الفصل الثامن والثلاثون

مصطفى باشا كامل

(١) مصطفى كامل والنهضة السياسية

fig75
شكل ٣٨-١: مصطفي كامل صاحب اللواء (وُلد سنة ١٨٧٤ وتُوفِّي سنة ١٩٠٨).

شاهد المصريون في ١٠ فبراير سنة ١٩٠٨ ما لم يشاهدوا مثله من قبل. شاهدوا حزنًا على مصطفى باشا صاحب اللواء، عمَّ القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، وانتشر في سائر العالم الإسلامي، وسُمِع دويُّه في أوروبا والشرق الأقصى مما لم يُسمَع بمثله في وادي النيل. تُوفِّي صاحب اللواء في أصل ذلك اليوم ودُفن في أصيل اليوم التالي، فمشي في جنازته عشرات الألوف، واشترك في المصاب أهل القطر على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم. فرثاه الشعراء، وأبَّنه الخطباء، وبكته الصحف، وقضت أيامًا في نشر ما يرد عليها من رسائل التعزية نثرًا ونظمًا، وأقيمت له المآتم في أنحاء القطر، فلم يبقَ جمعية خيرية أو أدبية أو نادٍ علمي أو مدرسة وطنية للذكور أو الإناث في القاهرة والإسكندرية أو في الأرياف إلا عقدت جلسة لتأبين ذلك الفقيد، حتى الجمعية الماسونية فقد احتفل بعض محافلها بتأبينه، وبعضهم أقام حفلات تأبين في الأزبكية غير ما بعثوا به من تلغرافات التعزية إلى إدارة اللواء من الأفراد والجماعات، كالجمعيات والمشيخات والمدارس، وتبرع كثيرون عن نفسه للجمعيات الخيرية ونحوها، وغير ما جاء من رسائل التعزية من إنكلترا وفرنسا وغيرهما ومن أطراف الهند، ونشرت التلغرافات العمومية والصحف الإفرنجية نعيَه، وتكلمت عنه، وتألفت في القاهرة لجنة لإقامة تمثال يحيا به ذكره، والناس يبذلون المال في هذا السبيل، وعينوا يوم ٢٠ مارس التالي للاحتفال بتأبينه بجانب ضريحه بقرافة الإمام، فمن كان هذا وقْع مصابه في النفوس جدير بأن ننظر ترجمة حاله، وندرس أخلاقه وأعماله، ونبين منزلته من التاريخ، ونقدم الكلام بفذلكة في تاريخ النهضة السياسية المصرية فنقول:

(١-١) النهضة السياسية المصرية

فتح العرب مصر في صدر الإسلام، فأصبح النفوذ فيها للفاتحين وأعظم مناصب الدولة في أيديهم، فتغلب العنصر العربي على سائر العناصر، ثم دخلت في حوزة الأكراد (الأيوبيين)، فالشراكسة (المماليك)، فالأتراك (العثمانيين)، فكان النفوذ ينتقل من أمة إلى أخرى حسب أدوار حكمها، على أن العنصر الشركسي ظلَّ متسلطًا في أثناء حكم الدولة العليَّة بمصر؛ لأنها ولَّتهم الأحكام تحت رعايتها، ومنهم أمراء المماليك والسناجق وبعض الجند، فأصبح العنصر العربي وهم المصريون الوطنيون أضعف سائر العناصر.

فقضى المصريون أجيالًا راضين بما قُسم لهم، وكان الجهل ضاربًا أطنابه فيهم لاشتغال حكامهم بالحروب والخصومة عن ترقية شأن رعاياهم، حتى أذن الله أن يتولى حكومتهم المغفور له محمد علي باشا الكبير، فاقتضت سياسته ومقاصده إحياء معالم اللغة العربية، فأنشأ المدارس وفتح المعامل وسهَّل دخول الأجانب إلى هذه البلاد، وأرسل بعض شبانها إلى أوروبا لتلقي العلوم واقتباس حسنات التمدن الحديث. فاستنارت أذهان المصريين وفتحوا أعينهم، ففقهوا لما ضاع من حقوقهم، ولكنهم لم يطالبوا به لضغط حكامهم على أفكارهم بقوة الاستمرار؛ إذ لا يتأتَّى لهم أن ينتقلوا بغتة من الضغط الشديد تحت الأمراء المماليك إلى الحرية التامة تحت حكومة العائلة المحمدية العلوية، فتوالى على حكومة مصر محمد علي، فإبراهيم، فعباس، والمصريون ساكتون، فلما أفضت الولاية إلى سعيد باشا سنة ١٨٥٤ طلع على المصريين فجر الوطنية؛ لأنه كان يعدُّ نفسه مصريًّا، فأخذ يبث روح الوطنية في جنده إذ لم يكن للعامة ساعد يُرجى ولا سطوة تُخشى، وجاهر بوطنيته في حفلة اختتان نجله طوسون بحضور العائلة الخديوية وضباط الجيش وجماعة من الأجانب، فوقف وارتجل خطبة، قال فيها: «إن من أمعن النظر في تاريخ بلادنا هذه، وتوالي حوادثها المحزنة لا يسعه إلا الأسف والتعجب؛ حيث تتوالى الأمم الأجنبية على أهلها، ويظلمون سكانها؛ كالكلدانيين والفرس قبل الإسلام والترك والأكراد والشركس وغيرهم بعد الإسلام، وكلهم يُفسدون ولا يُصلحون، وقد عزمت على تثقيف أبناء البلاد وتهذيبهم وترقيتهم؛ حتى تكون حكومة البلاد بأيديهم بصفة كوني مصريًّا منهم، وبالله الاستعانة.»

