الفصل الثالث

طنجة

يجب أن تكون هذه البقعة الأفريقية الجميلة جنينة أوروبا! …

قالها السياسي الإنكليزي «لويد جورج» عندما زار طنجة، ويقولها غيره من الأوروبيين في الجرائد أو لصحبهم أو لأنفسهم — زائرين كانوا أم مقيمين: طنجة جنينةُ الفرنجةِ.

– أولئك الأربعون ألفًا من أبنائها العرب، المزدحمون فيها، المنتشرون في ضواحيها، ماذا يحل بهم إذا تهافَتَ الأوروبيون على هذه الجنينة الأفريقية المغربية، وامتلك كل منهم شبرَ أرضٍ فيها، أو كرسيًّا في دور أحكامها؟!

– يحل بهم، يا سيدي، ما حلَّ بمَن تقدَّمهم من المستكشفين والغازين والفاتحين والمستعمرين. يحل بهم ما حلَّ بالفينيقيين والفنداليين والرومانيين — والعرب أنفسهم.

– وأبناؤهم اليوم، أبناء أولئك الفاتحين العرب، أيذهبون ضحية فتح جديد؟

– وما ضرهم؟ إنها الضحية المثمرة أطيب الثمار وأبقاها. إن لهم جنة الخلد؛ فهم الرابحون، وإن كانوا في جنينة الفناء حمَّالين وسقَّائين وبيَّاعي حطب …

طنجة، جنينة الفرنجة!

وهاك بابها على الشاطئ الذهبي في آخِر المضيق، حيث تتواصل أمواج البحرين، المتوسط والأطلنتيق، ذلك الشاطئ المغمور بشمس أفريقيا الحنون، الدافئة المنعشة المنشطة في كل فصول العام على الدوام. هاك بابها البحري وقد صفت على رماله أكواخ الخشب المقببة، والمظلات الواسعة الزاهية الألوان، يتكاسل فيها ويسترسل تحتها أبناء آدم وحواء، وقد اعتاضوا عن ورق التين ذراعًا من حرير أو «بُبلين»، فاستحالوا حورًا وولدانًا، وراحوا يلعبون ويمرحون، ويتغازلون ويتواعدون.

وهناك تحت زبد الأمواج ترى السابحين والسابحات في البهجة الكبرى، بين الوله والدله، والشمس ترميهم وترميهن بسهام غرامها، فتعلو صوتَ البحر أصواتُ المطاردين، أخوات دون جوان وقايين.

حورٌ غير مقصوراتٍ في الخيام أو في الأكواخ، حور يرقصن على اﻟ «بلاج» ويركضن أمام الغلمان إلى الأمواج، حيث يتواصل المتوسط والأطلنتيق فيقع ما في القلوب محجوب، وتُغتفَر الذنوب، ولا حبيب يُقيَّد ولا محبوب.

لك الساعة التي أنت فيها!

هذا المشهد الأول من مشاهد طنجة لا يختلف عمَّا في مصايف أوروبا من أمثاله: دوفيل، بِيارِتْز، برَيْطون، سان سبَستيان، طنجة. لسنا ها هنا في أوروبا، ولا في أفريقيا، إنما نحن على شواطئ الجنان الأرضية، في صيف اللذات أو في شتائها، ينادينا القَوَّاد الأكبر، وتتقاذفنا أمواجه الصاخبة، في نور الشمس، وفي ضوء القمر، فنتغازل ونتواعد ونتواصل ونغني!

وها نحن أولاء في أكبر فندق من فنادق طنجة الفخمة، ساعة يسكت الناي وتهدأ الأوتار، فيحتلُّ منصةَ أبناء الفن الموسيقي إخوان برابرة أفرقيا، أولئك النافخون في النحاس، الضاربون على الطبول. نحن في سهرة عَرِصَة، نحن في حفلة راقصة!

وهؤلاء الأوروبيون في أثوابهم السوداء المذنَّبة، وفي قمصانهم البيضاء المكويَّة يخاصرون ويباطنون بنات طنجة الأوروبيات والإسرائيليات، الرافلات بالحرير من خصورهن إلى أخامصهن، وما فوق الخصور غير مكنون، مكشوف للأنوار والعيون!

حميت آلات الموسيقى الأفريقية، موسيقى اﻟ «جاز»، فالموسيقيون يتدلَّهون ويتحوَّون، والراقصون والراقصات فيما يشبه البَلَه أو الجنون — الصدور على الصدور، والخدود على الخدود، والسكرات في العيون!

وإن هذا المشهد الثاني من مشاهد طنجة لا يختلف عمَّا في فنادق أوروبا، ليالي الرقص، من أمثاله. لسنا إذن في أوروبا، ولا في أفريقيا، إنما نحن في العرصات الأرضية نقطف زهور اللذات ولا نهوى، ونأكل ثمارها فننهم ونُتْخَم ونفنى.

على أن لطنجة شهرة فريدة، غير حميدة. فإن كانت نابولي مدينة القبلات الملتهبة، ولندن مدينة اللذات المحجبة، وباريس مدينة الأفانين في كل محجوب أو مكشوف، فإن طنجة مدينة الشهوات العارية، والمنكرات السارية.

قيل هذا فيها، والقول لا يخلو من غلو وتحامُل. فهل هي في الفحش والفجور أكثر استرسالًا وتجارة من غيرها من مدن أفريقيا الشمالية؟ ولا أقول مدن أوروبا؟ هل تفوق طنجة وهران والجزائر في تجارة الرقيق الأبيض، وفي الأمراض الزهرية؟ وهل تفوق تونس وفاس في المخزيات والموبقات؟

لو كانت طنجة أكبر مما هي لَصغرت سمعتها المخزية؛ فهي تختلف عن المدن الكبرى بأنها تضيع في سمعتها، في حين أن مخزيات المدينة الكبيرة وموبقاتها تتضاءل وتضيع في أرحابها. فلو نُقِل إلى طنجة ما في باريس مثلًا، بل نصف ما في باريس من مرابع اللذات، وبيوت الدعارة والحانات، لَضاقت بها المدينة وضواحيها.

بَيْدَ أن طنجة، على قسمتها من الجمال الطبيعي، والحسن الهندسي، والعز التاريخي، ما يثبت بعض سمعتها. فالمُدافِع عن المدينة، وهي تستحق الدفاع، لا يتغاضى عن تلك السمعة.

