خناقة بين كلبين

بدأت هذه القصة في محطَّة «المعادي»، تمامًا كما بدأت قصة «لغز المنزل الخَفي» للأصدقاء الخمسة، وكان الكلب النشيط «زنجر» هو السبب.

في صباح يومٍ ذهب الأصدقاء الأربعة «مُحب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة» إلى المحطةِ لانتظار «تختخ»، طبعًا أخذوا معهم الكلب «زنجر». وكان «زنجر» يَقفِز هنا وهناك، ويُطلِق نباحًا سعيدًا كأنه يشعر أنه سيُقابل صاحبه العطوف «تختخ». وكانت «لوزة» الصغيرة هي التي تتولَّى رعايته، فأمسكتْه من الحزام الرفيع المربوط في رقبته، وأخذت تجري معه في المحطة حتى تعبت فقال «مُحب»: لقد أتعبك «زنجر» يا «لوزة»، وقد يُضايق أحد المسافرين، وأحسن طريقة أن تَربِطيه في كرسي، وتجلسي بجوارِه.

ونفَّذت «لوزة» اقتراح «مُحب» فورًا، وربطت «زنجر»، ولكنَّها بدلًا من أن تجلس بجواره، أخذت تتمشَّى مع الأصدقاء في أنحاء المحطة، يتفرَّجون على القطارات القادمة، والنازلين منها.

جلس «زنجر» تحت الكرسي يتفرَّج على ما يحدث حوله، وفجأة وصلت إلى أنفه رائحة كلبٍ آخر في المحطة، فأخذ يتشمَّم الرائحة في الجو، وهو يقول لنفسه: أي كلبٍ هذا؟ هل يمكن أن يجلس معي نلعب قليلًا، أم هو كلبٌ كبير شرس سيعضُّني؟!

ولم يستمر «زنجر» في أفكاره كثيرًا؛ فقد حضر الكلب، وجلس بجوار الكرسي تمامًا.

وكانت كلبةً بيضاء وصغيرة كأنها فأرٌ كبير، فاندهش «زنجر» لوجود مثل هذه الكلبة الصغيرة في الدنيا، وأخرج لسانه وأخذ يَلحَس فمه في سعادة؛ فقد قرر أن يلاعب الكلبة فورًا.

وكانت السيدة صاحبة الكلبة الصغيرة قد جلست على الكرسي، وأمامها وقف رجلان، كلٌّ منهما في طول الآخر وفي حجمه تقريبًا، ولكن أحدهما كان أنيقًا جدًّا وشابًّا، في حين أن الآخر كان عجوزًا، يَرتدي ملابس قديمة بالية، وقد وضَع على عينَيه نظارةً سوداء، ووضع على رقبته «كوفية» خضراء مُمزَّقة.

قالت السيدة وهي تتحدث إلى الرجل العجوز: أظنُّ أنني أوصيتُك كفايةً بكلبتي الصغيرة «بوبيتا»، فأنت تعرف كم أحبها، وتضطرُّني الظروف إلى مفارقتها وأنا حزينة جدًّا! فاهم يا «شحتة»؟

قال الرجل العجوز باحترامٍ: طبعًا يا ست «ثريا»؛ فأنتِ وزوجك الأستاذ «السبع» لكما أفضالٌ كثيرة علينا أنا وزوجتي، وسوف نقوم بالواجب وزيادة.

قالت السيدة «ثريا»: إني أعرف أن زوجتك «نظيمة» لا تحبُّ الكلاب؛ ولهذا يجب أن تُراقبها بنفسك، وأن تضع الطعام ﻟ «بوبيتا» في مواعيدَ منتظمة، وأن تهتم بنظافتها!

وكان الأستاذ «السبع» يقف في قلق ينظر حوله، وهو يُمسك بيده حزمةً كبيرة ملفوفة في الورق بعناية، كانت تبدو كأنها مربعٌ من الخشب، وكان يحرص عليها جدًّا، ولا يترك لأيِّ شخصٍ ما، أن يقترب منها.

وكان الأصدقاء الأربعة قد تعبوا من اللف في المحطة، فاتجهوا إلى أحد المقاعد ليجلسوا عندما سمعوا صوت كلبَين يتشاجران، وعرفوا في أحد الصوتَين صوت «زنجر»، فأسرعت «لوزة» إليه.

وفي الحقيقة أن «زنجر» لم يكن يُريد العراك مع الكلبة البيضاء الصغيرة «بوبيتا»، ولكنه حاول فقط أن يداعبها، وقد ظن أنها ستفرح باللعب معه، ولكن الكلبة الصغيرة كانت مُنزعجة من القطارات والصفارات والزحام، وبدلًا من أن تفرح باللعب مع الكلب الطيب، نبحت في وجهه، فاضطر «زنجر» وهو آسفٌ أن يُبادلها النباح.

ولم يكد الأصدقاء يقتربون من الكلبَين، حتى حدث شيء لم يتوقَّعه أحد؛ فقد انطلقت «بوبيتا» هاربة مذعورة، وقامت السيدة «ثريا» لتَلحق بها، ولكن قدمها تعثرت في الحزام الذي في رقبة «زنجر» فوقعت السيدة على الأرض.

