السبع الذي هرب

كان اليوم التالي حافلًا بالمفاجآت.

ففي الصباح الباكر، كان الشاويش «فرقع» يدقُّ باب منزل «تختخ»، ففتحت له والدة «تختخ»، وبعد أن تبادَلا تحية الصباح، طلب الشاويش مقابلة «تختخ».

كان «تختخ» في هذه اللحظة يشرب الشاي، ويقرأ جرائد الصباح باهتمامٍ شديد، فأرسلت إليه والدته لمقابلة الشاويش فحضر مسرعًا، فقال الشاويش: أظنُّ أنك تعرف ما حدث من كلبك أمس، وقد جئت للتفاهُم معك، إما أن تترك هذا الكلب، أو أوقِّع عليك غرامةً قدرها خمسة جنيهات … ما رأيك؟

نظر «تختخ» إلى الشاويش في هدوءٍ شديد، ثم اختار كرسيًّا جلس عليه وظل ساكتًا لحظات، فصاح الشاويش بغضب: أظن أنك سمعت ما قلت! لماذا لا ترد؟

نظر «تختخ» مرةً أخرى إلى الشاويش في برودٍ، ثم قال ببطء: أولًا أنا لم أكن موجودًا ساعة الحادث لأعرف مَن المخطئ، ولكن المؤكد أن السيدة هي المخطئة … ثانيًا إنني لن أستغني عن «زنجر» لأنني أحبه … ثالثًا … إن السيدة لم تتقدم بشكوى ضد صاحب الكلب، فأنت لا تستطيع اتخاذ إجراءات قانونية دون شكوى … رابعًا … هناك ما هو أهم من كل هذا!

فوجئ الشاويش بكلام «تختخ»، وأخذ ينظر إليه في استغرابٍ شديد … ثم قال: أهم من كل هذا؟ … أي شيء هامٍّ هذا الذي تتحدَّث عنه؟

ولم ينطق «تختخ» بكلمةٍ واحدة، ولكنه مدَّ يده بجريدة «الأهرام» التي كان يقرؤها، وأشار بإصبعه إلى إحدى الصفحات.

أمسك الشاويش بالجريدة، وكم كانت مُفاجأة له أن رأى صورة الأستاذ «السبع» وزوجته، وعنوانًا في الجريدة يقول: «أخطر عصابة لسرقة اللوحات الفنية تهرب من البوليس»، وعنوانًا آخر يقول: «المهرِّب الدولي «السبع» وزوجته «ثريا» يهربان، ومعهما لوحة مسروقة قيمتها عشرة آلاف جنيه».

أحسَّ الشاويش أن الدنيا تدور به، وأنه لم يَعُد يرى شيئًا إلا دوائر حمراء وخضراء وصفراء، وكأن يدًا حديدية قد نزلت على رأسه فجأة، فدار كلُّ شيء حوله.

أخذ الشاويش يَنظر إلى «تختخ» مرةً وإلى الجريدة مرة، وكأنه لا يفهم ما حدث، أو كأنه لا يُريد أن يفهم ما حدث فقال «تختخ»: أظن يا سيادة الشاويش «علي» أو «فرقع» أنك أضعتَ من يديك أهمَّ فرصة في حياتك للقبض على عصابةٍ خطيرة وحدَك! وأنَّ هذا أهم بكثيرٍ من حكاية الكلب «زنجر»، وكل هذا الكلام الفارغ الذي جئتَ به مُبكِّرًا لتَصبَّه في أذني.

لم يستطع الشاويش أن يرد، وأخذت الأفكار السوداء تطوف برأسه … عصابةٌ خطيرة … لوحةٌ ثمينة … المفتِّش سامي … الجرائد … المستقبل … وعشرات من الأشياء كلها غير سارَّة … وعندما استطاع أخيرًا أن يدرك ما حدث انفجر في ثورةٍ شديدة قائلًا: أنتم السبب … لولا هذا الكلب اللعين … لكنتُ قد قبضتُ على العصابة في تلك اللحظة على المحطة … ولكنَّكم … ولكنَّكم … ولكنَّكم.