فكان لقوله وقع شديد على السامعين، وفيهم أحمد عرابي باشا، وهو يومئذٍ صاغقول أغاسي، وكان جريئًا فازداد جرأة واتسعت مطامعه، وانبثَّت روح الوطنية في سائر الضباط، وارتقوا في رتب الجندية وأكثرهم غير متعلمين، وإنما رقَّاهم سعيد باشا تنشيطًا للوطنية، فشق ذلك على الضباط الشراكسة والأتراك، وأوغرت صدورهم على الوطنيين، ووجدوا على سعيد باشا فأحس بجفائهم وتذمرهم فلم يُبالِ، وربما ذكر ذلك للوطنيين تحريضًا لهم على الثبات.

النهضة العسكرية

فلما أفضت الولاية إلى إسماعيل سنة ١٨٦٣ تبدلت الأحوال لأنه كان على غير رأي سلفه في أمر الوطنيين، وقد بذل قصارى جهده في استقدام الأجانب إلى بلاده بما أنشأه من وسائل الرفاه وتسهيل التجارة، وكان مع ذلك يُعنى بتعليم الوطنيين وإرسال الإرساليات إلى أوروبا، فازداد المصريون معرفة لحقوقهم. ولكن الخديوي إسماعيل كان يرى من حسن السياسة أن يضغط عليهم، ويقيد أفكارهم ويطلق العنان للأجانب على اختلاف أجناسهم وخصوصًا الشراكسة، فكظم المصريون ما في نفوسهم أعوامًا، على أنهم ظلوا يتهامسون به فيما بينهم، ولم يكن حديثهم حيثما اجتمعوا إلا التشاكي مما يقاسونه من الضغط مع خروج معظم مصالح البلاد من أيديهم إلى الأجانب.

وكان أكثرهم تشكِّيًا جماعة الجهادية لظهور الإجحاف فيهم أكثر مما بسواهم لأن القوة العسكرية كانت مؤلفة من المصريين والشراكسة وغيرهم، ولم يكن المصريون ينالون من الرتب إلا إمارة الآلايات فما دونها بخلاف الشراكسة، فقد كانت الألوية والفرقاء منهم والسلطة والنفوذ في أيديهم، وكلما شاهدوا من المصريين تذمرًا زادوهم تضييقًا، فإذا اقتضت الأحوال تجنيد حملة إلى السودان أو غيرها من بلاد الشقاء جنَّدوا إليها المصريين، وبقي الشراكسة يتمتعون بنفوذهم ورفاهيتهم في القاهرة والإسكندرية، فلم يكن ذلك إلا ليزيد الوطنيين حقدًا أو غيظًا، ولما لم يستطيعوا التصريح بشكواهم جهارًا ألفوا الجمعيات السرية يهمسون فيها بما في ضمائرهم سرًّا.

ثم أفضت الخديوية المصرية إلى المغفور له الخديوي توفيق باشا، وكان رحمه الله محبًّا للوطن المصري راغبًا في ترقية أبنائه؛ لأنه تربى تربية وطنية محضة، وكان حر الضمير فنظر في شكوى الوطنيين فرفع الضغط عنهم واعترف بما لهم، وهي فضيلة جديرة بكل حاكم، ولكنها جاءت المصريين إذ ذاك على غير استعداد، فبينما هم تحت الضغط الشديد والنار كامنة في صدورهم إذ رُفع الضغط بغتة، فاتَّقدت نيران الثورة وانتشرت في سائر أنحاء القطر.

هذا هو الطور الأول من النهضة السياسية الحديثة، والعامل فيه كما رأيت إطلاق الحرية فجأة بعد طول الضغط، وقد قام بها الجند وجاراهم الأهالي، وأكثر هؤُلاء لا يدركون ماذا يعملون وإن كانوا يرجون بذلك التخلص من امتياز الأجانب، وكان زعماء الجند أكثرهم من غير المتعلمين فلم يحسنوا التصرف في تلك الحركة، فبعد أن كانت نهضة وطنية سياسية تحولت إلى ثورة عسكرية آلت إلى الاحتلال الإنكليزي وأمره معلوم.

