الفصل الثالث عشر

بعد ظُهر اليوم التالي بقليلٍ نزل الكابتن جرانيت من سيارة أجرة في باحة فندق ميلان، ومرَّ عبر الأبواب المتأرجحة، واتجه إلى مكتب الاستعلامات. فسارع موظفٌ شابٌّ لطيف يرتدي معطفًا أسودَ نحو المكتب.

وسأله جرانيت: «هل يمكن أن تُخبرني، ما إذا كان هناك سيدٌ نبيل اسمه جيو يُقيم هنا؟»

انحنى الشابُّ أدبًا.

وقال: «لقد وصل مسيو جيو في الليلة الماضية، يا سيدي. وقد طلب منا للتو عبر الهاتف أن نُبلغه إذا جاء أحد السادة لمقابلته.» وتابع، مشيرًا إلى شاب صغير في الخلفية: «أيها العامل، أرشِد السيد إلى رقم ٣٢٢.»

تبع جرانيت الصبيَّ إلى المصعد، وأُرْشِد إلى غرفةٍ في الطابق الثالث. حيث فتح البابَ رجلٌ فرنسي طويل، أبيض الشعر.

فسأل الكابتن جرانيت بدماثة: «مسيو جيو، أليس كذلك؟ أنا جرانيت.»

أشار له الفرنسي. وأغلق البابَ وسحب المِزلاج بعناية. ثم التفت السيد جيو ونظر إلى زائره بشيءٍ من الفضول. كان جرانيت لا يزال يرتدي زيَّه الرسمي.

وغمغم جرانيت قائلًا: «فلتَحْيَ فرنسا.»

فمد الفرنسي يده على الفور.

وقال: «يا صديقي، لقد اندهشت للحظة. إذ لم يخطر ببالي أن أراك بهذا المظهر.»

ابتسم جرانيت.

ووضَّح: «لقد كنتُ على الجبهة، وعدتُ إلى الوطن مصابًا.»

قال مسيو جيو متشككًا: «أنت ضابط إنجليزي كيف؟ أنا لا أفهم تمامًا، إذن. هل طبيعة الرسالة التي جئت لتلقِّيها معروفة لك؟»

أومأ جرانيت برأسه وهو يجلس على الكرسيِّ الذي قدَّمه له مضيفه.

وقال ببساطة: «لا أظن أنك ينبغي أن تندهش كثيرًا. إذا كانت الحرب خطيرةً على بلدك، فهي خرابٌ على بلدي. ربما، نحن، لا ننشر مخاوفنا في الصحف. بل نُفضِّل إبقاءها محبوسةً في عقولنا. وهناك حقيقة واحدة كبرى أمامنا دائمًا. إن ألمانيا لا تُقهر. ويجب على المرء أن يجد السلام أو يموت.»

استمع مسيو جيو مع نظرةٍ فضولية على وجهه. وهو ينقر بسبابته على نسخة صحيفة «التايمز» المُلقاة على الطاولة. بينما أومأ الآخر بجدِّية.

وتابع: «أجل، أنا أعلم أن صحافتنا تقومُ بحملةٍ رائعةٍ من الخداع. وأعلم أن الكثيرَ من الجهلاء في البلاد يعتقدون أن هذه الحرب لا تزال قائمةً بكل أملٍ في النجاح. نحن الذين ذهبنا إلى الجبهة، وخاصة أولئك الذين لديهم أيُّ مصدرٍ للمعلومات في ألمانيا، نعرف الأمور بشكلٍ مختلف. إذ كلما طالت الحرب، زاد عِبء الدمار الذي سيتحمَّله بلدك وبلدي.»

قال مسيو جيو: «إن هذا هو رأيي أنا أيضًا، وعلاوة على ذلك، اسمع. إنها ليست حربَنا على الإطلاق، هذا هو الجزء القاسي من الأمر. إنها حربُ روسيا وحربُكم. ومع ذلك فنحن أكثرُ مَن يُعاني، إن أغنى جزء من بلدنا في أيدي العدو، كما أن صناعاتنا مشلولة، إن بلدي هو الذي ينضب منه دمُ الحياة ببطء. أنت أيها الإنجليزي، ماذا تعرف عن الحرب؟ لم يطَأ أيُّ عدو أرضَكم، ولم يرَ أي رجلٍ إنجليزي شرف نسائه يُدنس أو منزله يُدمَّر ويتحوَّل إلى رماد. إن الحرب بالنسبة إليك هي أمرٌ على الورق، فكرة مجردة — تلك الحرب نفسها هي التي حوَّلت النصفَ الأفضل من بلدي الحبيب إلى زاويةٍ من الجحيم.»

