ملحق

  • (١)

    خطبة المقيم العام السنيور ضون خوان بايبدر، وخطبة المؤلف في حفلة معهد الدروس المغربية بتطوان.

    في ٢٠ يونيو سنة ١٩٣٩ / ١١ جمادى الأولى ١٣٥٨.

  • (٢)

    كتاب «الكليات» لأبي الوليد ابن رشد.

خطبة المقيم العام

نحتفل اليوم في هذه المؤسسة باستقبال مفخرة من مفاخر الثقافة العربية، وهو صديقنا العزيز الأستاذ أمين الريحاني الذي شرَّفنا بقبول تسميته «مديرًا شرفيًّا لمعهد الدروس المغربية»، فباسم الجميع أشكر تلطُّفه بقبول دعوتنا، فقد كان من أعز رغائبنا أن يتعرَّف إلى هذه المنطقة السعيدة، ويرى بعينَيْ رأسه عمل فرنكو.

إننا ننتظر حكمه ونقده كسلطة لا جدال حولها في العالم العربي، فقد جاء إلى هذه المنطقة مجرَّدًا من كل حكم سابق، بشعوره الكيخوتي، ومن خلال نبوغه المتفوق رأى ما أراد.

إننا طيلة الحرب القاسية التي كلَّلها الانتصار قد عملنا ولم نتكلم … ولم يكن عملنا سوى إطاعة لفرنكو لا أقل ولا أكثر.

إن حماية فرنكو هي حماية عاطفية لا سياسية، وحينما يفكِّر في الفتح إنما يقصد به فتح القلوب. إننا نترك الأمر لحكم التاريخ، والآن لشهادة أمين الريحاني.

فالحماية العاطفية التي ترى من خلالها إسبانيا الإمبراطورية لا تبحث عن الفتح النفعي، ولا عن المواد الأولية، ولا عن استغلال الناس والأشياء، إنما تتوق إلى ما هو أسمى، إلى إحياء عالم سامٍ هو اليوم في انحطاط، وما ذلك إلا إنهاض الثقافة والعاطفة والآداب العربية، وتجديد جزء لا يتجزَّأ من إسبانيا نفسها. نريد أن تنبعث قرطبة من الرماد الذي بردته الأجيال.

وبما أني أتكلم عن الثقافة العربية، فمن الثابت أن إسبانيا حيثما حلت أحلت العربية معها، وهذا شيء يجري في دمنا؛ الثقافة والمدنية والتعريب هي في نظرنا شيء واحد. وإنه لفخر عظيم لي أن أكون أصدرت المرسوم الذي يقضي بتعريب التعليم في هذه المنطقة السعيدة تعريبًا تامًّا. تبقى اللغات الهَرِمة والتعاليم الفوضوية القديمة كمادة لتنقيب الباحثين، ولكنها لن تصلح للثقافة والحضارة؛ إذ المركبة التي تسيران عليها هي العربية، وهكذا تعتقد إسبانيا.

إن ما عُمِل خلال هذه السنوات الثلاث في الدفاع عن اللغة والثقافة العربية ظاهر للعيان، وإني لَأحتفظ بكل حرص بالرسالة التي بعث بها إليَّ المساعدُ الأول للجنراليسمو فرنكو، وفيها يعطيني تعليمات تتعلَّق بحرية الصحافة العربية. لقد كان فرنكو يهتم بذلك أيام الحرب، فإن رجل الإلهامات العبقرية قد أحَسَّ بالقضية، ولم يكن تفكيره منحصرًا في جنوده المغربة المحبوبين فقط، بل في حضارة ومستقبل هذه المنطقة السعيدة التي أودعها قلبه.

هكذا طبقًا لأوامر الزعيم أُتِيح لمؤسسات التعليم أن تنتشر انتشارًا واسعًا لا سابق له، كما شجعت الصحافة العربية. لقد رأى أمين الريحاني مدارس ذات بناء متين في أماكن يصعب الوصول إليها، وفي نواحٍ لم تتكلم أبدًا باللغة العربية؛ فاقتنع بأن أهمَّ وأمتنَ بناء هو المدرسة، ولتسهيل الوصول إليها أُنشِئت طرق تفوق مصاريفها مصاريف الأبنية نفسها، وحيث إن حمايتنا عاطفية تقوم على حب الشعب المغربي، فقد وجد برهانًا على ذلك حين رأى المؤسسات الاجتماعية كالإصلاحيات والبيوت الرخيصة التي أنشأتها الحكومة لإيواء الفقراء لقاء إيجار زهيد؛ والنظام الجديد الذي تسير عليه إدارة سجوننا ومنابع المدنية والثقافة، أي تلك المراقبات التي يقوم بأعبائها ضباط من الجيش الإسباني.