فلما ذهبت دهشة الحرب انتبه عقلاء الأمة فوجدوا أنفسهم قد نجوا من شر، ووقعوا في شرَّين؛ لاعتقادهم أنهم سفكوا دماءهم، وبذلوا أموالهم للتخلص من شر الشراكسة وهم يختلفون عنهم جنسًا ويشتركون معهم في الدين، فإذا هم قد دخلوا في سيطرة دولة أجنبية تختلف عنهم جنسًا ودينًا، ونبغ على أثر تلك الثورة جماعة من رجال الفكر والحرية عملًا بسنة العمران على أثر كل حركة أهلية، وكان بعضهم قد مالئوا عرابي وحوكموا ونُفوا، ثم عادوا وقد زادتهم الغربة خبرة وعبرة، ورأوا الاحتلال قد توطدت دعائمه فرضخوا له، وهم يعللون أنفسهم بجلائه قيامًا بالوعد، على أن بعضهم يئس من الجلاء فتقرب من عميد الاحتلال واستعان به على خدمة مصالح الأمة، والبعض الآخر خدمها بنشر المبادئ الاجتماعية لترقية النفوس وتربية الأخلاق الحسنة، وعمل آخرون على بث المبادئ الإصلاحية في نفوس المسلمين ومحاربة البدع ونحوها مما يباعد بين المسلمين وسواهم.

أما الأمة على إجمالها فما زالت تئن تحت نير الاحتلال، وتتشكَّى همسًا في الأندية الخصوصية أو المجالس العائلية لا يُسمع لها صوت، والصحافة مقيدة يومئذٍ بقانون المطبوعات، إلا من كتب في جريدة إفرنجية لا سلطة للقانون عليها، وكان أكثر الأجانب تظاهرًا بتقبيح الاحتلال الفرنساويون.

ولما تُوفي المرحوم توفيق باشا وخلفه سمو الخديوي الحالي تجددت آمال الأمة بانقلاب سياسي يرفع ذلك النير عن رقابهم، وطبيعي أن يكون الجناب العالي أكثر الناس رغبة في الجلاء، ولم يخفَ ذلك على المصريين فزادوا تعلقًا بعرشه، وأحس الإنكليز بذلك فاستيقظوا، وساعدتهم الأحوال على البقاء فبالغوا في استخدام نفوذهم، وأساء بعضهم معاملة المصريين فازدادوا كرهًا للاحتلال وتعلقًا بالخديوي كأولاد يستغيثون بوالدهم من غريب نزل في دارهم يحاول امتلاكها، ولنفس هذا السبب توجهت الآمال إلى الآستانة، وأكثر المصريون من ذكر الخليفة وسيادته على المسلمين وقلَّما كانوا يفعلون ذلك من قبل.

النهضة المدرسية

واقتضت سياسة إنكلترا في أثناء ذلك إطلاق حرية المطبوعات، ونبغ جماعة من الكتاب والمحررين تدرجوا في استقلال الفكر إلى نشر مساوئ الاحتلال، فحدثت نهضة سياسية صحافية انقسمت الصحف فيها إلى حزبين: حزب يُعرف بجرائد الاحتلال يمتدح أعمال المحتلين، وحزب يُعرف بالجرائد الوطنية ينتقدها، وعميد إنكلترا يطلع على ما يقولون ولا يكلِّفهم السكوت، وكانت الجرائد الوطنية تعبِّر عن إحساس الوطنيين، وتطعن في جرائد الاحتلال، لا يخرجون من ذلك عن المناقشة، وقلَّ فيهم من جاهر بطلب الجلاء، ونشأ في أثناء ذلك طبقة من الشبان تخرَّجوا في المدارس المصرية وتفقَّهوا في أوروبا، وتشرَّب بعضهم كره إنكلترا من معاشرة الفرنساويين، وفرنسا من ذلك الحين خصم إنكلترا تساعد كلَّ من يقوم عليها. وزعماء هذه الطبقة من الناشئة المصرية طلبة الحقوق؛ لما يتعوده طلاب هذا الفن من استقلال الفكر، والرضوخ للصواب، والتمسك بأهداب الحق، فتألف من الناشئة المصرية حزب جاهر بمقاومة الاحتلال، وانضم إليه سائر طلبة المدارس العالية، وهم في الغالب من أبناء الخاصة، ويُعدُّون بالآلاف منتشرون في أنحاء القطر المصري، فبثوا تلك الأفكار في أهلهم وجيرانهم وهم سواد الأمة، فتكاثر الناقمون على الاحتلال، وهي نهضة سياسية مدرسية تختلف عن التي تقدمتها بقوة الحجة والاقتدار على المطالبة بالإقناع، وهي الطائفة التي نصرت مصطفى كامل وهو من طلبة الحقوق.

(٢) مصطفي كامل

(٢-١) ترجمة حاله

وُلد في القاهرة من أبوين مصريين في ١٤ أوغسطس سنة ١٨٧٤، وكان والده علي أفندي محمد مهندسًا من جهة الصليبة، اشتهر بين معارفه وجيرانه بطيب العنصر، وحسن الخلق، ووالدته من جهة المحجر بالقاهرة، ولما بلغ السادسة من عمره أتاه والده بمدرس لقنه القراءة والكتابة، ثم أدخله مدرسة عباس باشا الأول، وقبل إتمام دروسه الابتدائية تُوفِّي والده، فانتقل إلى مدرسة القربية وعمره ١٢ سنة فأتم دروسه الابتدائية فيها، وظهر ذكاؤُه بامتيازه على سائر الرفاق، فنال جائزة الامتحان الأولى بين يدي المغفور له الخديوي السابق سنة ١٨٨٧، ثم انتقل إلى المدرسة التجهيزية فقضى فيها أربع سنين نال في نهايتها شهادة البكالوريا، وكان من النابغين، واشتهر باستقلال الفكر وصراحة القول من ذلك الحين، وانتبه المرحوم علي باشا مبارك ناظر المعارف يومئذٍ لفصاحته وقوة عارضته، فقال له مرة: «إنك أمرؤُ القيس، وستصير عظيمًا.» وأخبرنا أحد رفاقه في تلك المدرسة أن المرحوم علي باشا مبارك اختصه بجنيه يتناوله كل شهر مدة إقامته في المدرسة ودوَّن اسمه في كشف ماهيات المعلمين، واضطر مصطفى لنقش خاتم يختم به الكشف على اصطلاحهم، وهو أول عهده بالأختام.

