الفصل الثالث

الكولونل خوان بايبدر

قيل لي، يوم كان المغرب كعلامة الاستفهام في ذهني، إن هنالك نهضة وطنية ثقافية عمرانية سياسية يشجِّع عليها، ويساعد فيها، حاكم أجنبي يحب أهل البلاد المغاربة العرب حبًّا لا زيف فيه، ويغار على مصالحهم غيرة «عربية» أخوية، وقد قيل في ذلك الحاكم أكثر من ذلك.

فقلت في نفسي، وأنا أُسقِط كثيرًا مما سمعت لأرده إلى حد الاعتدال، وأشذب الشكوك في مقاصد رجال الاستعمار وأعمالهم ابتغاءَ الإنصاف: إن مثل هذا الرجل لَنادر عزيز بين رجال الحكم الأجنبي في البلدان العربية، وقد لا يكون أعز من بيض الأنوق — قد يكون مثالًا لطائفة قليلة، فطمعت في الاستكشاف، وما أكثر النادر العزيز!

وإن أريد التشويق بالقول الذي ذكرت فليس أبلغ في نتائجه من هذا الاتجاه الذهني. هو الخطوة الأولى في التحقيق، فإن كانت الثقة بالسياسيين الأوروبيين الاستعماريين مفقودةً، وكان هناك واحد منهم توجب سياسته إعادة النظر، وإصلاح الظن، فمن الواجب على طالب الحقيقة أن يبحث عنه، ويسعى إليه، ولو كان على مسافة ألف أو ألفين من الأميال. بل قلت في نفسي: إذا كان نصف ما سمعت من أخبار المفوض السامي الإسباني الكولونل خوان بايبدر صحيحًا، فالمسافات تقصر في زيارته إكرامًا واستعلامًا، وفي زيارة البلاد التي يتولى شئونها.

وما كنت مخطئًا في قصدي وظني؛ لقد حقَّق الخبر الخُبْر، بل تمَّتِ الأعجوبة في المغرب، بلد العجائب، فقد أثمر فيه عوسج الاستعمار تينًا، وما كانت الاجتماعات التي تلت الاجتماع الأول لتنفي أو تفسد ما تكوَّن في الذهن من رأي «وحكم» ونظر، بل كانت تكشف من نواحي شخصية الرجل ما يزيد بالعلم والاغتباط؛ فقد تيقَّنت في مقابلتي الأولى له أنه محِبٌّ للعرب عمومًا ولأهل المغرب خصوصًا، وأنه مخلص في حبه، وغيور متحمس في أعماله الإنشائية والإصلاحية.

وفي المقابلة الثانية لاحَ لي أن الكولونل بايبدر مجنون في حبه للعرب، وإخلاصه لهم، ورغبته بتجديد الثقافة العربية الإسبانية وتعزيزها في هذا المغرب الأقصى، بل يريد أن يبعث قرطبة في تطوان، فيجدِّد مجد العرب الأقدمين لخير أبنائهم الوارثين. مثل هذا الرجل في نظر الساسة المزيَّنَة صدورُهم بالأوسمة، لا يصلح للعمل الذي انتُدِبَ له، وفي نظر المتفلسفين في السياسة الواقعية القهرية — وقُلِ الدهرية — هو مصاب بداء التصوُّف والخيال؛ فيحتاج إلى الراحة والتداوي، وبكلمة أصرح هو مجنون!

وفي اجتماعنا الثالث شَعَّ نورٌ من كلمة قلتها أنا، فأضاء ذلك الجنون واخترق لبه، فتلألأ هناك شيء جميل نبيل، شيء طاهر باهر، قدسي، تجَلَّتْ فيه روح بشرية كبيرة، مفعمة بتلك الأشواق المولدة في تاريخ الأمم لكل أعمال الإنسان العظيمة، إن كان في الاكتشافات أو الفتوحات، أو في العلوم والفنون، أو في الشرائع والأديان، فإن كان هذا جنونًا، فالشكر، ثم الشكر لله.

كدت أنسى الكلمة الكشَّافة. كان الحديث في الاستعمار الأوروبي، فذكرت الإنكليز بمصر، وقلت إن اللورد كرومر قام هناك بأعمال عمرانية عظيمة، ولكن معظم الخير فيها كان للإنكليز أنفسهم.

ولنا أن نقول إن ثلاثة أرباع ذلك الخير للإنكليز، والربع الواحد للمصريين، وأنتم اليوم، يا سيدي، مثل اللورد كرومر بمصر، وهذه المنطقة من المغرب الأقصى هي اليوم مثل مصر على عهده. كل ما فيها من أسباب العمران والثقافة هو في بدايته، ومن العدل أن يكون الخير الأكبر في الاستعمار لأهل البلاد.

فقال، والتواضع شيمته: جميل منك أن تشبِّهني باللورد كرومر، ولكني على قدري أريد أن أكون أفضل منه في أعمالي للمغرب.

أريد أن يكون الخير كله، مائة في المائة، لأهل البلد، إسبانيا لا تريد أن تربح من المغرب.

قلت: أَوَلَيس في ذلك خسارة على المستعمرين؟

فقال: الخسارة كائنة.

فقلت: وهل تدوم؟

فقال: ما دمنا هنا.