فبإمكان الأستاذ الريحاني أن يحكم على صدق نيتنا ووفائنا وولائنا للشعب المغربي، واحترامنا لشخصيته، ورغبتنا الحقيقية في رفاهية الشعب الشقيق الذي تجمعنا وإياه تقاليد وتاريخ وعاطفة ودم مهراق في سبيل النصر المشترك. في هذا الاحتفال الرسمي يجب التحدُّث عن النصر؛ إذ إننا نحيا في حماسة الظفر الإسباني العربي، ونسمع ترديدَ آيات النصر في اللغتين.

ومن واجبي أن أعبِّر عن تقديري للجندي المغربي المنقطع النظير؛ فهو أكرم أخ للجندي الإسباني. لقد استفاق المحارب العربي كما استيقظت في الوقت نفسه الثقافة العربية، وفي هذه البقعة كان الانبعاث، وغير ذلك لم يكن ممكنًا، وإذا احتفظ لنا المستقبل بنهضة للثقافة العربية في حوض البحر المتوسط يجب أن تبتدئ هنا، فالوقت لم يَزَلْ متسعًا لهذا، وإذا كانت روما دمرت «كورينطو»، فإنها لم تَقْوَ حتى الآن على محو أثينا.

ونحن حينما نفكِّر في النهضة نفكِّر في أثينا الشرقية، وإليها نهرع ملتمسين عونًا ومساعدة في العمل الثقافي، وإن حضور الأساتذة الشرقيين اللامعين الذين يسمعون كلامي لَدليل ساطع على ذلك، وأود أن أشير إلى مؤازرة الأحزاب الوطنية المغربية في هذا العمل الشاق، هذه الأحزاب التي اعتُرِف بشرعيتها منذ اللحظة الأولى لحركتنا الوطنية، ولقد فهمت الأحزاب المغربية أن رسالتها الكبرى هي عمل الحضارة والثقافة، وهي تشارك في هذا العمل الآن الدولةَ الحاميةَ، كما شاركت فرنكو في حريتنا الظافرة.

شيء جديد في المغرب، فالجبهة الشعبية وأخواتها الأخرى لم يمكنها أن تشعر بالروح العربية، ولا أن تقدر ذلك المستودع العظيم للقوة والنشاط الذي هو الإسلام، ولا أن تفهم المثل الإسلامي الأعلى، وهي ليس بوسعها إلا أن تدمِّر كورينطو، وتضع القيود والأغلال.

يا لها من غريزة عجيبة جعلت سكان هذه المنطقة السعيدة يرون أن الطريق الأمين هو السير على إثر فرنكو! وقد حملهم إلهامهم على محاربة أولئك الذين اختلسوا مخطوطات الأسكوريال العربية، إحدى الكنوز الوطنية العظيمة.

المثل الأعلى لكونه أعلى لا ينضب معينه، فالآفاق غير محدودة، وأنظارنا وطموحنا لا حدَّ لها، ولسنا نرغب فقط في أن تنبعث قرطبة وأن تعود العربية لغة الثقافة العالمية كما كانت في العصور الوسطى، بل إننا لَنحلم بإيجاد وئام وتضامُن وعلاقات وثيقة بين الثقافتين اللاتينية والعربية، ونفكِّر في إحداث تناسُب وتناسُق بين الإسلام والنصرانية، فالشعب العربي كان أكثر الشعوب تسامُحًا، وكان تساهل وتفاهم حينما كانت العربية هي التي تحكم في البحر الأبيض المتوسط، ولما ظهر غيرها من اللغات الأجنبية ذات اللهجة المغولية، ظهر معها عدم التسامح الذي يتكلم التركية، وحينئذٍ محت روما اليونان، وبدأ أسر بابل من جديد. إنَّ كل حبنا متجه نحو الأسير، وقلوبنا مفعمة له بالآمال.