جلست في قهوة من مقاهيها، في ساحة السوق الصغيرة المشهورة، المنحدرة من السوق الكبيرة إلى البحر، أسرح النظر في جمع من الناس متلوِّن متحرك على الدوام؛ متلوِّن بألوان الشرق والغرب، متحرك بما هو أبرز سجاياهما.

رأيت الرجال يسيرون إلى أغراضهم في السبيل الواحد بخطوات متباينة، فالأوروبيون يجدون ويتزاحمون، والمغاربة يمشون الهوينا وهم يجرون أذيال المجد الغابر، والفجر الدابر، ولا يأبهون لما في يومهم، من نتائج نومهم.

ورأيت النساء الأوروبيات في تبرُّج صيَّاح، وريٍّ فضَّاح، الشقراء منهن أكثر اشقرارًا من أخواتها في باريس ومدريد، والحمراء الخدين والشفتين أبلغ احمرارًا من أوانس «الجادة البيضاء» بنيويورك، والألوان — دام اتئادك — من معملَي الكيمياء والعطور لا من الأبوَين الطاهرَين.

ورأيتهن في الأثواب اللاصقة بأجسامهن، وقد بالغن في شد الخصور، كالساعات الرملية. هي القباب من فوق ومن تحت، من أمام.

فنساء طنجة الأوروبيات، وأخواتهن البلديات المباح لهن السفور، أي الإسرائيليات، هي منقطعات النظير في المدن الكبرى المتصفة نساؤها بحسن الذوق والأناقة، إن كان في اللباس أو التبرج.

وقلَّمَا يُرَى في المدن الأفريقية الأخرى، على البحر المتوسط، ذلك الغلو القبيح في «مهيجات» الجنسِ اللطيفِ الخشنَ، وقلما يروق هذا الزي أحدًا من الجنس الخشن «المذكور» إلا إذا كان من أبناء ما وراء الصحراء والواحات — من السودان أو السنغال.

إن المرأة الطنجية، إن كانت على ساحل البحر عارية، أو في حفلات الرقص، وقد ساومت في العري، هي على شيء من الحسن الفتَّان. أما المرأة الطنجية في السوق فقد تكون للعبد السوداني نعيمه وبلواه، وللشيخ المغربي دواء للباه!

فهل النساء في السوق من بنات السوق؟ يستحيل أن يكنَّ كلهن كذلك، إن في جوانب الساحة ووراءها جادات ضيقة متعرجة، تُسمَّى في المغرب زنقات تكثر فيها بيوت الدعارة، ولكني لم أَرَ خلال ساعة، غير نسوة ثلاث خرجن من جوانب الساحة.

وقد قيل لي إن أكثر البنات في تلك البيوت هن إسرائيليات — راحيل، إستير، يهوديت! — وإنَّ بينهن، أو في بيوت خاصة بينهن بعضَ الهندات والفواطم، وإن في أحياء أخرى من المدينة زنقات تكثر فيها أوكار الرواحل المرفهات الخصوصيات!

ها هو ذا السر في شهرة طنجة: راحيل، إستير، يهوديت! فإذا كان الفسق الطنجي معرضًا في النهار، ومعملًا في الليل، ومرحمة ساعة الفجر، فهو في أوقاته كلها إسرائيلي الطابع والمبدأ.

عندنا — من أجلك يا سيدي — تحت الطلب، الشقراء والبيضاء والسمراء والسوداء، حتى العذارى منهن. أوَتريدها من «الأوكار»، محصنة أوروبية أم طنجية عذراء، سودانية أم مغربية؟ إننا لفي خدمتك. لك الأمر، أيها السيد الكريم، ولك مَن تريد، ومعها — حبة — مسك!

•••

طنجة جنة الفرنجة …

وإن فيها غير ما ذكرت من أسباب المرح والسرور والراحة والحبور، فيها الملاهي والملاعب والقصور. سِرْ شرقًا على ذلك الشاطئ البهيج تصل، بعد أن تجتاز ثلاثة كيلومترات، إلى قصر جميل، عربي الهندسة، غربي الترف والتنسيق، عربي بنقشه وألوانه، غربي بعرصاته ذات الظلال العاطرة، والزوايا الساترة، وبمرابعه الحافلة بكل ما تشتهيه الأنفس النهمة والمتخمة، وبحوض للسباحة، وردهة للرقص، وغيرها متوارية للارتياح والاعتكاف.

هذا القصر يُدعَى «فيلَّا هاريس» Villa Harris نسبةً إلى ذلك الأديب الإنكليزي الذي أحَبَّ المغرب، وأقام فيه طويلًا، فأثمر حبه كتابًا واحدًا فيه أهلَّةٌ من الحقائق والإخلاص، وأنصافٌ إنكليزية وأنصافٌ مغربية بشيء من الإنصاف من الاثنين وفيهما. فلئن أخطأ سهم أدبه كبد الشهرة، فقد أصابها سهم حبه في هذا القصر الحامل اسمه الكريم.
وإن واصلتَ السير شرقًا بشمال تصل إلى جسر قديم وضيع في وادي الصواني، قبالة اﻟ «بلاج» العامر بالحياة هناك في الناحية الغربية، فتقطع الجسر، فإذا أنت عند خرائب طنجة Tingis القديمة، تلك التي أسَّسها الفينيقيون، حنو القرطجني ورفقاء رحلته الأفريقية في القرن السابع الوثني. هناك خرائب المدينة التي كانت في عهد الرومان عاصمة مقاطعة موريتانيا، ولا شك في أن أولئك الرومان — عهد استعمارهم لها — أقاموا فيها دورًا وساحات للألعاب الرياضية التي اشتهروا بها، وما تلك الألعاب الوحشية إذا قيست بألعاب هؤلاء الفرنجة القائمة على علمي الرياضة والغرام؟!
في الدليل الفرنسي للمغرب الأقصى صفحة عن طنجة جاء فيها ذكر أماكن الرياضة والتنزه، كلعب اﻟ «تنيس» واﻟ «غولف» والصولجان Polo والمنتزهات البرية في ضواحيها، والبحرية في المضيق على ظهر يخت أو في ظل شراع.

وفي طنجة، في هذا البلد العربي، مدرسة لتعليم — الأوروبيين ولا ريب — ركوب الخيل. فماذا يبتغي بعد ذلك السائح والمقيم؟ وماذا يشتهي بعد ذلك طالب العلوم الرياضية والصحية والاصطيافية والشتوية؟!