إذ ذاك فهت بالكلمة التي أشرت إليها، فقلت: ليست هذه السياسة استعمارية، بل هي — لا تؤاخذني — ضون كيخوته.١

هي الكلمة التي أنارت ذلك «الجنون» فيه، فما كدت ألفظها حتى تلألأ النور في ناظريه، ووثب من كرسيه، يمد يده إلى رفٍّ وراء مكتبه، فقبَضَ على تمثال من القيشاني، يمثِّل فارسًا كئيبًا على جواد منهوك، وقد حنا رأسه على ترسه، وتأبَّطَ رمحًا مكسورًا، فوضعه أمامي قائلًا: هاك ضون كيخوته، رمز حياتي، ونور هدى في أعمالي وأحلامي.

ونُقِل الحديث إذ ذاك من السياسة إلى ميشال سرفنتس مؤلف الكتاب الخالد، الذي حمل بطله الرمح في سبيل الحق والفضيلة، والصدق والأمانة، والمحبة والرحمة، بل حمل الرمح رمح التضحية في سبيل المُثُلِ العليا. فقال الكولونل بايبدر: أراد سرفنتس أن يسخر من عادات زمانه وأخلاق أبناء زمانه، فأدرك في كتابه أعلى منازل السمو والجلال. ضحك فكانت ضحكته سماوية! تهكَّمَ فتجَلَّتْ في تهكُّمه روح الله، وما الله غير المحبة. عزمت مرة على تأليف كتاب في ضون كيخوته، فدرست وحللت، واستخرجت وقارنت، وكنت وأنا أتوغَّل في الموضوع أرى نفسي عائدًا إلى محوره، إلى لبه، وهو يحدد بكلمة وجيزة. نعم، لقد تيقَّنْتُ أن ضون كيخوته هو قلب كبير حسَّاس، ولا عقل له، لا عقل له. وعندما علمت وتيقنت ذلك رأيت كتابي كله ينحصر في هذه الكلمة الواحدة، فمزقت الصفحات التي كنت قد كتبتها، وفي هذه الكلمة تتجلى الحقيقة بكاملها، وهي أن أعمال الإنسان الخطيرة هي من القلب؛ فالقلب يولدها ويغذيها ويربيها ويلجُّ في مواصلتها وإتمامها. وها هو ذا ضون كيخوته (قالها وهو يرفع التمثال ليلفت نظري إليه) بعد وقعة من وقعاته التي انكسر فيها رمحه، وكان مدحورًا، فهل انكسرت روحه؟ كلا، ثم كلا. تراه على حصانه المرهق يحمل ذلك الرمح المكسور، ويمضي مطأطئ الرأس في سبيله، يستمر في جهاده، فهل أخفق ذلك الجهاد؟ اسأل نفسك. قلتَ لي، يا ريحاني، إنك تحمل منذ أربعين سنة الرمح الذي حمله ضون كيخوته، وأنا مثلك، حامل ذلك الرمح، إننا أخوان، وإن لنا في العالم على ما فيه من المنكرات إخوانًا … المحبة، يا ريحاني، تحل مشاكل العالم كلها، وتزيل أكثر ما فيه من المنكرات … نعم، لولا محبتي للعرب لما استطعت أن أقوم بعمل واحد فيه شيء من الخير الكبير، ولولا المحبة لما استطعت أن أحلَّ مشكلًا من المشاكل المغربية الإسبانية في هذه المنطقة … لنشرب كأسًا من الخمر.

الخمر والمحبة ذكَّرَاني بشاعرنا الصوفي الفارض وخمريته، فترجمت مطلعها: «شربنا على ذكر الحبيب مدامة.» فقال الفيلسوف بايبدر المولود حيث وُلِد ابن العربي، والمفطور على شيء من التصوف: ومَن الحبيب؟ الحبيب في قلوبنا، في أشواقنا، في آمالنا، وفي الأعمال التي تحقِّق بعض تلك الأشواق والآمال.

وبعد أيام كنَّا نتناول الغداء في دار المفوضية، بدعوة رسمية، وكان الأساتذة طوباو وأراغون والبستاني من المدعوين، فجلسنا إلى مائدةٍ تنطق بالترف والذوق، في ردهة تردِّد صدى الموشحات الأندلسية، وذكرى مشاهدها. جدرانها مصفحة بالخشب المحفور الملون بالذهب واللازورد، وسقفها مزدان بالنقوش التي تذكِّر بالحمراء، فقال الجندي بايبدر، وهو يرمق الكأس: لا شك أنك جلست مرات كثيرة إلى المآدب الرسمية وسئمتها، وأنا لا أحبها، ولكن يجب على المفوض السامي أن يكرم ضيوفه إكرامًا رسميًّا، ويشاركهم في السأم، فهل تريد أن ترافقني غدًا إلى نزهة وغداء في البرية، مع العمال؟ الحرية تدعوك والإخاء يناديك. لا تحفُّظ غدًا ولا رسميات. تعال نبعد من اﻟ «بروتوكول» The Comedy of the Protocol كما قالها باللغة الإنكليزية التي يحسنها.
ركبنا السيارة في اليوم التالي إلى القصر الصغير Castillejo في البلدة القائمة على حدود المنطقة ومدينة سبتة، فوصلنا إليها بعد نصف ساعة، وهناك في غابة من شجر الكينا، بوسطها غدير، اجتمَعَ نحو خمسمائة من العمَّال الإسبان، رجالًا ونساء؛ ليقضوا يومًا تقيمه نقاباتهم مرةً كل شهر في مكان يختارونه، وذلك عملًا باقتراح المفوض السامي، الذي وعد بأن يشارك هو وضباط الجيش وكبار موظفي الحكومة في تلك النزهات.

