الفصل الخامس

من الجزيرة إلى …

لا نزال في الباب من رحلتنا المغربية، في ذلك الباب، مضيق جبل طارق، العظيم بمدنه العربية، والإسبانية واللاجنسية — الجبلطارقية والدولية. فقد عرَّفناك باثنتين منها، وها نحن أولاء في الطريق إلى الثالثة وأخواتها؛ نسير من الصخرة غربًا، فنجتاز في السيارة، بعد بضع دقائق، الحدودَ الإنكليزية الإسبانية.

ها نحن أولاء عند لالينيا البلدة التي أسَّسَها النازحون من جبل طارق بعد احتلال الإنكليز في القرن الثامن عشر، وهناك على خمسة كيلومترات من لالينيا تتربَّع فوق هضبة خضراء البلدة الأخرى سان روكيه، حيث كان الضباط الألمان يعلِّمون متطوعي الإسبان في الحرب الأهلية. نسير حول الجون، بين البساتين والكروم، فنصل بعد خمسة كيلومترات أخرى إلى الأرض المقابلة لجبل طارق، وفيها المدينة التي تُدعَى الجزيرة.

أسماها العرب الجزيرة فأخطئوا، شأنهم في غيرها من أمثالها في الشرق والغرب؛ فهم لا يدقِّقون في هذا الوضع الجغرافي، ولا يكلِّفون أنفسهم الإحاطة بالمكان الذي يصح أن يُسمَّى جزيرة. فهل هو موضع تكتنفه المياه من الجهات الأربع، أو من جهات ثلاث، أو من جهتين، أو من جهة واحدة فقط؟ هو «موضع ينجزر عنه المد» وكفى. هو إذن جزيرة.

أما شبه الجزيرة، فهو كذلك وضع حر مطلق الحرية، لا يتقيَّد بالجهات الثلاث التي يكتنفها الماء، أو «ينجزر عنها المد». وهذا الفيروزآبادي يزيدنا من علمه تشويشًا: «الجزيرة أرض بالبصرة.» هل البصرة فيها أو هي في البصرة؟ و«جزيرة ابن عمر بلد شمالي الموصل يحيط به دجلة كالهلال.» هو شبه جزيرة إذن، لا بلد، وقد يكون فيه بلدان. «… وجزيرة الذهب موضعان بأرض مصر …» أنعم بهذا العلم الجغرافي وأكرم! «وجزيرة شكر» يصفها «شيخنا» الهوريني في الشرح، فيقول إنها شقر بالقاف، وإنما يقولها بالكاف مَن به لثغة. بورك به، وبدقيق علمه!

وقد أسمى العرب بلاد الأندلس الجزيرة الخضراء، وهي جزء من اﻟ «بنسولا» الإسبانية. فما هي اﻟ «بننسولا» بلغة قحطان؟ يقول صاحب محيط المحيط، الناقل عن الفيروزآبادي والمكمل لأغلاطه، يقول بعد أن يحدِّد الجزيرة تحديدًا صحيحًا: «وإذا أحاط «الماء» بها إلا من جهة واحدة قيل لها شبه جزيرة وبحيثجزيرة.» فمن أين جاء المعلم بطرس — رحمه الله — بهذه البحيثجزيرة؟! هل نقلها عن ياقوت أو عن غيره من أساطين علم الجغرافيا الأقدمين؟ وهل كان للعرب الفاتحين علم بها، فعملوا به؟

إن كان المعلم بطرس ناقلها أو مخترعها، فهو يستحق أن يُذكَر في صلوات الأب أنسطانس الكرملي المحترم. بحيثجزيرة! إن استطعت أن تكتبها دون أن تعود إلى صورتها في القاموس — دَعْ عنك لفظها — فإني أبارِك لك فيها. الوداع. ﺑﺤﻴ … ولكني أخشى، إن ذكرتها ثلاثًا، أن يُعَدَّ ذلك من ذنوبي الكبيرة يوم القيامة!