هي المدينة الأوروبية السابغة النِّعَم، ومن نِعَمها النادرة في مثل هذه المدينة، نعمة كبرى لا تُنْسَخ ولا تُمْسَخ، هي معهد من معاهد العلم، معهد باستور Pasteur عزَّ وعَلَا، هو في أجمل أحياء طنجة، على الهضبة التي تُدعَى المرشان Le marshan المزدانة بالقصور والبساتين التي يملك أكثرها اليهود.

على أن هناك كذلك قصر المنبَّهي، وزير السلطان عبد العزيز — في ماضي الزمان وسالف العصر والأوان — ودار المندوب الشريفي، باشا طنجة، ومستشفيان إنكليزي وفرنسي، ومقبرة للأهالي.

أما قصر مولاي عبد العزيز، وقصر أخيه مولاي عبد الحفيظ — مما عوَّضه الله بعد قصور المُلْك المفقود — فيها هناك على صدر ذلك الجبل ورأسه في عزلة نعيمها منغَّص، والطريق إليهما يمر بمقبرة أخرى هي مقبرة سيدي محمد الحاج، وليِّ طنجة، وبوادٍ يُدعَى وادي اليهود. اليهود! المقابر! المال! الديون! ذهاب الملك! موت العز والسادة! سبحان الشاعر الرمزي الأكبر!

وقد يعوض، سبحانه وتعالى، على طنجة الأهالي الذاهبة ذهاب ملك المعتزلين في جبالها، بطنجة جديدة عزها ممدود، وعمرانها غير محدود، طنجة أوروبية حافلة بالصروح الفخمة، الحديثة الهندسة والفن، وبالشوارع والساحات الرحبة، الحاملة أسماء الأمم حبًّا وكرامة. فهذه ساحة إسبانيا، وذاك شارع بستور، وها هنا جادة إيطاليا، وهناك شارع الإنكليز، وفيها كلها المقاهي والحانات البهيجة، خدَّامها في أثواب الخدم لا أثواب البقالين والسقائين، كما في المقاهي البلدية، فتطلب منهم بلغة الإسبان أو الفرنسيين أو الإنكليز، وأنت جالس إلى مائدة من القش الملون، في كرسي بجانبها، تطلب كأسك المعتاد: أبسنت، وسكي، شري، سنزانو، كأنك في باريس أو مدريد.

وطنجة الأهالي، طنجة المغربية الشرقية، أين هي؟

أعود بك إلى السوق الصغيرة، الكبيرة بشهرتها، الصاعدة من الساحل إلى رأس الرابية، الضيقة المتعرجة بحوانيتها ومصارفها وحاناتها ومقاهيها، الواسعة بأسباب العيش الغامضة، يلجأ إليها من لا حوانيت ولا مكاتب لهم من التجار، تجار السياسة وأخبارها، وتجار الأوراق المالية وأسرارها، وتجار الحياة المحجبة بحجب المدنية، تجار القلوب والأخلاق. هم ذوو المهن «الحرة» التي تقوم بدهاء العقول الملتوية، حول فنجان من القهوة في أحد المقاهي، أو كأس من الجعة في حانة من الحانات.

إن تلك السوق المزدحمة على الدوام بالناس من جميع الطبقات والأمم، تنتهي عند الساحة الكبرى التي تُدعَى السوق الكبيرة، وفيها مظهر من مظاهر الحياة الشرقية المغربية، الوادعة الشريفة. ها هنا يجتمع في يومين من الأسبوع: الثلاثاء والأحد، أبناء القبائل المجاورة لطنجة، القبائل المزارعة، وقد جاءوا من الضواحي نسوةً ورجالًا، يحملون الأحمال، أو يسوقون الحمير المحملة من خيرات الأرض، البقول والثمار، والحبوب والأبازير والدجاج والبيض، والزهور والرياحين والحطب والفحم، حتى الحشيش الأخضر للدواب.

هاك في ظلال الأشجار الوارفة عجوزًا تبيع طاقات من البقدونس والصعتر، أو قليلًا من الفول الأخضر والتين، وهاك فتاة مغربية سافرة على رأسها برنيطة كالمظلة وقد تربعت على الأرض وراء صف من طاقات البنفسج، وآخَر من الزنابق والورود، وهاك أحمال الحطب، وأكياس الفحم، تباع لمَن يحرقونها، لا لمَن يتاجرون بها. لا وسطاء في هذه الساحة، ولا سماسرة!

من الحقول والبساتين إلى المطابخ والبيوت.

ها هو ذا المغرب بفقره واتضاعه، بقناعته وصبره، ببساطته وكرامته، بأسماله وأوساخه، وبإحساسه الشعري!

وفي كل يوم من الأسبوع، بعد الظهر، يؤم هذا المكان الحاوي والراوي والمبصِّر والمجَّان والراقص والزمار، فتُعقد حولهم الحلقات، فتعمر فيها أسباب الطرب والتفكهة والسلوان، فيغدو الناس، بما يشاهدون ويسمعون، حيارى سكارى.

وها هو ذا المغرب في مرحه وفرحه، في ألاعيبه وشعوذاته، المغرب الروائي الشعري، المغرب اليائس الضحوك، المغرب العجيب!

إن في هذه الساحة كذلك، إلى جانبي سوق الفحم وسوق المواشي، رمز المغرب السلطاني، المنفصلة عنها المتصلة بها مدينة طنجة، هي منفصلة فعلًا، متصلة اسمًا وشرعًا. وها هو ذا البرهان على ذلك: ذي هي المندوبية، دار المندوب، وفيها مدافع الدولة الشريفية، بضعة وثلاثون مدفعًا من الصَفْر في أشكال شتى ومن عهود مختلفة، وهي كلها اليوم للأنظار والازدكار.

وهناك في القصبة، على هضبة من الهضاب، طنجة الأهلية، بسورها وبابيه: باب الراحة، وباب الهناء، وأشياء أخرى للأنظار والازدكار، هناك بيت المال وصناديقه الطويلة الضخمة الفارغة، وهناك «المشور» أو دار الحكم حيث كان يجلس الباشا مندوب السلطان ليقضي بين الناس، وهناك دار السلطان نفسه، حيث كان يقيم عندما يزور طنجة، هي ولا غرو دار فخمة — أو كانت — بأوانيها وردهاتها وحدائقها التي لا تزال زاهرة.