وهناك في ذلك اليوم، يوم الأحد، على رأس الرابية، في ظلال شجر الكينا، نُصب مذبح للصلاة، فلبس الراهب الفرنسيسكاني الذي كان حاضرًا ثوبه الكنسي وباشَرَ القداس، فحضرناه واقفين تحت الأشجار جميعًا، وصلى — ولا شك — الأكثرون.

قلت لرفيقي الدون كيخوتي: للمرة الأولى أشهد قداسًا في الفلاة، وهو — والحق يقال — أطيب منه في الكنيسة!

فقال: وما كان طويلًا.

فقلت: وهذا من دواعي الحمد.

ورحنا نطوف بالغابة حيث كان الناس مجتمعين حلقات حلقات، ولكل حلقة رقمها المعلَّق على شجرة، أما الغرض من الأرقام فستعلمه في موضعه.

ثم يمَّمنا المطبخ الارتجالي — كل شيء في ذلك اليوم كان ارتجاليًّا، من القداس إلى الموسيقى والرقص بعد الغداء. تراني أتقدَّم الحوادث.

هو ذا المطبخ، وقد أُقِيم تحت جسر في درء من الريح. ليس ما يشحذ المعدة للطعام مثل الطبخ في الفلاة، وها هنا عشرون مطبخًا؛ عشرون كانونًا شبَّتْ فيها النار، وفوق كل كانون إناء ضخم من النحاس طُبِخ فيه الطبخة الواحدة الجامعة، مثل الكنيسة الكاثوليكية، وهي أي الطبخة تُدعَى أرز لفالنسيانا أي الأرز على الطريقة البلنسيَّة. كيف أصفها، فلا تفوتك على الأقل صورتها. اطبخِ الأرزَ المعصفر كما تطبخه في سوريا، وأضِفْ إليه مسبحة الدرويش، ثم المقانق المقطعة قطعًا صغيرة، واطبخْها جميعًا على نار خفيفة — كما تقول كتب الطبَّاخين — وفلفلْها، وقَدِّمْ.

وكان الطباخون والمعاونون لهم في حركة مباركة تحت الجسر، والطبخة البلنسية تنضج بين أيديهم تحت مراقبة المدير العام. ومَن هو هذا المدير؟

قال الكولونل بايبدر: جئت بالسنيور مدنيا رئيس شركة الكهرباء، وأغنى رجل في المنطقة، وقلت له: عيَّنْتُك مدير الطبَّاخين. فدهشَ وتبرَّمَ، فأعدت الكلمة: عيَّنْتُك. فأطاع، وها هو ذا السنيور مدنيا. عرَّفَنِي به، ثم هنَّأه بعمله، وقال: أظنك تُحسِن الطبخ كما تُحسِن المراقبة.

وكان محبُّو التصوير يلحقون بنا، فيصوبون إلينا آلاتهم الطاهرة، فتهرول الفتيات ليقفن لها معنا، ومنهن مَن طمعن بالمزيد، فسألن المفوض السامي أن يخصهن بوقفة لا شرك فيها، فأجاب سؤلهن، وكان كل مرة يقول: مَن تتزوج منكن في هذه السنة أحضر عرسها، بل أكون أشبينها.

ثم قال لي: نريد أن نكثر النسل في إسبانيا، ولكن للعمل لا للحرب.

وها هو ذا أحد العمال يتلو لائحة بالأسماء والأرقام، يتناولها من صندوقين، ففهمت معنى الأرقام الأخرى المعلَّقَة على الأشجار، وعلمت أن المفوض السامي والموظفين والضباط يجلسون بالقرعة كل في حلقة من حلقات العمَّال؟ فلا تزاحُمَ ولا جدال في الاختيار، وأكثرهم ولا ريب يرغبون في مجالسة العميد، فكان ذلك الشرف لحلقة الرقم الخمسين، وكنت أنا وألفريد البستاني من أهلها.

جلسنا على الأرض، في فيء الكينا، إلى جانب الغدير، وعقدت كل حلقة في مكان من تلك الغابة؛ فكانت الأصوات لا عالية ولا خافتة، كأنها لسرب من الأطيار.

ثم جاء المنتخبون من العمَّال للخدمة، الرعيل الأول يحمل الجفنات، والثاني الكئوس، والثالث السكاكين والشوكات، والرابع المناشف والخبز، ووزَّعوها علينا. ثم دلاء النبيذ لكل حلقة دلوها، ثم الطناجر الضخمة ذات الحلقات، كل طنجرة بين اثنين، يتصاعد منها البخار الطيب الرائحة، فملئت الجفنات وأكلنا، ونحن متربعون على الأرض، مريئًا حقًّا مريئًا، وشربنا حقًّا هنيئًا.

هي ساعة من الزمن طابت فيها أنفس العمَّال كما طابت طبختهم، وتساوت فيها أقدار الرجال كما تساوت جلستهم، وكانت مشاركة رئيس الحكومة ورؤساء الجيش للعمال إكليل المحاسن كلها.

