الفصل الرابع عشر

كان مسيو جيو رجلًا ذا مِزاج عاطفي. إذ ظل أكثرَ من ساعة بعد أن تركه جرانيت، يذرع غرفته الصغيرة ذَهابًا وإيابًا، كما وقف أمام النوافذ العالية التي تُطل على نهر التيمز، وهو يرفع يديه فوق رأسه ويُحدق بعيونٍ وامضة نحو المستقبل — ويا له من مستقبل! لقد كان طَوال حياته يُجيد وضع الخطط، حيث تتجه عيناه نحو الأشياء الكبيرة، ولكن على أن يحتلَّ دائمًا المكان الأبرزَ في وسط الساحة. وكان وطنيًّا، بطريقةٍ ما، ولكنها كانت أوضعَ طريقةٍ وأتْفهَها. لم تكن هناك فرنسا كبرى بالنسبة إليه إذا لم تكن شخصيته هي الشخصيةَ القيادية فيها. وفي كل حلمٍ بهذا المستقبل الرائع، بفرنسا أكثرَ روعةً وانتصارًا، رأى نفسَه على قمة الشهرة، وقد أشاد به الملايينُ لأنه الرجل العظيم القوي، المحرِّر. وقد عاشت فرنسا خارج إطار نفسه فقط كخيال. والآن أخيرًا حانت فرصته. وهكذا مرت الدقائق دون أن يشعر بها، بينما هو يبني طريقه نحوَ المستقبل. وهو رجل داهية يجيد تقدير الأمور؛ لذا حدَّد ملاحظات بالأخطار الخفية التي يجب أن يتجنبها. كما حدد واحدًا تِلو الآخر من الرجال الذين سيضعُ ثقته فيهم تدريجيًّا وبحذر. وفي النهاية، رأى المخطط بأكمله مكتملًا، وأُلقيت القنبلة، ومنحت فرنسا بشكلٍ هستيري الأمجادَ إلى الرجل الذي جلب لها سلامًا غيرَ متوقَّع.

رن جرس الباب. فردَّ وفتحه بعصبيةٍ بعض الشيء. ليجد شابًّا فرنسيًّا نحيفًا، يرتدي ملابسَ أنيقة، وكان وجهه مألوفًا بطريقة أو بأخرى.

واستفسر الوافد بدماثة: «مسيو جيو؟»

أجابه جيو بانحناءة. فقدم له الشابُّ بطاقة.

وقال: «أنا البارون دي أفينيون، السكرتير الثاني في السفارة هنا.»

أمسك مسيو جيو البطاقة ونظر إلى زائره. وقد أصابته حيرةٌ شديدة. وبدأ بعض الإحساس الخافت بالتشاؤم يتسلَّل إليه.

ودعاه قائلًا: «تفضَّل بالدخول، يا سيادة البارون. ألن تجلسَ وتشرحَ لي سبب تشريفك لي بالزيارة؟ أنت لا تظنني شخصًا آخر، بأي حالٍ من الأحوال، أليس كذلك؟ أنا مسيو جيو، مؤخرًا، للأسف! من ليل.»

ابتسم البارون قليلًا بينما يبعد الكرسي.

وقال: «ليس هناك خطأٌ يا مسيو جيو. لقد جئت إليك برسالةٍ من مديري. حيث يُشرفه كثيرًا أن تُرافقني إلى السفارة. فهو يودُّ الحديث معك بضع دقائق.»

كرَّر مسيو جيو الكلماتِ على نحوٍ غير مصدق: «هل قلت معي أنا؟ لكن لا بد أنَّ هناك خطأً ما.»

قال الشاب في إصرار: «ليس هناك خطأ، أؤكد لك ذلك.»

تراجع مسيو جيو قليلًا إلى داخل الغرفة.

واحتجَّ قائلًا: «ولكن ما شأني أنا بالسفير، أو بالأمور الدبلوماسية من أي نوع؟ أنا هنا في مهمة عمل؛ لأرى ما يمكن إنقاذُه من حُطام أعمالي. إن السيد السفير يُخطئ بيني وبين شخصٍ آخر.»

هز البارون رأسَه.

وقال في إصرارٍ: «لا يوجد خطأ، يا سيدي العزيز.» وأضاف، مع انحناءة: «نحن جميعًا نُدرك الضروريات التي تُجبر أكثرَنا شهرةً على العيش أحيانًا في ظل عدم الكشف عن هُويته. وإذا لم يجد السفير الكثير ليقوله لمسيو جيو من ليل، فأنا متأكد من أنه سيُصبح مهتمًّا جدًّا بإجراء محادثةٍ قصيرةٍ مع مسيو هنري بايليتون.»