لتنبعث اللغة العربية الجميلة، لغتنا، لغة الثقافة العالمية في القرون الوسطى التي كانت أهميتها إذ ذاك تضاهِي أهمية اللاتينية، والتي كانت ممر الثقافة بين الشرق والغرب؛ لتَعُدِ اللغة العربية إلى اجتذاب النفوس، وتحريك القرائح، وَلْيبعث ريموند ولوليو وأنسلمو دي طورميدا.

لم يكن بالإمكان تحقيق شيء مما حُقِّقَ في هذه السنوات الثلاث لولا اندفاع ومساعدة وإرشاد ونشاط أميرنا المحبوب، مولاي الحسن الخليفة المعظم الحاكم في هذه المنطقة السعيدة، فنشاطه المستمر وعبقريته المشرفة وخياله الملتهب هي عوامل حاسمة في تحقيق هذه الأعمال الثقافية العظيمة.

فاسمحوا لي بأن أنوِّه مع الثناء والاحترام بالصفات النادرة التي يتحلَّى بها صاحب السمو الخليفة المعظم، الذي يتجاوز نفوذه الأدبي حدودَ هذه المنطقة السعيدة. فشخصيته القوية التي تفرض نفسها، والكفاية النادرة التي يمارس بها مهمته الشاقة؛ هي صفات نبيلة تُكسِبه احترام الجميع، وليس من السهل أن يكون المرء حاكمًا محميًّا؛ لأنه زيادة عن مشاغل الحكم ومتاعبه يلزمه أن يكون ساهرًا على الدفاع عن شعبه، وأن يكون حارسًا بغيرة لتقاليده وعاداته، وأن يوجِّه تطوُّر رعاياه في دائرة تقاليدهم، ثم في الوقت نفسه يعمل على نشر الثقافة والحضارة، دون أن يكون وجود حماية أجنبية سببًا في إضعاف شخصية شعبه الاجتماعية والثقافية والدينية. وليس هذا وحده بكافٍ؛ إذ إن من واجبه أن يبتكر أفكارًا ومشروعات جديدة، وأن يطلب مساعدة الدولة الحامية على تحقيق مهمتها التمدينية الملقاة على عاتقها في أسرع وقت ممكن، تلك المهمة التي هي الشيء الوحيد الذي يبرِّر وجودنا بين هؤلاء الإخوة المغاربة.

figure
بيوت جديدة شيَّدتها الحكومة للمغاربة المعوزين.

وسأفاجئكم الآن ببشرى لطيفة مع الثقة بأنها ستنال من قلبكم ارتياحًا عامًّا، ذلك أن سمو الخليفة المعظم قد زيَّنَ صدر الأستاذ الريحاني بالوسام المهدي من درجة السمو.

والآن، وأنا أودِّع الأستاذ الريحاني، أتأمل في نفسي فأرى بين جنبي روحين؛ إحداهما إسبانية، والأخرى عربية، أما صديقي فليس فيه الآن سوى روح عربية، ولعله عندما يغادر تطوان يكتشف فجأةً أنني أقرضته نصف روحي الإسبانية.

خطبة أمين الريحاني

فخامة المقيم العام، ودولة الصدر الأعظم.

سادتي الكرام.

أحيِّيكم باسمَي العروبة الجديدة وإسبانيا الجديدة، بل باسمَي النهضتين الإسبانية والعربية، وأحييكم باسمَي العدل والمساواة، الرافع علمهما الجنراليسمو فرنكو، والحامل ميزانهما في هذا المغرب الأقصى الكلونيل بايبدر، لا حاجة إلى ترداد الألقاب الرسمية ونحن أمام المثل الأعلى في الرجال، وها هو ذا المثل الأعلى مجسمًا في هذا الرجل الإسباني العربي الشريف؛ فهو شريف في أعماله وأقواله، شريف في عواطفه وآماله، شريف في حلمه الذهبي، المحقق إن شاء الله، فيسعد به العرب والإسبان معًا.

وما حلمه الذهبي غير حلم الجنراليسمو فرنكو العامل في تحقيقه لخير بلاده، ولخير أبناء هذه المنطقة في المغرب الأقصى التي هي اليوم في حماية إسبانيا.

