الفصل الأول

يوليو ٢٠١٨م

تستمر أعمدة الكهرباء في التوالي بسرعة خاطفة عبر زجاج نافذة القطار، متطابقةً كلها، متكررةً لا نهائيًّا في إيقاع يثير الملل ويعرقل استغراقه في مراقبة مشهد الحقول المنبسطة في وداعةٍ وخمول من شريط السكك الحديدية حتى تخوم البيوت الريفية البعيدة، لطالما سحرته هذه الأراضي الشاسعة التي لم تزل خضراء رغم أن كل ما حولها قد صار رماديًّا كالحًا. لم تزل سخيةً خصيبةً منذ قديم الأزل، قبل أن تكون هناك بيوت ريفية، وقبل أن تخترق القضبان الحديدية والقطارات الثقيلة صفحتها الهادئة، وقبل أن تشوه جمالها تلك الكتل الخرسانية القبيحة التي تناثرت داخلها في عشوائية وقحة كطفح جلدي لا شفاء منه. كانت تلك الأعمدة المتوالية اللعينة تفسد عليه متعة السكون في حضرة هذا الجمال، وكانت ثرثرة المسافرين وأصوات رنين هواتفهم الفجة تفسد يومه كله، وتثير أعصابه المثارة أصلًا من قبل أن يستقل القطار الفاخر الجديد من محطة قطارات العاصمة الرئيسية بميدان رمسيس قاصدًا الإسكندرية في مهمة عمل ثقيلة على قلبه. لقد أضحت كل مهام العمل ثقيلةً على قلبه منذ زمن لم يعد يتذكر متى بدأ، لكنه يتذكر دائمًا أنه قد ضاق بهذا العمل، وأنه قد مل أيامه المتطابقة المتوالية في تكرار سقيم كتلك الأعمدة الغبية على جانب شريط السكك الحديدية.

أخرج هاتفه المحمول من جيبه وفتح غطاءه الجلدي الرمادي ثم أخذ يحرك إبهامه على الشاشة بحركة آلية متنقلًا بين تطبيقات التواصل الاجتماعي المزعجة تلك. الكثير من التنبيهات كما هو المعتاد، زملاء عمل، عملاء قدامى، أقارب بعيدون، زملاء دراسة لا يكاد يتذكرهم، جميعهم يرفع الكلفة ويدس أنفه بمنتهى الأريحية في أدق تفاصيل حياته. لا يكاد يكتب خاطرةً مرت برأسه أو ينشر صورةً هنا أو هناك إلا وتنهال عليه التعليقات؛ هل اشتريت سيارةً جديدة؟ لم تقل لي إنك مسافر إلى أوروبا. لماذا يرتدي ولدك سلسلةً ذهبية؟ لا تجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. لا تترحم على هذا الرجل الذي مات بالأمس؛ ألا تعرف أنه غير مسلم؟ أتعجبك مقالة هذا الإخواني حقًّا؟ لقد صُدمتُ فيك يا رجل! هل أصبحت تؤيد العسكر الآن؟ ألا ترى إلى أين يذهب هذا الرجل بالبلاد؟ يكره اختراق خصوصيته بهذا الشكل الفج، ويكره المتطفلين ويكره المتطرفين، ولا يحب مناقشة قناعاته وتفاصيل حياته هكذا على الملأ؛ لأنه ببساطة لا يعبأ بما يعتقده الآخرون عنه. في كل مرة ينقر إصبعه على زر الإرسال في أيٍّ من تلك التطبيقات اللعينة كان يعرف جيدًا أنه سيندم على ذلك. أغلق غطاء الهاتف وأعاده إلى جيبه وعاد إلى تأمل المشهد بالخارج، لم تزل الأعمدة اللعينة تتوالى بلا انقطاع.

لم يعد قادرًا على تحمل كل ذلك الإزعاج البصري القادم من الخارج، والإزعاج السمعي الذي بلغ منتهاه بالداخل بهذين المراهقين اللذين لم يتوقفا عن المزاح المبتذل بصوت مرتفع، بينما هما يستمعان لأغانٍ مثيرة للغثيان عبر هاتفيهما المحمولين في ذات الوقت، لم يبدُ على أهلهما أي مبالاة بما يسببه ولداهما من إزعاج لبقية المسافرين الذين لم تبدُ عليهم كذلك أي علامة عن الامتعاض، وكأنما هناك اتفاق ضمني غير معلن على حق الجميع في ممارسة الإزعاج. يمكن أن يفقد الناس في هذا البلد كل حق آخر، لكنهم لن يفرطوا قط في حق ممارسة القبح بكل حرية.