وأخذ الشاويش يُكرِّر كلمة «ولكنَّكم» دون وعي … وكأنه أسطوانةٌ مشروخة …

وقف «تختخ» ساكنًا حتى تَوقَّف الشاويش عن الصياح، ثمَّ قال ببساطةٍ شديدة: لا داعي لكل هذا الصياح … فإنك ستُضيِّع وقتًا طويلًا تستطيع الاستفادة منه في مطاردة العصابة.

وبدون كلمة واحدة، تحرَّك الشاويش خارجًا، ثمَّ أغلق الباب وراءه بعنفٍ شديد، فهزَّ «تختخ» رأسه ثم أسرع يرتدي ثيابه وخرج لمقابلة الأصدقاء، ومعه الكلب «زنجر».

كان الأصدقاء في انتظار «تختخ»، وقد أخذوا يقرءون الجريدة باهتمامٍ شديد، وقد أصابهم الاضطراب، لقد كانت بين أيديهم عصابة خطيرة، وهربت دون أن يُدركوا شيئًا. وعندما دخل «تختخ» ارتفعت صيحاتهم وأحاديثهم فقال «تختخ»: لا داعيَ لهذه الضجة كلها، لقد حدَث ما حدث وعلينا أن نتحرَّك بسرعة.

سكَت الأصدقاء، وأخذت «لوزة» تُداعب «زنجر»، وهي تتخيَّل كل ما حدث فتُصيبها رعشة؛ لأنها كانت قريبة من عصابة خطيرة دون أن تدري.

قال «تختخ»: والآن أيها المُغامِرُون الخمسة والكلب «زنجر» أمامكم مغامِرة مُدهشة، تحتاج إلى جرأةٍ وشجاعة وذكاء، فهل أنتم على استعداد؟

رد الأصدقاء الأربعة في نفَسٍ واحد: «نحن على استعداد»، أما «زنجر» فهز ذيله هزةً واحدة، وأطلق نباحًا عاليًا معلنًا مُوافقتَه.

فكر «تختخ» قليلًا ثم قال: كالعادة، سوف نضع المعلومات المُتوافِرة لدينا، ثم نُحاول استنتاج أين يُمكن أن تذهب هذه العصابة؟ وكيف نَصل إليها؟ وبما أنكم حضرتم ما حدث، فأرجو أن يقوم «مُحب» بالحديث، فإذا نسيَ شيئًا ذكَّرتُمُوه به.

قال «مُحب»: المعلومات التي لدينا، أن «السبع» وزوجته «ثريا» يُكوِّنان عصابةً لسرقة اللوحات الفنية الغالية، وقد استَطاعا سرقة عدد كبير من اللوحات من أماكن مُختلفة، وكانا يتسميان بأسماءٍ مُستعارة … ويَنزلان في الفنادق الغالية … ويَلبسان ملابس ثمينة … وهذه المعلومات كلها ذكرتها جرائد اليوم، عندما تحدَّثت عن السرقة الأخيرة …

قال تختخ: وما هي معلوماتنا الشخصية؟

عاطف: إنَّ «السبع» وزوجته كانا يَستأجِران الفيلا رقم ٩٨ في شارع النيل ﺑ «المعادي»، وقد أقاما فيها منذ مدةٍ لا نَعرفها.

تختخ: ومن هو «شحتة» الذي كان يُوصلهما إلى المحطة؟

نوسة: واضح من حديثهما معه أنه خفيرٌ أو خادم …

وأن له زوجة تُسمَّى «نظيمة».

تختخ: هل هذا كل ما نعرفه؟

ردَّت «لوزة» وهي تُربِّت على رأس «زنجر»: هناك شيء مُهم نسيناه، إنه الكلبة الصغيرة «بوبيتا» التي تعارك معها «زنجر»، وكانت سببًا في تعرُّفنا ﺑ «السبع» وزوجته.

ابتسم «تختخ» قائلًا: هذه ملاحظة هامة جدًّا يا «لوزة»، وعلينا أن نعرف هل استطاع «شحتة» الإمساك بها، بعد أن هربت من «زنجر» أم لا؟

لوزة: هناك شيءٌ آخر!

والتفت الجميع إليها في اهتمامٍ ودهشة، فقالت: لقد كان واضحًا حب السيدة «ثريا» لكلبتِها «بوبيتا»، ومن المؤكد أنها ستُحاول معرفة ما إذا كانت الكلبة قد عادَت أم لا، وهذا يُمكن أن يكون مفيدًا لنا.

