الفصل الثامن والعشرون

فؤاد باشا

fig59
شكل ٢٨-١: فؤاد باشا السياسي العثماني الشهير (وُلد سنة ١٢٣٠ﻫ وتُوفِّي سنة ١٢٨٥ﻫ).

وُلد في الآستانة سنة ١٢٣٠ﻫ، ووالده عزت ملا بن كيجه زاده أحد الشعراء والعلماء في زمانه. سلك فؤاد باشا في عهد شبيبته المسلك العلمي ثم دخل المكتب الطبي الذي أسسه السلطان محمود الثاني في سراي غلطة، وحصَّل فيه العلوم الطبية بنسبة زمانه واستعداده وارتقى لرتبة قائمقام، وعند ذهاب طاهر باشا بن جنكل واليًا لولاية طرابلس الغرب تعيَّن فؤاد (أفندي) طبيبًا للآلاي في معيته.

وفي سنة ١٢٥٣ كان مصطفى رشيد باشا في نظارة الخارجية، وتوسم في صاحب الترجمة مستقبلًا عظيمًا في السياسة فحرَّضه على ترك الطب، فتركه وتعيَّن مترجمًا في الباب العالي. ثم صار مترجمًا أول للديوان الهمايوني، وفي سنة ١٢٥٤ﻫ سافر رشيد باشا إلى لندرة سفيرًا مؤقتًا، فاصطحب فؤاد أفندي كاتبًا أول للسفارة المذكورة، وبقي المشار إليه في لندرة ثلاث سنوات ثم عُزل إلى الآستانة، وبقي فيها سنتين معتزلًا.

ولما تعيَّن رشيد باشا سفيرًا في باريس للمرة الخامسة، تعيَّن فؤاد أفندي سفيرًا مؤقتًا لإسبانيا والبرتغال، وبقي فيها سنتين، وبعد عودته للآستانة نال الرتبة الثانية المتمايزة، وتعيَّن ترجمانًا للديوان الهمايوني في شهر جمادى الآخر من سنة ١٢٦١، وفي ربيع أول سنة ١٢٦٣ أحسن إليه بالرتبة الأولى من الصنف الأول، وتعيَّن في (ديوان آمدي همايون) أي ديوان الاستقبال الهمايوني.

وفي سنة ١٢٦٥ﻫ أُرسِل إلى عاصمة الفلاخ والبغدان بمأمورية مخصوصة، فقام بها حق القيام، وبرهن على ما فُطر عليه من الاقتدار الباهر، فأُرسل من هناك إلى بطرسبرج سفيرًا، وفي أثناء وجوده في بطرسبرج عُيِّن مستشارًا للصدارة العظمى وأُعطِيت له رتبة يالا في محرم سنة ١٢٦٨.

وهذه أول خطوة خطاها نحو مرامي الشهرة البعيدة والمجد الباذخ، ثم أُرسِل إلى مصر بمأمورية مخصوصة بتعليمات من رشيد باشا فتكلل سعيه بالنجاح، وحصل على رضاء السلطان عبد المجيد ورشيد باشا ومدحه على إجراءاته، وولَّاه السلطان نظارة الخارجية مكافأة له، وكان فؤاد أفندي إلى هذا التاريخ مدينًا بما أحرزه من التقدم إلى رشيد باشا وغريس نعمته، لكنه بعد ذلك حالف رشيد باشا في مسلكه السياسي، ووطد أركان إقباله بالاتحاد مع عالي باشا تارة، والانفراد بنفسه تارة أخرى.

وكان المنتظر من فؤاد باشا تعضيد رشيد باشا ومضافرته في كبح من يعارضه في ترقية الأمة والوطن لا مخالفته والتهالك وراء الرفعة والإقبال، وحب ترقية الأمة الذي كان فؤاد باشا مفطورًا عليه يقضي عليه بذلك.

وفي محاربة القرم أرسل إلى يانية لتأديب أشقياء اليونان فتمكن من إعادة الأمن لتلك الجهات في ستة أشهر، وفي سنة ١٢٧١ وجهت إليه رتبة الوزارة.

وفي سنة ١٨٥٦ تعيَّن مندوبًا لمؤتمر باريس المنعقد لعمل معاهدة السنة المذكورة، وكان ناظرًا للخارجية في ذلك التاريخ ورافق عالي باشا بصفته مرخص ثانٍ. ا.ﻫ.

هذا ما رواه أبو الضياء من ترجمة هذا الرجل في كتابه «نمونه وأدبيات».

fig60
شكل ٢٨-٢: الماركيز دفرين.