مثل هذا الاجتماع يندر عندنا في الشرق العربي، إلا إذا ذكرنا نزهات بعض أمراء العرب، وخصوصًا تلك التي يُقِيمها الملك عبد العزيز بن سعود؛ إذ يخرج ورجاله إلى الصحراء، ومعهم «العيال» فيوقف ذلك اليوم على المسرات الأهلية، الرمي وسباق الخيل، ثم الغداء على الأرض في حلقات المرح والكرم، فيجلس العبيد إلى جنب الأمراء، والملك بينهم، واحد منهم. لا رسميات، ولا قيود، إلا تلك التي يفرضها الأدب المفطور عليه العربي، وإن حان وقت الصلاة — الظهر أو العصر — يقفون جميعًا وراء الإمام، فيصلون، كما صلى العمَّال الإسبان وعميدهم وراء الراهب الفرنسيسكاني.

ولا خطابة تسلب السرور ساعته، لا هنا ولا هناك؛ فقد منع العميد الخطب، وما منع الهتاف؛ فكان العمَّال يهتفون لإسبانيا ولفرنكو ولبايبدر؛ فزجرهم إذ سمع اسمه قائلًا: اهتفوا لفرنكو، اهتفوا لإسبانيا.

بعد الغداء قام الموسيقيون يضربون على الأوتار، فدار الرقص، واستمر حتى المساء.

إن من الرقص لسحرًا، وإن منه لسخرية وفسقًا، وإن السحر في الرقص الإسباني الأندلسي العربي لناشئ من اقتران الفن بالأدب، فقلَّ مَن ينجو بقلبه منه، ولست أنا من هذا القليل، ولست ممَّنْ يغتبطون بمثل تلك النجاة، بل إني أغتبط بضدها، فيسحرني الأندلسيات في أثوابهن المديدة الكثيرة الثنايا، كما يسحرني رقص الدراويش المولويين، ويطربني دق الشُّقَيْقات كما يطربني صوت الناي. كل عمل إذا ما تناهَى في الإتقان والأناقة والذوق هو فن، وفي كل فن شيء من الروح والراح والريحان؛ فالروح ترقص في فتل الأندلسيات كما ترقص في فتل الدراويش المولويين، والسحر في الاثنين واحد.

سحرت ولا عجب سحرًا حلالًا مبهجًا، وكان السحر مقرونًا بالخيال، فنقلني وعاد بي مرارًا من الرقص تحت الأشجار بالمغرب إلى التكية في المشرق، ومن حنين الناي إلى مرح الشقيقات.

فنسيت في تلك الساعة نفسي، ونسيت أيضًا مضيفي الكريم؛ فرحت أنشده في يقظة بين السحرين، فلم أجده، فعدت إلى الحلقة المسحورة. ثم جاء سائق السيارة يقول: المفوض السامي ينتظركم. مشيت، فقال القلب: سألحق بك.

وركبنا السيارة إلى القصر الصغير، فوقفنا أمام حانة هناك، وأدخلنا من باب خاص إليها، فإذا في الغرفة الصغيرة الكولونل بايبدر والراهب الفرنسيسكاني يدخِّنان السيكار، وبينهما كأسان فارغتان، فقال العميد يخاطب المتعبد: كأسًا أخرى؟ فأجاب المتعبد برأسه أن نعم، فأمر الخمر لنا جميعًا.

figure
المقيم العام — ذو المنظار في الوسط — وعلى يمينه المؤلف، ومعهما شخصيات إسبانية مغربية.

ثم ودَّعنا رجل الله، والسيكار الأسود الضخم بيده، فسبح قلبي بحمده تعالى، ولست أعلم ما جرى لقلب بايبدر، إنما قال لي ونحن عائدون إلى تطوان: طلبات هؤلاء الرهبان كثيرة. وقد قال، وهو يذكر العمال: كانوا كلهم من الحمر — شيوعيين فوضويين — أما الآن فقد رأيت بعينيك، وسمعت بأذنيك. المحبة يا صديقي، ومع المحبة يجيء كل خير. كلمة إسبانيا الجديدة هي: العدل والخبز! ولكن العدل لا قلب له، والخبز وحده لا يغذي الروح؛ يجب أن يشعر العامل أن الحاكم أخوه، فعلًا لا فلسفةً، ولا تميِّزه عنه غير المسئولية في الحكم. عندنا إخاء كما رأيت، وعندنا أمر يطاع، لا فوضى ولا ادعاءات فارغة في الحرية والمساواة، الحرية — متى كان العدل مقرونًا بالمحبة — لا خوف عليها … كل شهر يجتمع العمَّال مرة للنزهة وأنا أشاركهم في مسراتهم؛ فيزداد سروري بهم، وهم يشعرون ولا شك بشعوري، فيُنشَر السرور في المنطقة كلها. المغرب السعيد، هو ذا المغرب السعيد.

قلت: وهل هذه الطريقة متبعة في إسبانيا اليوم؟

فقال: لست أدري، أنا هنا أعمل بما يوحيه قلبي، وقلَّمَا يخطئ القلب، وإن أخطأ أو أخفق في أمله أو عمله — إن انكسر الرمح — فلا تقهقُر ولا استسلام. إلى الأمام على الدوام. ضون كيخوته — أخوك ضون كيخوته.

– وهل العمال المغاربة يشاركون في هذه النزهات؟

– ليس ما يمنع ذلك، ولكن بعض العادات الاجتماعية تحول دون ما نرغب نحن ويرغبون هم فيه؛ فالعامل الإسباني لا يستمرئ الطعام بدون كأس من الخمر، وقد لا يتنازل عن «خنزيره»، فيدس قطعة منه في أكثر مأكله.

