الفصل الحادي عشر

عبد الله التعايشي

fig29
شكل ١١-١: عبد الله التعايشي، (قُتل سنة ١٩٠٠).

ويجدر بنا في هذا المقام الاستطراد إلى ترجمة التعايشي، ووصف أحواله وأحوال السودان قبل فتحها الأخير، فنقول:

هو السيد عبد الله ابن السيد محمد التقي، ويتصل نسبه بعشيرة الحبيرات من قبيلة التعايشة، والتعايشة من قبائل البقارة، والبقارة اسم يُطلق على القبائل القاطنة غربي النيل الأبيض، وهم بدو، أكثر اشتغالهم برعاية البقر والنخاسة وتجارة الرقيق، ويقيم التعايشة في الغرب الجنوبي من دارفور.

وكان السيد محمد التقي مشهورًا في قبيلته بالتقوى والكرامة والاستقامة، يؤمه المرضى وذوو الأسقام يلتمسون الشفاء بما يتلوه عليهم من الآيات أو يردده من الصلوات أو بما يكتبه من الأحجبة والعقود، وقد ولد له أربعة ذكور وأنثى وهم: عبد الله، ويعقوب، ويوسف، وسماني، وفاطمة، وكان عبد الله ويوسف أقلهم ميلًا إلى العلم؛ فلم يحفظا القرآن إلا بعد الجهد الشديد وكثرة المزاولة، وكانا أكثر ميلًا إلى النخاسة (اقتناص العبيد)، أما يعقوب وسماني فكانا أقرب إلى الهدوء والسكينة، فحفظا القرآن سريعًا، ولازما أباهما يساعدانه في صلاته وسائر أعماله.

واتفق في أثناء حرب الزبير باشا لدارفور أن عائلة السيد محمد التقي هذا كانت في جملة القائمين على الزبير، فوقع عبد الله أسيرًا في بعض مواقع شكَّا، وأراد الزبير قتله فتوسط بعض العلماء في العفو عنه فأبقى عليه، فأراد عبد الله أن يكافئ الزبير على عفوه عنه، فقال له سرًّا: «رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر وأني أحد أتباعك»، فأجابه الزبير: «لست المهدي، ولكنني رأيت هؤلاء العرب قد قطعوا الطرق على التجارة فجئت لفتحها.»

فلما فُتحت دارفور واستقر الأمن فيها نزح التقي وعائلته من وطنهم إلى شكَّا أقاموا فيها سنتين ثم ساروا منها إلى دار الحمر فالأبيض فدار القمر، ونزلوا أضيافًا على شيخ ذلك المكان عساكر أبي كلام بضعة أشهر، وهناك تُوفِّي السيد محمد التقي ودُفن في شركلة، وقبل مماته أوصى عبد الله ابنه الأكبر أن يلازم بعض مشائخ الدين في وادي النيل مدة ثم يهاجر إلى مكة فيقيم فيها ولا يعود إلى السودان.

فترك عبد الله إخوته عند الشيخ عساكر، وسار قاصدًا وادي النيل، فسمع في أثناء الطريق بمحمد أحمد المهدي وما يتحدث به الناس من كرامته مع شهرته في طريقه، فقصده وطلب الانضمام إليه، واتفق أن محمد أحمد كان إذ ذاك في خصام مع أستاذ طريقته أفضى إلى الشحناء، فاغتنم عبد الله تلك الفرصة وخدم محمد أحمد خِدمًا حببته إليه، فأسس محمد أحمد طريقة كان عبد الله من أقدم المشتركين فيها، ورأى تجمع الأحزاب حول محمد أحمد، فقال في نفسه: لعل هذا هو المهدي المنتظر، وكان أهل السودان ينتظرون ظهور المهدي قريبًا، وكلما رأوا رجلًا يفضلهم عقلًا ودراية ظنوه المهدي، فقال عبد الله لمحمد أحمد: «إن كنت المهدي المنتظر قل!» فقال، وجعل عبد الله خليفة له؛ فهو أقدم خلفائه وأول القائمين بنصرته ويده اليمنى في كل أعماله كما قد رأيت في سياق تاريخ المهدي مما لا فائدة من إعادته.

