الفصل الأول

الخليفة الحسن

لا يزال في البلاد العربية، على الخليج الفارسي والبحر الهندي وحول عدن، إمارات مقيَّدَة بالسياسة الإنكليزية، يخضع أمراؤها بنفس طيبة، أو بعامل من عوامل القضاء — يقضي على المرء! — أو حفظًا لحقوق بيتية في الإمارة، أو من قِصَر الهمة، لمشيئة الإنكليز التي يمثِّلها المقيم أو المستشار أو الضابط السياسي.

هذه الصلة بين الإنكليز والأمير الحاكم، على أنواعها في الأمر والطاعة، أو في الإرادة والإذعان، لا يجهلها العرب مهما حرص أميرهم على كتمانها … فهم يعلمون بما فيه من ضعف ومن قوة، وبما تقوم عليه إمارته من حق مشروع، وإن كان متزعزعًا في بيته، ومن حق مصنوع مؤيد في ارتباطه بالإنكليز؛ لذلك لا يطيعون إلا منتفعين أو مكرهين، فيقل — ويكاد يضمحل — الحب والاحترام بينه وبينهم.

والأمير يدرك ذلك ويتجاهله، على أنه لا يستطيع أن يقنع آل بيته ورجال حكومته والمقرَّبين منه، بصدق جهله، أو بحياة تجاهله. إن صلته بالإنكليز لتحرمه حق الحاكم العادل، أي محبة رعيته واحترامها، هذه الحقيقة تثير في صدره من حين إلى حين كوامن الغيظ والحنق، فيكبتها، فينشأ من التفاعل بينها وبين ما يظهره شيء لا يخفى على الإنكليز، ولكنهم يتجاهلون، يتجاهلون والحرمان مشترك متبادل في حالي الجهل والتجاهل. فإن تلك العاطفة، عاطفة الحب والاحترام، التي تقل وتكاد تضمحل بين الأمير ورعيته، هي هي العاطفة نفسها، بصفتها التامة — وقل الناقصة — بينه وبين الإنكليز المسيطرين عليه.

إنها لحالة غير طبيعية، تدوم — إن دامت طويلًا — بالقوة، فإذ ذاك لا بد من الأزمات السياسية، أو المصانعة التي توجبها المصلحة، فإذ ذاك لا بد أن تظهر — وإن خلتها تخفى — فتفسد كل تدبير، وتذهب بكل احتياط، هذا في البلاد العربية.

وها هنا في هذه المنطقة من المغرب الأقصى أمير عربي، لا غبار على عروبته، وعروبة أجداده، التي نعمت في المغرب بثلاثمائة سنة من الحياة الحاكمة، بمآثرها ومعاثرها، بعد أن انتقلت بحسبها ونسبها من الحجاز. أما أن يكون الدم العربي صافيًا في هذه السلالة طوال هجرتها مما لا أعلمه، ولا أظن أن أحدًا يعلمه العلم اليقين، فيستطيع أن يجزم به.

على أن هناك أبوابًا للترجيح، أذكر بابًا واحدًا هو تسرِّي جد هذه العائلة، إسماعيل الكبير تسرِّيًا بلغ المنتهى، وأثمر ما يزيد على المائة من بنين وبنات، من النسوة البيض والشقر والسود في الحريم السلطاني الذي كان يومئذٍ مشهورًا. فهل يعقل أن يكون أبناؤه جميعًا من أرومة عربية صافية نقية؟ وهل يستنكر أو يستهجن اختلاط دم البربر مثلًا بدم العرب؟ وهل نستطيع أن نثبت الشك إن شككنا في مثل هذا الاختلاط؟ ليس عندي غير جواب واحد في هذه الحالات الثلاث، ولست أرى في التزاوج بين شعبين من الشعوب البيض أو السود أو الصفر في حالي الصحة والسلامة، غير الخير الوافر. ما ضرَّ اختلاط العرب بالفرس على قلته، بل أفاد الشعبين، ولا يضر اختلاط عرب المغرب بالبربر، وليس من شك في أنه كثر خلال ثلاثة عشر قرنًا؛ فإن اختلاط الشعبين بالتزاوج من دواعي القومية المغربية — العربية البربرية — التي تزداد قوةً ومناعةً.