نهض من كرسيه وتناول سترته المعلقة بجوار النافذة، ثم ارتداها معدلًا ربطة عنقه متوجهًا ناحية مؤخرة العربة. كان يحرص دومًا على حجز كرسي مفرد بالدرجة الأولى حتى لا يكون بجواره كرسي آخر ربما يجلس عليه من يمكن أن يضايقه، وبما أنه بات مؤخرًا يتضايق من غالبية البشر فقد أراد أن يتخلص من ذلك الاحتمال. سار ببطء حتى مؤخرة العربة متأرجحًا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد مع اهتزازات القطار السريع على القضبان، فتح باب العربة ليفاجئه الهواء الحار المشبع بدخان التبغ الكثيف والضوضاء المزعجة الناتجة عن صرير العجلات الثقيلة وارتطامها الرتيب بين فواصل القضبان الحديدية. كان ذلك الباب يفصل بين ركاب العربة الفاخرة وبين كل ذلك الأذى، لكن ماذا بوسعه أن يفعل إن كان أذى الركاب أنفسهم أشد؟ لم يكن يدخن ولم يكن يحتمل رائحة التبغ بهذه الكثافة، لكنه أراد قتل بعض الوقت والهروب من الملل والإزعاج بالداخل؛ فقرر أن يقضيَ بضع دقائق في تلك المساحة الشحيحة بين عربتين فاخرتين من قطار سريع يقطع المسافة بين المدينتين الأكبر في البلاد دون التوقف في أي محطات.

سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية التي تَكدَّس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ، حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرةً إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسَط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله؛ صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا، لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.

بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان. كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابًا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرًا عمَّا كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه. كان الرجل ذاهلًا عن الدنيا محملقًا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعًا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها؛ فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة. وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يعبث بيد في هاتفه المحمول ويدخن سيجارةً بالأخرى. أما على الجانب الأيمن المواجه للشمس فقد وقف رجل في مثل طوله مواجهًا للنافذة فلم يتبين وجهه، وإن كان قد بدا له مألوفًا لسبب لم يعرفه. أغراه الفضول بالانتظار قليلًا؛ لم يكن هناك كذلك ما يفعله بالداخل، وكانت الرحلة لم تزل في بدايتها.

انتبه الشاب الطويل إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن شاشة هاتفه، ثم نظر نحوه في فضول؛ بعدها ابتسم في ود وهو يدس الهاتف في جيب سترته ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجًا علبة سجائر أجنبية. فتح العلبة ووجهها ناحيته قائلًا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.

ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.

أردف الشاب في إصرار: يا «برنس»، إذا لم تكن مدخنًا فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارةً ولا تخجل!

أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرًا، أنا فعلًا لا أدخن.

كان الرجل الأشيب لم يزل مستغرقًا في شروده وإن انتبه أخيرًا لسيجارته فسحب منها نفسًا شديد العمق ربما ليعوض ما فاته منها، أما الرجل المواجه للنافذة على الجانب الآخر فقد استدار بغتةً وكأنما انتبه للصوت. كان قرص الشمس الآن في ظهره تاركًا وجهه في ظلمة يصعب معها التحقق من ملامحه، لكنه لم يزل يجد فيه شيئًا مألوفًا كأنما قد التقاه من قبلُ في مكان ما. كان الآخر الذي لا تظهر ملامح وجهه جيدًا قد وقف متسمرًا في مكانه محدقًا ناحيته؛ هنا بدا له كشخص يعرفه جيدًا لا كأحد من التقى بهم لقاءً عابرًا. حاول التذكر، حاول ربط هذه الهيئة والملامح غير الواضحة بأي خيط في عقله لكنه لم يفلح، اقترب الرجل منه ببطء مبتعدًا عن النافذة وعن ضوء الشمس الذي كان يحجب ملامحه فبدأ يظهر وجهه رويدًا رويدًا. كان يعرفه، يعرفه جيدًا وهو واثق من ذلك، لكنه لا يدرك من هو. فجأةً توقف الرجل الآخر الذي بدا هو الآخر بدوره مذهولًا ومتأملًا ملامحه. قال الرجل الآخر في صوت مرتجف وإن بدا له مألوفًا كذلك: غير معقول! من أنت؟

أجاب وقد كاد الفضول يقتله: نحن … نعرف بعضنا البعض بالتأكيد يا أستاذ، لكنني غير قادر على التذكر بالضبط.