أعود بك إذن إلى مدينة الجزيرة، القائمة على ساحل الجون، فينجزر عنها المد من الجهة الواحدة فقط، وإن وراءها وإلى جانبها جبلًا يمتد طرفه الجنوبي في انحدار معتدل إلى البحر، إلى باب المضيق الغربي، ولها مرفأ برصيف تُشَدُّ إليه السفن الصغيرة في مرساها، وفي ذلك المرفأ جزيرة صخرية صغيرة — جزيرة كاملة — قد تكون عذر العرب في تسمية البلدة باسمها يوم دخلوها في السنة الثالثة عشرة والسبعمائة للميلاد.

بقيت الجزيرة في حوزة أولئك العرب ستمائة وثلاثين سنة، فحاصرها في أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الفونس الحادي عشر، ملك قشتالة حصارًا دام عشرين شهرًا، واشترك فيه كثير من الأوروبيين الذين حارَبوا في الشرق، في الحملة الصليبية الأخيرة، فجاءوا يثأرون من عرب المغرب، بعد أن هزمهم عرب المشرق الهزمة الأخيرة.

قيل إن عرب الأندلس استعملوا البارود لأول مرة في ذلك الحصار، ولكنه ذهب سدى؛ فقد انتصر الفونس عليهم، وبعد أن دخل المدينة دمَّرَها تدميرًا.

ثم جاء الإسبان النازحون من جبل طارق فتوطَّنوا المكان، وشرعوا يبنون مدينة جديدة، على أنقاض الجزيرة العربية. في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

هذه المدينة الحديثة كانت في حصار كجبل طارق الأخير (١٧٨٠–١٧٨٣) مركز الأسطول الإسباني، وهي اليوم مركز أسطول صيادي السمك، فهم يقلعون أو يبحرون من هذا الميناء غازين الأسماك الإسبانية في بحرها، والأفريقية كذلك، حتى الدولية عند شواطئ طنجة، ويعودون بالغنائم إلى معمل الأسماك القائم في مياه الجزيرة بالقرب من المرفأ، وهو معمل مبني كالسفينة فينقل من مكان إلى مكان، أو يهرب إذا ما طارده أسطول الصيادين الآخَرين أصحاب الأسماك الشرعيين. في ذلك المعمل تُهيَّأ الغنائم البحرية وتُعبَّأ للبيع في البلدان الدانية والقاصية الأفريقية والإسبانية.

وفي الجزيرة فوق ذلك — وفوق ذلك المعمل — سماء صافية الأديم في كل فصول السنة، وشمس محبوبة حتى في الصيف، وهي كلها — الشمس والسماء ومعمل الأسماك — تشفع بالمدينة، وبالثلاثين ألف نفس، سكانها.

أما شهرة الجزيرة الكبرى، شهرتها التاريخية الحديثة، فهي ناشئة من المؤتمر الدولي الذي عُقِد فيها سنة ١٩٠٦ ويُسمَّى باسمها، ذلك المؤتمر الذي بدأت به المؤامرات على المغرب وشعبه وسلطانه. الجزيرة — مؤتمر الجزيرة — مؤامرة الجزيرة! …

قطعنا الجسر فوق نهرها المسمى نهر العسل، هو ولا ريب من مسميات العرب؛ لأنهم أول مَن أسموا بعض الأشياء بضدها. نهر العسل! إنه يسوِّد وجه ساحة المدينة، وبُعَيْد ذلك يسود وجه البحر.

قطعنا ذلك الجسر، وبعدنا عن تلك الساحة ونهرها، فدخلنا بعد أن اجتزنا هامش المدينة الجنوبي، أرضًا عامرة بالأشجار، زاهرة زاهية فأفضت بنا الطريق إلى ساحة أخرى اصطفت إلى جوانبها السيارات.

ها هو ذا فندق الجزيرة المشهور، فندق كريستينا، الذي يؤمه المقعدون والقوامون، وخصوصًا الإنكليز منهم. يؤمه المقعدون بشتى الأمراض: الثروة، الشهرة، السيادة، الشيخوخة؛ يؤمونه في فصل الشتاء جميعًا ليستمتعوا بهواء الجزيرة الطيب، وبشمسها المدفئة المنعشة والمجددة، حسب الوهم الشائع، للقوى الجسدية والعقلية. أما الآخرون الذي يؤمون هذا النزل من كل نواحي أوروبا وفي كل فصل من فصول السنة، فهم من أبناء فنيس وكيوبيد — من أبناء الحقيقة لا الخيال.