وكان في أثناء إقامته بالمدرسة التجهيزية موضوع إعجاب الأساتذة والتلامذة جميعًا، لما امتاز به من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان، ولم يكن ناظر المعارف أقل منهم إعجابًا به، فكان ينشطه ويدعوه إلى منزله ويناقشه في المسائل العلمية أو الاجتماعية ويقدمه إلى جلسائه من العلماء والوزراء والكل يعجبون به ويتوقعون له مستقبلًا مجيدًا، فلما أتم دروسه التجهيزية سنة ١٨٨٩ دخل مدرسة الحقوق الخديوية على أن يعدَّ نفسه لصناعة المحاماة، لأنها أحوج المهن إلى الخطابة، ورأى في وقته متسعًا فالتحق بمدرسة الحقوق الفرنساوية أيضًا، فكان يتلقى العلم بالمدرستين حتى نال الكفاية منه، فذهب إلى طولوز بفرنسا أدى فيها الامتحان ونال الشهادة وهو في التاسعة عشرة من عمره.

وتنبه خاطره وهو يدرس الحقوق إلى المسائل السياسية، ومدارها على مصر والاحتلال، وهو وطني حريص على وطنيته مستقل الفكر، شديد الثقة بنفسه، وقد تشرب من أساتذته الفرنساويين الاستهانة بإنكلترا والوثوق بفرنسا، فأصبح همه إنقاذ مصر من الاحتلال، وكان عضوًا عاملًا في عدة جمعيات أدبية يخطب فيها ويباحث، وأكثر بحثه في مصر والاحتلال والجلاء، وكان يتردد على الجرائد الوطنية ليكتب هذه المواضيع، ولقي إصغاءً وتنشيطًا فألَّف رواية فتح الأندلس التمثيلية، وكتابًا في حياة الأمم والرِّقِّ عند الرومان، وألَّف بعد ذلك كتاب المسألة الشرقية وغيره، وكلها ترمي إلى تحبيب الاستقلال إلى المصريين وإحياء الشعور الوطني فيهم، فالتفَّ حوله جماعة من المريدين والمعجبين وأكثرهم من رفاقه في المدرسة، ومن يرى رأيهم من تلامذة المدارس العالية، فأنشأ لهم مجلة شهرية سماها المدرسة يبث فيها آراءه وأفكاره.

واتفق في أثناء ذلك رجوع المرحوم عبد الله نديم خطيب العرابيين إلى مصر سنة ١٨٩٢ وسمع بمصطفى كامل فقرَّبه منه، واقتبس صاحب الترجمة بعض أساليبه، واطلع على دخائل الحوادث الماضية وتبيَّن أسباب الفشل، فأصبح قادرًا على تجنبها وزاد رغبة في إنقاذ مصر من سلطة الأجانب، ولا يكون ذلك إلا بالالتفاف حول أمير البلاد فاستنبط فكرة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي، فحرض رفاقه التلامذة على ذلك، فاحتفلوا به في الأزبكية في ٨ يناير سنة ١٨٩٣، فقرَّبته المعية، ورضي عنه الجناب العالي، وفي ذلك الاحتفال صرَّح مصطفى كامل للمرة الأولى بانتقاد حالة الحكومة، ودعا المصريين إلى مطالبة الإنكليز بالجلاء عن بلادهم قيامًا بوعودهم، وكان في جملة الحضور ناظر مدرسة الحقوق فاستدعى مصطفى إليه في الغد، وعاتبه على تصريحه، فأجابه أنه مصري وله الحق أن يبحث بشئون مصر، وشدد لهجته فرفع الناظر أمره إلى نظارة المعارف، فأصدرت أمرًا بمنع التلامذة من الاشتراك في مثل ذلك ومن مكاتبة الصحف، فاعتبر مصطفى هذا الأمر موجهًا إليه فازداد تمسكًا برأيه، وتضاعفت همته على إخراجه إلى حيز العمل.