أقول اليوم؛ لأننا نجهل ما يكنُّه الغد، ولأن العرب أنفسهم يحملون كذلك حلمًا ذهبيًّا، إنما في الحلمين موطن ائتلاف واتحاد. في الحلمين باب لتحقيقهما يدخله اليوم في هذه المنطقة المباركة الإسبان والمغاربة العرب معًا.

لا أقول المنطقة المباركة جزافًا، فهي حقًّا مباركة بفضل ما فيها من طلائع النهضة العربية الجديدة، ومن الجهود التي تبذلها الحكومة الخليفية الإقامية بفضل مولاي الحسن وسيدي بايبدر في بناء الأسس المتينة، الروحية والثقافية والاقتصادية، لتلك النهضة.

وها هنا يأتلف ويتحد الحلمان الذهبيان الإسباني والعربي — ها هنا في ميدان الثقافة والعمران. ولنا أن نقول إن الحلم في جوهره عندنا وعندكم إنما هو حلم عمران وثقافة، حلم عظمة في الاثنين تجدَّدَ؛ لتكون أساس العظمة التي يشيِّد صروحها في هذا الزمان العرب والإسبان.

هذه الثقافة، أيها السادة، هي الثقافة العربية، وقد امتزجت في غابر الزمان وتوطدت بالثقافة اللاتينية، كما قال الكلونيل بايبدر، وما الثقافة اللاتينية في مظاهرها غير ثقافة الإغريق التي حمل العرب أنوارها إلى أوروبا، يوم كانت أوروبا تتعثر في الظلمات.

نعم، لقد كنَّا — ولا فخر — أصحاب النفوذ في نشر الثقافة في المشرق والمغرب، وقد كان لهذا المغرب، كما كان للأندلس، القسط الوافر في تلك الأعمال المجيدة التي لا يزال ينور ذكرها في حدائق التاريخ، ويتضوع أريجها في التآليف العلمية والفلسفية والأدبية، المطبوعة والمخطوطة. وإن عندكم في إسبانيا وفي المغرب كنوزًا من تلك المخطوطات، وقد باشرتم في جمعها ونشر النفيس منها؛ لتكون مصدر وحي ونشاط في تشييد صروح النهضة الثقافية الجديدة العربية والإسبانية.

أيها السادة، ليس من الضرورة أن يُعَاد الماضي بحذافيره، بل إن ذلك لا يجوز، وإنه — وإنْ جاز — غير ممكن. على أنه من الضروري الواجب أن نعود نحن إلى الماضي؛ لنستمد من أمجاده ما يساعدنا في أعمالنا التي نريد أن تكون كذلك مجيدة، إنما الماضي للاستيحاء لا للتقليد، للتكملة لا للتكرار، هذا ما يجب أن نفهمه نحن والإسبان جميعًا، فإن في تاريخ الأمتين العربية والإسبانية ما نريد أن ننساه، كما أن في تاريخهما ما يجب علينا أن نذكره على الدوام، ونجدِّد نشره وتعزيزه، فنعتزُّ نحن به، ونزداد أملًا ونشاطًا في الأعمال التي تؤهِّلنا لنكون خير خلف لخير سلف.

ومن هذا القبيل خصوصًا يجب علينا شكر الجنراليسمو فرنكو والكلونيل بايبدر؛ لأنهما أدرَكَا هذه الحقيقة، وباشَرَا العمل بها لخيرنا وخير إسبانيا معًا. فقد قال الجنراليسمو يوم تشرفت بمقابلته ومحادثته إنه موطن النفس على تأسيس مكتبة عربية في إحدى عواصم الأندلس، يجمع فيها المخطوطات العربية كلها، فتكون تلك المكتبة محطَّ رجال العلماء والمؤرخين وكل مشتغل بالعلم والأدب من العرب والإسبان في كل مكان. ولقد سبق الكلونيل بايبدر الجنراليسمو في أنه باشَرَ ها هنا في هذه المنطقة المباركة، ذلك العمل الثقافي المجيد، وستُنشَر قريبًا باكورة أعماله، وهي كتاب الكليات لابن رشد.