إن الشكل العربي التقليدي السامي المحدَّد في علم الأثنولوجيا، أي الوجه المخروط، والعظم الفارغ فوق الخدين، والأنف الأقنى، والإهاب الأسمر، والعين السوداء، هذا الشكل يشتد كثيرًا في البلاد العربية، خصوصًا في أعالي اليمن والحجاز. فما كل العرب ساميين بحسب التحديد الأثنولوجي، ولا هم كلهم من معدن الخير والكرم الذي تصوَّرَه الشاعر حسان بن ثابت في قوله:

بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شمُّ الأنوف من الطراز الأول

فقد رأيت في اليمن الأعلى كثيرين ممَّن تصح فيهم الصفتان الأولى والثالثة فقط، ورأيت عددًا غير قليل ممَّن كرمت أحسابهم، وابيضَّتْ بشرتهم، وطالت منهم الأنوف والوجوه. فأين الشكل السامي الأثنولوجي الكامل؟ وأين الشكل العربي الشعري التام؟ إنه ليندر في الأقطار العربية جمعاء.

أما الكريمة أحسابهم، فإن أشكالهم في الحجاز ونجد تختلف عنها في اليمن أو في العراق؛ فمنها ما يدنو من الشكل الآري، ومنها ما فيه بعض السمات السامية، ومنها ما تختلط فيه الأشكال السامية والآرية والحامية معًا.

وأما الأَنَفَة والحَمِيَّة وعزة النفس التي يتصف بها «بيض الوجوه، شم الأنوف»، فهي من التقاليد المستحبة صورها في كلام الأدباء شعرًا أو نثرًا، وقلَّمَا يجدها المحقِّقون من العلماء مجتمعةً في موضعها، وإنه ليصعب عليهم أن يدركوا الأسباب في شواذها، فيدهشهم وجودها في العبد الأفطس الأنف مثلًا، كما يدهشهم عدمها في ذوي الوجوه البيض والأنوف الشمَّاء.

•••

والحسن بن المهدي بن إسماعيل بن الحسن العلوي، الخليفة الثاني في هذه المنطقة، هو من العرب الذين تشذُّ في وجوههم فقط قاعدة الشاعر حسَّان بن ثابت؛ فهو أسمر الوجه مستديره — غير الشكل السامي — ولا نتوء في العظمين المتواريين فوق خديه وراء أنف أشمَّ، وإن له من سواد حدقتيه، ورقيق بياضهما، ما للعرب على الإجمال من النور البرَّاق الذي يفيض على الوجه، فيذهب بكلوحه، ويزيد بهيبته:

«سُمْر الوجوه» كريمة أحسابهم
شُمُّ الأنوف من الطراز الأول

وليس الخليفة الحسن ممَّن ذكرت من الأمراء العرب، فهو في صلاته بالحاكم الأجنبي غير مُكرَه وغير مكروه، بل هو محبوب محترم من رعيته؛ لأن تلك الصلات لا تقصر من نفوذه، ولا تطعن في كرامته؛ فهي ناشئة من المصالح المشتركة، والعواطف المتجانسة، وقائمة بحسن النية في توخِّي المقاصد التي يستقيم بها الحكم المزدوج، وتصلح بها أمور الأمة.

هذه الصلة الطيبة بين الأمير الحاكم والدولة الحامية لبلاده يندر وجودها في البلاد العربية، وقُلِ الشرقية على الإجمال، وهي كما أشرتُ منزَّهَة عن المصانَعَة، لا إكراه فيها، ولا مجاملة، غير ما تقتضيه الأساليب السياسية في المواقف الرسمية.

يقول الخليفة الحسن، عندما تسأله عن السبب في هذا الولاء العامر بين الحكومة المخزنية والحكومة الوطنية الإسبانية: إن النُّظُم السياسية التي يقوم عليها حكم الجنرال فرنكو لا تهمه؛ فهو وشعبه يميلون إلى تفضيل ما يكون مناسبًا لمصالح البلاد، وقد وجدوا في السياسة الإسبانية الأفريقية الجديدة ما يسهل القيام بالأعمال الإصلاحية والإنشائية، ويحقِّق كثيرًا من الآمال الوطنية.

ويقول المقيم العام: لا يفسد الصلة بيننا وبين سمو الخليفة غير المصالح المتناقضة، وليس بيننا شيء منها. ليس ما يوجب الضغط والإكراه. ختم الخليفة الحسن بيده لا بيدنا، وكرامته متصلة بكرامتنا فهي مصونة معزَّزَة. هذه السياسة تغنينا عن كل عمل مستنكر أو مستهجن — ليس أحد من سياسيي هذه المنطقة في السجن أو في المنفى. لا يخاف الحرية غير المقيَّدين بها!

والخليفة الحسن يقدِّم الإسلام على العرب لأسباب عملية؛ فهو ينظر في هذا الأمر نظرة عامة تشمل المغرب الأقصى بأجمعه، فيرى في المنطقة الجنوبية الإرساليات الدينية تقوم بأعمال تبشيرية خطيرة تضر بالإسلام والمسلمين، فتحدوه الغيرة العربية الإسلامية إلى الدفاع والمقاومة، فيقول نحن مسلمون ثم مغاربة. ويعمل مع العاملين لتخفيف وطأة التبشير في الجنوب، ولمنعه بتاتًا في الشمال.

figure
الأمير المهدي بن الحسن نجل سمو الخليفة والرئيس الفخري لبيت المغرب في مصر.