وجاء مصر في ذلك الحين الموسيو دلونكل وهو فرنساوي كثير التظاهر بالغيرة على المصريين، وكان في مصر يومئذٍ حزب وطني تألف بطبيعة الحال من أوائل عهد الاحتلال، ولم يكن حزبًا منظمًا له رئيس ونائب وأمين وكاتب مثل أحزاب هذه الأيام، ولكنه ضم نخبة النُّبهاء والوجهاء الذين يكرهون الاحتلال وينتقدون أعمال الإنكليز إما رغبة في استقلال مصر أو نقمة لذهاب نفوذهم، ولهذا الحزب فضل على أكثر الصحف الوطنية التي نشأت في أوائل الاحتلال؛ لأنهم كانوا يساعدونها ماديًّا وأدبيًّا تحت طي الخفاء للاستعانة بها على جرائد الاحتلال، وكان مصطفى كامل طبعًا من جملة ذلك الحزب، وكان دلونكل يحضر مجتمعات الوطنيين ويستحثهم على الثبات، فالتقى هناك بصاحب الترجمة وأُعجب بذكائه وفصاحته، فرغَّبه في السفر إلى فرنسا للتبحر في الحقوق، فسافر إلى باريس آخر سنة ١٨٩٣ وأعجبته حرية القوم وموافقتهم إياه في انتقاد الإنكليز، فعرف كثيرين من رجال السياسة والصحافة فيها، وفي ٨ يناير سنة ١٨٩٤ احتفل بعيد الجلوس الخديوي هناك احتفالًا شهده أكثر المقيمين في باريس من المصريين، وهم من التلامذة المرسلين لتلقي العلم على نفقة الحكومة المصرية، فألقى مصطفى فيهم خطابًا استحثهم فيه على الثبات في طلب الجلاء، فوافقوه وتواطئوا على استنجاد فرنسا في ذلك الطلب على أن تكون حجتهم وعد إنكلترا الذي صرحت به عام الاحتلال، وبلغ ذلك نظارة المعارف المصرية فأخرجت المشتركين في ذلك العمل من عداد الإرسالية.

وعاد مصطفى في أواسط السنة التالية إلى مصر، وتعاطى المحاماة أشهرًا فرآها أضيق من أن تسع مطامعه وفي صدره غرضٌ أصبح جزءًا من وجدانه، ولم يكتفِ بما كان ينشره في الجرائد، فعوَّل على إلقاء الخطب السياسية في المنتديات العمومية، فألقى خطبته الأولى في الإسكندرية ونشرتها الجرائد، فرأى فيها الناس من شدة اللهجة على الاحتلال وطلب الجلاء ما لم يعهدوه من قبل، فأعجبوا بالشاب وشاركوه في إحساسه وفيهم من يرى ذلك الطلب بعيد المنال، ولكن الإنسان يلتذ بالانتقاد على غالبه، فأطرَوه ونشَّطوه فازداد رغبة في الخطابة والصحافة، ولذَّت له الشهرة ووطَّن النفس على الاستهلاك في طلب الجلاء، وجعل ذلك وجهته وكعبة آماله ومدار أعماله، وهو يعلم عجزه عن تلك الأمنية بنفسه وأهله فرأى أن يستعين بفرنسا وقد جرَّأه على ذلك ما آنسه في رحلته الأولى من الحفاوة وما سمعه من التأمين والترغيب على عادة الفرنساويين من الانقياد إلى الوجدان، فكف عن صناعته، وانقطع للمطالبة بالجلاء، فشخص سنة ١٨٩٥ إلى باريس ومعه رسمٌ كبير يمثل مصر والاحتلال الإنكليزي بشكل يرمز عن توسل المصريين إلى فرنسا أن تساعدهم كما ساعدت الأميركان واليونان والبلجيكيين والإيطاليان في نيل حريتهم.

رفع هذا الرسم إلى مجلس النواب الفرنساوي في ٤ يونيو من تلك السنة، ومعه عريضة قدمها باسمه ينوب فيها عن مصر في استنجاد ذلك المجلس على الإنكليز، وكان لهذا العمل دوي في فرنسا فضلًا عن مصر، وتحدث الناس يومئذٍ بجرأة هذا الشاب وعلو همته وإقدامه وهو إلى ذلك الحين لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، فلم يأتِ هذا المسعى بالنتيجة المطلوبة ولكن الفرنساويين رحبوا بالخطيب المصري، وتقاطر إليه كتَّاب الصحف يقابلونه وينشرون آراءه في جرائدهم، وتسابق القوم يدعونه إلى إلقاء الخطب في أنديتهم، وكلها ترمي إلى الغرض عينه، وأول خطبة سياسية ألقاها على الإفرنج في طولوز صدَّرها بتاريخ الاحتلال وعهوده وفصَّل أحوال النظارات المصرية وسيطرة الإنكليز فيها، وبالغ في استئثارهم بالوظائف والنفوذ واحتقارهم الأهالي، وأخذ يبرهن أن وجود الإنكليز بمصر يخالف كل المعاهدات، وأن إخراجهم منها يوافق مصالح دول أوروبا كافة، ثم ألقى خطبًا أخرى وراسل الجرائد وكاتب الوزراء وكلها ترجع إلى انتقاد الاحتلال وطلب الجلاء. أشهرها خطاب بعث به إلى المستر غلادستون من باريس يسأله رأيه في مسألة مصر والاحتلال، فأجابه غلادستون جوابًا جاء في جملته قوله: «إننا يجب أن نترك مصر بعد أن نُتمَّ فيها — بكل شرف، وفي فائدة مصر نفسها — العمل الذي من أجله دخلناها»، و«إن زمن الجلاء على ما أعلم قد وافى منذ سنين.»