عندما وصلنا إلى رنكون — الزاوية — زاوية صيادي السمك، وقفنا هناك حيث كان الناس ينتظرون عودة العميد، فاستقبلونا بالهتاف لفرنكو ثم لإسبانيا ثم لبايبدر.

ومشينا مع كبير القوم وباشا البلدة إلى حقل وراء الحانوت، فتبعتنا نقابة الصيادين، فقدَّمَهم رئيسهم إلى العميد واحدًا واحدًا، ثم خطب فيهم، فذكَّرهم بما لمهنة صياد السمك من المنزلة العالية في حياة الإسبان وفي تاريخ إسبانيا: «البحار تحيط ببلادنا، وفي البحار وأخطارها سالف مجدنا.»

وبعد الخطبة تحدَّثَ رئيس النقابة بخصوص البيوت التي وعد ببنائها في ذلك المكان، وقد أمر بمباشرة العمل، فسيُبنَى لهم عشرون بيتًا من طراز البيوت التي تبنيها حكومة فرنكو للعمَّال في إسبانيا، وفي هذه المنطقة من المغرب الأقصى، وسأزيدك علمًا بها في فصل آخَر.

هتف الصيادون لبايبدر، فزجَرَهم كما زجر إخوانهم في غابة القصر الصغير: «لا تهتفوا لي. اهتفوا لفرنكو ولإسبانيا.»

ثم قال لي: أفلا تنبئك وجوههم بخبرهم؟ لقد كانوا كلهم أمس فوضويين وشيوعيين، كانوا من الحمر، وسنغيِّر لونهم بالعدل والمعروف؛ سنجعلهم من الخضر، من رجال السلم والعمل.

وما كانوا في تلك الساعة ليختلفوا عن غيرهم من الآدميين إذا ما أكرموا، فقد استوقفونا أمام مائدة تحت شجرة التوت، قرب الحانوت، صُفَّتْ عليها القناني والكئوس واﻟ «سندويتش» على أنواعها، فشربنا من خمرهم، وأكلنا من خبزهم، وودَّعناهم وهم يهتفون لفرنكو ولإسبانيا.

هو ذا بايبدر في بعض أعماله وأحاديثه، وهناك غيرها تنبئ بما لشخصيته من عديد الوجوه والسجايا، وهو خير الأدلاء فيما كان يقترح من المشاهدات، ويباغت بها.

سألني ذات يوم: هل زرت القصر الخليفي الجديد؟ تعال نَزُرْه، وإن كان قسم منه لا يزال رهن العمل.

خرجنا من دار المفوضية، فدَلَّ على ثلمة في الجدار المجاور لها، وفي الثلمة باب يُبنَى، فقال: هذا باب السر، كان في الماضي مقفلًا؛ لأن الصلة بين الخليفة والمقيم لم تكن طيبة، أما اليوم فإننا أصدقاء، وهذا الباب المفتوح بيننا يشهد على ذلك.

وقد بُنِي القصر الجديد إلى جانب القصر القديم وعلى بعض أنقاضه. فمن الباب الخارجي نمرُّ بغُرَف المخازنية ومكتب الحاجب، ثم نصعد إلى ردهة العرش الشبيهة بملعب صغير، مسرحه العرش نفسه، يدخل الخليفة إليه من باب يفضي إلى الصحن الفسيح، وفيه شاذروان من المرمر، بوسطه جنينة من الزهور.

والقصر قائم حول الصحن من جهاته الأربع، بطوابقه غير المتناسقة، وبغُرَفِه المشرفة على السطوح، وبسطوحه المتباينة، كأنها بُنِيت كلها فوق ما كان هناك أو اندمجت به؛ فغدت في مجموعها كالصحن داخل السور. أما الهندسة الداخلية فهي عربية أندلسية، وفيه الوافر المتناهي من مظاهر الترف والزخرف والأناقة، إلا الحمام، فلا أثر فيه للفن الشرقي العربي، بل هو أوروبي حديث الطراز، من الحوض الطويل إلى الجرن النسائي، الفرنسي الاختراع على ما أظن، إلى مواسير للماء البارد والماء الساخن، ممتدة في الجدران وراء صفحة من البلاط الباهر الألوان.

أمضى بنا الطواف إلى باب خارجي غير الذي دخلنا منه، أمام ساحة صغيرة مرصوفة بالحجارة المنحوتة، فبوابة يدخل السائس منها بحصان الخليفة يوم يركب من القصر في موكبه إلى الجامع.

وقد علمت إذ عدنا إلى باب السر، أن للمفوض السامي مهمة خاصة فوق مهماته العامة كلها، خلقها هذا الباب الذي يؤدي إلى قلب القصر إلى المسكن العائلي فيه؛ فهو الصديق الوفي ليس للخليفة فقط، بل للعائلة الخليفية، فتستشيره في أمورها، وتستعين به في حل مشاكلها الشخصية.

مثال ذلك ما حدث أثناء تأهُّب شقيقة الخليفة، البارعة الحُسْن والتهذيب، عندما عزمت على زيارة إسبانيا، فقد أشارت رفيقتها زوجة ضابط الارتباط الإسباني، بما لم يرقها من أسباب الزي والزينة، واختلف مَن لهم ولهن حق المشاركة في الرأي، فقالوا جميعًا: اسألوا المقيم — المقيم كما يُدعَى في القصر — نادوا المقيم. فجاء مجادته بصفة حكم في الأزياء النسائية والأذواق.