صعدنا إلى سطح الدار السلطانية فأشرفنا على المدينة الجديدة التي تنحدر مدينة القصبة إليها، وهي — أي المدينة الجديدة — ذات هضبتين ووادٍ بينهما تنساب فيه السوق الصغيرة، وهناك الشاطئ الذهبي وأكواخ اﻟ «بلاج» والمظلات حيث تلهو الحسان، وإلى الجانب الشمالي الغربي رصيف نحو كيلومتر واحد يمتد إلى البحر، ولا باخرة من البواخر إلى جانبه، إنما في الميناء مراكب حربية فرنسية وإسبانية وإنكليزية آمنة في مرساها مطمئنة متحابة، وهناك في الطرف الشرقي الشمالي من المضيق، على الأفق اللازوردي، غيمة سوداء هي جبل طارق.

إن أجمل ما في القصبة مئذنة جامعها المثمنة الأضلاع، وإن أروع ما في القصبة باب العصا حيث كان يُحاكَم صغار المجرمين.

بيت المال، قصر السلطان، باب العصا، بابا الراحة والهناء، والجامع: هو ذا المغرب في عزه ومجده وقساوته وتقواه. أما المجد والعز والقساوة، فقد أمست أثرًا للعين والذكرى، وأما التقوى، فهي وأخواتها الفقر والصبر والقناعة من البركات الباقيات!

وقفنا في الساحة تحت تينة كبيرة، أمام بناية كانت ثكنة عسكرية للإسبان، فحيينا امرأ هناك، فرد التحية بلهجة مغربية فهمناها.

قال جوابًا عن سؤالي الأول: إن البناية هي مدرسة للصبيان. وقال جوابًا عن السؤال الثاني: لا يا سيدي، ليست وطنية بل هي أوروبية يتعلَّم فيها أولادنا اللغتين الفرنسية والإسبانية.

– ولا يتعلمون العربية؟ ولماذا؟

– الله أعلم، سبحانه وتعالى، إنه على كل شيء قدير.

قالها بلهفة كلها ورع وحنين، ثم أنَّ أنَّة سمعتها السماء.

وهذه جنازة أحد المسلمين تمر أمامنا، نعش محمول وثلاثة أمامه يرتلون أو يحاولون الترتيل، والناس وراءه يتمتمون، لست أدري بأي لغة من لغات العالم. جنازة إسلامية في الشكل الظاهر، والتقوى الباطنة، أما اللغة والتجويد فهما أقرب شيء إلى الرومانية أو البربرية أو الفينيقية منهما إلى العربية والإسلام.

عدنا من القصبة إلى السوق الكبيرة فالسوق الصغيرة، فالتقينا هناك بلبناني أقام في طنجة أربعين سنة فأمسى من أبنائها لسانًا، وقد يجوز أن نقول كذلك: قلبًا وخلقًا. دعوناه للقهوة والحديث، فقال: عندي واحد ميعاد، والذاكرة ذيالي (ذاكرتي) ضعيفة، ضعيفة بالزَّفِّ (أي جدًّا أو كثيرًا).

ثم وعدنا بأن يوافينا إلى القهوة — إذا تذكَّرَ اسمها، فسألناه ونحن لا نأمل بذاكرته أن تحقِّق الاجتماع في القهوة: وكيف أحوال طنجة؟

فأجاب قائلًا: موحَّلة.

فقلنا: موحَّلة تجاريًّا أم اجتماعيًّا أم سياسيًّا؟

فقال: موحَّلة في كل شيء — موحلة بالزَّفِّ.

وقالها كما يقول: الصحة جيدة والحمد لله.

•••

ما كذب أخونا اللبناني ولا غالى.

فما السبب في توحيل جميع أحوال طنجة؟ أحديث العهد هذا التوحيل أم قديمه؟ سنجاوب دون أن نعود إلى العهود القديمة مستكشفين أحوالها — وأوحالها.

فلقد ذكرنا الفينيقيين مؤسِّسي طنجة، والرومانيين مستعمريها، ثم جاء الفنداليون غازين ناهبين مخرِّبين، والبيزنطيين مصلحين مستثمرين؛ فكانت طنجة في عهدهم على شيء من العمران. ثم فتحها واستعمرها العرب، ويوم مَرَّ بها إدريس الأول (٧٨٨م) قادمًا من تلمسان، في طريقه إلى فاس، كانت طنجة أجمل مدينة في المغرب.

وما ذهب شيء من جمالها وعمرانها في عهد البرتغاليين الذين انتزعوها من العرب في سنة ١٤٧١، ولا في عهد الإسبان الذين خلفوهم بعد نيف ومائة سنة (١٥٨٠)، خسر البرتغاليون طنجة مرة أثناء ذلك، ثم استعادوها في سنة ١٥٥٦.

وبعد ست سنوات من احتلالهم الثاني عُقد لملك الإنكليز شارلس الثاني على الأميرة ده براغَنْزا البرتغالية، فراحت طنجة مع الجهاز، انتقلت بزواج كاترين إلى حوزة الإنكليز، فحكموها ثماني عشرة سنة فقط؛ ذلك لأن مولاي إسماعيل الكبير قام يطالب بردِّ «الجهاز» إلى أصحابه، فشهر الحرب على أقارب كاترين الجدد وأخرجهم من طنجة في سنة ١٦٨٠.

منذ ذلك اليوم إلى آخِر القرن التاسع عشر بقيت هذه المدينة في حوزة سلاطين المغرب، وهي تنعم بشيء من العمران المادي، وبأشياء من الأمن والنظام. ساد فيها السلم على الأقل والاطمئنان. أما تجاريًّا فقد كانت أول مدن المغرب، وما زالت، ولا غرو فهي باب المغرب الأقصى من أوروبا والشرق وإليهما.

ولا تزال ذلك البابَ، إلا أن مفتاحه وقع من يد السلطان عبد العزيز يوم وقَّع المعاهدة الأولى والفرنسيين، فتسابقت الدول إلى التقاطه، فضاع في الهرج والمرج، وساءت — وَحِلت — أحوال طنجة. أجل، لقد ساءت أحوالها عندما رمقها الأوروبيون في أواخر القرن الماضي، بأنظارهم الاستعمارية؛ فصارت كل دولة من الدول الكبرى، وخصوصًا فرنسا وإسبانيا وإنكلترا، تدَّعِي وصل ليلى، وتنظم لها القصائد باللغة السياسية!

طمحت فرنسا ببصرها — وبصر جندها — إلى المغرب أجمع، وطنجة طبعًا منه، وطمعت إسبانيا بضم مدينة المضيق الكبرى إلى ما كان قسمتها من الساحل الأفريقي، فتحصن مركزها تجاه الإنكليز في جبل طارق، وكان الإنكليز يذكرون، ويتخذون قاعدةً لسياستهم، كلمةً قالها أميرالهم «نلسون» Nelson: إن لم تكن طنجة إنكليزية، فيجب أن تكون دولية. مسكينة طنجة! فقد عظم خطبها في تعدُّد خطبائها — الفرنسيين والإسبان والإنكليز والألمان.