(١) صفاته وأخلاقه وأعماله

(١-١) وجهه

بلغ التعايشي السنة الخمسين من عمره وهو ربع القامة، أسمر اللون قليلًا، على وجهه آثار الجدري، أقنى الأنف، حسن شكل الفم، خفيف الشاربين والعارضين، كثيف العثنون (شعر الذقن)، أشيب الشعر، عربي الملامح، وكانت ملامحه في أوائل أيامه تتخللها طلاقة وبهجة، فأمست في أواخرها وقد غشاها انقباض تنقبض منه النفس ويدل على ما انطوى عليه الرجل من الاستبداد والمكر والدهاء، وهو قصير الشفتين تظهر أسنانه من خلالهما، وخصوصًا إذا تكلم فإنها تبرز لامعة بيضاء كأنه يبتسم.

(١-٢) لباسه

وكان قبل وفاة المهدي يلبس الجبة المرقعة الخاصة بالدراويش، فلما تولى الخلافة جعل جبته من القطن الأبيض الرفيع بلا رقع، ولكنه خاط بحوافيها شرائط ملونة، وكان يلبس السراويل من القطن أيضًا، ويلف عمامة بيضاء حول طاقية من الحرير صنع مكة، ويلقي على كتفيه أحيانًا شالًا من القطن، وترى في صورته (ش ١١-١) رسمناها بناء على ما وصفه به سلاتين باشا وغيره ممن شاهدوه؛ لأن الرجل لم يتصور صورة منقولة عنه رأسًا.

وكان في بادئ الأمر يحتذي نعالًا كنعال سائر الدراويش، ثم أبدلها بالخف والبابوج من جلد ضارب إلى السمرة، فإذا مشى حمل بيساره سيفًا جميلًا، وبيمينه رمحًا صغيرًا جميل الشكل من صنع قبيلة الهدندوة يتوكأ عليه كالعصا، وهو لا يمشي إلا محاطًا بحلقة من صغار العبيد وأكثرهم من أبناء الأحباش الذين أُسروا في المواقع الأخيرة المتقدم ذكرها، وواجباتهم إيصال أوامره إلى من أراد في أم درمان، فإذا بلغ أحدهم أشده انتظم في سلك الملازمين.

(١-٣) أخلاقه

كان حاد الطبع، مقحام، غضوب، إذا غضب سارع في حكمه وأصر على عناده، لا يسمع نصحًا ولا يصغي إلى مشورة، كثير الشكوك، سيء الظن، لا يثق بأحد ولو كان من أقرب أقربائه أو من أهل منزله؛ لاعتقاده أن الإخلاص والأمانة يندر وجودهما. يرتاح إلى الإطراء والتملق، فإذا خاطبه أحد صدَّر خطابه بذكر محامده، ونسب كل ما حدث من الحسنات إلى حكمته ودرايته وعدله وبسالته وكرمه، فيسمع كل ذلك مصغيًا ويزداد عجبًا وافتخارًا، وهو يثق بمقدرته وثوقًا تامًّا، ويظن نفسه قادرًا على كل شيء، فما كان من ذلك فوق استطاعة البشر نسبه إلى قوة إلهية حلَّت فيه.

ومن أخلاقه الحقد والصرامة، والعنف والانتقام، فيفرح بتكدير الآخرين وخذلانهم. وأسعد يوم عنده يوم يضبط فيه الأموال ويلقي الناس في الأغلال والقيود أو يسوقهم إلى القتل والذبح، فيبعد الولد عن والديه والامرأة عن زوجها ظلمًا وعدوانًا، فكثيرًا ما أمر بقتل الألوف من النساء والأولاد الأبرياء.