وفي هذا النزل، في الشهر الأول من سنة ١٩٢٢، في الأسبوع الثاني من الشهر، وفي اليوم الأخير من الأسبوع — أذكر ذلك جيدًا — تناولت الغداء والكاتب الشهير المستر ولز  H. G. Wells واثنتين من عالم الحقيقة لا الخيال، فودعت أنا وداعًا له شهرة في أدب الإنكليز عالية — في صفحة من صفحات عبقريهم الأكبر، في رواية روميو وجولييت — إلا أن افتراقنا لم يكن له غد.

كنَّا قد شهدنا، أنا والمستر ولز — تأبى عليَّ العربية الاصطلاح الغربي القريب من التواضع، فلا تجيز المستر ولز وأنا — كنَّا قد شهدنا مع مراسلي صحف العالم، المؤتمر الدولي لتخفيض السلاح الذي عُقِد في واشنطن، عاصمة الولايات المتحدة في الشهر السابق. شهدنا ذلك المؤتمر، وسئمنا السياسة وأخبارها، فجاء ولز إلى الجزيرة ليجتمع بصديقة له وافته إليها من لندن، وكانت صديقتي رفيقة نصف الرحلة أي من نيويورك إلى الجزيرة.

فاجتمعنا في هذا الفندق، وكان عشاؤنا العشاء السرِّي — والأخير! — واليوم بعد سبع عشرة سنة أجلس إلى المائدة وحدي، فلا تذهب الذكرى حواشي الحياة، ولا تذهَب بشيء من تكاليفها.

ولكني وأنا أروِّح القلب في حديقة الفندق ساعة الغروب، بين جمال ممدود منظم من الأزاهير المتضوعة الأريج، فاجأني القدر بأبهج المفاجآت … جمعني بصديق من لبنان. التقينا تحت شجرة من الصنوبر، بين أغصان الورد وعرائش الياسمين. رأيته واقفًا هناك، قبل أن يراني، وقد فتح ذراعيه فتضوَّع المكان بشذى عجيب ضاعت فيه نفحات الحديقة كلها.

وإذ نسمت ريح المشرق، فتمايلت الأغصان وحَنَتِ الورود رءوسها، رآني صديقي فاهتزَّ مبتهجًا، فهتفت وأنا أسارع إليه: إنك لكريم، يا لبنان، وإنك لوفيٌّ؛ فقد جمعْتَني في الجزيرة، في حديقة الفندق الجميل، بأعز أصدقائي اللبنانيين — بالوزَّال.

ومن أزاهير الوزال العنبرية، أبعث بنفحات طيبات كئيبات، تحملها سبع عشرة من حسان الخيال إلى مَن ودَّعت في ذلك اليوم، منذ سبع عشرة سنة، إلى مَن ودعت ها هنا، في هذا المكان، في هذا النعيم الدائم للمستمتعين والمستمتعات، السخية بهم وبهن الأيام.

عساك أن تكون منهم أيها القارئ الكريم، وعساك أن تكوني منهن أيتها القارئة اللطيفة، وعسى أن يكون حظك وحظَّه، من لطف الأيام وكرمها، حظ المقربين، فيجمعكما ويحملكما إلى الجزيرة، إلى هذه الجنَّة الصغيرة؛ لتتمتعا بنعيمها، وفي قلبه وزَّال لبنان.

واذكرَا، أطال الله أيام نعيمكما، أن في جوار الجزيرة بلدة أخرى تستحق الزيارة، بلدة وراء الجبل، في الناحية الغربية الجنوبية منه، هي طريفة طريف١ شريك طارق في فتحه وخلود ذكره.
وهي على عشرين كيلومترًا من الجزيرة، طريقها يتثنَّى في الجبل، فيصعد ويهوي بين أضلعه، وبين غابات من الدلم٢ وبساتين من اللوز والزيتون إلى أن تشرف في الجانب الغربي على الأقيانوس، فتدنو من المدينة العربية الوحيدة الباقية في إسبانيا منذ عهد الاستيلاء. هي عربية ببيوتها المربعة، وأسواقها الضيقة المتعرجة، وبسورها الذي لا يزال كما كان في قديم الزمان.
وفي ذلك الزمان، في سنة ١٢٩٢، جاء الملك سنكو الرابع Sancho (شانجه) يقول للعرب: قد أطلتم الإقامة. فحمل عليهم وانتزع المدينة منهم، إلا أنه لم يدمِّرها كما دمَّر ألفونس بعده الجزيرة.