ساد صمتٌ قصير، ومتوتر. وتبدل الرجلُ الذي أطلق على نفسه اسم جيو. وتبدَّدَت الأحلام التي صَحِبَته إلى المستقبل قبل دقائق قليلة. وعاد ليعيش في الوقت الحاضر — وهو حاضرٌ قبيح ونذيرُ شؤم. وقد نفرت العروق على جبهته وعلى ظهر يدَيه، ولمعت أسنانه تحت شاربه الأشعثِ الأبيض. ثم تمالك نفسَه.

وقال: «هناك خطأٌ ما، لكنني سأذهب معك.»

ومن ثَم غادرا الفندق في صمتٍ وتوجَّها إلى السفارة، وفي صمتٍ وجَّه الشاب الرجلَ الذي في عهدته إلى القاعة الكبيرة والفخمة في الطابق الأرضي من السفارة، حيث كان السفير يعطي تعليمات لاثنين من السكرتارية. وأشار لهما بيده كي ينصرفا، ثم انحنى بدماثةٍ لتحية زائره. ولم يعد هناك أيُّ ذريعة من جانب مسيو جيو. لقد أدرك عدم جَدْواها تمامًا.

بادر السفير قائلًا: «مسيو بايليتون، هل لك أن تتفضَّل بالجلوس؟ إنه لطفٌ منك أن تمتثل بسرعةٍ لاستدعائي.»

فقال الأخير: «لم يكن لدي أيُّ فكرة، أن هناك مَن يعلم بوجودي في إنجلترا. أنا هنا في عملٍ خاص.»

انحنى السفير بدماثة.

«بالضبط يا صديقي! كما ترى، أنا أستخدم كلمة «صديقي» لأنه في وقتٍ مثلِ هذا، يجب على جميع الفرنسيين أن ينسَوا خلافاتهم، ويعملوا معًا من أجل خير بلدهم وشرفه. أليس كذلك، يا سيدي؟»

قال السيد بايليتون ببطء: «هذا صحيحٌ بالفعل. قد نعمل بطرقٍ مختلفة، ولكننا نعمل لتحقيق الهدف نفسِه.»

تابع السفير قائلًا: «لم يشكَّ أحدٌ في وطنيتك قطُّ، يا مسيو بايليتون. وأنا لديَّ امتيازٌ الآن أن أضعها على المحكِّ. هناك القليل من سوء الفَهْم في البرازيل، وستجد كل الموضوع، وكذلك وجهات نظر حكومتِنا، موجودًا في مظروفٍ صغيرٍ من الوثائق، تراه على هذه المنضدة. ضَعْه في جيبك، يا مسيو بايليتون. وسأطلب منك أن تخدمَ بلدك بالسفر إلى ليفربول بعد ظهر اليوم، ثم إلى البرازيل غدًا على متن الباخرة هيرميس.»

كان السيد بايليتون قد فُوجئ قليلًا بزيارة البارون. لكنه يجلس الآن كرجلٍ غارقٍ في الذهول. كان مندهشًا للغاية لدرجة أنه لم يستطع أن يجد أيَّ مغزًى شريرٍ في هذه المهمة. وكل ما أمكنَه فقط أن يلهث. إذ بدا أن صوت السفير، وهو يتكلم بسلاسة، يصل إليه من مسافةٍ بعيدة.

تابع الأخيرُ قائلًا: «قد يكون الأمر مخالفًا بعض الشيء لرغباتك، يا صديقي، أن تجد نفسك بعيدًا جدًّا عن نبض كِفاحنا العظيم، لكن في هذه الأيام أفضل خدمة يمكن أن نُقدمها هي أن نُطيع. وهي رغبة أولئك الذين يُدافعون عن فرنسا أن تأخذ ذلك الظرف وتُسافر على متن تلك الباخرة.»

بدأ مسيو بايليتون بدرجةٍ ما أن يتمالكَ نفسه. ومع ذلك، كان لا يزال، في حيرةٍ من أمره.

ومن ثم احتجَّ قائلًا: «مسيو، أنا لا أفهم. إن هذه المهمة إلى البرازيل التي تتحدث عنها … لا يمكن أن يكون لها أهميةٌ كبيرة. ألا يمكن أن يُعهَد بها إلى رسولٍ آخر؟»

كان الرد الحاسم: «للأسف! هذا غيرُ ممكن، يا سيدي العزيز. إنه أنت — يا مسيو بايليتون — الذي يرغب الرئيس في سفره إلى البرازيل.»

