الفصل السابع

أغسطس ١٩٩٤م

على رصيف محطة السكك الحديدية في طنطا وضع ياسين قدمًا في تردد بعد أن قرر اختيار الطريق الأول دون أن يكون على ثقة تامة من صحة قراره ذلك، ثم وضع القدم الأخرى استجابةً لدفعة خفيفة لكنها فظة بعض الشيء من الراكب الذي وقف خلفه على باب القطار قائلًا في لكنة ريفية: هيا يا أستاذ هل ستنزل أم ماذا؟

هرول على رصيف المحطة الكبيرة ذات المبنى الكلاسيكي الوقور، والخطوط الحديدية الكثيرة والمتقاطعة في شبكة معقدة باحثًا عن المخرج، بعدما اجتاز ردهة المدخل المزدحمة بصفوف الواقفين أمام شبابيك التذاكر تلفَّت حوله ماسحًا ببصره محلات الحلويات المقابلة للمحطة على الجانب الآخر من موقف السيارات والشارع المكتظ بسيارات الأجرة، عبر الموقف والشارع بسرعة إلى أحد تلك المحلات التي تتزاحم على واجهاتها لفافات الحلوى التي تشتهر بها المدينة، اشترى لفافات مختلفةً من حلوى السمسم والسوداني والمشبك دونما تركيز، ثم سأل البائع ما إذا كان يمكنه إجراء مكالمة للإسكندرية من هاتف المحل، فأجاب الرجل بطريقة ميكانيكية بأن سعر دقيقة المحافظات عشرون قرشًا. أمسك بالهاتف وطلب رقم بيتها وظل منتظرًا لثوانٍ قليلة مرت عليه كسنين حتى جاءه صوتها، تكلم مباشرةً كأنما يطلق دفعات من الرصاص من بندقية آلية: لن أسافر يا فريدة، سأبقى هنا من أجلك، أنا قادم إليكِ الآن، فقط مسافة الطريق، ساعة ونصف أو ساعتان على الأكثر وسأكون أمام الباب.

ثم ابتسم وهو يتفحَّص ما اشتراه من الحلوى، وواصل حديثه منتقلًا إلى نبرة صوت أكثر هدوءًا ومرحًا: هل تحبين حلوى السمسم أم السوداني؟

يونيو ٢٠١٢م

خلف مكتب فخم كلاسيكي الطراز من خشب الأبنوس الداكن المُطَعَّم بزخارف دقيقة مشغولة من النحاس، جلس ياسين على كرسي من ذات الطراز ذي ظهر مكسوٍّ بالجلد البني الفاخر متصفحًا في وجوم ملف الوضع المالي لشركته التي تعمل في مجال النقل بالشاحنات، بين ميناء الإسكندرية والمصانع الكبرى بالمنطقة الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة إلى الغرب من الإسكندرية، كان قد أسس هذه الشركة مع شريكين آخرين قبل إحدى عشرة سنة، بعد أن قضى سنواته السابقة في اكتساب الخبرة العملية متنقلًا بين وظائف وشركات مختلفة. كانت تلك فكرته وكان قد درسها جيدًا واختارها من بين أربعة مشاريع، ظل يفاضل بينها لعدة أشهر معتمدًا على ما اكتسبه من خبرات وعلاقات في السوق، لكنه لم يكن يملك رأس المال اللازم لتنفيذها بمفرده. استطاع إقناع اثنين من عملائه بمشاركته، وافق الاثنان دون طول عناء لما سبق لهما من دراية بدقة دراساته وصواب تحليلاته لمتطلبات السوق. تم تأسيس الشركة وبدأت بالعمل على الفور بحسَب خطته والدراسات التي وضعها، ظل العمل مزدهرًا ومربحًا مع تزايد عدد المصانع في المدينة الجديدة وتطور طاقتها الإنتاجية. ينقل بشاحنات مستأجرة مستلزمات الإنتاج المستوردة من الخارج، من رصيف الميناء إلى المصانع المختلفة التي أُنشئت في المدينة الجديدة، ثم يعود لنقل المنتجات المعدَّة للتصدير من المصانع ذاتها إلى رصيف الميناء. مكنه ذلك الازدهار من زيادة رأس مال شركته والاستثمار في شراء المزيد من الأصول؛ فطار إلى الصين في صيف العام ٢٠١٠م، وعاد بأسطول من الشاحنات الجديدة بسعر جيد، ثم انتقل بمقر الشركة من مكتبها القديم قرب بوابة الميناء بمنطقة رأس التين، إلى شقة كبيرة فاخرة في إحدى البنايات الكلاسيكية ذات الطراز الإيطالي على كورنيش محطة الرمل، حيث تطل شرفة مكتبه على الكورنيش الأثري الممتد حتى قلعة قايتباي التي يمكنه رؤيتها وهو جالس على كرسيه ذي الظهر الجلدي، يرتشف قهوته التي يعدها بنفسه كل صباح من ماكينة فرنسية أنيقة لصنع القهوة تستقر على الطاولة المجاورة لمكتبه.