(١-٤) مجلسه

ويكلف التعايشي القائمين بخدمته والجالسين في مجلسه تذللًا لا تستطيعه نفس الحر، فالداخل عليه يقف أمامه مطرقًا ويداه متقاطعتان على صدره ينتظر أمره بالجلوس، والتعايشي جالس في صدر القاعة على عنقريب عليه حصير مصنوع من سعف النخل فوقه فرو من جلد الضأن يرف عن حوافي العنقريب، وقد يتكئ إلى وسادة من القطن، فإذا كان الداخلون عليه أهلًا للجلوس في حضرته أشار إليهم فيجلسون على الأرض جلوسهم للصلاة مطرقين ينتظرون ما يلقيه عليهم من الأسئلة، فيجيبون وهم ينظرون إلى الأرض لا يُبدون حراكًا إلا إذا أمرهم بالانصراف فينصرفون.

(١-٥) داخليته

ومن الغريب أنه مع استبداده في حكومته وعنفه في تنفيذ أوامره فهو على الضد من ذلك مع أهل منزله، فقد كان يحب ابنه عثمان أكبر أولاده حبًّا شديدًا وينعطف نحوه انعطافًا غريبًا، وقد بذل كل مرتخص وغالٍ في سبيل تعليمه القرآن والتفسير والحديث وسائر العلوم الإسلامية، فلما بلغ السابعة عشرة أزوجه ابنة عمه يعقوب، وأغضى عن وصية المهدي بإبطال ولائم الأفراح، فنصب الموائد ومد الأبسطة ثمانية أيام حتى لم يبقَ أحد من أهل أم درمان إلا أَمَّ ذلك الاحتفال، ثم أزوجه فتاتين أخريين من أقاربه، وأهداه قطيعًا من السراري والجواري، وأوعز إليه صريحًا أن لا يقرب امرأة من نساء وادي النيل (الدناقلة)، وزوج ابنته بمحمد بن المهدي، وكان محمد هذا ينوي الاقتران ببعض ذوات قرابته لأنه لا يحب ابنة التعايشي، ولكنه لم يتجرأ على التصريح بذلك؛ لعلمه أن التعايشي يسيء الظن به ويتعرض في أموره تعرض الوصي ويراقبه مراقبة الحرس، فكظم غيظه وصبر على بلواه.

(١-٦) نساؤه

كان التعايشي قبل فتح أم درمان يقيم في منزل كبير على مقربة من الجامع، ونساؤه الشرعيات أربع، وأما الجواري فعددهن يزيد على الأربعمائة، أكثرهن من الفتيات اللواتي أُخِذن من والديهن بالأسر بعد الحرب، فهن في اعتباره مما ملكت أيمانه، وفيهن البيضاء والسمراء والحبشية والسوداء، جعلهن أقسامًا يرأس كل عشرين منهن رئيسة، وعلى كل ثلاثة أو أربعة من هذه الأقسام امرأة حرة هي في الغالب سُرِّيَّة يختارها هو لهذه المهمة، وفي دار الحريم هذه خصيان معظمهم صغار السن وفي جملتهم عشرون خصيًّا يرأسهم واحد منهم اسمه عبد القيوم.

(١-٧) طعامه

وكان طعامه في أوائل حكومته قاصرًا على العصيدة واللحم المطبوخ والدجاج، ولكنه ما لبث أن صار يتناول الأطعمة المركبة التي يتخذها الأغنياء في مصر وغيرها.

(١-٨) ملازموه

كان بخدمة التعايشي جند من الملازمين، يقف جماعة منهم في بابه أو يسيرون إلى جانبه إذا ركب، وكان سلاتين باشا واحدًا منهم، وأراد التعايشي تعزيز حاشيته فأمر بتجنيد جند لحرسه الخصوصي، فاختار عددًا كبيرًا من عساكر الجهادية، وأوعز إلى أمراء الغرب (غربي النيل الأبيض) فاختاروا له عددًا آخر، وأضاف إلى هذا وهذا جماعة من أحاسن الجعالين وغيرهم، إلا الدناقلة والمصريين فإنه كان لا يثق بهم، فاجتمع من ذلك كله جند عدده ١٢ ألفًا، قسمهم إلى ثلاث فرق: يتولى قيادة الأولى منها ابنه عثمان، ويتولى قيادة الثانية أخوه هارون أبو محمد وهو شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ويتولى الفرقة الثالثة رجل حبشي اسمه رابح رُبِّي في منزل التعايشي، وتقسم كلٌّ من هذه الفرق إلى أقسام عدد كل منها مائة، يتولى قيادتها ضابط يسمونه «رأس مائة»، على أن ابنه عثمان كان يعتبر في أي حال قائد الملازمين كافة. وراتب الملازم نصف ريال من ريالات الدراويش في الشهر، ويُصرف لكل منهم وظيفة من الذرة مقدارها ثمن إردب كل أسبوعين، وواجبات الملازمين المحافظة على شخص التعايشي، وهو لا يغفل عن مراقبة حركاتهم وتعهدهم بنفسه؛ ليتحقق قيامهم في مراكزهم وإخلاصهم في خدمته.