وبينما كان الإسبان والفرنسيون يتنافسون ويتوثبون، كان الإنكليز يقفون موقف المدافع عن شرف طنجة، وكرامة الدولة الشريفية أمِّها.

هذا في آخِر القرن التاسع عشر، وفي السنة الثانية من القرن الحاضر اعتزمت الدولتان فرنسا وإسبانيا، التخلُّص من المنافسات فقرَّرَتا المفاوضة في الأمر.

كان «دلكاسة» يومئذٍ يدير سياسة فرنسا الخارجية، فأزعجه تدخُّل الإنكليز في شئون المغرب، وراح يجامل إسبانيا ليتآزر وإياهم عليهم، فاتفق وسفيرها في باريس «السنيور ليون إي كستيو» Leon Y Castillo على أمرين، وبالأحرى أنهما اعترفا بأمر، وقرَّرَا الأمر الآخَر، وكلا الأمرين غامض، أو أن معناه معقود بالنيات الكامنة في الكلمات السياسية.

قال «دلكاسة»، ووافق السفير الإسباني: إن لطنجة أهمية كبرى في تأييد حرية المضيق، مضيق جبل طارق. ثم قالا معًا: وبناء على ذلك لا تمانع الحكومتان المتعاهدتان في أن تكون طنجة مدينة حيادية.

وما معنى حرية المضيق، وحياد المدينة؟ فقد كان كلٌّ من المتفاوضين يريد أن يقيِّد بتأييد حرية المضيق سلطة الإنكليز فيه، وأن يتدرَّج بتقرير حياد طنجة إلى الاستيلاء عليها. كلٌّ يدَّعِي وصلًا بليلى! …

وقد ظهر من نية «دلكاسة» نصفها أو بعضها في المؤتمر الإسباني الفرنسي سنة ١٩٠٤، الذي تحدَّدت فيه حدود المنطقة الشمالية الإسبانية؛ إذ قال — وأقنع بقوله السفير الذي كان يتجامَل وإياه منذ سنتين: إنه يجب أن تبقى طنجة في وضعها الإداري المعروف يومذاك. أي في حكم «الهيئة الدبلوماسية والمؤسسات البلدية والصحية»، ومعنى ذلك أن طنجة ليست للفرنسيين ولا للإسبان ولا لسلطان المغرب.

فهل تُستغرَب الفوضى، وما تجره من الشرور السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلد لا حكم فيه لغير الأغراض والأهواء، وكل واحد من الهيئة الدبلوماسية، أي قناصل الدول، يقدِّم غرضه ومصلحة حكومته ومواطنيه على أغراض زملائه ومصالح حكوماتهم ومواطنيهم؟ وهل يستغرب وقوف التجارة والعمل في المدينة، واضطراب حبل الأمن فيها وفي ضواحيها؟ في تلك الأيام كان الريسوني قائمًا على الأجانب، وخصوصًا القناصل منهم «زبانية طنجة»! …

فعُقِد مؤتمر الجزيرة للنظر في شئون المغرب، ورأى المؤتمرون أن يشملوا طنجة باليسير من نظرهم المالي، فقرَّروا أن تكون لها شرطة مغربية بإدارة أوروبية، وأن يستولي الفرنسيون والإسبان والإنكليز على جماركها. حيَّ على الفلاح! …

وهل أعادت تلك الشرطة الأمن إلى المدينة؟ وهل نجح استيلاء الدول على جماركها فيما اعتلَّ واختلَّ من شئونها السياسية والتجارية والاجتماعية؟

كان أهل المدينة الوطنيون أكثر الناس شكاوةً وأشدهم احتجاجًا، فضلًا عن أنهم كانوا يشعرون أن المدينة ذاهبة من يد السلطان، ويأملون مع ذلك أن تعود — إذا استمروا في الشكوى والاحتجاج — إلى حالها الطبيعي، ووضعها الشريفي السابق. هيهات!

فقد كانت فرنسا في تلك الأيام مهتمة كل الاهتمام للمغرب لا لطنجة، وهي تهيئ الأحوال للاحتلال والحماية، وكانت إسبانيا تريق دماء بنيها في احتلال الناحية الشرقية من منطقتها؛ فشُغِلت الدولتان عن طنجة، وما اطمأنت الواحدة إلى الأخرى في المغرب، بل كانت المنافسات مستمرة والمشادات تتجدد عامًا بعد عام. فهلَّا تنتهي؟ وهلَّا تُسمع أصوات طنجة الشاكية؟ وإسبانيا ومطالبها؟ … وفرنسا ومتاعبها؟ … تعالوا إذن نتفاهم، تعالوا نعقد مؤتمرًا.

عُقِد المؤتمر الفرنسي الإسباني الثالث أو الرابع أو الخامس (١٩١٢) — ما أكثر تلك المؤتمرات وما أقل خيرها! — فتقرَّر فيه أن تكون طنجة دولية الحكم، وأن يكون لها نظام خاص بها.

وكانت شكاوى الأوروبيين من فوضى الأيام، وفساد الأحكام، وشكاوى الوطنيين من الفوضى والفساد والتدخُّل الأجنبي، تزداد يومًا فيومًا.

لنشرع إذن في العمل المصلح للأحوال. اجتمع ممثلو الدول الثلاث — إسبانيا وفرنسا وإنكلترا — في آخِر سنة ١٩١٣ ليضعوا للمدينة النكداء النظام الذي وُعِدت به، فاستمرت المباحثات والمناقشات بضعة أشهر، حتى صيف سنة ١٩١٤، حتى الشهر السابق للحرب العالمية الأولى، حتى يوم الكارثة؛ فتأجَّلَ ذلك المؤتمر.

وما اهتمَّ أحد لطنجة في أيام الحرب؛ فغدت وكرًا للدسائس الدولية والمفاسد السياسية، وخصوصًا ما كان منها لرعايا الدول الوسطى وجواسيسها؛ فاضطرت دول الأحلاف أن تطرد — بموافقة سلطان المغرب — قنصلي النمسا وألمانيا وأعوانهما من المدينة.