وفي سنة ١٢٧٦ﻫ/١٨٦٠ حدثت الحوادث الشهيرة في بلاد الشام، فاهتمت أوروبا بشئون المسيحيين فيها، وكان البادئ بذلك الاهتمام فرنسا فخابرت إنكلترا واتفقتا على تكليف الباب العالي بتشكيل لجنة دولية من مندوب عثماني ومندوبين من سائر الدول العظمى تسير إلى سوريا للبحث عن أسباب تلك الفتن ومعاقبة مسببها وتقرير الخطة التي تضمن الأمن في المستقبل، وأن يرفعوا بذلك تقريرًا إلى الباب العالي، فتشكلت اللجنة المشار إليها، وأعضاؤها هم:

فؤاد باشا من قبل الدولة العليَّة
اللورد دفرين من قبل إنكلترا
الموسيو بيكلار من قبل فرنسا
الموسيو نوفيكوف من قبل روسيا
الموسيو ويكبيكر من قبل أوستريا
الموسيو ريفوس من قبل بروسيا
واجتمعت اللجنة اجتماعها الأول في بيروت في ٥ نوفمبر سنة ١٨٦٠، ثم واصلت الاجتماع خمسة أشهر متوالية، دارت في أثنائها المداولات للقيام بالمهمة التي تألفت اللجنة لأجلها، وأهمها:
  • (١)

    إعادة النظام والأمن.

  • (٢)

    إرجاع المسيحيين المهاجرين إلى قراهم وبلادهم.

  • (٣)

    تقدير ما لحقهم من الخسائر وتعويضها عليهم.

  • (٤)

    تعيين الأشخاص الذين سببوا تلك الثورة ومقاصَّتهم.

  • (٥)

    الاتفاق على حكومة تضمن للبنانيين أرواحهم وأموالهم وراحتهم.

وقد طال البحث في تفاصيل هذه الشئون واحتدم الجدال، خصوصًا بين فؤاد باشا المندوب العثماني واللورد دفرين المندوب الإنكليزي، وكلاهما من أعظم رجال السياسة.

فكُتبت القوائم بأسماء المنكوبين حسب قراهم ومقاطعاتهم، ودُفعت لهم مساعدة وقتية، فأصاب كل واحد منهم نحو عشرة غروش مصرية، وفرقوا فيهم الدقيق والأقمشة، وأنشئوا المستشفيات لجرحاهم ومرضاهم ونحو ذلك مما يخفف مصائبهم وقتيًّا.

فلما سد الناس رمقهم عادت اللجنة إلى البحث عن مقدار التعويضات اللازمة، فقدروا خسائر اللبنانيين وحدها بثلاثة ملايين جنيه، وشخصت اللجنة إلى دمشق للنظر فيما لحق تلك المدينة أيضًا فقدروا خسارتها بمليون جنيه، فرجعت اللجنة إلى بيروت لإعادة النظر في هذه الشئون فجعلوا خسائر دمشق ٧٠٠٠٠٠ جنيه فقط، وقرروا أن يُجمَع هذا المال من مسلمي الولاية ثم والت اللجنة اجتماعاتها والآراء مضطربة، وفي اجتماعها الخامس عشر صرح فؤاد باشا أن مسألة التعويضات أصبحت من خصائص الآستانة، وللباب العالي وحده الحق في ذلك، فأرادت اللجنة مقاومته والاعتراض على قوله فلم تفلح، وبعد مخابرات طويلة تقرر أن تكون تعويضات دمشق ٣٥٠٠٠٠ جنيه فقط تُدفع تدريجيًّا، وطال الجدال أيضًا في المسائل الأخرى مثل معاقبة الجانين ومحاكمتهم، وأظهر اللورد دفرين ورفقاؤه ثباتًا كثيرًا، ولكن فؤاد باشا تغلب عليهم وأجرى ما رآه أضمن لمصلحة دولته وأحفظ لاستقلالها، والدول الأوربية تراه مجحفًا بحقوق المسيحيين هناك.

وكان في جملة مطالبهم سرعة تنفيذ القصاص على الدروز الذين ثبتت الجناية عليهم، ولكن فؤاد باشا تغلب على سياستهم في ذلك، وأجَّل القصاص وغيَّر أوجه المسألة وخفف الجريمة، فانتهت تلك المهمة إلى ما هو مشهور من أمرها، وقد تغلب فيها رأي فؤاد باشا بوجه الإجمال.

وفي سياحة السلطان عبد العزيز إلى أوروبا أُلحِق فؤاد باشا بمعيَّته؛ لأنه كان ناظرًا للخارجية، وتعيَّن وكيلًا لعالي باشا الصدر عند سفره إلى كريد ولبث فيها مدة سنة، وأصيب فؤاد باشا في أواخر حياته بمرض في القلب، اشتدت وطأته عليه حتى ألزمه أطباء فرنسا الذهاب إلى «نيس»، فذهب إليها وتوفى فيها سنة ١٢٨٥ وعمره خمسون سنة، وتقلد صاحب الترجمة منصب الخارجية خمس مرات، ثلاث منها في عصر السلطان عبد المجيد، واثنتان في عهد السلطان عبد العزيز والسرعسكرية، وتعيَّن رئيسًا للمجلس العالي (مجلس والا) وكان فؤاد باشا في صدارته الأولى يوقع على الأوامر بختم محفور عليه عبارة «الوزير الأعظم محمد فؤاد»، وفي صدارته الثانية انضمت له السرعسكرية وأحسنت إليه الذات الشاهانية بعنوان «ياور أكرم مقبل صادق».

ولفؤاد باشا شهرة طائرة في عالم السياسة، ويذكرون له وصية إصلاحية لم نقف عليها كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