(١-٩) أعماله

أما واجباته بالنسبة إلى رعاياه فإقامة الصلوات الخمس كل يوم في مسجد أم درمان الأكبر، فيجلس في المحراب بحيث يرى كلَّ من في الجامع، ووراءه ابنه والقضاة وبعض من اختصهم بالتقرب منه، وإلى اليمين واليسار الملازمون، ووراءهم من اليمين أخوه يعقوب وسائر الأمراء، ومن اليسار بعض رجال علي ولد الحلو ثاني خلفاء المهدي، وبعض الجعالين والدناقلة، ووراء هؤلاء مجلس العامة صفوفًا، ويبلغ عدد الحضور عادة عدة آلاف، وكان التعايشي كثير التدقيق في حضور الأمراء للصلاة، فإذا تخلف عنها أحد منهم لامه أو حقدها عليه، وإذا منع التعايشي مانع كمرض أو غيره عن إقامة الصلاة ناب عنه بعض قضاته، ولكنه لا يجلس في المحراب، ويشتغل التعايشي ما بين صلاتي العصر والغروب في سماع ما يرد عليه من الأعمال والمداولة بشأنها مع القضاة، ولما كان أميًّا لا يحسن القراءة ولا الكتابة فيتلو الأوراق عليه بعض كتَّابه أو كتمة سره وهم الذين يكتبون الأوامر والمنشورات ثم يختمها هو بختمه.

(١-١٠) البريد

والمخابرات بين عاصمة الدراويش وسائر أعمالها بواسطة الهجانة؛ وهم عبارة عن ستين أو سبعين هجينًا يتولاها بضعة من الرجال يختارهم التعايشي لحمل أوامره إلى العمال ورؤساء القبائل ويعودون إليه بالأخبار والأجوبة، وقد أشار عليه إبراهيم عدلان أن يرتب البريد ويعين له مواقيت ومحطات فأبى؛ بدعوى أن الهجانة الذين يحملون البريد رأسًا ينقلون إليه أخبارًا شفاهية هي أثمن عنده من نظام البريد.

fig30
شكل ١١-٢: عبد الله التعايشي يقطع النيل عند أم درمان ويحرض رجاله على القتال.

(١-١١) ركوبه

وكان التعايشي يركب أحيانًا فيخرج بموكبه لتعهد بعض منازله في أطراف المدينة، فينفخ بوَّاق في بوق طويل من قرن الخرتيت اسمه أمبايو له صوت مزعج، فضلًا عن أصوات الطبول، فإذا سمع الناس صوت الأمبايو والطبل علموا أن التعايشي خارج من ديوانه فيفتح الناس أبوابهم ويطلون من السطوح والكوى لمشاهدة خليفة مهديهم. فإذا مشى الموكب ركب الخليفة في حلقة الملازمين يتقدمها شرذمات منهم وراءهم جماهير الناس من أهل المدينة بين راكب وماشٍ، ويمشي إلى يسار التعايشي رجل ضخم اسمه أبو ضحكة يساعده في ركوبه وترجُّله، ويسير أمام التعايشي البوَّاق ينفخ الأمبايو بأمره ووراءه أصحاب النفير العسكري لتبويق الوقوف أو المسير أو غير ذلك حسب أمره، ويمشي وراءهم خدمته الخصوصيون يحملون له الركوة (إبريق من جلد يُملأ ماء للوضوء) وفروًا للسجود عند الصلاة ورماحًا، ويرافق هذه الجماهير الموسيقى العسكرية يضربها خمسون عبدًا؛ وهي عبارة عن أبواق من قرون الوعل وطبول مصنوعة من جذوع الشجر مجوفة ومغطاة بالجلد أصواتها تزعج الحواس، وفي أثناء مسير الموكب يلعب بعض الخيالة من الملازمين على ظهور الخيل.

