الفصل الخامس والعشرون

رحبت جيرالدين بضيفها غيرِ المتوقَّع بعد ظهر ذلك اليوم بحرارة كافية ولكن بخجلٍ بعضَ الشيء.

وقالت، وهي تُصافحه: «لقد ظننتُ أنك ستبقى في برانكاستر مدة أسبوع.»

قال جرانيت: «كنا نعتزم البقاءَ مدةً أطول، لكن الأمور سارت على نحوٍ خاطئ بعضَ الشيء. في البداية وقعَت غارة زيبلن هذه. ثم ذراعي لم تشفَ تمامًا. وبشكل عام أخفقت رحلتنا الصغيرة وعُدت الليلةَ الماضية.»

سألت جيرالدين بحماس: «هل رأيت شيئًا من الغارة؟»

أجاب بجدية: «أكثر ممَّا أردت. حيث كنت أقود السيارة عبر الطريق في ذلك الوقت، واضطُرِرت إلى حضور محاكمة عسكريةٍ مثالية في اليوم التالي، وقد ترأسها صديقُكِ طومسون.» ثم تابع وهو يُراقبها عن كثب: «هل يمكن أن تُخبريني يا آنسة كونيرز كيف يُرسل مكتب الحرب الميجور الطبي الذي هو مفتش المستشفيات، لإجراء تحقيقٍ بشأن تلك الغارة؟»

سألته في حيرة: «هل كان هيو هناك حقًّا؟»

أجاب جرانيت: «أجل، وبشكلٍ رسمي للغاية. ولولا أن لديَّ دليلًا قاطعًا لإثبات ما كنتُ أفعله هناك، لأوقع بي في مشكلة؛ فقد كان يبدو مُصرًّا على ذلك.»

قالت ببرود قليلًا: «هيو دائمًا عادلٌ للغاية.»

قال في إصرار: «إذن فلن يمكنكِ حلُّ اللغز الخاص بي، أليس كذلك؟»

«أيُّ لغز؟»

«لماذا ينبغي على مفتش المستشفيات إجراءُ تحقيقٍ بشأن غارة زيبلن؟»

فقالت: «للأسف لا أستطيع. من المؤكد أن هيو قد أصبحَ شخصًا غامضًا للغاية، ولكن، كما تعلم، أنا لم أعُد أراه كثيرًا مؤخرًا. يبدو أن تغيير الجو الذي أجريتَه، يا كابتن جرانيت، لم يُفدْك كثيرًا. هل كان جُرحك يزعجك؟»

فنهض على نحوٍ مفاجئ ووقف أمامها.

وسألها: «هل يُهمُّكِ ما إذا كان جرحي يزعجني أم لا؟ هل تهتمِّين بأي شيء يخصني على الإطلاق؟»

ساد الصمتُ للحظة.

ثم قالت: «أنا أهتمُّ كثيرًا.»

بدا فجأة أنه شخصٌ قد تغير. وأصبحت الخطوط التي ظهرت بالتأكيد في وجهه خلال الأيام القليلة الماضية أكثرَ وضوحًا. فانحنى نحوها بشغَف.

وقال: «آنسة كونيرز، جيرالدين، أريدكِ أن تهتمِّي — بما يكفي للأشياء الكبيرة. لا تُقاطعيني من فضلك. استمعي إلى ما يجب أن أقوله. بطريقةٍ أو بأخرى، أصبحَت الأمور تسير معي على نحوٍ خاطئ مؤخرًا. رؤسائي لن يُعيدوني إلى الجبهة مرةً أخرى، لقد شُغل مكاني، ولن أشارك في أي معارك. لقد وضعوني على الرفِّ في مكتب الحرب؛ ويريدون أن يُسندوا إليَّ وظيفةً إدارية هنا في داخل البلاد. لا يمكنني القبول بها؛ فقد عشتُ وسط الأحداث الكبيرة مدةً طويلة. لقد سئمت الانتظار، وعدم القيام بأي شيء — سئمت حتى الموت. وأريد الذهاب بعيدًا. هناك بعض الأعمال التي يمكنني القيام بها في أمريكا. هل تفهمين ما أعني؟»

قالت له جيرالدين بصراحة: «مطلقًا.»