وقد حاوَلَ الفرنسيون في سنة ١٨١٢، في حروب نابليون، أن يستولوا على طريفة فأخفقوا، وما ألحقوا بها كثيرًا من الضرر، فهي لا تزال حتى يومنا، بسورها القديم، وصورتها العربية، تذكارًا حيًّا سليمًا للعرب في إسبانيا.

•••

ودَّعتُ الوزَّال لأستقبل صديقًا آخَر لبنانيًّا، من بساتين العلم والأدب في لبنان، هو ألفريد البستاني أستاذ اللغة العربية في معهد الدروس المغربية بتطوان. جاء والسنيور خوسيه أراغون رئيس المستشارية المخزنية من قبل المقيم العام لملاقاتي في الجزيرة، ومرافقتي إلى عاصمة المغرب الشمالي.

وفي اليوم التاسع من شهر مايو سنة ١٩٣٩، ركبنا الباخرة الصغيرة التي تبحر يوميًّا إلى سبتة Ceuta ومنها، فبلغنا بعد ساعة ونصف ساعة الشاطئ الأفريقي، فخفي عن الساحل الإسباني المقابل له، وما خفي شبح الصخرة الجبارة هناك.

أول ما يستوقف النظر ولا يؤنس في شاطئ أفريقيا: تلك القنن والسنام الحادة لجباله الجرداء الموحشة، ولكنها تنخفض في المكان الذي هو قبالة جبل طارق وتلين حروفها، وتنعم وتخضر منحدراتها، فيتكوَّن منها أرجوحة لمدينة سبتة، على رأس إحدى هضبتيها، الطرف الغربي، قلعة قديمة من قلاع سلطنة المغرب، هي الحبس اليوم، وفي أطراف الهضبة الشرقية بيوت موزَّعة وبساتين تتصل بالأرض القاحلة من الجبال العالية.

في هذه الأرجوحة وعلى الهضبتين تتمدد سبتة، وقد كانت جزيرة في الماضي، أي إن الهضبة الشرقية الشمالية وبها المدينة، كانت منفصلة عن البر، ولكنها قريبة منه، فَعَدَت الحد المائي في نشأتها، فوُصِلت بجسر واطئ قلَّمَا يُرَى، وأصبحت كلها شبه جزيرة يكتنفها البحر من الجهات الثلاث: الشمالية والشرقية والجنوبية.

أما المرفأ، فهو من الجهة الشمالية، في هلال من الأرض، مُدَّ من طرفيه رصيفان طويلان هما حاجزان، فصار المرفأ في حلقة غير كاملة ولكنها حصينة — حلقة ذات باب للسفن — ومن وسطها البرِّي يمتد الرصيف الثالث، وهو أقصر وأوسع من الرصيفين الآخَرين، وفيه بناية في شكل بارجة حربية لدائرة الجمرك ودوائر الميناء الأخرى.

عندما دنونا من هذا الرصيف أشار السنيور أراغون إلى الناس المجتمعين هناك، وقد جاءوا يلاقون الباخرة، وقال باللسان العربي الفصيح: هذه هي الجالية اللبنانية في تطوان، جاءت ترحِّب بكم.

فقلت وبي دهشة وإعجاب: كل هؤلاء من لبنان؟ فضحك الرفيقان، وقال السنيور أراغون مميزًا موضِّحًا، وهو يشير بيده إلى بضعة شبان انتحوا في جانب من الرصيف: الجالية اللبنانية هي هناك.

فأبصرت في وجوه أولئك الشبان وعيونهم وحركاتهم إشارات ترحيب لبناني، إشارات عنيفة لطيفة، ورأيت بينهم شابًّا يلبس الطربوش، وآخَر البرنيطة، وآخَر القبعة الإسبانية، وواحدًا مكشوف الرأس، فقلت في نفسي: هو لبنان في أزيائه المتعددة، الكاثوليكية — أي الجامعة الشاملة. ولكن مهنتهم في هذا المغرب واحدة هي التعليم، يحملون المشعل من مدارس لبنان إلى مدارس تطوان.٣

سلمنا سلامًا لبنانيًّا جبليًّا، بضمات وقبلات وواهات، يتخلَّلها السؤالات والتأهيلات.