أنفق ياسين وشريكاه القسط الأكبر من أرباح الشركة التي تجمَّعت خلال السنوات السابقة على مشروع التطوير الطموح ذلك، والذي كان هو كذلك نتاج أفكاره، منتظرين طفرةً كبرى في حجم أعمالهم تبدأ الشركة في جني ثمارها مع انتصاف العام ٢٠١١م على أقصى تقدير، بدت كل المؤشرات إيجابية، فقد انخفضت تكلفة التشغيل بنسبة كبيرة بعد الاستغناء عن تأجير الشاحنات وتعويضها بالشاحنات الجديدة المملوكة للشركة، والتي كانت أفضل كذلك في معدلات استهلاك الوقود؛ مما حقق توفيرًا مضاعفًا في النفقات. كانت التوقعات للشهور القادمة عاليةً قبل أن يحدث الزلزال، قبل ذلك الحدث الذي غيَّر وجه الحياة في هذا البلد إلى الأبد، فلم يعد أي شيء هنا كما كان عليه قبل يناير ٢٠١١م.

توقف العمل تمامًا، توقفت الحياة كلها لأيام ثم لم تعد بعدها قط، تحول الكورنيش أسفل مكتبه إلى ساحة دائمة للتظاهرات أو الاعتصامات التي لم تنقطع حتى ذلك التاريخ، ولم يكن ثمة ما ينبئ بإمكانية انقطاعها في المستقبل القريب، كان هناك دائمًا سبب ما للتظاهر، إما تأييدًا لاستفتاء ما أو رفضًا له، إما دعمًا لتطبيق الشريعة أو دفاعًا عن قيم العلمانية والمواطنة، إما مطالبةً بحقوق الشهداء، أو استعجالًا لمحاسبة رموز النظام السابق، أو دعوةً لمقاطعة دولة أوروبية ما بسبب نشر رسوم كاريكاتيرية، أو طلبًا لإنهاء المرحلة الانتقالية، أو دعمًا لثورات أخرى اندلعت في بلدان مجاورة.