أجل، إن الكلونيل بايبدر لَسبَّاق إلى المكرمات، وإنه لَمدهش — كدت أقول مزعج — في المفاجآت، فقد فاجأني بهذا الشرف الذي يبدو غريبًا في خزانة أدبي البسيطة الحقيرة. أمين الريحاني مدير شرفي لمعهد الدروس المغربية، ويلي وويل أدبي، فما أنا بأهل للمديريات والعضويات الشرفية أو غير الشرفية في المعاهد والكليات. أقولها صادقًا لا متواضعًا، فلقد قدر لي أو عليَّ أن أقضي حياتي الأدبية خارج الحظيرة، على شيء من الفوضى، وكثير من الاستقلال.

على أني أقبل هذا الشرف الذي تمنحنيه يا فخامة المقيم. أقبله بكثير من الشكر، وبشيء أكيد صادق من الفخر والسرور، ولكني أقرن القبول — لا تؤاخذوني — بما يُشبِه التحفظات والاحتياطات في المعاهدات الدولية. فإنْ أنا قصرت بالواجب الذي تفرضه عليَّ هذه النعمة — نعمة المديرية الشرفية لمعهد الدروس المغربية — فلا تعويض يُفرَض عليَّ، ولا لوم عليَّ ولا تثريب.

ولكني عامل بما لا يخلو من روح الواجب، سأكتب عن هذه المنطقة المغربية العربية المباركة كتابًا إن شاء الله يحمل بين دفتيه الحقيقة كما علمتها بالمشاهدة والسمع والدرس، وكما تأكَّدتها في أحاديثي مع الناس هنا كبيرهم وصغيرهم، من مولاي الحسن وبايبدر والوزراء والزعماء والأساتذة إلى الفلاح والإسكاف والبقال.

ولقد حملت في كل رحلاتي الاستكشافية أسمى روح إنسانية هي روح دون كيخوته الخالد، تلك الروح التي أشار إليها فخامة المقيم. هي الروح التي تفتح الأبواب إلى القلوب، وتمهِّد السبيل إلى أسمى الحقائق وأشرف الأعمال.

هي الروح التي يتجلى لكم بواسطتها يا سيدي بايبدر ذلك الحلم الذهبي، هي الروح التي تحملكم على أن تسعوا لتكون تطوان قرطبة ثانية. هي الروح التي أوحت إليكم تعميم اللغة العربية الشريفة في المنطقة كلها. هي الروح التي تُملِي عليكم مبادئ الوئام والمحبة بين النصرانية والإسلام. هي الروح التي تحرِّك قلبكم ويدكم وكل مؤتمر لأوامركم في تأسيس المعاهد الثقافية والدينية والصحية في منطقة الحماية الإسبانية من المغرب الأقصى.

وهي كذلك الروح التي تدفع بكم إلى المفاجآت العجيبة، المبهجة منها والمزعجة لكم ولسواكم من الناس. لقد ذكرت إحدى مفاجآتكم لي، وفي الخبر ما يزعج صاحبه حينًا من الأحيان، وقد جئتموني اليوم بمفاجأة أخرى، وهي أن سمو الخليفة مولاي الحسن شرَّفني بوسام المهدي من رتبة لا أفهم معناها، ولا أنا من أصحاب التَّجِلَّةِ والكرامة لأستحق هذه النعمة. إني في كل حال أقبلها شاكرًا لسموه مسرورًا فخورًا بتَعَطُّفِهِ، وسأجتهد أن يكون سلوكي في المواقف الرسمية القليلة في حياتي لائقًا بها.

بقيت كلمة الختام وهي التي ختم بها بها الكلونيل بايبدر خطبته النفيسة، فقد قال رحم الله أجداده وأجدادي، إن نصفه إسباني ونصفه عربي، وإنه يرجو أن يكون قد حدث فيَّ شيء من هذه القسمة. إن في هذه الكلمة لقلبي مزيجًا من الغبطة والغم، ويلي من التقسيم في بلادي وفي نفسي؛ فقد قسَّمَ بلادي الفرنسيون والإنجليز، وكادت الهجرات تقسِّم نفسي.

figure
أمين الريحاني بريشة الفنان الأميركي أوبرهارت Oberhart.