ثم ركبنا السيارات، فطفنا في المدينة، وجلسنا في أحد مقاهيها الإفرنجية نبرِّد الأكباد — برِّد يا عطشان، قالها الصيداوي فينا — بكأس من عصير الرمان، لا من السوس.

وبعد ذلك صعدنا إلى إحدى الهضبات نشرف على المدينة، فلقينا هناك أول مغربي عربي بالبرنس والعمامة، وهو يمشي والسبحة بيده، مشية الأمراء أو المتعبدين، بخطوات الرفق والسكينة. فحييته أنا بالسلام عليكم، فردَّ التحية بأحسن منها، وحدَّثناه فما استنكف ولا أقصر، فعلمنا أنه شريف من الشرفاء العلويين، وأنه مستخدم في الحكومة المخزنية — أي الخليفية، أي العربية المغربية، وسنزيدك علمًا بها — وأنه بالتدقيق في الجندرمة أي الدرك.

هذا الشريف الدركي كان يسبِّح الله ساعةَ الغروب بسبحة وقعت من نفسي موقع الإعجاب والطمع، فمددت إليها يدي فقدَّمها لي، فقلت: أحب أن أحتفظ بها ذكرًا منكم؛ لأنكم أول مَن شاهدت في أرض المغرب من أهل المغرب. وأظن أن هذا الشعور وقع في نفسه وَقْع السبحة في نفسي، فقال: هي لكم.

أعجب السنيور آراغون أيما إعجاب بهذا الكرم وهذا التساهل، فقد علم الرجل أني مثل رفقائي نصراني، ووهبني مع ذلك السبحة التي كان ساعتئذٍ يعدِّد بها أسماء الجلالة.

وودَّعنا الشريف الدركي والدركي الشريف، والسنيور أراغون يقول مخاطبًا نفسه: كيف هذا؟ كيف هذا؟!

فقلت أخاطبه: إن للعرب في كل مكان لغة يتفاهمون بها ويتآخون. فقال وأعادها مرارًا: كرم عجيب … تساهُل عجيب!

عدت وأنا أكتب هذا الفصل إلى مذكراتي، فإذا الصفحة الأولى من الدفتر الأول ما يلي:

الشريف أحمد بن البشير يعقوب العلوي. سبتة. مخزني. متوظف في الجندرمة. صاحب السبحة.

وهذه السبحة هي الآن في لبنان، في أعز مكان من هذا البيت فيه، أمام صورة الوالد رحمه الله.

فيا أيها الشريف أحمد، إن لبنان يسلم عليك، ويا أيها العربي الكريم، إن العروبة تحييك، ويا أيها الأخ العلوي، إن للأنفس التقية المتضعة التائقة إلى العلا، مذهبًا واحدًا قوامه مكارم الأخلاق. «إنما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق» (حديث شريف).

إن سبتة، مثل طنجة فينيقية الأصل، استوطنها القرطاجيون، فاستعمرها بعدهم الرومانيون مرتين، غزاها خلالها الفنداليون المخرِّبون، ثم دخلت في أواخر القرن السابع للميلاد في حوزة الغوطيين، أو كان لملوكهم شبه سيادة فيها.

جاء في تواريخ العرب ذكر إليان أو يليان، حاكم سبتة٤ وجبال الغمارة، وهو في الأقل روماني الاسم — جوليان. فمَن ولَّى جوليان الحكم؟ وممَّن كان يتلقَّى الأوامر العالية؟

•••

يقول بعض المؤرخين إنه كان يحكم سبتة وما إليها من قِبَل ملوك الغوط، ويقول بعضهم الآخَر إن سبتة في أيام الفتح العربي، كانت آخِر معقل للرومانيين — للروم بلغة العرب — في أفريقية.