وهو يعترف بسلطان المغرب ابن عمه محمد بن يوسف، فيأمر بالدعاء لجلالته في خطب الجُمَع والأعياد، كما أنه يؤيِّد الأحزاب الوطنية المجمعة على أن المغرب وطن واحد لا يتجزَّأ، وتؤيِّده في الوقت نفسه الدولة الحامية. أما أن يتم التوحيد بحماية من الحمايتين، أو بدون حماية، فذلك من الغوامض التي لا يكشف حقيقتها غير الزمان، وللزمان في مُداته ومُديداته شئون!

أما في الحاضر، فالخليفة الحسن يعمل هو والأحزاب لتخفيف المراقبة الإسبانية، وإزالتها بالتدريج من دوائر الحكم المخزني كلها؛ فقد كان في مقدمة المطالبين باستقلال وزارتي القضاء الإسلامي والأحباس، ثم أجاب طلب الأمة بتأليف مجلس أعلى يُشرِف على الأحباس، ويتعاون والوزارة المخزنية على ضبط شئونها وإدارتها.١

هذا فضلًا عن اعتنائه بالتعليم كما قدَّمْتُ، وبإدخال الأساليب الحديثة على فرعيه المدني والديني، فيكون ملائمًا لأماني المغرب في رُقِيِّه وتطوُّره، وشاملًا بخيره البوادي والحواضر جميعًا.

وليس حديث الخليفة في هذا الموضوع مقتصرًا على التجمُّل الخُلُقي، فيُثنَى عليه، بل هو حديث ذي عقيدة ويقين لا تعمُّل فيه ولا تصنُّع. فالنور في مبسمه، وإذ يتحدَّث في شئون المنطقة، يتنقل النور إلى لهجته فيضيء ما في حديثه من عزم وحماسة ونشاط.

ذكرت مبسمه — سمة البشر الطبيعي — الذي يتبارى وفهمه، ولا يتقدمه فيجري إلى جنبه أو في إثره قريبًا منه، يترافقان ويتزاوجان في مسالك السياسة والكياسة.

زار العاصمة في خلال الثورة الفرنكوية أوانس إسبانيات يخدمن في مؤسَّسَة الصليب الأحمر، فدعاهن الخليفة الحسن إلى حفلة شاي أقامها إكرامًا لهن في داره الجميلة خارج المدينة، وأتَمَّ إكرامه فأمر بالفونوغراف، ومتى قلت الفونوغراف في هذا الزمان قلت الموسيقى الأفريقية التي غزت العالم المتمدن بعد أن احتلت أميركا وعُرِفت باسمها الأفريقي «الجاز»، ومتى قلت «الجاز» قلت الرقص الفرنجي الأفريقي الذي جُنَّ به الآدميون في كل مكان.

رقَصَ المدعوون يتقدَّمهم الخليفة الشاب في قيافته المغربية، فأدهَشَ الإسبانيات بما أتقن في هذا الفن، كأنه من أبناء أشبيلية أو غرناطة.

وما خرج في سلوكه هذا عمَّا كان من سلوك أجداده الحاكمين هناك في الماضي، فاقتبسوا عن النصارى كما اقتبس النصارى عنهم، وما تقيَّدوا كل التقييد بالتقاليد والعادات الشرقية، الاجتماعية والدينية. فلو كان الرقص شائعًا في تلك الأيام شيوعه في زماننا، لكان أولئك العرب — وهم المشغوفون بما يسمونه اليوم في الحجاز اللعب، أي الرقص — من المبرزين فيه.

والخليفة الحسن يُحسِن على ما يظهر التهكُّم كما يُحسِن سياقة الحديث في مجالسه، فقد دعا أحد وزرائه ذات يوم إلى القصر ليسأله عن رأيه في أمر من الأمور، فقال الوزير: كما يرى مولاي. فقال الحسن: أريد أن أعلم ما ترى أنت. فأجاب صاحب المعالي: رأيي في الأمر رأي سموكم. فقال الحسن: أنا عالم بذلك، ولكن يُنتظَر مني أن أستشير في أمور الأمة لحيةً طويلة، وليس في «المخزن» أطول من لحيتكم!

١  أعضاء هذا المجلس، الذي تألَّفَ في فاس سنة ١٩٣٩ من الإيالات كلها، هم واحد وخمسون عضوًا، منهم عشرة أعضاء عاملون، يضم إليهم رئيس الوزراء، والباقي أعضاء شرف أو مراسِلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