كان ياسين قد فقد اهتمامه بالشأن العام منذ سنوات، لم يعد يشغله سوى إدارة أعماله ورعاية أسرته الصغيرة، استمر على عزوفه حتى عن التصويت في أي مناسبة من تلك السلسلة من الاقتراعات التي لم تنقطع منذ تخلي ذلك الرجل المسن عن السلطة، فيما عدا الانتخابات الرئاسية التي كانت الحدث الوحيد الذي يفهمه ويمكنه اتخاذ قرار بشأنه. يمكنه بالطبع كرجل ناضج متعلم أن يختار الشخص الأنسب لقيادة البلاد من بين عشرة مرشحين، لكنه لن يجعل من نفسه أبدًا مجرد رقم يرجح كفة فريق ما على آخر في تلك المناورات السياسية التي تختلف مسمياتها؛ ما بين استفتاءات وانتخابات نقابية ومجلس شعب ومجلس شورى، لكنها تتفق جميعها في أهدافها بتمكين فئة ما — لا يمكنه معرفه دوافعها أو أولوياتها — من مفاصل الدولة. كان هناك دائمًا ما يجمع تلك الآلاف من البشر إلى تجمهر ما على اختلاف المسميات؛ مسيرة أو مظاهرة أو اعتصام أو حتى احتفال، ولأنه شخص متحفظ بطبعه فلم يكن في أي يوم واحدًا من تلك الآلاف، لم يمتلك يومًا الدافع الكافي للانضمام إليهم، لكن لسبب ما لا يعلمه؛ وجدت كل تلك الحشود من البشر الدافع الكافي والطاقة اللازمة للمطالبة بحل مشكلات الكون كلها الآن، ولم يجدوا مكانًا لفعل ذلك إلا أسفل شرفة مكتبه هو بالذات. صارت المشاجرات بين المعتصمين وبين سائقي سيارات الميكروباص الرافضين لقطع طريق الكورنيش جزءًا ثابتًا من روتين الحياة اليومية، حاول مناقشة بعض المتجمهرين في أكثر من مناسبة، حاول أن يوضح لهم أنهم يعطلون أعماله ويغلقون أبواب الرزق أمام موظفيه دون أن تكون له أو لأي من موظفيه علاقة بأولئك الذين يهتفون ضدهم، لكنه في كل مرة كان يصطدم بحائط صلب من الغوغائية. اقتنع بعد عدة محاولات بأنه ليس بإمكانه إقناع حشود غاضبة بإعمال المنطق؛ يتغير شيء ما في سلوك البشر حينما يكونون ضمن حشد متحمس أو غاضب، تبرز فيهم حينئذ ثقافة القطيع ويصعب التفاهم مع أي منهم بشكل فردي. أيقن تمامًا بعدم جدوى الحوار حينما نعته أحد أولئك الغاضبين بالفطرة بأنه من «المواطنين الشرفاء»، وكان للمفارقة ينطق تلك العبارة بتهكم واضح وكأنما يصفه بصفة مهينة؛ ألجمته المفاجأة للحظات فلم يدرك أي الصفتين هنا مقصود بها الإهانة، أهي صفة «الشرفاء»؟ ربما صار الناس يعتبرون ذلك إهانةً لسبب ما لا يدركه، أم أن صفة «المواطنين» هي المهينة؟ نعم، لعل كون المرء مواطنًا في هذا البلد هو سبة بالفعل.

صارت رحلات شاحناته من الميناء إلى برج العرب عبر محور التعمير أو الطريق الصحراوي ضربًا من المغامرة التي تتطلَّب مرافقة حراس مسلحين لكل شاحنة، والتي ربما تنتهي بمطاردة ومعركة بالأسلحة النارية قد تودي بحياة أحدهم، أو على أقل تقدير تذهب بالشاحنة وما تحمله من بضائع إلى خانة الخسائر، أو خانة الهالك كما يسجلها في برنامجه المحاسبي الدقيق على الكمبيوتر. كانت الفوضى هي القاعدة، الشرطة غائبة عن المشهد بشكل كلي، قوات الجيش تظهر من آنٍ لآخر هنا وهناك، لكنها تترك مواقع التأمين وتنتقل بسرعة لمواجهة الغاضبين أمام مقر جهاز أمن الدولة تارة، وأمام قيادة المنطقة الشمالية العسكرية تارةً أخرى.