فلمَن أخلص جوليان؟ لا أظنه أخلص لأحد حتى ولا لنفسه، فقد كان على ما يبدو لي، مثل حكَّام هذا الزمان المحميين أو الحاكمين في البلدان المشمولة بالانتداب، همه الأكبر أن يظل متربِّعًا على ديوان الحكم، وما كان ذلك بالأمر اللين، وخصوصًا عندما دنا العرب من بلاده؛ فازداد موقفه حرجًا، فما كان بين نارين فقط: الغوط والروم، بل بين ثلاثة نيران: الغوط والروم والعرب، فكيف يستقيم له الأمر؟ وكيف يستقيم هو في تصريف الأمور؟

يوم وصل عقبة بن نافع إليه بالَغَ في إكرامه وردَّه بهدية٥ عن سبتة، وعندما زحف موسى بن نصير غربًا ووصل إلى أبواب سبتة، سارَعَ جوليان إليه بالهدايا والرهائن٦ فأقَرَّه موسى، واستمر في زحفه إلى المغرب الجنوبي.
وعندما قامت الفتنة في عهد آخِر ملوك الغوط، الملك وتزا  Witiza (٦٩٧–٧١٠)، فنازعه رودريق  Roderic الملك، وجلس بعد وفاته على العرش، أرسل أهل الملك المتوفى إلى جوليان يستنجدونه على رودريق، وكان طارق بن زياد حاكمًا يومئذٍ في المغرب الأقصى من قِبَل موسى بن نصير، ومزعجًا لجوليان في ولايته، فرأى هذا الروماني الفرصة سانحة للتخلُّص منه، فساعَدَه في إعداد الأسطول ليجتاز المضيق إلى إسبانيا، ويحارب رودريق … ساعَدَه ليُبعِده.
فراح طارق فاتحًا — عبر بحر الزقاق من سبتة لا من طنجة٧ — وكان منتصرًا كما تقدَّمَ.

أما سبتة، فلم يدخلها العرب في عهد جوليان، ولكنهم بعد موته استولوا عليها صلحًا، كما يقول ابن خلدون.

ثم تداوَلَها ملوك المغرب، فدخلت في حكم الأدارسة (٨٢٥م)، ثم في حكم الأمويين (٩٤٨م)، ثم استولى عليها يوسف بن تاشفين (١١١٤م)، فالموحِّدي عبد المؤمن (١١٨١م)، وقد خلف الموحدين بنو مرين، وانتزعها من بني مرين البرتغاليون.

قد اختلفت رواية المؤرخين العرب والإسبان في تاريخ هذا الاستيلاء الأخير، فقال العرب إن سبتة خرجت من أيدي ملوك المغرب يوم الأربعاء في منتصف جمادى الآخِرة سنة ٨١٨ﻫ/١٤٦٦م، وبقيت في ملكهم حتى سنة ١٠٨٠ﻫ/١٧٣٥م، فانتزعها منهم الإسبانيون.

وجاء في دائرة المعارف الإسبانية أن احتلال البرتغاليين لسبتة كان في سنة ١٤١٥، وأنها ضمت إلى الممتلكات الإسبانية سنة ١٥٨٠.

ولا خلاف في أنها خرجت من أيدي ملوك المغرب في القرن الخامس العشر، بين ربعَيْه الأول والثالث، وما استطاعوا استخلاصها لا من البرتغاليين ولا من الإسبان بعدهم. فهي لا تزال من ممتلكات إسبانيا، مدينة إسبانية مثل الجزيرة وتابعة مثلها لمقاطعة قادس.

كانت سبتة في عز الدول المغربية من أكبر المدن وأشهرها، في العمران وفي العلم والأدب، فنبغ فيها العلماء والمؤرخون، مَن اشتهروا في أيامهم، ولم يبقَ من مآثرهم غير بعض التآليف الخطية، منها: «العيون الستة في أخبار سبتة» للقاضي أبي الفضل عياض اليحصبي، و«مغازي العرب» للحافظ أبي الربيع سليمان بن سالم، و«اختصار الأخبار عمَّا كان بثغر سبتة من سني الآثار» لمحمد بن القاسم السبتي.

وفي هذه المخطوطة الأخيرة إحصاءات للمدينة مدهشة وغير مستغربة؛ فلمؤرخي العرب في الشرق والغرب شغف بالإحصاءات لا يوازيه شيء من التدقيق.