ما اهتمت أثناء الحرب لغير ذلك، وما استؤنفت أعمال المؤتمر المؤجل إلا بعد خمس سنوات من يوم الهدنة؛ فقد شغلت الدول عن طنجة بنتائج الحرب، وخصوصًا منها مسألتي الترميم والتعويض. ثم ذكرت، في صيف ١٩٢٣، أنها وعدت طنجة بنظام خاص بها، وأن المدينة تنتظر ذلك النظام.

ولكن فرنسا — وقد تعاظَمَ نفوذها في المغرب بعد استقرار الحماية فيه — حاولت أن تستقل في إدارة طنجة، فاعترَضَ الإسبان أشد الاعتراض، واستمرَّ الإنكليز يقاومون كل ما في سياستها من نزعات الاستقلال أو الاستئثار.

فإن لم تكن طنجة إنكليزية، يجب أن تكون دولية.

وإن لم تكن طنجة للفرنسيين، فلا بأس أن تكون للجميع على السواء، ولو إلى حين.

وإن لم تكن طنجة للإسبان اليوم، فلا بد أن تكون لهم غدًا …

اجتمع ممثلو الدول، وهذه عقليتهم الطنجية، اجتماعًا تمهيديًّا في لندن، في صيف سنة ١٩٢٣، ثم نُقِلوا إلى باريس في أكتوبر، حيث تمت المؤامرة على عروس المغرب، فوقَّعَتْ فرنسا في ٨ ديسمبر ١٩٢٣ المعاهدةَ التي قضت بأن تكون طنجة دولية، ووقَّعَتْها إسبانيا في ٧ فبراير من السنة التالية. حي على الفلاح!

ولكن سكان طنجة، الوطنيين والأجانب على السواء، وخصوصًا الفرنسيين والإسبان الأجانب، استمروا يشكون ويحتجون. أما الفرنسيون، فلأنهم كانوا يأملون أن تستقل فرنسا في حكم المدينة، وأما الإسبان، فلأنهم خُدِعوا كما يقولون فحُرِموا الوظائف التي وُعِدوا بها في المعاهدات السابقة.

وأما الوطنيون، فلا لشيء غير الاغتصاب. إنهم أبناء المدينة المغتصَبَة!

•••

أتَمَّ المتآمرون تلك المعاهدة، وبعد سنة أنجزوا النظام الخاص بمنطقة طنجة، فأُعلِنَ وبُوشِرَ تنفيذه في يوليو سنة ١٩٢٥، ولكن الاحتجاج لم يكن هذه المرة من السكان فقط، بل من بعض الدول أيضًا، ولا سيما أمريكا وإيطاليا اللتان اشتركتا في مؤتمر الجزيرة، ولم تُدعَيَا للاشتراك في مؤتمر باريس؛ لذلك لم تقبل إحداهما اتفاق ذلك المؤتمر، ولا خضعت رعاياهما في طنجة للنظام الجديد.

استمرَّ ممثلو الدول المتعاقدة — أي قناصلها في طنجة — ثلاث سنوات يحاولون تنفيذ نظامهم، فكادوا يخفقون لما لقوه من الصعوبات: نحن الطليان لا نخضع لنظام فرنسي أو إسباني. نحن الإسبان لا نقبل نظامًا مجحفًا بحقوقنا. نحن الأميركان خارج الحظيرة؛ لأن حكومتنا لم تشترك في مؤتمركم.

ونحن أبناء طنجة، نحن العرب المغاربة، لا نعرف غير سلطاننا، سلطان المغرب، حاكمًا ومشترعًا.

قلق القناصل في طنجة، وأطرق السياسيون في باريس، ثم أعملوا فكرتهم الثاقبة في المشكل الجديد، وهم يحللون بوادر العصيان، ويخففون من شرها. لا خوف من الأميركان وأبناء طنجة، فهؤلاء يخضعون للنظام عندما يعلمون أنه وُضِع بموجب ظهير١ سلطاني شريفي، وأولئك مخلدون في كل أحوالهم إلى السكينة.

أما الطليان والإسبان، فيجب علينا أن نرضيهم؛ لأنهم مشاغبون مقلقون، وكيف نرضيهم؟ ما الرأي؟ وما التدبير؟ تعالوا نتشاور جميعًا. هيا بنا — وأنتم أيها الطليان في مقدمة مَن نخاطب — هيا بنا إلى مؤتمر آخَر!

اجتمع ممثلو الحكومات الثلاث في وزارة الخارجية بباريس في ٢٠ مارس سنة ١٩٢٨، ومعهم هذه المرة ممثلو «حكومة جلالة ملك إيطاليا»؛ اجتمعوا، فتشاوروا، فتناقشوا، فعدَّلوا نظام سنة ١٩٢٣، ووقَّعوا البروتوكول الجديد، البروتوكول الأخير لنظام طنجة، في ١٦ يوليو سنة ١٩٢٨.٢

ولهذا البروتوكول ملحقات تشتمل على الظهراء — جمع ظهير! — الشريفية التي تأمر بالتعديلات؛ أو قُلْ تَقْبَل بها، كما هو الواقع، وهي تشتمل كذلك على الرسائل من سفير إيطاليا إلى سفيري إسبانيا وإنكلترا ووزير خارجية فرنسا، ومنهم إليه، فيما يتعلق بأمرين مهمين — لا لطنجة الدولية، بل لدولة إيطاليا: الأول أمر المرفأ، وهو مورد رزق جزيل، فيقول سعادة السفير الإيطالي: نبغي المشاركة في استثمار المرفأ وغيره من المشاريع الاقتصادية. فيجيب السفيران ووزير الخارجية الفرنسية بالصوت الواحد والعبارة الواحدة: سنكون سعيدين للاشتراك معكم في استثمار المرفأ وغيره من المشاريع الاقتصادية.

والأمر الثاني يتعلَّق بالوظائف، فيقول سفير إيطاليا: نبغي قسطنا العادل من الوظائف في دوائر الحكومة كلها الإدارية والتشريعية والقضائية. فيجيب أصحاب السعادة زملاؤه بالصوت الواحد واللهجة الواحدة: سنكون سعيدين في العمل بقاعدة المساواة؛ ليكون لكم قسطكم العادل من الوظائف في دوائر الحكومة كلها، الإدارية والتشريعية والقضائية.

أما النظام نفسه والبروتوكول المعدِّل لبعض مواده، فالنظر فيهما لغير القانونيين هو من باب الفضول، ولكن فيهما أبوابًا ونوافذ لغير القانوني، وعليهما كما يظهر لنا ظلال جليلة من المنطق. فلا حرج على مَن يتظللها باحثًا مستقصيًا.