فقال: «هذا خطئي. يبدو أن جميع الكلمات تتبعثرُ من فمي على أيِّ حال ولا أعرف كيف أضعها بالترتيب الصحيح. ألا تُدركين أنني أحبك، يا جيرالدين؟ أريدكِ أن تُصبحي زوجتي، وأريد أن أذهب بعيدًا بأسرعِ ما يمكن. لماذا لا نهاجر إلى أمريكا؟ لماذا لا نتزوَّج هذا الأسبوعَ ونبتعد عن الجميع؟»

نظرت إليه بذهول شديد، ذهول خفَّفه قليلًا نوعٌ من عدم اليقين الشديد.

وصاحت قائلة: «لكن، يا كابتن جرانيت، لا يمكن أن تكون جادًّا! لا يمكنك التفكيرُ في مغادرة إنجلترا الآن.»

احتجَّ قائلًا: «لمَ لا؟ إنَّهم لن يسمحوا لي بالقتال مرةً أخرى. وأنا لن أتحمَّل الروتين البائسَ للعمل الإداري حتى وإن كان عسكريًّا. أودُّ الابتعاد ونسيان كل شيء.»

قالت بهدوء: «أنا متأكدة من أنك لستَ جادًّا. لا يمكن لأي رجلٍ إنجليزيٍّ أن يشعر بذلك.»

قال جرانيت في إصرار: «يمكنه إذا كان يهتمُّ لأمرك. أنا خائفٌ من كل شيء هنا، خائف من أن يعود طومسون ويأخذكِ بعيدًا، خائفٌ من كل أنواع الأشياء البشعة التي قد تحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة.»

رجَتْه قائلة: «لا يجب أن تتحدَّث هكذا، من فضلك. أنت تعلم مثلما أعلم أنه لا أنت ولا أنا يُمكننا أن نتخلى عن إنجلترا الآن ونصبح سعداء.»

فتح شفتَيه ليتحدَّث لكنه توقف. كان من الواضح أنها جادَّة للغاية.

وتابعَت قائلة: «أما بالنسبة إلى الشيء الآخر الذي تحدثتَ عنه، فمن فضلك هل تفعل مثلما رجوتك ولا تُشر إليه مرةً أخرى في الوقت الحاضر؟» وأضافَت قائلة: «ربما عندما تنتهي الحربُ قد نتحدث عنه، لكن الآن كل شيء مرتبكٌ للغاية. أنا، أيضًا، يبدو أنني فقدتُ اتجاهاتي … هل تعلم أنني ذاهبةٌ إلى بولونيا في غضون أيام قليلة مع مستشفى الليدي هيدلي؟ لا تبدُ خائفًا هكذا. أنا لست ممرضةً هاوية، يمكنني أن أؤكد لك. فأنا حاصلةٌ على كل الشهادات اللازمة.»

غمغم قائلًا: «إلى بولونيا؟ هل ستتركين لندن؟»

أومأت برأسها.

«لقد رتَّب الميجور طومسون الأمر لي، منذ أيام قليلة. قد نلتقي هناك في أي وقت.» وأضافت وهي تبتسم: «أنا متأكدة تمامًا من أن مكتب الحرب سيجد لك مهمةً في الخارج قريبًا جدًّا.»

وللحظة أعادت تلك النظرةُ الغريبة للقوة الصِّبيانية التي جذبتْها لأول مرةٍ تأكيدَ نفسها. وجزَّ على أسنانه.

ثم قال: «أجل، هناك عمل لي في مكانٍ ما. سوف أجده. فقط …»

أوقفتْه بسرعة.

وقاطعتْه قائلة: «وأنا متأكدة تمامًا، أنك عندما تُصبح على طبيعتك مرةً أخرى، سوف تُوافقني الرأي. هذه ليست الأوقاتَ المناسبةَ لسيطرة أفكارٍ أنانية علينا، أليس كذلك؟»

فقال لها: «حتى أسابيع قليلة مضَت، لم أكن أفكر في شيء سوى الحربِ وعملي فيها … إلى أن أتيتِ أنت، أصبح هذا هو الحال.»

مدَّت يدَيها لتُوقفه. وبدَت عيناها بليغتَين.