– وما رأيكم في هذه الفساتين، وهذه الجوارب، وهذه الأحذية؟! وهذه الكبكب، يا مجادة المقيم، أهي لعبة أم حذاء؟

وكانت تعني بالكبكب الحذاء ذا الكعب العالي للسهرات وللاستقبالات الرسمية في عاصمة الإسبان.

– لا بد منه يا سمو الأميرة.

– للعب؟!

– حاشاك! هذا الحذاء لهذا الفستان.

– يو! وكيف أمشي به؟

– يجب أن تلبسيه في السهرات الرسمية يا سمو الأميرة. جرِّبيه هنا في القصر، امشي في هذه الردهات، واصعدي وانزلي في هذه الأدراج، تُعَاوِنُكِ وصيفاتُك والسنيورا — زوجة ضابط الارتباط.

بايبدر قاضي الأزياء الشريفية — بطرونيوس تطوان! تذعن الأميرة لأحكامه، وتتمرن في القصر بمعاونة الوصيفات، فتتغلب على «الكعب العالي» وتتبختر به، كأنها من أربابه.

قال الكولونل بايبدر: هذا القصر للخليفة، وعندنا غيره للأهالي. هل زرت المستشفي الأهلي؟ هو للمسلمين والمسيحيين على السواء، مجانًا للجميع. وفيه ما لا تجده في مستشفيات العالم كلها، قد يبني غيرنا لرعاياهم في مستعمراتهم أو في البلدان التي هي تحت حمايتهم، أكبر وأحسن منه، ويبنون فيه كنيسة، وقد يبنون مستشفيات خاصة بأهالي البلاد فيها مكان للصلاة، ولكن في هذه المستشفى — وأنا فخور به — بنيت الكنيسة بجوار المسجد، في بناية واحدة، تحت سقف واحد، تعال نَزُرْ المستشفى الأهلي دون أن نُعلِم المدير بذلك. أريد أن أكون المفتش اليومَ، وكُنْ أنتَ معاوِنًا لي.

بايبدر يلتذُّ بالمفاجآت المبهجة حينًا. المزعجة أحيانًا — المزعجة له ولسواه.

دهش المدير لرؤيتنا، وما كانت ابتسامة الراهبة، رئيسة الممرضات، تشف عن دهشة الارتياح والسرور. على أن إدارة الشئون في المكان، وجميع مظاهر العناية فيه، خفَّفَتْ من أثر المفاجأة المزعجة التي اعترت الراهبة الرئيسة والطبيب المدير.

طفنا بالمكان من ردهة إلى أخرى، ومن غرفة خصوصية إلى غيرها، وفيها المرضى من نساء ورجال من المسيحيين والمسلمين، إلا أنهم في عزلة بعضهم عن بعض؛ فهناك دار للمسلمين تقابله دار للمسيحيين، وهذه ردهة للمسلمات إلى جانب ردهة مثلها للمسيحيات الإسبانيات وغيرهن، وهناك غرفة للتوليد وأخرى مثلها للأمهات المسلمات.

وإن للنظافة كما للعناية أثرًا محمودًا في كل مكان، ولا تمييز ولا تفضيل في المعاملة أو المعالجة.

دخلنا غرفة العمليات الجراحية المجهَّزَة بكل أدوات الجراحة والغسل والتطهير، فإذا هي بيضاء بأجمعها ناصعة البياض من بلاط أرضها إلى جدرانها، إلى الموائد والكراسي فيها، وكان هناك على مائدة العمليات ذبابتان اثنتان أشار العميد إليهما، فبادَرَ المدير إلى «المنشة» وسحقهما بضربتين اثنتين، ثم اعتذَرَ عنهما.

وهذي هي الكنيسة. قالها المقيم مفتخرًا بها، ودعت له الراهبات، ثم وقفن له في الباب فأصاح لهن، وهو يهز برأسه. يظهر أن الراهبات مثل ذلك الراهب، كثيرات الطلب.

انتقلنا من الكنيسة إلى المسجد وهو في الطابق نفسه، فكانت لهجة دليلي الفاضل مذهبة بابتسامة الرضى، ثم قال: هذا ما لا تجده في مستشفيات العالم — كنيسة ومسجد في المستشفى الواحد، وتحت السقف الواحد، جنبًا إلى جنب. تبرَّمَ أسقف الأبرشية بطنجة عندما قلت سأبني مسجدًا وكنيسة في المستشفى الأهلي. فمضيت في عملي، فقَبِل به.

والكولونل بايبدر يُحسِن فرض إرادته، فتذعن لها الإرادات، دينيةً كانت أم سياسية.

النصرانية والإسلام شقيقان، يجمعهما في هذا المستشفى — بل في هذه المنطقة — التساهل والمحبة. هذي هي سياستي، بل هذا هو مبدئي، وهذا عملي، وسوف ننشئ معهدًا لتعليم بنات المغرب علم التمريض، فإن زرت هذا المستشفى بعد بضع سنين تجد فيه — عدا الراهبات — ممرضات عربيات مغربيات إن شاء الله.٢

أشرت غير مرة إلى مفاجآت الكولونل بايبدر المزعجة، وقد تكون مبهجة، وقد تكون مبهجة ومزعجة معًا. كنت في غرفتي بالنزل، بعد طعام الغداء، جالسًا في كرسي أحاول استلاب الزمان ربع ساعة للراحة؛ إذ دخل الخادم يقول: المفوض السامي يسأل عنك. قلت: بالتليفون؟ قال: لا، بل هو في الطابق الأسفل.