كيف لا وقد وُلِدتُ في لبنان، ونشأت في أمريكا، ثم في البلاد العربية، ويصح أن أقول إني وُلِدت ثلاث مرات، فتجاذبت نفسي الثلاثة الأوطان، فهل يريد سيدي الكلونيل بايبدر أن يقول إني، وإن كنت قد تجاوزت الستين من عمري، أُولَد للمرة الرابعة في إسبانيا؟ إنا لله يا أخي، وإنا إليه راجعون — راجعون وفينا الوحدة التي أرادها سبحانه وتعالى لنا جميعًا، الوحدة السليمة الصافية الخالصة من شوائب التقسيم كلها.

وما هي هذه الوحدة؟ إني أقول لكم إن سرفنتس عبقريكم الأعظم، وأبا العلاء المعري شاعرنا الأكبر — الذي خصه المستشرق الإسباني الشهير آسين بالاسيو بدرس من دروسه القيمة — إن سرفنتس وأبا العلاء يتحدان في نفسي، ويحفظان فيها تلك الوحدة التي أرادها الله، وحدة الإنسانية، والمثل الأعلى في سبيل الإنسانية.

باسم هذه الوحدة وهذا المثل الأعلى أحييكم ثانيةً أيها السادة، وأودِّعكم الآن على أمل الاجتماع بكم مرة أخرى بعد ألف سنة.

كتاب «الكليات» لأبي الوليد محمد بن رشد

هي باكورة منشورات معهد الجنرال فرنكو بطنجة المغرب الأقصى، أو هو الحلقة الأولى من سلسلة المخطوطات العربية التي تعنى بنشرها لجنة المعهد للأبحاث العربية الإسبانية. طُبِع في مطبعة الفنون المصورة بالعرائش، والأصح أن المقدمة والفهرس والمعجم العلمي الطبي، وترجمتها إلى اللغة الإسبانية مطبوعة كلها طبعًا، والباقي — أي كتاب الكليات — من مائتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير، مصوَّر بالتصوير الفوتوغرافي عن النسخة الخطية.

وقد كتَبَ المقدمةَ، واستوفى البحث في حياة ابن رشد وتآليفه وفلسفته، الأديب اللبناني ألفريد البستاني، أستاذ الآداب العربية في معهد الدروس المغربية بتطوان، وترجمها إلى اللغة الإسبانية «ضون كريستوبال بيريس بيرا» مراقب أملاك الدولة في الناحية الغربية من منطقة الحماية الإسبانية في المغرب.

إن كتاب الكليات هذا لأندر تآليف ابن رشد، فلا يوجد منه غير نسختين خطيتين؛ النسخة التي بين أيدينا صور صفحاتها كانت محفوظة في مكتبة دير الجبل المقدس بأعالي غرناطة، وهي أقدمهما وأصحهما، والثانية التي كانت في مكتبة سان بطرسبرج قبل الثورة السوفياتية، وقد نُقِلت عنها النسخة غير الكاملة الموجودة اليوم في مكتبة مدريد الأهلية.

أما تاريخ النسخة المنشورة في هذا الكتاب فالخاتمة تُنبِئ به، وهي كما يلي:

كمل الكتاب، والحمد لله على نعمه التي لا تُحصَى. صلى الله على محمد رسوله المصطفى وعلى آله وسلم تسليمًا. وكتبه لنفسه بقرطبة علاها الله عيسى بن أحمد بن محمد بن قادر الأموي القرطبي، وكان فراغه منه يوم الجمعة في العشر الوسط من صفر سنة ثلاثٍ وثمانين وخمسمائة — أي قبل وفاة ابن رشد باثنتي عشرة سنة.

ثم يقول:

طبقت مقابلته بكتاب مؤلفه الشيخ الفقيه القاضي الأروع … الأوحد أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد … وذلك في قرطبة حرسها الله.

هذه النسخة هي إذن الوحيدة الكاملة السليمة، المدقَّق في نَسْخها وتحقيقها، وهي تُقسَّم إلى سبعة أجزاء أو كتب: أولها تشريح الأعضاء. ثم (٢) الصحة. (٣) المرض. (٤) العلامات. (٥) الأدوية والأغذية. (٦) حفظ الصحة. (٧) شفاء الأمراض.