ورجَته قائلةً: «من فضلك تذكَّر أن الوقت مبكر جدًّا. لا أستطيع أن أتحمَّل أن تتحدثَ معي بهذه الطريقة. فيما بعد …»

صاح بمرارةٍ: «لن يُصبح هناك فيما بعد بالنسبة إلي!»

اختلط ظلُّ اندهاش مع انفعالها.

واعترضَت قائلة: «لا يجب أن تتحدثَ بهذه الطريقة، أنت مع شجاعتك الرائعةِ وفرصك! فكِّر في ما قمتَ به بالفعل. إن إنجلترا تريد أفضلَ أبنائها اليوم. ألا يُمكنك أن ترضى بإعطاء ذلك والانتظار؟ لدينا الكثيرُ من الامتنان في قلوبنا، نحن النساء الضعيفات، لأولئك الذين يخوضون معركتَنا.»

فشلَت كلماتُها في إلهامه. فأمسك بيدها ورفع أصابعها عمدًا إلى شفتَيه.

وقال بصوتٍ خفيض قائلًا: «لقد كنت أحمقَ عندما ظننت أنه يمكنكِ أن تشعري بما أشعر به. وداعًا!»

كانت جيرالدين بمفردِها عندما دخلَت والدتها الغرفةَ بعد بضع دقائق. وبدَت الليدي كونيرز مرتبكةً بعض الشيء وقلقة.

وسألت: «هل كان ذلك الكابتن جرانيت؟»

أومأت جيرالدين برأسها. فازداد قلقُ الليدي كونيرز.

«وماذا جرى؟»

قالت جيرالدين بهدوءٍ: «لقد رفضت طلبه إلى أن تنتهيَ الحرب.»

أوقف جرانيت سيارتَه خارج بوابات ذلك النادي الرائع في بال مول. وأخذ عاملُ العناية بالمعاطف اسمَه، وبعد بضعِ دقائق انضم إليه عمُّه في قاعة الضيوف.

«لقد عدت سريعًا، يا روني؟»

أومأ جرانيت برأسه.

وقال: «لقد تخليتُ عن فكرة الهجرة إلى أمريكا. وظننت أنه من الأفضل أن أخبرَك بذلك. يجب أن يكون كل شيء الآن.»

ظل السير ألفريد صامتًا للحظة.

ثم قال: «حسنًا، تذكر هذا فقط، يا بني — يجب ألا تُعرض نفسك لمخاطرَ أخرى. لقد كنتَ تُبحر بالقرب من الريح بدرجةٍ كافية.»

سأله جرانيت بسرعة: «هل ذهبتَ إلى مكتب الحرب؟»

أجابه عمه.

«لقد فعلت وقابلتُ الجنرال برايس. واعترف بثقةٍ أنهم ليسوا حريصين جدًّا على إعادة انضمامك. لا شيء شخصي» ثم تابع بسرعة: «لا شيء خطير، بمعنًى آخر. هناك نوعٌ من الانطباع على الجبهة بأنك جلبتَ لهم الحظ السيئ.»

هز جرانيت كتفيه.

وقال: «حسنًا، إنهم يعرفون عملَهم الخاصَّ بشكلٍ أفضل. ما أخاف منه هو أن أصبح مثقلًا ببعض المهامِّ الإدارية البغيضة هنا بعيدًا عن الجبهة.»

قال له عمُّه بهدوء: «لا داعي للخوف من ذلك بعد الآن، يا روني.»

استدار جرانيت بسرعة.

وسأله في قلق: «هل تقصد أنهم لا يريدون أن يُسندوا إليَّ أي مهامَّ على الإطلاق؟»

هز السير ألفريد رأسه.

«أنت مندفعٌ للغاية، يا روني. إنهم يريدون منحك مهامَّ داخل البلاد، لكنني طلبتُ منهم إرجاءَ الأمر بعضَ الوقت، حتى أتركك بدون انشغال.»

«لديك شيءٌ في عقلك، إذن … شيء محدد؟»

نظر السير ألفريد من النافذة للحظة. ثم وضع يده على كتف ابن أخيه.

وقال بجدِّية: «أعتقد أنني أستطيع أن أعدَك، يا روني، أنك خلال أيام قليلة ستُصبح مشغولًا للغاية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