فلا عجب بعد اعتراف أعظم رجال إنكلترا بموافاة زمن الجلاء إذا رأينا مصطفي كامل يزداد ثباتًا في دعوته، فرجع إلى مصر في أوائل سنة ١٨٩٥ وقضى بضع سنوات وهو يخطب ويكتب ويكاتب ويناضل، وكأنه خاف أن تضيق الصحف عن خطبه ومراسلاته، فأنشأ جريدة اللواء اليومية لنشر آرائه السياسية سنة ١٨٩٩ وهي الآن في سنتها الثانية عشرة، وصوتها في الدفاع عن مصر والمصريين من أعلى الأصوات.

ولما تم الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا بشأن مصر والمغرب الأقصى، ولم ينل مصطفى من فرنسا غير المواعيد وجَّه احتجاجه إلى المراجع الأصلية، إما إلى رجال السياسة بإنكلترا رأسًا أو إلى جرائدهم، وسافر إلى بلاد الإنكليز لهذه الغاية، ثم رأى ذلك لا يفي بمراده ولا يحيط بمدى صوته فأنشأ اللوائين الإنكليزي والفرنساوي لينشر فيهما أقواله عن مطالب مصر حتى يصل النداء إلى إنكلترا وسائر أوروبا، وألَّف لهما شركة مساهمة هي أول مساهمة تألفت لإنشاء الجرائد في هذه البلاد، وذهب بنفسه إلى إنكلترا واستقدم المحررين.

فطار صيته في الآفاق، وأصبح اسمه مرادفًا لاحتجاج مصر على إنكلترا، وهو في خلال ذلك لا يضيع فرصة لا يحتج بها، ومن أشهر مواضيع احتجاجه مسألة دنشواي، فقد كان في مقدمة المنادين بظلم الحكومة على أهلها واستكتب الأهلين عرائض لالتماس العفو وقَّع عليها ١٢٥٠٠ من المصريين ورفعها إلى الجناب العالي، وكان في أثناء ذلك يخدم مصلحة الدولة العليَّة من طرق كثيرة، فأنعم عليه السلطان بالرتب والألقاب حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الثاني، والنيشان المجيدي الثاني. وتعلقت به قلوب المصريين، وتعشقوه بما لم يسبق له مثيل، فلما تشكل الحزب الوطني في العام الماضي انتخبوه رئيسًا له طول حياته، ولكنه رحمه الله كان قصير الحياة، فتوفي في العاشر من فبراير سنة ١٩٠٨ وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. فانتخبوا مكانه رفيقه في جهاده محمد بك فريد رئيسًا للحزب، ومديرًا للألوية الثلاثة.

(٢-٢) صفاته وأعماله

كان رحمه الله متوسط القامة، قمحي اللون، سريع الحركة، جريئًا مقدامًا، فصيح اللهجة، قوي العارضة، شديد الثقة بنفسه، واسع الآمال، طموحًا للعلى، مستقل الفكر، صريح القول، وكان عصبي المزاج، والعصبي يغلب فيه الذكاء وحدَّة الذهن وسرعة الخاطر، وكانت هذه الطبائع ظاهرة في الفقيد ظهورًا واضحًا؛ إذ كثيرًا ما كنا نراه في أثناء نضاله يكاد يُغلب على رأيه لما يظهر لنا من حجة خصمه، فما هو إلَّا أن يصدر اللواء في اليوم التالي فنراه قد تدرَّع بدفاع أيَّده بشواهد تاريخية انتبه لها، وكانت تساعده على ذلك قوة الحافظة.

وكان فيه من طبائع العصبيين سرعة الانفعال، وسريعو الانفعال يغلب فيهم التقلُّب في الرأي ولم يكن كذلك، ولكنه كان شديد الوطأة على مخالفيه ولو كانوا من أساتذته أو أقرب الناس إليه، وسرعة الانفعال مع هذه الشدة قد يبعثان على الفشل في الأعمال العظمى، لأنها تفتقر إلى التساهل والكظم والصبر على المكاره، فالفقيد سدَّ هذا النقص بجرأته وعلو همَّته وثقته بنفسه، فكان إذا نهض لأمر اقتحمه اقتحام الأسد فريسته، وجاهد في سبيله بيده ولسانه وجَنانه، لا يُعجزه السفر ولا يبالي بالتعب، فقضى زهرة شبابه يتنقل من قارة إلى قارة ومن عاصمة إلى عاصمة لا يتحول عن منبر عربي حتى يعلو منبرًا إفرنجيًّا، إذا كتب رأيت الحماسة تتجلى بين سطوره، وإذا خطب انقضَّ كالصاعقة أو انهال كالسيل، وإذا توهَّم في أحد وقوفًا في طريقه ناهضه وبارزه لا يبالي بمنصبه أو مقامه، وكان لا يهاب عظيمًا، ولا يراعي خليلًا ولا نزيلًا، ولا سيما في أوائل أدواره، وهذا هو سبب ما كان يبدو في بعض أقواله يومئذٍ من التعريض بالنزلاء أو الدخلاء لاعتقاده أنهم يخالفون مصلحة مصر. وفهم القوم يومئذٍ أنه يعني بالدخلاء السوريين، فعاتبوه، فصرَّح أنه إنما يعني فئة منهم يعتقد أنها تكره مصلحة مصر، فلم يبقَ لهم حجة عليه؛ لأن القائل أولى بتفسير أقواله، وقد يُعذر على تعريضه بالسوريين إذا ساء الظن بهم، فقد مرَّ بهم أعوام في أواسط الاحتلال لم يقم كاتبٌ يدَّعي الدفاع عن مصلحة مصر إلا حمل عليهم واتهمهم بالعداوة تصريحًا أو تلميحًا وهم ساكتون دائبون على أعمالهم حتى تحقق العقلاء بتوالي الأعوام أن السوري لا يقلُّ غيرة على مصلحة مصر من أخيه المصري، وأن السوريين طائفة ذات شأن في المجتمع المصري، فعاد الفريقان إلى التحابِّ والتقارب، وكان الفقيد في مقدمة أولئك العقلاء.