توقف الكثير من المصانع التي يتعامل معها عن الإنتاج، بعضها بشكل مؤقت لصعوبة الدعم اللوجيستي وتوقف الإمدادات وتردي الوضع الأمني، والبعض الآخر بشكل نهائي لتصفية مُلَّاكه من المستثمرين الأجانب لأعمالهم في مصر بالكامل وخروجهم من السوق، انخفض حجم الواردات والصادرات التي يتم التعامل عليها في الميناء. لم يكن المستقبل القريب مبشرًا بالخير، فحتى لو انتهت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بسلام وانتهت معها رسميًّا تلك المرحلة الانتقالية فلا يمكنه توقع الاستقرار، لقد أوصل الناخبون هذه البلاد إلى طريق مسدود بعد أن قرروا التصويت في صناديق الاقتراع بدوافع انتقامية. ألقت بنا الديمقراطية أمام خيارين يقوم كل منهما على فكرة إفناء الآخر؛ فإذا فاز المرشح العسكري السابق؛ فلن يتركه الإسلاميون ليهنأ بيوم واحد من الهدوء؛ خوفًا من أن يعيدهم إلى المعتقلات بعد أن كانوا على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلم التمكين الذي يعملون لأجله منذ ثمانين عامًا، وإذا فاز المرشح الإسلامي فلن يتركه كذلك لا الثوريون ولا القوى التقليدية في هذه الدولة شديدة العمق؛ خوفًا من أن يتخلص منهم واحدًا تلو الآخر كما فعل نظراؤه في إيران من قبل، كما أن رفاقه في الجماعة سيتحكمون في مصير البلاد ويوجهونها نحو نموذج الدولة الدينية الذي يسعون إليه، وسيجلب ذلك علينا حتمًا ويلاتٍ لا يعلم عواقبها إلا الله.

كانت أعماله تندفع بسرعة جنونية نحو الانهيار، لم تفلح في توقع ذلك السيناريو كل دراسات الجدوى، وكل حسابات الفرص والمخاطر التي درسها بجدية وأنفق عليها الكثير من الوقت والجهد والمال، ومن كان يمكنه توقع سقوط تلك الدولة العتيدة المعقدة بهذا الشكل المفاجئ؟ موظفوه الآن جالسون في بيوتهم، يتقاضون رواتبهم الشهرية دون القيام بأي عمل، شاحناته الجديدة التي أنفق عليها كل ما ربح من مال مصطفة بجوار بعضها البعض في مخزن بعيد عن العمران على الطريق الدائري، تحت حراسة مشددة من بلطجية مسلحين استأجرهم لحمايتها من احتمال سرقتها من قبل بلطجية مسلحين آخرين، رغم أنه لا يملك أي ثقة في أن من استأجرهم لحراستها لن يستولوا عليها لأنفسهم، إنهم في النهاية مجرمون على أي حال، ولكن أي خيار كان قد بقي لديه غير ذلك؟ فبدلًا من أن تكون تلك الشاحنات الآن على الطريق تعمل وتدر عليه المال ليغطيَ ما أنفقه على شرائها، إذا به يضع رأس ماله وأصول شركته تحت تصرف مجرمين يحملون السلاح.

يونيو ٢٠١٣م

في غرفة نومها بالشقة ذات الغرف الثلاث بالطابق العاشر من بناية جديدة مطلة على شارع رئيسي من شوارع منطقة سموحة المكتظة بصفوف متراصة من السيارات التي لم تجد لها مكانًا للمبيت في الجراجات التي تتكدس فيها السيارات أسفل البنايات الكبيرة كما تتكدس أسماك السردين في العلب المعدِنية، استلقت فريدة في فراشها تعاني الأرق والقلق. انتصف الليل في الإسكندرية وقد نام الجميع أو تظاهر بالنوم، نامت المدينة التي لا تنام، سكنت مقاهي الكورنيش الصاخبة، أغلقت المحلات والشوارع والنوادي أبوابها، أقفرت الميادين التاريخية العتيقة وغاب باعتها الجائلون، وسكتت تماثيلها الباقية من عصور الازدهار والجمال، يطل محمد علي باشا من فوق تمثاله البرونزي البديع على المنشية؛ ميدانه الأثير الذي أراد به أن يجعل الإسكندرية مدينةً عصريةً يباهي بها كبريات الحواضر الأوروبية. ينظر أفندينا بأسًى للميدان، وقد ذبلت وروده واصفرت خضرته وطالته يد الإهمال والقذارة، المباني التاريخية البديعة على جوانب الميدان بدت كشيوخ طاعنين في السن محنية ظهورهم وقد شققت وجوههم التجاعيد. تراكم التراب على هذه الجواهر المعمارية ولم تنظفها يد منذ عقود؛ أسقفية الكاثوليك، معبد اليهود، محكمة الحقانية، شارع فرنسا، كتاب كامل من التاريخ يمثله كل ركن هنا وكل حجر، قاتل الله من نهش لحم التاريخ بهذه البشاعة، ماذا فعلتم بالميدان؟ ماذا فعلتم بمدينة الرب؟