نزلت وبي شيء من الغيظ، فلم أجده لا في غرفة الاستقبال، ولا في الدار، ولا في ردهة القراءة والتدخين. وأين هو؟ دخل الخادم مكتب المدير، وعاد يقول: هو هنا. وقد كان هناك وراء المكتب جالسًا على كرسي المدير، فقلت: إنكم تثبتون ما قلته فيكم. فكمَّلها ضاحكًا. مفاجآتي مزعجة. ثم قال لي إن له غرفة في النزل يستأجرها سنويًّا لتكون ملجأ له من مفاجآت الناس المزعجة!

– لا أرتاح حتى في بيتي، يجيئون حتى إلى البيت، وقد أكون تعلمت منهم المفاجآت. أتذكر وصف دانتي لما رأى في الجحيم؟ فقد أسكن هنالك جميع أعدائه، ونسي أعداء الإنسانية — الثقلاء والحمقى والكثيفي العقول. أعداء الإنسانية عمومًا، وأعداء الحكام خصوصًا. يقول الناس: هذا الحاكم ظالم، وهم يعلمون ما يقاسي هو من ظلم الناس الثقلاء والحمقى والكثيفي العقول، لقد نسيهم دانتي، وهم يستحقون أن يسكنوا في أدنى دركات الجحيم. سأعود الآن إلى مكتبي، عفا الله عن دانتي … لنشرب كأسًا من الكونياك الجيد في هذا النُّزُل قبل أن أعود.

الكولونل بايبدر يحسن انتخاب خموره، ويشرب ويشارب بمسرة صادقة، لا أذكر أني شربت في إسبانيا أفخر من نبيذه «الشريشي»٣ الذي كان يقدِّمه لنا في مكتبه بدار المفوضية.

وجاء الخادم بالزجاجة التي أثبتت ما قاله في كونياك النُّزُل، فقال وهو يرمق كأسه: يوم كنَّا نتأهَّب للثورة تعقَّبَتْني الحكومة، فاختبأت في هذا النُّزُل، في هذا المكان، وراء هذا المكتب.

•••

ضون خوان بايبدر أتيانزا D. Juan Beigbeder Atienza وُلِد في قرطنجة بمقاطعة مرسية في سنة ١٨٨٨، فتلقَّى دروسه الابتدائية والثانوية في مدارسها، ثم دخل طالبًا في الهندسة سنة ١٩٠٢، وبعد ذلك التحق بالجيش، فكان في سنة ١٩٠٧ ملازمًا في الفرع الهندسي ببرشلونة، ومن برشلونة نُقِل إلى المغرب، فاستمر هناك في الخدمة العسكرية من سنة ١٩٠٩ إلى سنة ١٩٢٣.

وقد أحرز في هذه المدة من العلم بالمغرب وأهله ما أيقظ في قلبه الحب للعرب والرغبة الملحَّة في تحسين الصلات بينهم وبين الإسبان، وتوطيدها بالأعمال المثمرة خيرًا للشعبين.

لا أشك في أنَّ هذا الحب كان كامنًا في قلبه، وقد تحدر إليه من أجدادٍ صفا عنصرهم العربي، وطابت أرومتهم. كيف لا، ومرسية هي المقاطعة التي بقي للعرب فيها، بعد أن انتزعها منهم ملك قشطيلة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، آثار وأخبار تنطق بعصبية متينة العرى، وهي المقاطعة الإسبانية التي ظَلَّ أهلها، العرب والإسبان، المدجنون واﻟ «مورسكوس»، مقيمين على التراث القومي حتى بعد الجلاء الأخير على عهد كرلوس الخامس. فآل بايبدر، ولا غرو، من سلالة عربية، وقد سبقني الأستاذ يوسف العيسى صاحب جريدة ألف باء الدمشقية، فرَدَّ الاسم إلى أصله العربي أي بدر أو ابن بدر.٤

مهما يكن الأمر فالاسم عرض وإن سلمت فيه الدلالة، والروح جوهر وإن غمض معناه. على أنه في بايبدر مشرق معرب عن مَحْتِد كريم؛ فقد تنبهت فيه، كما قدمت، خلال إقامته بالمغرب ثلاث عشرة سنة، عوامل التراث العربي وأسباب الثقافة العربية، فحدت به إلى تجديد معالمها، وتعزيزها بالأعمال المثمرة خيرًا للعرب المغاربة والإسبان، ولكن أحوالًا حالت يومئذٍ دون تحقيق شيء من أمنيته.

فقد رأت الحكومة الملكية أن تنتفع بمواهبه في سياستها الدولية، ولما يحسنه من اللغات، أي الإنكليزية والفرنسية والألمانية، فعيَّنته ملحقًا عسكريًّا لسفارتها في باريس، ثم في برلين، ففيانا، فبراغ، فبوادبست؛ فاستمر في السلك الدبلوماسي عشر سنوات.

وعندما كان الجنرال كباص نائب الأمور الوطنية في المغرب، سنة ١٩٣٤، وأراد أن يقوم بأعمال وطنية مغربية، اقتصادية وثقافية، دعا صديقه بايبدر ليكون عونًا له، فعيَّنَه مراقبًا في شفشاون، ثم في غمارة.