وكان رحمه الله نزيه النفس عفيف الإزار، صادق اللهجة، طاهر الجيب، لا يلذُّ له من أحوال الحياة غير التفكير في الغاية التي وقف قواه عليها وهي خدمة بلاده بأشرف السبل وأنفعها، وكان يعتقد أن الاستقلال أول خطوة يجب السير بها، ويعني بالاستقلال خروج الإنكليز من مصر بمساعدة دول أوروبا ورجوعها إلى ما كانت عليه قبله. واستجمع قواه في هذا السبيل فسافر وكتب وخطب وجادل وناقش لهذا الغرض. وكان يرى مصلحة مصر مرتبطة بمصلحة الإسلام على العموم، فكان شديد المدافعة عنه كثير السعي في نصرته، ومن أقصى أمانيه أن يكون نصير المسلمين في أربعة أقطار الأرض، وقد أطلعنا بعض الأصدقاء على كتاب من بعض رجال ابن الرشيد يؤخذ منه أن الفقيد سعى منذ بضع سنوات في السفر إلى نجد لملاقاة ذلك الزعيم هناك، وقرأنا في تأبين بعض مريديه أنه كان ينوي استئذان جلالة السلطان في أن يكون خطيب المسلمين في المدينة يوم وصول السكة الحديدية إليها، وأنه كان يهيئ أسباب الرحيل إلى اليابان لحضور معرضها ونقل نتائج الأفكار الكبيرة لربط العلائق مع الشعب الياباني، على أن يمرَّ في أثناء طوافه ببلاد الهند ليرى أحوال النهضة الإسلامية هناك. كل ذلك يدلُّ على كبر نفس هذا الرجل وسعة مطامعه، فهل كان مخلصًا في سعيه حسن القصد بما يقوله؟ فإذا ثبت أنه كذلك حقَّ للمصريين أن يبكوه ويعظموه وإن لم يروا ثمر عمله؛ لأن الأعمال بالنيات، وإلَّا فلا فضل له، ويظهر لنا من تدبر أعماله أنه كان مخلصًا؛ وإليك الدليل:
  • (١)

    ثباته في المبدأ الذي قام في نفسه منذ كان تلميذًا لا يسمع صوته إلا رفاقه حتى صار خطيب المحافل ومتكلم القوم وزعيم الحزب الوطني وصاحب الألوية الثلاثة، له دعوة واحدة كانت تتجلى في مطالبه إذا كتب أو خطب أو ناقش أو باحث بين الأصدقاء أو الأعداء بالعربية أو الإفرنجية على سواء.

  • (٢)

    انقطاعه لهذه الدعوة وتفانيه في سبيلها حتى شغلته عن سائر مطالب الحياة وملاذِّ الشباب، فلم يتزوج ولا جلس لشرب أو لهو ولا التفت إلى جمال أو طرب. لا يلذُّ له غير التحدث بالوطن أو الاستقلال أو الجلاء، وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك طمعًا بالمال، وهذا باطل؛ لأن الرزق من القلم أضيق من شقِّه، ويقول آخرون: إن غرضه الشهرة الواسعة، وقد نال منها ما لم ينله سواه من أهل هذا الجيل حتى تناقلت ذكره صحف العالم الإفرنجي وحدها ١١٥٠٠٠ مرة في أثناء جهاده فضلًا عن جرائد الشرق الأقصى والأدنى، وعرف اسمه كثيرون لا يعرفون اسم أعظم رجال مصر. ولكن طلب الشهرة في سبيل المصلحة العامة ليس من المعائب، بل هو من أكبر دعائم العمران، وطلاب الشهرة أعظم رجال العالم.

  • (٣)

    إجماع الذين عاشروه من رفاقه وأصدقائه على حبه واعتقاد الإخلاص فيه فضلًا عن الآخرين مما لا يتأتَّى لغير المخلصين؛ لأن الانسان إذا سعى في مشروع عمومي طمعًا بمال أو جاه لا تلبث حقيقة حاله أن تنكشف لعشرائه الأقربين أو شركائه في عمله فينفضُّون من حوله، كما أصاب كثيرين من زعماء الأحزاب في العالم القديم والحديث، ففسدت نيات أصحابهم، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح، وقد يبقى مع الزعيم المنافق أناس يداجونه ويُداجيهم التماسًا للكسب، ولكن أصحاب مصطفى كامل ثبتوا في ولائه حيًّا وميتًا وهم يستهلكون في سبيل نصرته، وفيهم جماعة من نخبة العقلاء والفضلاء ومعظمهم أكبر منه سنًّا وأوفر مالًا وأعرض جاهًا، وبعضهم أغزر منه علمًا، وقد نصروه بعقولهم وأموالهم وقلوبهم ولم يستنكفوا من تصدره في مجالسهم ولا داخلهم الحسد من رئاسته عليهم.