كانت تترقب نهارًا لا يعلم إلا الله ما سيأتي به، كانت الأيام مخيفةً بحق، وكان الترقب ينهك أعصابها المنهكة بالفعل، يؤرقها الوضع المتأزم في المدينة من حولها، تتوقع الجدال اليومي المعتاد مع أبنائها، سيرغبون في لقاء رفاقهم في النادي، بينما ستخاف هي عليهم من الخروج إلى الشارع في تلك الأيام المقلقة. كبِر الأولاد وضجروا من الاحتجاز الطويل في المنزل، يريدون الانطلاق والتمتع بإجازتهم الصيفية التي تبعت عامًا دراسيًّا مرتبكًا وعامرًا بالتوقفات غير المتوقعة؛ تارةً بسبب عدم توفر الوقود لحافلات المدرسة نتيجة أزمة الوقود التي لم تزل تضرب البلاد، وتارةً لإغلاق الشرطة محيط منطقة المدارس الدولية الواقعة وسَط منطقة فقيرة على أطراف المدينة؛ نتيجة مشاجرة ضخمة بالأسلحة النارية بين مجموعات من سكان المنطقة استمرت ليومين وأسفرت عن سقوط قتلى، وتارةً ثالثةً بسبب التظاهرات التي عمَّت أرجاء المدن احتجاجًا على قرارات رئيس الجمهورية وعلى ممارسات جماعته. تعرض الأبناء لجرعة مكثفة من الضغوط للعام الثالث على التوالي؛ مما أشعل ثورتهم ضد قرارها باحتجازهم في البيت مع بداية الإجازة، فقد كانت أثناء شهور الدراسة ترسلهم إلى المدرسة في كل صباح مضطرة، لو كان الأمر بيدها لاستبقتهم في البيت بدلًا من أن ينهش قلبها القلق في كل يوم حتى يعودوا إليها. كان النادي على بعد خطوات قليلة من بيتهم، مسيرة عشر دقائق يجتازون فيها ميدان فيكتور عمانويل فيصبح سور النادي أمامهم، لكن الشارع ليس آمنًا. قبل يومين خرجت معهم مساءً إلى سوق الكمبيوتر المجاور لشراء بعض المستلزمات ففاجأتْهم تلك المجموعات المسلحة بالهراوات والجنازير الحديدية التي خرجت لتثير الرعب في الشوارع، كإجراء استباقي تكرر عدة مرات لتخويف حشود الثائرين التي تستهدف اجتياح مقر جماعتهم الدينية الحاكمة الواقع خلف محطة القطار على بعد أمتار قليلة، في ظرف ثوانٍ كانت كل المحلات الصغيرة المتجاورة في سوق الكمبيوتر قد أغلقت بواباتها الحديدية خوفًا من النهب ومن تحطيم واجهاتها الزجاجية. لم يستطع أحد تحديد الاتجاه الذي ستأتي منه تلك المجموعات التي وصلهم فقط ضجيج هتافاتها الدينية المعروفة، مختلطًا بصخب ضرب الجنازير على أسطح معدِنية بعيدة. عمَّت الفوضى، واختلطت صرخات النساء المذعورات بصياح الرجال الخائفين على مصدر رزقهم، فرَّ كل من كان يسير في تلك الشوارع الضيقة هاربًا على غير هدًى، لم يكن بوسعها بعد أن أُحيط بها في هذه المصيدة إلا احتضان أبنائها والركض بهم إلى داخل أقرب محل قبل أن يُنزل بوابته الحديدية بلحظات، أغلق الشاب النحيل الذي يعمل في ذلك المحل الضيق بوابته واستند بإحدى قدميه على طرفها الأسفل ليثبتها بثقل جسده إلى الأرض، وهو يلهث ويطلق سبابًا فاحشًا دون أن ينتبه — أو ربما دون أن يبالي — لوجود سيدات وفتيات داخل المحل، أطفأ الأنوار وبدأ يلعن المظاهرات والثورة والإخوان والأيام التي صار فيها لا يبيع ولا يشتري، ولا يجمع من المال ما يكفي حتى لدفع فاتورة الكهرباء التي تنقطع أكثر مما تعمل، اقترب صخب الحشود وعلا صوت ارتطام الجنازير والهراوات بالبوابات المعدِنية المغلقة، ارتعب الجميع وندت عن إحدى الفتيات المحتجزات بداخل المحل المظلم صرخة مكتومة إثر ارتجاج البوابة الحديدية تحت ضربة عنيفة، مما بدا أنها هراوة خشبية ثقيلة. تمسك الشاب بموقعه خوفًا من انزلاق البوابة إلى الأعلى حتى اطمأن إلى ابتعاد الصخب، وحتى سمع بأذنه صرير ارتفاع بوابات المحال المجاورة، فرفع قدمه وانحنى ليفتح البوابة؛ كان الشارع بالخارج غارقًا في ظلام دامس إلا من أضواء بيضاء خافتة لمصابيح متناثرة هنا وهناك، من النوع الذي يعمل بالبطاريات، لم يكن أحد في الشارع بحاجة إلى تفسير؛ فقد كان جليًّا أن الكهرباء قد انقطعت كعادتها المتكررة في الشهور الأخيرة في الانقطاع عدة مرات في كل يوم.