وعلى صوت نباح الكلبين، وصوت وقوع السيدة، تجمَّع الناس، وأسرع بعضهم إلى مطاردة «بوبيتا» وبينهم «شحتة»، في حين اهتمَّ الأستاذ «السبع» بزوجته التي وقعت على الأرض.

وقف الأصدقاء الأربعة مذهولين لما حدث، ولم يَعرفوا ماذا يفعلون، وفي هذه اللحظة السيئة، حدث ما هو أسوأ؛ فقد ظهر الشاويش «فرقع» في باب المحطة، واتجه فورًا — بالطبع — إلى الزحام.

وصل الشاويش إلى مكان الزحام، عندما وقفت السيدة «ثريا» وهي غاضبة، وقد اتَّسخت ملابسها البيضاء الجميلة، وكان «زنجر» لا يزال يرفع صوته بالنباح، وقد أفزعه كلُّ ما حدث.

شقَّ «الشاويش» طريقًا له وسط الزحام، وقف بجوار السيدة يسألها عما حدث، فقالت: هذا الكلب اللعين المربوط في الكرسي، لقد حاوَل أن يعضَّ كلبتي «بوبيتا»، فأسرعَتْ إلى الهرب، ولما حاولتُ إمساكها تعثَّرتُ في حزام الكلب، وسقطتُ على الأرض.

وعندما نظر «الشاويش» إلى الكلب، عرف على الفور أنه «زنجر» كلب المغامرين الخمسة، وأحس بفرحةٍ كبيرة لأنه سيتمكَّن من الانتقام من الكلب الذي كثيرًا ما نبَحَه، وعضَّ بنطلونه، وكذلك معاقبة الأصدقاء الخمسة أصحاب الكلب.

قال «الشاويش» للسيدة: آسفٌ جدًّا لما حدث لكِ يا سيدتي، وإنني أنصحكِ أن تتقدمي بشكوى إلى الشرطة لمعاقَبة صاحب الكلب.

ردت السيدة: هذا هو زوجي الأستاذ «السبع»، وأرجو أن تتفاهَم معه في هذا الموضوع.

كان الأستاذ «السبع» شاحب الوجه، وقد بدا عليه الارتباك قليلًا، في حين ظلَّ مُمسكًا بالربطة التي بيده حريصًا عليها جدًّا، وكأنَّ كلَّ ما حدث لم يكن يُهمُّه، بقدر ما تُهمُّه هذه الربطة.

نظر الشاويش إلى الأستاذ «السبع» قائلًا: أرجو أن تُعطيَني اسمك وعنوانك، وأن تروي لي ما حدث بالتفصيل، حتى أستطيع تسجيل شكوى باسمِك ضد أصحاب هذا الكلب.

قال الأستاذ «السبع» مُتردِّدًا: لا داعيَ يا سيادة الشاويش، فلم يحدث شيء يستحقُّ الشكوى.

أحسَّ الشاويش «فرقع» أن فرصة الانتقام من المغامرين الخمسة والكلب «زنجر» سوف تُفلت منه، فقال: لا … لا يا سيدي … لا بدَّ من الشكوى … إنني أعرف هذا الكلب الشرس وأصحابه، وهو وهم يستحقُّون العقاب.

وأمام هذا الإصرار قال الأستاذ «السبع»: اسمي بالكامل هو «سيد السبع»، وأقيم في الفيلا رقم ٩٨ بشارع النيل.

وقبل أن يتمَّ الأستاذ «السبع» جملته، كان القطار الذاهب إلى القاهرة قد دقَّ الجرس، واستعد للتحرك، فأسرع الأستاذ «السبع» وزوجته جريًا للركوب، وكانت السيدة تَصيح: كيف نسافر دون أن أعرف ماذا حدث ﻟ «بوبيتا»؟ أرجوك أن تنتظر القطار القادم!

ولكن الأستاذ «السبع» جذبها من ذراعها قائلًا:

ليس هناك وقت، ولا بدَّ أن نلحق بقطار الإسكندرية الذي يتحرَّك بعد ساعةٍ من محطة القاهرة.

ركب الزوجان القطار، فأسرع إليهما الشاويش «فرقع»، وهو يَصيح: يا أستاذ «السبع» إننا لم نُكمِل الشكوى!

وقبل أن يردَّ الأستاذ «السبع» كان القطار قد تحرَّك مبتعدًا، وبه الأستاذ «السبع» وزوجته، ومعهما الربطة والحقائب.

وفي هدوءٍ تسلَّلت «لوزة» وفكَّت الكلب «زنجر» وأخذته بعيدًا، وعندما عاد الشاويش إلى حيث كان «زنجر» مربوطًا لم يجد أحدًا، فأحسَّ بالغضب الشديد لأن الأصدقاء ضحكوا مرةً أخرى عليه، وغادر المحطة غاضبًا، وقد قرَّر استدعاء الأصدقاء ومعاقبتهم.

وبعد أن غادر الشاويش المحطة بقليل، وصل القطار الذي يحمل «تختخ»، فأسرع الأصدقاء يستقبلونه، وروى «مُحب» له ما حدث باختصار، فقال «تختخ»: لن يتركنا الشاويش «فرقع» بدون عقاب، ولكنه لن يَستطيع ما دام أصحاب الشكوى لم يتقدَّموا بها، وفي نفس الوقت فإن «زنجر» لم يُخطئ، ولكن السيدة هي التي أخطأت عندما لم ترَ حزام «زنجر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