قال المؤرخ محمد بن القاسم إنه كان في سبتة يوم احتلَّهَا البرتغاليون ألفُ مسجد، ومائتان وخمسون شارعًا، واثنان وعشرون حمَّامًا عموميًّا. سبحان الله الموزِّع الخير في مدن عباده! فلو فرضنا أن عدد سكان سبتة كان خمسين ألفًا، لكان لكل خمسين نفسًا مسجد، ولكل ٢٢٧١ شخصًا حمام.

أما اليوم فقد تغيَّرَتِ النسبة في تغيُّر السكان؛ فقد زاد الله في سكان سبتة النصارى، وأنقص من عدد المعابد — الكنائس — فيها، فلا تبلغ الخمسين كنيسة، ويُربِي عدد السكان على السبعين ألفًا، ليس فيهم من غير الإسبان أكثر من اثنين أو ثلاثة في المائة.

سبحانه وتعالى المضيِّق على النصارى في كنائسهم، المعوِّض عليهم بالملاعب والمقاهي والحانات!

وسبحانه ثم سبحانه المعسِّر على المسلمين في الملاعب والحانات، الموسِّع عليهم في المساجد!

ولكن لم يبقَ لهم اليوم في سبتة غير مسجد واحد، بنته الحكومة الإسبانية حديثًا لأولئك الأقلاء الموحدين، المقيمين في ربض من أرباض المدينة، وأكثرهم معسكرون في المعسكر الإسباني … لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ!

الشريف أحمد أخونا في العلويات من أولئك المسلمين، فبعد أن ودَّعناه خرجنا من سبتة في طريق تتعرج بين الرُّبَى، وقد غُرِست جوانبها ها هنا بشجر الكينا، وفُرِشت هناك بالكروم، فوصلنا بعد قليل إلى «كستياخو» أي القصر الصغير، وفيه الجمرك الغربي الخليفي.

ولكننا لا نزال في أرض إسبانيا الأفريقية، التابعة لمدينة سبتة. فمن المدينة إلى القصر الصغير نحو خمسة كيلومترات، وبعد القصر الصغير بكيلومتر واحد يظهر إلى اليمين على رأس الرابية صرح مكتنف بالبساتين، هو المدرسة الحربية الإسبانية الداخلة في منطقة المدينة، فنعدُّ بعد ذلك الأمتار إلى الحدود، وندخل أرض المغرب العربي.

١  أبو ذرعة طريف بن مالك النخعي عبر بحر الزقاق، أي المضيق من طنجة، في السنة السابقة لغزوة طارق، فنزل ورجاله البربر في الشاطئ الإسباني المقابل لطنجة، وغزوا هذه البلدة التي سُمِّيت بعد ذلك باسمه. ومؤرخو العرب يكتبونها طريف.
٢  الدلم — واحدتها دلمة يلفظها المغاربة أدلمة — شجر من فصيلة السنديان لحاؤه لين، تُصنع منه سدادات القناني، أو هو شجر الفلين. أما اسمه «دلم» فهو من المسميات المغربية التي تستعصي على المتقصين في أصول اللغة؛ فقد جاء في مادة دلم: «وهو في شجر السلم.» ولكن وجه الشبه لا يتعدَّى اللفظ. لا صلة بين السلم والسنديان، على ما أعلم، وفوق علمي علوم!
٣  هم: موسى عبود من جاج، ونجيب ملهم من بهريه، وحسن عسيران من صيدا، وأنطون عيد البستاني من دير القمر. وكان معهم التاجر السوري في جزائر كناري جورج بهمهن من حمص.
٤  هي في الخرائط الأوروبية Ceuta، وكانت تُدعَى Septem في عهد الرومانيين.
٥  «فلقيه بطريق من الروم اسمه يليان، فأهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه» (الفتوحات الإسلامية، للسيد أحمد بن ذيني دحلون).
٦  «وكانت «سبتة» يومئذٍ منزل يليان ملك غمارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانَعَه بالهدايا، وأذعن للجزية فأقره عليها، واسترهن ابنه وأبناء قومه» (ابن خلدون).
٧  كانت سبتة في تلك الأيام ولا تزال «فرضة المجاز».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