نظرت كل العيون إلى «لوزة» الصغيرة بإعجابٍ شديد، وقال «تختخ»: إنك يا «لوزة» أستاذة في التفكير … والحقيقة أن حب «ثريا» لكلبتها الصغيرة، قد يكون الخيط الوحيد الذي يُمكِن تتبُّعه للوصول إلى أثر العصابة.

قال عاطف: وهناك شيءٌ مُهم آخر هو «شحتة» وزوجته «نظيمة»، هل هما عضوان في العصابة أيضًا؟ فإذا لم يكونا عُضوَين في العصابة، فهل يَعرفان مكان «السبع» وزوجته؟

قال «تختخ»: فعلًا، هذا مُهم جدًّا أيضًا، وعلينا أن نقوم بزيارة الفيلا، ومحاولة التعرُّف على «شحتة» وزوجته، والحصول على كل المعلومات المُمكِنة منهما.

وأسرع الأصدقاء إلى دراجاتهم، ووضع «تختخ» الكلب «زنجر» في السلة الموجودة خلف مقعد دراجته، وانطلَقَ الجميع إلى شارع النيل، كان صباحًا مُشرقًا، وهم يَسيرُون على الكورنيش الجميل، ينظرون إلى أرقام المنازل للبحث عن الفيلا رقم ٩٨، وبعد فترةٍ طويلة، وصلوا إلى الفيلا.

كانت فيلا من دورَين رمادية ضخمة، ذات حديقة واسعة، تُحيط بها الأشجار الكثيفة من كل جانب، حتى تكاد تحجبها عن الشارع، وأخذ الأصدقاء يدُورون حولها للبحث عن منفذ، فلم يجدوا إلا بابًا حديديًّا ضخمًا مُغلقًا، وبابًا آخر صغيرًا على الجانب.

نزل «تختخ» من فوق دراجته، وأخذ يَنظر إلى الفيلا مُفكرًا، فشاهد في طرف الحديقة كوخًا خشبيًّا قديمًا، وقد وقف أمام الكوخ رجلٌ عجوز تأكَّد «تختخ» من أوصافه، أنه «شحتة» بواب الفيلا.

وقبل أن يفعل «تختخ» أيَّ شيءٍ آخر، سمع صوت سيارة قادمة، فنظر إلى اتجاه الصوت فرأى إحدى سيارات الشرطة، فأسرع مُبتعِدًا، وانضمَّ إلى الأصدقاء على الجانب الآخر من الشارع.

توقفت سيارة الشرطة، ونزل منها أحد الضباط وبعض العساكر، وكان بينهم الشاويش «فرقع»، ودقَّ الضابط جرس الباب الحديدي الكبير، فأسرع «شحتة» إلى فتحِه، ودخل الضابط ومعه رجاله إلى الحديقة وأغلق الباب خلفه.

قال «تختخ» للأصدقاء: لقد بدأ رجال الشرطة عملهم، ولم يَعُد لنا هنا ما نفعله، لقد عرفنا مكان الفيلا، وسوف نزُورها غدًا، ونُحاول الحديث مع «شحتة».

وقبل أن يتحرك الأصدقاء، قفز «زنجر» من سلته الصغيرة، وأسرع يجري إلى باب الفيلا، ثم أطلق نباحًا هادئًا، وكم كانت دهشة الأصدقاء عندما سمعوا من داخل الحديقة نباحًا آخر رقيقًا، ثم شاهدوا «بوبيتا» البيضاء الصغيرة تسرع إلى الباب وتقفز محاولة الخروج، فلما لم تَستطِع اكتفت هي و«زنجر» بتحيةٍ عاطفية، فقد حكَّ كلٌّ منهما أنفه بالآخر.

قالت نوسة: لقد عادت «بوبيتا» إذن ولم تَضِعْ، وما دامت صديقة ﻟ «زنجر» فهي صديقة لنا.

دقَّ «تختخ» جرس دراجته، فأدرك «زنجر» أنه سيَسير، فودَّع «بوبيتا» وداعًا حارًّا، ثم أسرع يقفز إلى سلته، وانطلق الأصدقاء عائدِين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