خرجت بأبنائها من المحل وقد بدأت في الارتفاع ضوضاء مولدات الكهرباء الصغيرة التي انتشر استخدامها مؤخرًا في المحلات التجارية والكثير من المنازل، امتزجت في الهواء الصيفي الحار روائح عادم الوقود المحترق في المولدات بروائح الخوف والترقب للأيام الحاسمة القادمة، وصلوا إلى بنايتهم بعد مسيرة دقائق في الشوارع المعتمة، ثم جلسوا هناك على السلالم الرخامية للمدخل في انتظار عودة الكهرباء لكي يأخذهم المصعد إلى الطابق العاشر. انتظروا لما يقارب الساعتين متنقلين بأبصارهم في ضجر بين أضواء السيارات العابرة في الشارع المظلم، وبين تلك البوابة الحديدية السوداء القبيحة التي تشبه بوابة زنزانة، والتي اضطُروا بالاشتراك مع سكان البناية إلى تركيبها أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة التي كانت تميز المدخل الفاخر لبنايتهم، فعلوا ذلك عندما فعله كل سكان البنايات المجاورة أيام الانفلات الأمني واللجان الشعبية، قبل أكثر من عامين خوفًا من هجوم البلطجية، الذين لم تكن لتردعهم تلك الواجهة الزجاجية عن اقتحام البناية.

في الصباح بدأ الجدال المتوقع بالأمس بينها وبين الولد الكبير الذي يصر على الذهاب للقاء أصدقائه في النادي، قالت له بحسم: لا يمكنك النزول الآن، ألم تكن معنا بالأمس في سوق الكمبيوتر؟ ألم تشاهد كيف ظَلِلنا محتجزين في ذلك، المحل وكيف كانوا يضربون بوابات المحلات بالجنازير؟ يمكن لهؤلاء المجرمين أن يظهروا في أي وقت.

أجابها المراهق بنفاد صبر: لكنني لن أذهب إلى سوق الكمبيوتر يا أمي، ولن أقترب من مقرهم أو أذهب في اتجاهه. تعرفين أن النادي على مبعدة خطوات، سأركض إلى هناك وسأحادثك من الهاتف المحمول بمجرد دخولي من بوابة النادي.

