البحث عن «هوهوها»

رحب الأصدقاء بصديقهم «نور» عندما ذهب لزيارتهم بعد ثلاثة أيامٍ، وهو يحمل دفتر مذكراته الذي سجَّل فيه كل مشاهداته في «عش النسر»، وقد قدم «نور» الدفتر إلى «تختخ» قائلًا: آسف جدًّا لأنني لم أعثر على أيَّة معلوماتٍ هامَّة … ولكني سأستمر في المراقبة لعلني أصل إلى شيء …

قال «تختخ»: على العكس، إن أيَّة معلومات مهما كانت تافهة ستكون هامة بالنسبة لنا، ففي الألغاز قد يكون أبسط شيء هو أهم شيء، فأرجو أن تستمر.

وبعد أن انصرَف «نور» قالت «لوزة»: إنك لم تَقُم بأيِّ عمل حتى الآن يا «تختخ»، لم تتنكَّر في أي ثياب، لم تَستنتِج شيئًا، ويبدو أن هذه المغامرة لن يكون لك دور فيها.

رد «تختخ»: فعلًا يا «لوزة» ولكن ذلك لن يَستمرَّ طويلًا، سوف أقوم بعملٍ ما هذه الليلة، وقد أستطيع الحصول على معلوماتٍ هامة.

وفعلًا، في المساء، دخل «تختخ» الغرفة التي يحتفظ فيها بثيابه التنكُّرية، وجلس فترةً طويلة يبحث عن زيٍّ مناسِب يلبسه، وأخيرًا اختار ثياب رجل هندي مكوَّنة من بنطلونٍ ضيق، وبالطو قصير من الحرير، ووضع على رأسه عمامة الهنود العالية، ثم وضع ذقنًا وشاربًا، وعندما نظر «تختخ» إلى نفسه في المرآة ضحك، فقد كان صورة طبق الأصل من مهراجات «الهند»، هؤلاء الأثرياء الذين كانوا يَحكمُون الهند قديمًا قبل استقلالها.

وعندما هبط الظلام تسلَّل «تختخ» خارجًا من البيت، وكان شيئًا مدهشًا أن يخترق شوارع المعادي الساكنة هذا المهراجا السمين على دراجته.

وصل «تختخ» قرب الفيلا رقم ٩٨، فوضع دراجته بجوار السور بين الأغصان، بحيث لا يراها أحد، ثم شدَّ قامته، واتجه إلى الباب الجانبي الصغير، الذي لم تضع عليه الشرطة أختامها.

أخرج المهراجا المزيَّف أدوات فتح الأبواب التي يَحملها دائمًا، ثمَّ عالج الباب حتى فتحه، وتسلَّل داخلًا إلى الحديقة، كان كل شيء غارقًا في الظلام، حيث تبدو الأشجار وكأنها أشباحٌ سوداء، فاتجه «تختخ» فورًا إلى الفيلا ودار حولها لعلَّه يجد مَنفذًا يدخل منه إليها، ولكن كل الأبواب والنوافذ كانت مغلقة تمامًا.

استطاع «تختخ» أخيرًا أن يفتح خشب أحد النوافذ، وحاول فتح الزجاج ولكنه لم يَستطِع، وخشي أن ينكسر الزجاج ويحدث صوتًا ينبه «شحتة»، فأخرج بطاريته الصغيرة، وأطلق ضوءها الرفيع خلال الزجاج، وأخذ ينظر داخل صالة الفيلا، كان كل شيء في مكانه، الكراسي والمناضد والسجاجيد، لم يكن هناك شيء غير عادي مطلقًا … ثمَّ وقع الضوء على قطعةٍ صغيرة بيضاء من البلاستيك … أخذ «تختخ» يتأمَّلُها جيدًا، حتى اكتشف أنها لم تكن إلا قطعة عظم صُنعَت من البلاستيك، فاستنتج أنها تخصُّ «بوبيتا»، لقد كانت الكلبة الصغيرة تحب اللعب، فأهدتْها صاحبتها قطعة العظم البلاستيك هذه لتلعبَ بها.