(١-١٢) الاستعراض

وكان يستعرض التعايشي رجاله أربع مرات في السنة: في الأعياد الأربعة: المولد النبوي، والمعراج، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، باحتفال شائق يحضره أهل أم درمان وغيرهم، وكان يستعرضهم قبلًا مرة كل أسبوع في يوم الجمعة.

(١-١٣) قواته

وأما قواته ومقدار ما كان عنده من الذخيرة والمئونة قبيل ذهاب دولته فمعظمها من المشاة حملة السيوف والرماح وعددهم ٤٦٠٠٠، ومن الخيالة ٦٦٠٠، ومن العساكر الجهادية ٣٤٣٥٠ وغيرهم، وجملة ذلك نحو مائة ألف وخمسة آلاف مقاتل، وعدد الأسلحة ٧٤ مدفعًا و٤٠٣٥٠ بندقية، هذه قوات التعايشي الرسمية، ولكنها كانت تتضاعف بما ينضم إليها من القبائل القائمة بنصرته.

(٢) حكومة التعايشي وإدارتها وأعمالها

المالية: تسمى المالية عند الدراويش «بيت المال» أو هي بيوت المال، يختص كل بيت منها بنوع من أنواع الدخل والخرج، أهمها خمسة، وهي:
  • (١)

    بيت المال العمومي.

  • (٢)

    بيت مال الملازمين.

  • (٣)

    بيت مال الخمس للخليفة.

  • (٤)

    بيت مال ورشة الحربية.

  • (٥)

    بيت مال ضابطة السوق.

(٢-١) بيت المال العمومي

هو عبارة عن الخزينة العمومية لمملكة الدراويش، يجمع دخلها من المصادر الآتية:
  • (١)

    الزكاة والفطرة.

  • (٢)

    الأسلاب والغنائم المكتسبة بالحرب.

  • (٣)

    العشور وهي ما يدفعه التجار ضريبة على بضائعهم (المكس).

  • (٤)

    ضريبة الصمغ.

  • (٥)

    ضريبة القوارب.

  • (٦)

    قروض يعقدها بيت المال مع التجار ولا ينوي دفعها.

  • (٧)

    ضرائب العبور في النيل من ضفة إلى أخرى (المعديات).

  • (٨)

    غلة الأرض الواقعة غربي النيل الأبيض وشرقي النيل الأزرق، وهي تمتد جنوبًا إلى كركوج وفشودة، وشمالًا إلى حجر العسل.

  • (٩)

    معين يستولي عليه بيت المال العمومي من بيوت المال الأخرى.

وأما نفقات بيت المال العمومي فهي:
  • (١)

    نفقات نقل الجيوش ومؤنهم وذخائرهم إلى المديريات والمقاطعات.

  • (٢)

    أعطيات الجند (رواتب الجهادية).

  • (٣)

    رواتب المستخدمين.

  • (٤)

    الصدقات.

(٢-٢) بيت مال الملازمين

ويراد به خزينة الملازمين وهم جند التعايشي الخصوصيين، ومنهم حراسه وياورانه، يجتمع دخل هذه الخزينة من محاصيل أرض الجزيرة «بين النيلين الأبيض والأزرق»، وأما نفقاتها فمحصورة في رواتب الملازمين.

(٢-٣) بيت مال الخمس للخليفة

وهو أشبه شيء بالخزينة الخاصة، ودخله من المصادر الآتية:
  • (١)

    معظم ما يفضل في خزائن المديريات بعد نفقاتها المعلومة.

  • (٢)

    محاصيل الجزائر الواقعة في النيل وفي جملتها جزيرة توتي تجاه الخرطوم، ومحصول أرض الغنيمة ومنها حلفاية وكملين وكانتا قبلًا من أملاك الخاصة الخديوية.