يتلوها فهرسان: فهرس المواضيع، وفهرس علمي بأسماء النبات والأشجار والحشائش والحيوانات والمعادن الطبية، وقد أثبتت أسماؤها كما في كتاب الدكتور جورج بوست الأميركي «زهور وطيور سورية»، باللغتين العربية واللاتينية ثم بالإسبانية في هذا الكتاب بدل الإنكليزية في كتاب الدكتور بوست، وإن اللفظ العربي أيضًا مطبوع إلى جنب الاسم بالأحرف الفرنجية، فيستطيع تعلُّمه ولفظه مَن شاء من الإسبان أو غيرهم من الأوروبيين.

وقد اعتنت اللجنة بهذه الأسماء المذكورة في كتاب الكليات اعتناءً علميًّا، فأضافت إلى التعريف والشرح المزية الطبية لكل نبتة أو معدن، ثم فائدته في معالجة الأمراض مستعينةً على ذلك بكتاب القانون لابن سينا؛ فجاء — في صفحاته الستين — فهرسًا طريفًا ذا قيمة علمية، تؤهِّله لدرس الاختصاصيين علماء النبات والحيوان، فيمحصون حقائقه، ويُصلِحون ما قد يكون من خطأ فيه.

ليس هذا الكتاب من أولئك الاختصاصيين، ولكنه من المحبين، محبي الأشجار والأزهار، وقد وقفر — على قِصَر باعه أو لقِصَر باعه — في الموضوع، موقف الحائر السائل عند بعض التعريفات كالعرعار مثلًا وهو — عَرْعر فارسية — السرو. أما في الفهرس فهو «برِّي السرو».

لست أعرف للسرو نوعين بريًّا وبستانيًّا، وقد قرأت في «مقتطف» ديسمبر (كانون أول) الأخير، أن الشربين في الشام هو السرو في مصر وبلاد الجزائر، وأن العرعر عندنا هو عندهم الشربين. فهل يريد محرِّر الفهرس أن يقول إن الشربين هو بري السرو؟ إن الشربين على ما أعلم هو اﻟ «جونير» بالإنكليزية، والسرو هو اﻟ «سيبر» بالفرنسية، واﻟ «سيبروس» بالإنكليزية. فالعرعر إذن هو غير السرو البري، بل هو السرو المعروف عندنا، والسرو هذا والشربين والأرز هي كلها، في رأي الثقة الأمير مصطفي الشهابي، من فصيلة الصنوبر.

وقد جاء في الفهرس أن عصا الراعي نبات شائك، فاسأل الفلاح اللبناني يقل لك إن عصا الراعي من أجمل النباتات البرية المزهرة، ولا شوك فيه، إلا أنه ينبت في الجبل بين الصخور والأشواك.

حُلبة … وفي اليمن يسلقونها، ثم يصبونها فوق اللحم والبقول المطبوخة، ومعها فتات الخبز. هي ملوخية أهل اليمن.

دلب، ويقال لها «دلم»، أما الدلم في إسبانيا والمغرب فهو شجر الفلين، وهو شبيه بالسنديان، وأما الدلب فإنه في قشره الضارب إلى البياض أقرب إلى الحور، وورقه شبيه بورق العنب، وهو يكثر مثل الصفصاف على ضفاف الأنهر بلبنان.

•••

أما موضوع كتاب الكليات، فالنظر فيه من اختصاص الأطباء العلماء، ولا أظن أن هذه الطبعة الفوتوغرافية تمكِّن من ذلك؛ فقد جاءت الصفحات غير متساوية في الطبع الواضح الجلي، فيها الكثيف والرقيق، الغاص بالحبر والظامئ إليه، المطموس والخفي، وهي فوق ذلك مكتوبة بالخط المغربي، الذي لا تسهل قراءته لعرب المشرق.

لذلك أقترح على معهد الجنرال فرنكو أن ينشر في المستقبل إلى جنب المخطوطة نصها المطبوع لتتم الفائدة. أما في الشكل الحاضر فالفائدة تنحصر في بعض المعاهد الشرقية والعربية، وفريق قليل من الناس هم المستشرقون والمغرمون باقتناء مثل هذه الأعلاق الأدبية والعلمية.

لست أشك في أن المعهد الجليل يقبل الاقتراح، وقد صدر الكتاب بتقدمة منه جميلة أنقلها بالحرف الواحد:

هذا كتاب كليات ابن رشد يقدِّمه معهد الجنرال فرنكو إلى نصف أطباء العرب، وإلى كافة المعجبين بعبقرية فيلسوف الأندلس وطبيبها المشهور؛ عربون المودة الصادقة بين الأمتين، وبرهانًا على تجديد الصلة الثقافية بين الشعبين.