قال الرجل الآخر بنبرة مرتعبة وما زال صوته مألوفًا: ياسين عمران؟

أجاب بسرعة: نعم أنا ياسين عمران بالفعل. لكن من أين تعرفني حضرتك؟ هل يمكنك أن تذكِّرني باسمك؟

ساد السكون لثوانٍ قليلة مرت عليه كدهر كامل قبل أن ينطق الرجل الآخر دون أن يقل ما في نبرة صوته من رعب: أنا ياسين عمران.

صحْراء

حرارة الصحْراء قاتلة، وهدوءُها قاتل كذلك، كثبان رمالها ساخنة وغزيرة كمحيط لا نهائي، صامتة وغامضة، لا تبوح بأسرارها ولا تكشف دخائلها، تبدو لمن لا يخبرها بحقٍّ مَيتةً منذ دهور، رغم أنها في الحقيقة تموج بالحياة وتتصارع بداخلها كائنات لا يدرك حصرها إلا خالقها. الصحراء كالمحيط، كلاهما ليس كما يبدو على الإطلاق، كلاهما عالم قائم بذاته، كلاهما صامت وغامض، وكلاهما قاتل.

في منتصف اللامكان وقفت منتصبةً شامخةً رغم ما يظهر عليها من إرهاق يفضحه ذلك الشحوب الواضح، في موضع لا يمكن وصفه إلا بأنه مكان ما وسَط الصحراء، لا تميزه علامة، ولا شيء فيه مختلف عن بقية المواضع؛ في الصحراء كل المواقع متشابهة، وكل الرمال متطابقة، لا تتميز حبة رمل عن مثيلاتها، ولا تختلف شجرة بعينها عن بقية الشجر. كانت مستقرةً في موضعها المبهم ذاك منذ سنوات طويلة، تمر عليها فصول ومواسم، تلفحها شمس قاسية لشهور طويلة، وتعصف بها ريح باردة في بعض ليالي موسم الشتاء القصير، يصيبها نزرٌ يسيرٌ من ماء السماء المبارك مرةً كل شتاءين أو ثلاثة. تتبدل عليها أقمار كثيرة، ليالٍ مضيئة حميمة وأخرى مقفرة حالكة الظلام، تتبدل الأحوال حولها وهي كما هي، لا يتبدل فيها إلا مولد القليل من الأوراق الجديدة على أغصانها بعدما ترتوي ببعض قطرات المطر الشحيح، وتساقط أوراق أخرى عندما لا تحتمل قسوة الجفاف، تظل باسقةً في ثبات بجذعها الباهت المتشقق وأغصانها المتعبة وأوراقها الشحيحة، لا يؤنس وحشتها في تلك الأرض المقفرة إلا جاراتها من الأشجار المتناثرة بغير ترتيب كيفما توافقت الظروف. وكائنات الصحراء البائسة من زواحف وقوارض وحشرات حُكم عليها — ربما بجريرة خطيئة ما ارتكبها أسلافها القدماء — بالحياة حيث يصبح إيجاد قوت اليوم حلمًا بعيد المنال، ثم تلك الطيور الهزيلة شاحبة اللون التي تتقافز بين الأغصان لاهثة. كان ذلك الطائر الصغير ذو الريش كاحل السواد، والمنقار الأصفر المنفرج دائمًا في شهور الصيف ربما من شدة العطش هو أزهى ما في المشهد كله، كان ينشر البهجة في ذلك المشهد المقفر بقفزاته بين الشجيرات وبتغريداته التي تتصاعد عندما تلتقي جماعات منه على أغصان الشجر في نهاية النهار بعد يوم حار، كان هو الكائن الوحيد ذا اللون الواضح بين عناصر كلها صفراء أو مائلة للصفرة أو بلا لون محدد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