اكتفى «تختخ» بهذا، وقرَّر أن يدور حول الكوخ أيضًا، فاتجه وبطاريته في يده إلى الكوخ.

كانت نوافذ الكوخ مُغلَقة الزجاج، وفي الداخل ضوء، فاستطاع «تختخ» أن يرى ما بالداخل بعد أن أحنى رأسه قدر ما يَستطيع حتى لا يراه مَن بالداخل.

كانت الست «نظيمة» تجلس وحدها تطوي بعض الغسيل، وكانت الكلبة الصغيرة تجلس في سلةٍ زرقاء نظيفة، وقد بدا عليها الحزن والأسف لبعدها عن صاحبتها الأصلية «ثريا».

ودار «تختخ» حول الكوخ مرةً أخرى، فلم ير إلا بعض الأثاث القديم، وفجأة اصطدم «تختخ» بشخصٍ كان يقف في الظلام.

كانت مفاجأة قاسية … ولكن «تختخ» تذكر أنه يلبس ملابس الهنود … فنظر إلى الرجل في ثبات … وكان الرجل هو «شحتة».

وقف الاثنان يتبادَلان النظرات في الظلام، دون أن يَتبادلا أيَّ كلمة، ثم قال «تختخ»: هل أنت «شحتة»؟

ردَّ «شحتة»: نعم … من أنت؟

قال «تختخ» بسرعة: أنا «هوهوها»، هندي، وكنت صديقًا للأستاذ «السبع»، وجئت أبحث عنه لأعمالٍ بينَنا.

قال «شحتة»: الأستاذ «السبع»؟ ألم تقرأ الجرائد؟

تختخ: لا، فقد وصلت من «الهند» هذا الصباح، وليس عندي فكرة عن أيِّ شيء!

شحتة: لقد اتضح أن الأستاذ «السبع» وزوجته «ثريا» لم يكونا إلا لصين!

تظاهر «تختخ» بالاستغراب وقال: الأستاذ «السبع» لصٌّ؟

شحتة: نعم لصٌّ وهو الآن هاربٌ من الشرطة!

تختخ: هل تَعرف مكانه؟

صاح «شحتة»: كيف أعرف؟ لقد سألني الشاويش «علي» هذا السؤال عشرات المرات، واتهمني بأنني عاونت «السبع» على الهرب، وكاد يقبض عليَّ لولا أنه لا يملك دليلًا واحدًا على اتهامي!

كان «تختخ» يتأمل ملابس «شحتة» على ضوء النافذة، ويُراقب طريقة كلامه، وقد قرر في نفسه أن يقلده، وفجأة سأله «شحتة»: إنني أريد معرفة اسمك وعنوانك، فقد طلبت منِّي الشرطة الإبلاغ عن أي شخص يسأل عن «السبع» وزوجته!

رد «تختخ» في ثبات: إنني كما قلت لك «هوهوها» من الهند، وأقيم حاليًّا في فندق «هيلتون»، وقد أجدت اللغة العربية لأني اشتغلت فترةً طويلة في القاهرة.

وقبل أن يسأل «شحتة» أسئلةً أخرى، تحرك «تختخ» مسرعًا، واختفى في الظلام.

أسرع «تختخ» خارجًا من الباب الجانبي، وتسلَّل إلى الشارع … وقد ظنَّ أنه أفلت من «شحتة» … ولكنه لم يَسِر طويلًا في الشارع حتى كان هناك شخصان يتبعانه … الأول هو الشاويش «فرقع» الذي حضر لمراقبة المكان بعد دخول «تختخ» إلى الحديقة، والثاني هو «نور» الذي شاهَدَ الهِندي وهو يدخل، ويدور حول الفيلا، ويتحدَّث إلى «شحتة».