(٢-٣) هل هو رجل عظيم؟

يختلف الحكم في عظمة الرجال باختلاف الأمم والأجيال، فبعضهم يقيسون العظمة بكبر المطامع وسعة الفتوح أو بكثرة الأموال، وبعضهم يقيسونها بمقدار النفع الذي يترتب على ظهور ذلك العظيم، فمن الفرنساويين من يعدُّ بونابرت أكبر رجال فرنسا لكثرة فتوحه وكبر مطامعه، وبعضهم يقدم باستور عليه؛ لأنه خدم الإنسانية باكتشافاته المكروبية، وآخرون يفضلون رجال الدين والشارعين، وعندنا أن الرجل العظيم إنما يكون عظيمًا بما يخلفه من الإعجاب والأثر الحسن في نفوس معاصريه؛ إذ قد يكون عظيمًا بنفسه ولا يُوافق لإتمام عمله فيؤسِّس لمن يأتي بعده، وعلى هذا القياس نعدُّ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده عظيمين؛ لأن الأول من مؤسسي النهضة السياسية، والثاني من مؤسسي النهضة الدينية الإصلاحية، وعلى هذا القياس أيضًا نعدُّ مصطفى كامل عظيمًا؛ لأنه أحيا في الأمة المصرية جامعة الوطن وهو القائل: «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا.» وعلَّم المصريين المجاهرة بطلب حقوقهم، وأسمع دول أوروبا أصواتهم، فهو من أكبر مؤسسي النهضة السياسية المصرية، ولم يأتِ جمال الدين الأفغاني عملًا لا يستطيع مصطفى كامل مثله وأعظم منه لو بلغ إلى مثل سنه. ألم يواقف أعظم دول الأرض حتى عرَّض نفسه للنفي أو الطرد؟ وقد تفانى في خدمة مبدئه حتى مات شهيدًا في ريعان شبابه.

على أن ذلك لا يمنعنا من انتقاد أعماله؛ لأن العصمة لله وحده، ولكل أمرئ رأيه. والذي نراه في الفقيد رحمه الله كان متطرفًا في آرائه يعادي من ينتقدها أو يخالفه فيها، وإذا حمل على خصمه بالغ في الغض من فضله، وقد ينكر حسناته ولو كانت ظاهرة كالشمس، وكان مغاليًا في استسهال مطالبه؛ لأنه طلب الاستقلال العاجل وقرائن الأحوال تشهد أن ذلك الطلب سابق لأوانه. أو لعله تعمَّد التطرُّف جريًا على سياسة المتطرفين Radical من أحزاب الأمم المتمدنة الذين يطلبون البعيد فإذا لم ينالوه نالوا بعضه، ومن ثمار هذه السياسة في مصر نهوض المعتدلين وتجرؤُ الخائفين من أرباب الصحف على طلب الإصلاحات الممكنة، ومن ثمار سياسة التطرف أيضًا سرعة نمو الشعور الوطني لما في تلك السياسة من الحماسة المثيرة للإحساس والحاملة على التضافر والتعاون.

على أننا نرى أنه لو وجه تلك الهمَّة الشمَّاء أو بعضها لاستدرار الأموال وإنشاء المدارس العالية، لكان ذلك أقرب إلى الغرض المقصود من سعيه؛ بدليل أنه إنما قام بمؤازرة أبناء تلك المدارس، ولولاهم لم يستطع عملًا يُذكر، فكلما زاد عددهم زاد مشروعه قوة وثباتًا وتهيأت الأمة أن تحكم نفسها، فإذا طلب الاستقلال بعد ذلك لا يجد المحتلون حجة للبقاء، ولم يكن يعجزه إنشاء عدة كليات كبرى بما فطر عليه من قوة العارضة وعلو الهمة، وبما له من المكانة في نفوس الأغنياء، ولا ننكر ما للفقيد من الأيادي البيضاء في نصرة التعليم والتربية، ولكننا في حاجة إلى أكثر من ذلك كثيرًا.

إن الفقيد أحيا الشعور الوطني بحماسته وجرأته، وجاءه الموت السريع في إبَّان جهاده فذهب شهيدًا، وعرف المصريون له ذلك فاتحدوا في البكاء عليه وتعاونوا في تعظيمه وتكريمه، فظهر الشعور الوطني بعد موته أكثر مما كان ظاهرًا في حياته. فنتقدم إلى الساعين في مصلحة الأمة من مريديه وغيرهم أن يؤيدوا هذا الشعور بتعميم التعليم العالي ليكون اجتماع الأمة عن تعقل وروية، وذلك أدعى إلى الغرض المراد والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