لا تزال منطقة طنجة، بموجب هذا النظام، جزءًا من السلطنة المغربية الشريفية، ولا يزال للسلطان مندوب فيها، ولكن السلطنة المغربية الشريفية هي اليوم مشمولة في جزئها الأكبر بالحماية الفرنسية، وفي جزئها الأصغر بالحماية الإسبانية، فإن لم تكن طنجة تابعة لإحدى الدولتين، يجب أن تكون في حمايتهما المشتركة، وبالتالي لا يحق لغير إسبانيا وفرنسا أن تحكما طنجة.

ولكنها أمست بموجب هذا النظام مدينة دولية حيادية بسيادة سلطان المغرب، الذي يحكم رعاياها الوطنيين المغاربة واليهود، بواسطة مندوب له فيها.

وبما أن الرعايا الوطنيين هم نصف سكَّانها، والرعايا الأجانب أقليات بالنسبة إلى الوطنيين؛ فالمندوب إذن هو الحاكم الأول في المدينة، أو إنه يجب أن يكون كذلك قانونًا ومنطقًا وعدلًا، ويجب أن يكون نائبه الأول، عملًا بهذا القياس، المندوبَ أو السفير الإسباني، ونائبُه الثاني السفيرَ الفرنسي.

وإذا قيس حق الحكم بمدة الاحتلال، كما ينبغي، فالحق الأول هو للمغاربة العرب، والحق الثاني للبرتغاليين، والثالث للإسبان، والرابع للإنكليز، ولا حق البتة لفرنسا؛ لأنها لم تحتلَّ هذه المدينة يومًا واحدًا في الماضي. أما إذا كان يحق لهؤلاء الأجانب أن يشتركوا في الحكم، كلٌّ بالنسبة لما كان لدولته من السلطة في المدينة، ولما لا يزال لأمته فيها من أثر وتقليد، فالقسط الأكبر هو للإسبان، والقسط الأصغر للفرنسيين. هذا هو المنطق وهذا هو العدل.

ولكن الدول المتعاهدة لا تؤمن بالمنطق، ولا ترى العدل بغير المساواة؛ لذلك قلدت الحكم لجنة من القناصل٣ هي اللجنة العليا، التي يحق لها أن تثبت أو ترفض، بأكثرية الأصوات، ما يقرِّره المجلس التشريعي أو يسنه من القوانين.
والمجلس التشريعي يُؤلَّف من سبعة وعشرين عضوًا،٤ ثمانية عشر منهم أوروبيون وتسعة وطنيون، ويرأس جلساته المندوب مع أربعة من الأعوان: إسباني وفرنسي وإنكليزي وطلياني.
فأين المساواة في هذا المجلس؟ إن للوطنيين المسلمين والإسرائيليين — وهم نحو خمسة وخمسين ألفًا — تسعة أعضاء فيه، وللأوروبيين — وهم نحو ثلاثين ألفًا — ثمانية عشر عضوًا.٥

دَعِ المساواة تتوارى مع المنطق والعدل والقانون، إنما النظام فوق كل شيء، وبموجب هذا النظام — تكملة لأسباب الحكم المدني الديمقراطي الحر — يعيِّن المجلس التشريعي حاكمًا لمنطقة طنجة، من الفرنسيين غالبًا أو الإسبان، وثلاثة معاونين له: إنكليزيًّا وإسبانيًّا وفرنسيًّا، وهذا التعيين تثبته أو ترفضه اللجنة العليا — لجنة القناصل — بأكثرية الأصوات، كما تثبت أو ترفض القوانين والمقررات.

ها هي ذي هيئات الحكم الثلاث: المجلس التشريعي، والحاكم ومعاونوه الثلاثة، واللجنة العليا، وإذا ما دقَّقْنا في التمحيص والتحليل نجد السلطة كلها بيد هذه اللجنة، أي بيد القناصل السبعة، فهم ينتخبون المجلس، كما بيَّنَّا، والمجلس يعيِّن الحاكم ومعاونيه الحائزين على رضى اللجنة العليا.

هذا هو النظام الذي يخول قناصل الدول السبع الحكم المطلق في مدينة لا يتجاوز عدد سكَّانها الثمانين ألف نفس،٦ وفي منطقة لا تتجاوز مساحتها المائتين من الكيلومترات.٧

أما البروتوكول المعدل لهذا النظام فقد خُصَّ مجمله بالمساواة والاسترضاء — بالوظائف والمشاريع الاقتصادية.

لقد مرَّ بك ما دار بين سفير إيطاليا وزملائه المتعاهدين بخصوص المرفأ والوظائف. نبغي الوظائف. نبغي المشاركة في الاستثمار. أبشروا، ولكم فوق ذلك المساواة والإنكليز في عضوية المجلس.

وقد استُرضِيَ الإسبان بقيادة الجندرمة، وبرياسة دائرة الأمن العام.

وقَبِلَ البلجيكيون بما مُنِحوا، أي بالحق في تعيين قاضٍ منهم للمحكمة المختلطة، بدل حقهم في قيادة الجندرمة.

هذه أمثلة من البروتوكول الشريف، الطويل الاسم، القصير الغاية في مصالح المنطقة وخير أهلها.

قال أحد الكتَّاب الإنجليز: «كان من الواجب على الدول المتعاهدة، بعد أن أوجدوا المدينة الدولية، أن يرعوا مصالحها الحيوية، فيهيِّئوا الأسباب لغذائها، وإنعاش تجارتها،٨ ويمنحوها شيئًا من الحكم الذاتي، ولكن المحرك الواحد للسياسة الأوروبية في طنجة هو حب الذات، فلولا مطامع المتنافسين وحسدهم لما كان هذا النظام، ولما كانت مصالح طنجة آخِر ما يهتمون له.»

والكل مجمعون — ودائرة المعارف توافِق — على أن سوء حال طنجة، في ربع القرن الماضي، ناتِج عن اضطراب شئونها السياسية، وما أثارته من منافسات الدول وحسدها مما أدَّى إلى هذا النظام الدولي العجيب، وهو عجيب بغير ما قدمت. فقد قلت إن طنجة لا تزال شرعًا من أملاك السلطنة المغربية الشريفية؛ لذلك لا يجوز أن تسنَّ لها النُّظُم والقوانين مهما تكن أهميتها أو سخافتها، بدون أمر — ظهير — من السلطان.

ولكن الحقيقة في هذا الأمر عجيبة؛ فهي حق في شكلها، باطل في معناها، هي مُرضِية ظاهرًا، وهي باطنًا مُضحِكة مُبكِية.