أقرَّ جرانيت كلامه قائلًا: «لم يَحِن وقتنا بعد، ولكن خلال مدةٍ قصيرة، ما لم تتمكَّن الدبلوماسية من تفاديه، فإن القدَر سيطرق أبوابنا، أيضًا. اسمع. هل لديك أصدقاء ما زالوا في السلطة، يا مسيو جيو؟ … أصدقاء في مجلس الوزراء، أليس كذلك؟»

وافق مسيو جيو على ذلك قائلًا: «هذا صحيح بالفعل.»

تابع جرانيت: «لديك، أيضًا، متابعون رائعون في جميع أنحاء فرنسا. لذا فأنت الرجل المناسب للمهمة التي أحملها لك. أنت، إذا اخترت ذلك، ستُنقذ بلدك وتربح المكافأة التي ستُمنَح لك بالتأكيد.»

احمرَّ خدَّا مسيو جيو قليلًا. وهو يلف، بأصابع طويلة متوترة، سيجارةً ويُشعلها.

ثم يقول: «يا مسيو، أنا أستمع إليك بحماس، ومع ذلك أشعر بالحيرة. فأنت ترتدي زيَّ ضابط إنجليزي، لكنك أتيت إليَّ، أليس كذلك، كمبعوث لألمانيا؟»

اعترف جرانيت قائلًا: «بكلماتٍ جريئة قد يكون هذا صحيحًا، ومع ذلك أود أن أُذكِّرك بأمرين. أولًا: أن الجزء المهيمن من الشخصية الذي ورثته يأتي إليَّ من أسلاف ألزاسيين؛ وثانيًا: أن هذا السلام الذي أسعى من أجله قد يعني في النهاية الخلاصَ لإنجلترا، أيضًا.»

قال مسيو جيو: «أنا أسمعك بارتياح. وفي هذه الصفقة فإن رغبتي الكبرى هي التعامل مع رجلٍ ذي شرف. على هذا النحو أتصور أنه يُمكنني التعرف عليك، يا مسيو.»

انحنى جرانيت بجدِّية وبدون أي ظلٍّ من الحرج.

وقال: «هذا مؤكد، يا مسيو جيو. هل أواصل؟»

«بالطبع.»

سحب جرانيت لفافةً رقيقة من جيب صدر معطفه. ووضعها على الطاولة بينهما.

وقال: «لقد تلقَّيت هذه، قبل أقلَّ من ثلاثة أسابيع من يد القيصر نفسه.»

حدق مسيو جيو في رفيقه وهو غير مصدِّق.

فتابع جرانيت: «لقد كان الأمر بسيطًا للغاية. حيث أُسِرتُ بالقرب من قرية أوسراي. ونُقِلت على الفور إلى مقرِّ القيادة واصطُحبت في سيارةٍ إلى مكان محصَّن معين لن أُحدده، ولكنه كان في ذلك الوقت مقرَّ قيادة الأركان الألمانية. وقد استلمت هذه الوثيقة هناك بالطريقة التي أخبرتك بها. بعد ذلك ساعدوني، بعد بعض المغامرات الرائعة؛ كي أُعاود الانضمامَ إلى كتيبتي. يمكنك فتحُ هذه الوثيقة، يا مسيو جيو. إنها موجَّهةٌ لك. واحفظها بعناية؛ لأنها موقَّعةٌ من القيصر نفسِه. لقد حملتها معي الآن أكثرَ من أسبوعَيْن في النعل الداخلي لحذائي. وكما يُمكنك أن تتخيَّل، فإن العثور عليها معي كان سيعني الموتَ الفوري.»

انشغل مسيو جيو بقراءة الأسطُر القليلة في الرسالة. وعندما انتهى، غطَّى الورقة براحة يده وانحنى إلى الأمام. وقد ظهر بريقٌ غريبٌ في عينيه.

وقال بصوتٍ أجش: «ستتخلَّى ألمانيا عن الألزاس ولورين، وستنسحب إلى داخل حدودها. كذلك لن تطلب أيَّ تعويض. ما معنى ذلك؟»

قال جرانيت: «إن الأمر بسيطٌ للغاية. يجب على سياسيٍّ كبيرٍ مثلك أن يُدرك بسهولةٍ الظروفَ الفعلية التي تدفع بمثل هذا العرض. ما فائدة الأرض بالنسبة إلى ألمانيا؛ تلك الأراضي التي يجب أن تحكمَها بالقوة، وتُكافح دائمًا ضد الكراهية المتراكمة منذ سنوات؟ لقد لقَّنتها الألزاس ولورين درسَها. إنها لا تريد أرضًا فرَنسية. روسيا لديها الكثير لتُقدمه. يمكن لروسيا وإنجلترا فيما بينهما دفعُ تعويضٍ يجعل ألمانيا غنيةً بما يتجاوز أحلامَ الجشع. شكِّل حزبك، يا مسيو جيو، وانشر أخبارك بأي طريقةٍ تبدو مناسبةً لك، فقط حتى تَحين الساعة، وحافِظ على هذه الوثيقة كما تُحافظ على روحك. فحيازتها تعني الموتَ بالنسبة إليك كما كانت تعنيه لي.»