  • (٣)

    عشر البضائع التي ترد من بربر إلى أم درمان.

  • (٤)

    أثمان العبيد الذين يرسلون من المديريات.

  • (٥)

    محصول أكثر البواخر والسفن. أما خرج بيت مال الخليفة فمحصور في نفقات منزله الخصوصي.

(٢-٤) بيت مال ورش الحربية

ويشبه خزينة الحربية عندنا، دخله من:
  • (١)

    غلة جنائن الخرطوم.

  • (٢)

    محصول بعض السواقي بجوار الخرطوم.

  • (٣)
    العاج الوارد من خط الاستواء، وخرجه:
    • (أ)

      نفقات البحرية.

    • (ب)

      نفقات الترسخانة، ويسمونها بيت الأمانة.

    • (جـ)

      استخراج ملح البارود وتنقيته.

    • (د)

      نفقات معمل الأسلحة.

(٢-٥) بيت مال ضابطة السوق

وهي خزينة الضابطة، دخله من أموال السكيرين والمقامرين التي يحكم التعايشي بضبطها ومن ضريبة الحوانيت، وأما نفقاته فعلى ما يأتي:
  • (١)

    رواتب الضابطة من الأنفار والضباط.

  • (٢)

    نفقات بيت الضيافة وهو ليعقوب أخي عبد الله التعايشي.

  • (٣)

    نفقات بناء السور الكبير لأم درمان.

هذه هي أقسام المالية من الدخل والخرج، أما المقادير التي تدخل وتخرج فلا تتيسر معرفتها.

(٣) النقود والتجارة

لما قام المهدي بدعوته ووفِّق إلى فتح المديريات استولى على خزائنها وأموال أهلها، فكان ينفق مما وصل إلى يديه من ذلك، وهي النقود الدارجة في السودان على عهد الحكومة المصرية، أهمها الريال المجيدي، والريال أبو مدفع، فلما اتسعت مملكته ونفدت تلك الأموال أخذ في ضرب النقود باسمه، أشار عليه بضربها أحمد ولد سليمان، فضرب نقودًا فضية شبيهة بالريال المصري، وجنيهات شبيهة بالجنيهات المصرية، ولكنهم لم يكونوا يضبطون المقادير اللازمة من كل معدن منها، وكان الذهب قليلًا بين أيديهم فكفوا عن ضرب الجنيه، وأكثروا من ضرب النقود الفضية، فضربوا منها ضربات عديدة تعرف بأسماء خاصة منها «ريال المهدي» وهذا أحسنها كلها، ومنها «مقبول» و«أبو سدر» وكلاهما من ضرب نور القيرافوي، و«أبو كيس» وعليه رسم رمحين متصلين، و«العملة الجديدة»، على أنهم أخذوا ينقصون مقدار الفضة بالنسبة إلى النحاس شيئًا فشيئًا حتى صارت الفضة إلى النحاس كنسبة ٢ إلى ٥، مع أنها كانت في بادئ الرأي ٧ إلى ١؛ أي إن الريال كان يحتوي سبعة أجزاء من الفضة وجزءًا من النحاس، وهو ريال المهدي، فصار يحتوي جزأين من الفضة وخمسة من النحاس، وذلك دليل على فقر السودان وفساد حكومته، على أن دار ضرب النقود كان يتخذها كبار الدراويش تجارة يكتسبون بها أموالًا طائلة لأنها تعطي حكرًا أو ضمانة، ومن قوانينها أن يرأسها اثنان معًا يدفع الواحد منهما ستة آلاف ريال كل شهر، وما يضربانه من النقود يجب أن يكون مقبولًا لدى التجار وغيرهم، فإذا اعترض أحد على صحتها أو تمنَّع عن قبولها فعقابه الجلد أو سلب الأموال، فالريال صار يستبدله تجار أم درمان بثمانية ريالات من العملة الجديدة، ويستبدلون الريال أبو مدفع بخمسة ريالات، فاضطروا ملافاةً لما يلحقهم من الخسارة بهذه المعاملة أن يرفعوا أثمان بضائعهم حتى بلغ ثمن شقة البفتة الزرقاء التي يصطنعون منها ثياب النساء ستة ريالات، وكان ثمنها على عهد الحكومة المصرية ثلاثة أرباع الريال، وأصبح رطل السكر (الرطل ١٤٤ درهمًا) بريالين.

