت وذهبت إلى غرفة المعيشة، حيث كان والدُها ووالدتها لا يزالان يقرَآن. فمدَّت يدها.

وقالت: «أماه، لقد فسخت خِطبتي للميجور طومسون.»

وضع الأدميرال جريدته جانبًا.

وقال: «أحسنتِ صنعًا، بالفعل! إن ذلك الشابَّ جرانيت أفضلُ من عشَرة رجالٍ مثله. لا يمكن أبدًا التمسُّك بطبيبٍ عسكري. حسنًا، حسنًا! كيف تقبل الأمر؟»

راقبت الليدي كونيرز ابنتها بتمعُّن. ثم هزَّت رأسها.

وقالت: «آمُل أنكِ قد تصرَّفتِ بحكمة، يا عزيزتي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