أخذ مسيو جيو الوثيقةَ وخبَّأها في جيبه الداخلي.

وقال بهدوء: «لنفترض أنِّي نجحت، ماذا عن بلدك عندئذٍ؟»

أجاب جرانيت: «بلدي سوف يصنع السلام.»

واستأنف قائلًا: «وهو سلامٌ سيُكلفنا الكثير، لكن ليس أكثرَ مما نستحقُّه. على مدى أجيالٍ كانت الحرب هي التسلسلَ الواضح والجليَّ للأحداث الأوروبية. وقد ألقت بظلالها التحذيرية عبر طريقنا لسنوات، ورجال الدولة لدينا يُديرون رءوسهم عمدًا في الاتجاه المعاكس أو يمشون معصوبي الأعين. ليس فقط رجال الدولة، تذكر، ولكن شعبنا، شعبنا الإنجليزي. لقد تنصَّل شبابنا من واجبهم، وتهرَّب فلاسفتُنا وكتَّابُ المقالات من واجبهم أيضًا. لقد تحدثنا بخَواءٍ عن السلام والاتفاقيات، وعرَفنا جيدًا أننا كنا نعيش في أوقاتٍ كانت فيها الطبيعة البشرية والدمُ الأحمر لا يزالان هما العنصرَين المسيطرَين. وشاهدنا ألمانيا تتسلَّح وتستعد. فالتفتنا من أجل الراحة تجاه زملائنا الخطاة، أمريكا، وثرثرنا حول الاتفاقيات والتحكيم، ومئات الأفكار التجريدية السخيفة الأخرى. يمكن للأب مشاهدةُ عقاب طفله يا مسيو جيو. صدِّقني، هناك العديدُ من الإنجليز بجانبي الذين سيشعرون بالرضا الحزين لتأديب بلادهم، والكثير منهم أكثرُ وطنيةً، حتى، مني أنا.»

تغاضى مسيو جيو عن الجانب الشخصي للمسألة. وقد طاف عقله بالفعل بسرعة على طريق مستقبله المبهر.

وغمغم قائلًا: «هذه هي الفرصة التي تأتي لقلَّة من الرجال. هناك ديجان وجاردين وديبونو وسن، بالإضافة إلى أتباعي. وصحيفتي الخاصة، أيضًا! إنها حملة رائعة، وهذا ما سأبدأ به.»

نهض جرانيت واقفًا.

وقال معترفًا: «بعد اليوم سأتنفَّس بحُريةٍ أكبر. كان هناك أعداء يضغطون عليَّ بشدة، وكنتُ أمشي في خوف. واليوم أنا رجل حر. توخَّ الحذر، يا مسيو. توَخَّ الحذر خاصة أثناء وجودك في إنجلترا.»

مد مسيو جيو يده.

وقال: «يا صديقي الشاب، في السنوات القادمة ربما نلتقي في باريسنا الرائعة، وإذا لم أُخبر العالم بهذا، فمع ذلك سوف أشعر، ونحن ننظر إلى عظَمتها، أنك وأنا معًا قد أنقذنا فرنسا. إلى اللقاء!»

شقَّ جرانيت طريقه عبر الممرِّ الخالي، وطلب المصعد ونزل إلى البهو. بينما ترتسمُ ابتسامةٌ على شفتَيه. لقد أوقدت الشعلة أخيرًا! ومن ثَم صادف في بهو الفندق مجموعةً من الضيوف الذين يتوجهون للتو نحو غرفة الغَداء. وأسرعَت نحوه شخصية طويلة، مألوفة للحظة من أحد الجوانب. فخفق قلبه قليلًا. حيث مدَّت جيرالدين يدها وهي ترتدي قفازًا مكسوًّا باللؤلؤ.

وقالت: «كابتن جرانيت، أريد أن أُخبرك بشيء.»

فأجاب بلهفة: «أجل ما هو؟»

نظرَت إلى المكان الذي كانت فيه المجموعةُ الصغيرة من الناس في طريقهم بالفعل إلى السلالم.

وقالت، بصوتٍ خفيض: «يجب ألا أبقى ثانيةً واحدة، لكنني أردت أن أخبرك … أنا لم أعد مخطوبةً للميجور طومسون. إلى اللقاء!»

تسارع زخمٌ من الكلمات على شفتَيه لكنها انصرَفت. فتابع جسدَها النحيل الرشيقَ وهي تمرُّ بسرعة عبر الردهة وتنضمُّ إلى أصدقائها. حتى إنه سمع ضحكتها الرقيقة وهي تُحيِّي أحد الرجال الذين انتظروها.

قال جرانيت لنفسه بلهجة المنتصر وهو يستدير نحو الباب: «بكل تأكيد، هذا يوم سعدي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