ومن الغريب أن غلاء الأثمان قاصر على البضائع الواردة من مصر، أما ما يجلب من السودان فأثمانه بخمسة بالنسبة إلى تلك، فالجمل مثلًا يساوي ستين ريالًا، والبقرة مائة ريال، وإردب الذرة ستة ريالات، والخروف خمسة ريالات فأكثر.

fig31
شكل ١١-٣: مجلس التعايشي.

(٤) القضاء

كان القضاء منوطًا عندهم بالقضاة، وكبيرهم يسمى «قاضي الإسلام»، وجميعهم آلات صماء بأيدي التعايشي فلا يصدرون حكمًا إلا كما يوحيه هو إليهم ما خلا القضايا الطفيفة من الأحوال الشخصية وما شاكلها، فقضاة الدراويش بهذا الاعتبار بين جاذبين قويين: ضميرهم والأحكام الشرعية من جهة، وإدارة التعايشي من جهة أخرى، وهاك أسماء قضاة أم درمان عام سنة ١٨٩٥.

(١) حسين ولد زهرة من قبيلة الجعالين
(٢) سليمان ولد الحجاز من قبيلة الحجماب
(٣) حسين ولد قيسو من قبيل الحمر
(٤) أحمد ولد حمدان من قبيلة العراقين
(٥) عثمان ولد أحمد من قبيلة البطاحين
(٦) عبد القادر ولد أم مريم وكان قاضي كلاكلا على عهد الحكومة المصرية
(٧) محمد ولد المفتي وهو قاضي المواد الجزئية بين الملازمين

وهناك قضاة آخرون للقبائل الغربية إذا حضروا الجلسة لا يصدرون حكمًا، بل يبدون رأيهم، وأما شيخ الإسلام فهو حسين ولد زهرة المتقدم ذكره أول القضاة، تلقى الفقه في مدرسة الجامع الأزهر، وهو أعلم أهل السودان كافة مع الميل إلى العدالة، وكثيرًا ما أصدر أحكامًا تنطبق على مقتضى الشريعة الغرَّاء، وتخالف إرادة التعايشي غير راضٍ عنه تمام الرضى، وقلَّما يدعوه لحضور الجلسات.

وأساس الأحكام عندهم الشريعة الإسلامية وتعاليم المهدي التي أشرنا إليها في كلامنا عن أوصاف المهدي وتعاليمه، ويزعمون أن هذه التعاليم إنما وضعها المهدي لإحياء ما كاد يندثر من أحكام الشريعة الغرَّاء بالإهمال، وأهم تلك التعاليم الاعتقاد بأن محمد أحمد هو المهدي المنتظر، ومن شك في ذلك فعقابه القتل.

وواجبات قاضي الملازمين الحكم فيما يعرض بين الملازمين أو بينهم وبين عامة الناس، وفي الحالة الثانية فالحق دائمًا في جانب الملازمين، وهناك قاضيان ملحقان ببيت المال ينظران في القضايا المتعلقة بالأحكام الشرعية من جهة بيع الرقيق وشرائه. وعندهم قاضٍ يقيم في السوق ليحكم في الأمور الطفيفة التي تعرض هناك.

تلك كانت حال حكومة الدراويش سنة ١٨٩٦ ثم توالى عليها النحس وجندت الحكومتان المصرية والإنكليزية لقهرها، وبعد مواقع عديدة فتحوا أم درمان سنة ١٨٩٨ وفر التعايشي ورجاله إلى الجبال في كردوفان فتبعوه بعد قليل، وحاربوه سنة ١٨٩٩ فحاربهم مستهلكًا حتى قُتِل هو وكل من كان معه إلا قليلين التجئوا إلى الفرار، وانقضت بتلك الواقعة دولة الدراويش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