ولكن الحكومة الجمهورية لم تكن راضية بالخطة التي اختطَّها، ولما استولت الجبهة الشعبية على الحكم في سنة ١٩٣٦، ووجهت اهتمامها شطر المغرب، كان بايبدر من المغضوب عليهم، فأُقِيل من منصبه.

وفي ذلك الحين كان ضباط جيش المغرب، وفي مقدمتهم الجنرال فرنكو والكولونل بايبدر، قد نفروا من سياسة الجمهوريين، ونفضوا أيديهم منها، فشرعوا يعدون العدة للثورة، التي أُعلِنت في ١٨ يوليو من هذه السنة، فشبت نارها صباح ذاك اليوم في مليلية، ومساءه في تطوان.

وفي المساء نفسه دخل الكولونل بايبدر دار النيابة الوطنية والمسدس بيده، فعزَلَ موظفي الحكومة الجمهورية عن مناصبهم، وأعلن انتهاء الحكم الجمهوري في المنطقة، وابتداء الحكم باسم النهضة الوطنية. أما القائم بأعمال النيابة يومئذٍ، الكولونل بينيا، فقد كان في بيته، فخاطَبَه بايبدر تلفونيًّا يُعلِمه ما جرى، وينصحه بألَّا يجيء إلى المكتب؛ لأن أعماله قد انتهت.

وهكذا استولى على الحكومة، وفي صباح اليوم التالي تولَّى منصب نائب الأمور الوطنية، وباشَرَ الحكم باسم الجنرال فرنكو، وقد لزم فيما فعل الأصول القانونية؛ فلو كان في المنطقة يومئذٍ مفوض سامٍ لأقام نفسه مقامه، ولكن المنصب الأعلى كان شاغرًا منذ سنتين، وبقي كذلك نحو سنة بعد تسلُّم بايبدر زمام الحكم، ثم قلَّدَه الجنرال فرنكو المنصب رسميًّا في أيار (مايو) سنة ١٩٣٧، فتولَّاه سنتين وشهرين.

ودَّعْتُه في تطوان في اليوم الثاني من يوليو، وقرأت في صحف الأخبار في الشهر التالي أنه ودَّع تطوان ليلبِّي دعوة الجنرال فرنكو الذي كان يؤلِّف وزارة جديدة، فأسند إليه فيها الوزارة الخارجية.

ثم جاءني منه كتاب، ردًّا على كتاب مني، يُعلِمني بما جرى، وكانت الكارثة قد حلت بأوروبا، فذكرها بكلمة تُعرِب عمَّا حاولت أن أصف أو بالحري أن أمثل من سجاياه، قال:

إني أشعر بهول الساعة، ولكني متيقِّن أن أولي الإدارة الصالحة والمثل الأعلى يستطيعون أن يعيدوا السلام إلى العالم؛ لذلك تراني أميل إلى رجال الفِكْر مني إلى رجال العمل.

١  ضون كيخوته في نظر العامة، وأولئك الذين يصوغون الأمثال من البارز في أخلاق الرجال، وإن كان تافهًا أو عرضًا، موضوع سخرية، وقد أمسى رمزًا للأوهام والحماقة، ولكن الكتاب الخالد، على ما فيه من ضروب التهكُّم والمجون، ومن أفانين الأدب بتصوير أوهام الأبطال المجاهدين والفرسان العاشقين، وادعاءات المشغوفين بشرف الأنساب وخزعبلاتها، يحتوي على أنفس ما في كتب الأدب الخالدة من الحِكَم البليغة والمُثُل العليا. «ضون كيخوته» كتابان في كتاب واحد للسخرية والمجون، للذين يقرءون القصص ولا يتجاوز إدراكهم ما في ظاهرها، وكتاب الحكمة السامية والمُثُل العليا التي أفرغها المؤلف القصصي فكمنت في صفحاته بين السطور وطي الألفاظ. إن روح سرفنتس لتتخلل الكتاب، وهي من أشرف وأسمى ما في الإنسانية المفكِّرة التائقة إلى العلا، وقد جاء في الكتاب تحديدًا لمهمة الفارس المغوار Knight Errant على لسان البطل نفسه، ما يلي:

إن علم الفروسية المغامرة يشتمل على كل العلوم أو أكثرها، وعلى مَن يمارس هذا العلم أن يُحسِن، فيما يُحسِنه، إقامةَ العدل عقابًا وجزاءً، فلا يعطي كل امرئ ما هو حقه فقط، بل ما هو جدير به.

٢  في سنة ١٩٣٨ بلغت اعتمادات المستشفيات في المنطقة كلها نصف مليون بسيطة، أي نحوًا من خمسة وثمانين ألف ليرة سورية، وفي هذه المستشفيات ستون طبيبًا إسبانيًّا، وخمسة وأربعون ممارسًا طبيًّا لمراقبات البادية في كل الإيالات.
٣  نسبة إلى شريش كما أسمى العرب Jerez المدينة المشهورة بنبيذها الذي يُدعَى شري  Sherry.
٤  الأسماء الأعجمية عرضة للتحريف والتبديل والتعريب والتنصير، وللإسبان فعلات فيها شبيهة بفعلات العرب، إن لم تكن أقبح منها. فيقولون: موروس ومهمت وبوباديلو، أي: المغاربة ومحمد وأبو عبد الله. ونقول نحن: أدفونوس — قالها ابن بطوطة ونقلها عنه أبناء الببغاء — وشنت ياقب ومجريط، أي: ألفونس وسنتياغو ومدريد. غفر الله ذنوبنا وذنوبهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