كان الضوء مسلَّطًا على بايليتون. فضم قبضتَيْه.

وصاح: «إنني أُزاح عن الطريق! إن الرئيس يخافني سياسيًّا، إنه يخشى من أتباعي!»

انتصَب السفير في جلسته قليلًا، وشد قامته. وبدا أن كلماته أصبحت فجأةً مشحونةً بثقلٍ أكبر.

وقال: «مسيو بايليتون، الشيء الوحيد الذي تخشاه فرَنسا هو الخيانة!»

تشبَّث بايليتون بكرسيِّه. ودارت الغرفة للحظةٍ أمام عينَيه.

وسأل: «هل هذه إهانة، يا سعادة السفير؟»

كانت الإجابة الصارمة: «اعتبرها إهانةً إذا كان هناك ظلُّ خيانةٍ في قلبك تجاه فرَنسا القائمة اليوم، تجاه قضية الحلفاء كما هي اليوم.»

قال بايليتون، وهو ينتفضُ واقفًا: «أنا أرفض قَبول هذه المهمة غير العادية. يُمكنك إرسال مَن تريد إلى البرازيل. إن أمامي أمورًا أهمَّ.»

هز السفير كتفَيه.

وقال: «لن أضغط عليك. سأضع البديل أمامك فقط. أنت في هذه اللحظة تقف على أرضٍ فرنسية. وإذا رفضتَ هذه المهمة التي عرضت عليك، فسأحتجزك هنا إلى أن أتمكنَ من إرسالك تحت حراسةٍ إلى فرنسا.»

صاح بايليتون بغضب: «تحتجزُني؟ بأي تهمة؟»

كان الرد الهادئ: «بتهمة الخيانة. سآمُر بتجريدك من ملابسك وتفتيشك في هذه الغرفة. وبتفتيش أمتعتِك وغرفتك في فندق ميلان. والآن، ما هو ردُّك يا مسيو بايليتون؟»

ومرةً أخرى أُصيب الرجلُ بالحيرة. لكن هذه المرة، رغم ذلك، كانت حيرة من نوعٍ مختلف. فأخذ يُفكر للحظة بثبات. تُرى مَن يمكن أن يكون قد خانه؟

ثم سأل بحدَّة: «ما طبيعة الوثيقة، يا سيدي، التي تتوقَّع أن تجدها بين أشيائي؟»

أجاب السفير ببطءٍ: «عرض سلام رسمي من ألمانيا إلى الشعب الفرنسي. هذه هي المحاولة الثانية التي حاوَلوها. إذ مُزِّقت الوثيقة إلى قطعٍ صغيرة في المحاولة الأولى أمام وجه الشخص الذي كانت لديه الوقاحةُ ليُقدمها. أما الوثيقة الثانية، يا مسيو بايليتون، فهي في حوزتك. يُمكنك الاحتفاظ بها إذا أردت. فلن تجد لها فائدةً تُذكر في البرازيل.»

طوى السيد بايليتون ذراعَيه.

وقال: «أنا مواطن فرَنسي. وما أفعله، أفعلُه من أجل فرنسا.»

«هل ترفض مهمتي، إذن؟»

«أجل أرفضها.»

رنَّ السفير الجرسَ الموضوعَ على منضدته. فجاء أحد السكرتارية على الفور.

وأمره مديره قائلًا: «أرسل إليَّ الكولونيل ديفارج في الحال.»

ساد الصمت وقتًا قصيرًا. حيث انشغل السفير بالكتابة على منضدته. ولم يقل بايليتون، الذي كان يتنفس بصعوبة، أيَّ شيء. وبسرعة حضر ضابطٌ يرتدي الزيَّ الفرنسي.

فقال السفير، وهو يمد يده نحوَ بايليتون: «سيدي الكولونيل، ستتولى أمر هذا الرجل، الذي ستعتبره قيد الاعتقال. وأنا أتحمل المسئولية الكاملة عن هذا الإجراء. وستأخذه إلى مكتبك هنا وتُفتشه. وستُحضر إليَّ أيَّ وثيقة تجدها في حوزته. وعندما تنتهي، أبلغني وسأمنحُك تفويضًا للذَّهاب إلى غرفته في فندق ميلان. هل فهمت؟»

«بالتأكيد، سعادة السفير.»

أدَّى الضابط التحية العسكرية وتحرَّك نحو بايليتون.

وسأله: «ستأتي معي بهدوء، يا سيدي، أليس كذلك؟»

لوَّح له بايليتون كي يبتعد. والتفتَ إلى السفير.

واتخذ قرارَه قائلًا: «يا سيدي، سأذهب إلى البرازيل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