وقد ظن «نور» أنه وقع على دليلٍ هام.

لم يَحِس «تختخ» في البداية بمَن يتبعه، ولكن بعد لحظاتٍ استطاع أن يسمع صوت أقدام الشاويش «فرقع» الثقيلة على أرض الشارع، فأسرع في مشيته وقرَّر ألا يركب الدراجة حتى لا يعرفها الشاويش.

استمرَّت المطاردة فترةً طويلة … «تختخ» في المقدمة، وخلفه الشاويش «فرقع»، وخلفهما «نور».

استطاع «تختخ» أن يسبق الاثنين، حتى وصل إلى منزله، فقفَز من سور الحديقة الخلفي، ثم أسرع يدخل إلى غرفته، حيث تخلَّص من ثيابه التنكُّرية، ولم تمضِ دقيقة واحدة حتى سمع صوت الشاويش «فرقع» في صالة البيت يتحدَّث إلى والدته.

سمع الشاويش «فرقع» يقول: هناك رجلٌ غريب الهيئة كأنه هندي، ويَلبس عمامةً عالية دخل إلى هنا، إنني مُتأكدٌ من ذلك، فقد تبعته من الكورنيش …

ردت أم «تختخ»: أرجو أيها الشاويش أن تكون دقيقًا فيما تقول … فنحن لا نعرف أي هندي … ولم أر هنودًا في حياتي إلا في الأفلام …

فرقع: إنني متأكدٌ يا سيدتي!

السيدة: إذن تفضَّل بتفتيش المنزل.

ولكن قبل أن يتحرَّك «فرقع» ظهر «تختخ» في ملابس البيت، يتبعه الكلب «زنجر» الذي أسرع إلى الشاويش «فرقع»، وأخذ يَقفز على قدميه فصاح الشاويش: أبعدوا هذا الكلب اللعين عنِّي … أبعدوه.

أمسك «تختخ» بالكلب ثم وجه حديثه إلى الشاويش قائلًا: لقد سمعتُ حديثك مع والدتي، وشيءٌ غريب أيها الشاويش أن تتصوَّر هنديًّا يدخل بيتنا، وأنت تعرف طبعًا أنك لا تستطيع تفتيش البيت، إلا بعد حصولك على إذن من النيابة … ومع ذلك سأسمح لك بتفتيش البيت، فإذا لم تعثر على الهندي المزعوم، فسوف أشكُوك إلى رؤسائك … وإلى المفتش «سامي» بالتحديد.

فتح الشاويش «فرقع» فمَه مذهولًا، فهذا الكلام قانوني جدًّا، وربما كان واهمًا ولم ير الهندي، ربما كان فقط شبحًا فلماذا يُعرِّض نفسه للمتاعب، وعندما وصل تفكيره إلى هذا الحد، استدار خارجًا، بعد أن ألقى تحية المساء بصوتٍ خشن على والدة «تختخ».

وفي هذه اللحظة، سمع «تختخ» صوت صفارة، عرف على الفور أنها صفارة «نور»، فأسرع إلى الباب، ودخل «نور» وقد بَدا على وجهه الاهتمام الشديد.

وعندما جلس الصديقان في غرفة «تختخ» قال «نور» بانفعال: لقد رأيتُ شيئًا هامًّا … لقد عثرت على دليلٍ خطير … لقد شاهدتُ شخصًا …

وقبل أن يكمل كلامه، تحدث «تختخ» بهدوء قائلًا: ذلك الهندي السَّمين الذي دخل من الباب الجانبي، وطاف حول الفيلا والكوخ، وتحدَّث إلى «شحتة» …

فتح «نور» عينيه على آخرهما وقد بدا عليه الذهول، وقال: هل … هل … هل … رأيته؟ … هل تعرفه؟

وابتسم «تختخ» قائلًا: إنه … أنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