خُذْ هذا النظام مثلًا، فهو ينبغي أن يكون مستمدًّا من الظهير الشريفي أو مبنيًّا عليه، أما الحقيقة فهي أنه هو نفسه مصدر ذلك الظهير، يشتمل على كل المواد فيه، كلها بحذافيرها. أما «إننا نأمر» فيجب أن تكون: إننا نقبل أو إننا نذعن …

كيف لا وقد كتب النظام في باريس، وكتب أيضًا في باريس، أو في دار المقيم بالرباط، الظهير المردِّد لكلماته — ما عدا جملة «إننا نأمر» — ترداد الببغاء، ثم أرسل أو أعيد إلى الرباط ليوقِّعه عن السلطان المقيم العام الفرنسي ووزير خارجية جلالته، الجنرال ليوته.

هي اللولبات السياسية، هي المهزلات القانونية، هي …

عند الكلمة الأخيرة سمعت صوتًا معترضًا يقول: إنك مبالغ في التشاؤم؛ فإن للأمر ناحية مشرقة، يجب أن لا تخفى عليك.

فقلت: وما هي، رعاك ورعاني رب الفلسفة؟

فقال: أفلا ترى أن سلطان المغرب، الجالس على العرش في فاس، هو الوحيد بين السلاطين والملوك ورؤساء الدول، شرقًا وغربًا، الذي يختار عمَّاله من سياسي الدول الأوروبية المحنكين، كوزير خارجيته المقيم العام في الرباط، والقناصل الدهاقين في طنجة، وينتدب أحدهم بإرشاداته؛ ليشرف على أعمالهم، ويمدهم برأيه الصائب، وفكره الثاقب، فيسلكون الصراط المستقيم إلى كل ما فيه خير الدول الشريفية العلوية وعزها، وخير الرعية، و…

فصحت به: كفى، كفى، حرام عليك هذا!

فقال مستمرًّا: وهل تريد أن أغضب غضبة مضرية؟ وما الفائدة؟ فلا السلطان يسعد بها، ولا الدول تشقى.

فضلًا عن ذلك إن تلك الدول لا تخلو من فضل، إنها على شيء من الكرم. البرهان؟ هو في المادة ٥٣ من البرتوكول، عُدْ إليها، وخفِّفْ عنك.

عدت إلى البرتوكول، إلى المادة ٥٣ منه،٩ فأدهشني ما جاء فيها. إن تلك الدول كريمة حقًّا؛ فهي لم تأخذ منطقة طنجة بأجمعها، بل تركت للسلطان منها منارة سبارتل.
١  ليس في مادة ظهر، لا في محيط المحيط ولا في الفيروزبادي المعنى الغربي للظهير، أي الأمر السلطاني أو ما كان يُعرَف عند العثمانيين أو الإرادة السنية، ولكن لإخواننا المغاربة اختراعات غريبة في استكمال مواد اللغة.
٢  اسمه الطويل الشريف هو بالتحقيق البروتوكول النهائي «الذي أقره» المؤتمر «الذي عُقِد» لتعديل معاهدة ديسمبر سنة ١٩٢٣ المختصة بنظام منطقة طنجة. Protocole Final de la Conférence pour la Révision de la Convention du 18 Décembre, 1923, Relative à I’argan izatron du statut de la zone de Tanger.
٣  وهي مؤلَّفة من قناصل الدول La Comité de Contrôle التي اشتركت في مؤتمر الجزيرة الأمريكية لرغبتها عن الاشتراك، والدول الوسطى في الحرب العظمى، أي النمسا وألمانيا. وعددها اليوم سبعة، هم: قناصل فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والبرتغال.
٤  هم كما يلي: إسبانيا ٤، فرنسا ٤، إنكلترا ٣، إيطاليا ٣، أمريكا ١، بلجيكا ١، هولندا ١، البرتغال ١، ينتخبهم قناصلهم. أما الستة المسلمون فينتخبهم المندوب، وأما الثلاثة اليهود فتنتخبهم الجالية الإسرائيلية، أو بالحري تقدم لائحة بتسعة أسماء إلى لجنة القناصل، فتنتخب اللجنة منهم الثلاثة الأعضاء.
٥  وقد تتغيَّر هذه النسبة فينقص عدد الوطنيين في المجلس؛ لأنها معقودة بأهمية كل جالية من الجاليات، بأهميتها التجارية والاجتماعية والسياسية. فبازدياد أهمية الجاليات الأوروبية — كما هو الحال — تقل أهمية الجاليتين الإسلامية والإسرائيلية، والحكم في هذا التطور للقناصل. فلا عجب إذا أصبح المجلس في المستقبل أوروبيًّا محضًا.
٦  إحصاء السكان هو اليوم بالتقريب: مغاربة ٤٠ ألفًا، إسرائيليون ١٤ ألفًا، إسبان ١٤ ألفًا، فرنسيون ٨ آلاف، ومن الأمم الأخرى ٨ آلاف، فالمجموع نحو ٨٥ ألفًا.
٧  منطقة طنجة تُدعَى الفَحْص بفتح فتسكين — فحص: كل موضع يسكن — ومساحتها هي والمدينة نحو مائتي كيلومتر مربع، أما حدود الفحص فهي مثبتة في الفقرة الثانية من المادة السابعة من المعاهدة الفرنسية الإسبانية التي عُقِدت في سنة ١٩١٢.
٨  بلغت تجارة طنجة من الوارد والصادر سنة ١٩٢٥ مائة وثلاثة وتسعين مليونًا من الفرنكات، وفي سنة ١٩٣٧ لم تتجاوز الأربعين مليونًا، أي إنها ما بلغت ربع قيمتها في الماضي.
٩  المادة ٥٣ تقول: إن الدول المتعاقدة تعترف للحكومة الشريفية بحق الاحتفاظ بملكية المنارة في رأس سبارتل Cap Spartel.
حاشية الحواشي لهذا الفصل.
في الشهر التاسع من الحرب العظمى الثانية (١٨ حزيران (يونيو) ١٩٤٠) أعلن الجنرال فرنكو استيلاء الحكومة الإسبانية على طنجة، فانتهى فيها النظام الدولي. على أن حكومتي بريطانيا وفرنسا اشترطت على الحكومة الإسبانية، في موافقتها على الانفراد بالحكم، أن تحافظ على حياد طنجة، فلا تحصنها ولا تقوم فيها بأي عمل من الأعمال العسكرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