إذن سيتلو هذا الكتاب غيره من كنوز المخطوطات العربية الموجودة في إسبانيا، وقد قال لي الجنرال فرنكو يوم تشرَّفت بزيارته في برغوس في الربيع الماضي، وهو يذكر تلك المخطوطات ببهجة الفخر والحماسة، إنه معتزم نشر أكثرها لتكون أساس النهضة الثقافية الجديدة العربية الإسبانية، فعسى ألَّا يفوت اللجنة طَبْع نصِّ المخطوطة إلى جانب الأصل أو معها في الكتاب الواحد، فمهما يكن حظها من الخط الواضح الجميل فهي في الطبع بعد التصوير، لا تخلص من الشوائب الميكانيكية.

بقي أن أقدِّم للقارئ نموذجًا من مباحث ابن رشد في «الكليات»، وإني أختار ما لا يتجاوز أفق علمي وفهمي، فأنقل من كتاب «حفظ الصحة» مثالًا من بحثه العلمي. فهو يقول في الرياضة إنها «بالجملة حركة الأعضاء بإرادة، وذلك أولًا للأعضاء التي تحفظ بها الحركة، وهي جميع الأعضاء التي لها حركة إرادية، وثانيًا الأعضاء التي تجاوز هذه، وهي الأوردة وآلات الغذاء، ولما كانت الرياضة هي حركات الأعضاء كان منها جزئي وكلي، وذلك أن منها ما هي رياضة لجميع البدن، وهي الحركة الكلية النقلية لجميع الحيوان، ومنها ما هي رياضة مخصوصة بعضوٍ ما، مثل أن الصوت رياضة للريق (للرئة؟)، والقيام والقعود رياضة للقلب … والرياضة منها قوية ومنها ضعيفة … ومنها السريعة والبطيئة … وربما اجتمعت في الرياضة السرعة والقوة كالذين يطعنون بالرماح، والرياضة المعتدلة فعلها بالجملة تنمية الروح الغريزي، ودفع الفضول عن آلات الغذاء وتحليلها وتطبيب الأعضاء أنفسها، وهي في هذا المعنى أفضل شيء ننمي به الحرارة …»

ثم يحذِّر من المبالغة في الرياضة فيقول: «أما الرياضة القوية فإنها تستفرغ من البدن أكثر مما يحتاج إليه.»

فكأن ابن رشد رأى في زمانه ما أدركه العلم في زماننا، وهو أن الفضول في البدن — أي السموم — إما أن تزيد وإما أن تنقص، وفي كلا الحالين تفسد عوامل الصحة إن كانت عددية أو غذائية أو عصبية.

ثم ينصح بالاعتدال ويقول: «وأما أن الرياضة بالجملة نعمة عظيمة، وأنها أفضل من عدم الرياضة، فذلك تبيَّنَ من حال المقصورين في السجون، فتصفر وجوههم، وتختل أعمالهم الطبيعية. وليس يظهر هذا في الإنسان فقط، بل وفي جميع الحيوانات المقصورة كالطيور في الأقفاص وغير ذلك.»

وله في التدليك بحث لا يقل فائدة عن بحثه في الرياضة، فيبدو فيهما عصريًّا كأحد علماء عصرنا غير المتطرفين في نظرياتهم. فهو عصري، ليس في تفضيل الرياضة على العقاقير في معالجة الأمراض، وليس في الدعوة لتقليل العقاقير في الاستشفاء، بل في رفع الرياضة والتدليك والغذاء إلى مستوى الأدوية في مفعولها، إن لم يكن إلى مستوى أعلى من مستواها.

فهل هو عصري كذلك، أو قريب من علومنا العصرية في أبحاثه الطبية؟

هل لكتاب الكليات قيمة علمية دائمة تضاف إلى علوم زماننا، أو هو حلقة في سلسلة علم الطب التاريخية؟

الجواب عن هذه الأسئلة عند الأطباء العلماء الذين يُطالِعون كتاب «الكليات» مدقِّقين النظر فيه؛ فتعرف بعد ذلك قيمته الحقيقية، ولا تضيع فوائده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