هزت رأسها يمينًا ويسارًا في إصرار وقالت: إذا لم تنقطع الكهرباء أثناء نزولك بالمصعد فتنحبس فيه لساعتين كما حدث في الأسبوع الماضي، فيمكن أن يقابلك هؤلاء المسلحون في الطريق، وحتى إذا استطعت الوصول إلى النادي فكيف ستعود؟ من الذي يضمن لي كيف ستكون حالة الشارع في المساء؟ ألا تذكر ما حدث في الأسبوع الماضي كذلك؟

أجاب الولد وهو يتقافز من الغيظ والضجر: ما الذي حدث يا أمي؟! رأينا المظاهرة في الشارع من داخل بوابات النادي، فعدت أنا وأصحابي للعب تنس الطاولة لبعض الوقت حتى انتهت، وقد اتصلت بك من هناك وأخبرتك بذلك، بعدها أتى والد عمر واصطحبنا في سيارته وأوصلني حتى مدخل البيت، لن يحدث شيء يا أمي أرجوك، لقد مللت من الجلوس في المنزل، إننا في الإجازة الصيفية يا أمي، هل سنقضي الإجازة في المنزل؟! ألا يكفي أننا لم نذهب إلى الساحل الشمالي هذا الصيف كما نفعل في كل عام؟!

ردت عليه في تصميم: أنت تعرف جيدًا أن طريق الساحل الشمالي غير آمن، الكثيرون تعرضوا للسطو المسلح على الطريق، ثم إن تلك لم تكن مجرد مظاهرة، لقد رأيتهم من الشرفة عندما عبروا أمام بنايتنا، لقد كان هؤلاء الرجال الملتحون مسلحين، كانوا يلبسون خوذات متطابقة فوق رءوسهم ويطلقون قنابل الدخان تلك في كل الاتجاهات. هذه ليست مزحة أو نزهة يا بني، لقد عدت لي يومها بعينين ملتهبتين وظَلِلت تسعل لثلاثة أيام نتيجة ما استنشقته من دخان، لقد كسروا الكثير من السيارات عند نفق كليوباترا عندما اشتبكوا مع الشرطة ومع أولئك الشباب المتظاهرين، رأيت ذلك في التليفزيون وعلى فيسبوك.

صممتْ على موقفها بمنع الولد الكبير وأخته من النزول، بعد جدال طويل انتهى بدخول كل منهما إلى غرفته غاضبًا، كانت في داخلها حزينةً من أجلهم، وكانت تتمنى لو استطاعت السماح لهم بالخروج والانطلاق لتعويض ضغوط تلك السنة المرهقة، لكنها كأمٍّ لم تكن لتغامر بذلك مهما كانت احتمالات الخطر قليلة، عليها أن تحميهم حتى ولو لم يعجبهم ذلك، كان ذلك يؤرقها كثيرًا، كما كانت تؤرقها بشكل أكبر علاقتها بياسين التي فترت كثيرًا في الشهور الأخيرة، اعتادت طبعه بمرور الزمن، تعايشت مع جفائه غير المقصود، تعرف أنه يحبها وتعرف أنه رقيق القلب برغم أنه لا يُظهر لها ذلك، لكنها تريده أن يُظهره، إن طباعهما مختلفة؛ هي رومانسية وهو عملي، هي حالمة وهو واقعي، تقدِّر ما يتحمله من ضغوط، وتتفهم ما يشغل باله طَوال الوقت، خاصةً بعد أن خسَّرته الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد الجزء الأكبر من أعماله ومشروعاته التي ظل يبنيها منذ تزوجا قبل سبعة عشر عامًا، لكنها تريد أن تسعد بكلمة غزل أو لفتة يُشعرها فيها باشتياقه. يعتبر الرجال الزواج نهاية الحب، بينما تعتبره النساء بدايته، يظن الرجل أنه قد حصل على مراده بالزواج، ويعتقد أنه أدَّى ما عليه بعقد القران الرسمي، وأنه قد آن له أن يقضيَ بقية عمره مستقرًّا وادعًا متفرغًا لاستكمال مشواره العملي في دنيا قاسية لا وقت فيها لرفاهية الرومانسية، بينما تنتظر المرأة من الزواج الدفء والحنان، تتوقع صباحات الشغف وليالي العشق، أغنيات الغزل وباقات الزهور، أمسيات الشموع والهمسات الدافئة. ربما يرجع أصل كل المشكلات الزوجية إلى اختلاف التوقعات، ربما يرجع إلى أن الرجال والنساء لا ينظرون إلى مؤسسة الزواج من الزاوية نفسها.

•••

قامت من السرير فلم يكن بإمكانها النوم على أي حال، وكان ياسين لم يزل في القاهرة لاستكمال إجراءات تصفية شركته، أخرجت ألبوم صورها من علبته الكبيرة وأخذت تتصفح صور زفافها وتستعيد ذكريات أيام زواجها الأولى، كان سقف توقعاتها عاليًا في تلك الأيام، كانت فتاةً مثاليةً بمقاييس المجتمع، حافظت على نفسها طَوال السنوات، ادَّخرت جمالها وحفظت أنوثتها لزوج المستقبل حتى قبل أن تعرفه، انتظرت أن يعوِّضها، انتظرته فارسًا ذا حصان أبيض، أميرًا وسيمًا وفنانًا شاعريًّا، انتظرت فيه كل ما طاف بخيالها وزار أحلام مراهقتها، وكل ما ثرثرت حوله مع صديقاتها في حصص المدرسة الفارغة، أو في المحادثات الهاتفية الطويلة، فعلت ما كان عليها فعله، التزمت بأوامر ونواهِ الأهل والمجتمع بحذافيرها، لم تقصِّر ولم تتهاون ولم تبدُ منها أي هفوة، كانت تلميذةً مجتهدةً ومراهقةً مهذبة، توقفت عن ارتداء الفساتين القصيرة التي تحبها وبدأت تختار ملابسها بتحفظ حين بدا أن «خرَّاط البنات قد خرطها» على حد تعبير عجائز العائلة، كانت شاهدةً على مغامرات زميلاتها الغرامية، لكنها لم تتورط أبدًا في نصف مغامرة، حاول معها العديد من الشباب ولم تضعف لنصف لحظة. ألم يكن من العدل أن تنال حينذاك مكافأة ذلك الالتزام؟! أليس هذا هو زوجها «وحلالها» الذي انتظرته ثلاثةً وعشرين شتاءً؟ فليكن هو إذن فارسها، وليأتِ بحصان أبيض، لا تدري من أين يمكنه أن يأتيَ به، لكن لا بد له هو أن يدري، أليس هو الرجل؟ فليأتِ إذن بالحصان الأبيض، وليكن أوسم من كيفن كوستنر، وأرق من كاظم الساهر، وأكثر رجولةً من رشدي أباظة، فلن يرضيها أقل من ذلك.

كان ياسين هادئًا متَّزنًا، متحفظًا في إظهار مشاعره، لم تكن تميِّز في أيامهما الأولى بين غضبه وشروده، أو بين سروره واشتهائه، كان غامضًا كمخطوطة عتيقة تحتاج للكثير من الوقت والجهد حتى تنفك طلاسمها، ولم تزل هي تفك تلك الطلاسم حتى اليوم. انقضت أعوام طويلة وهي تفعل، ولم تزل تشعر بأنها لم تفهمه تمامًا بعد، هؤلاء الرجال غامضون وغريبو الأطوار، يبدون لها كأطفال، بُلهاء تسوقهم غرائزهم البدائية بعض الأحيان، وكآلات عملاقة لا تكلُّ ولا يصعب عليها شيء أحيانًا أخرى، لا تعرف إن كان ذلك حال كل الرجال، أم أنه حال رجلها هي فقط، لا خبرة لها بالرجال على أي حال، فقط كانت تتشكل لديها قناعات غير مكتملة مما تلتقطه من فضفضة الصديقات والقريبات، أو مما يتناثر على صفحات الجرائد وتطبيقات التواصل الاجتماعي من ثرثرة، لكنها خرجت من ذلك كله باستنتاج واحد قاطع؛ لا يأتي الرجال بأحصنة بيضاء، وليس ثمة من هو في رقة كاظم الساهر، بل إن كاظم الساهر نفسه ليس بهذه الرقة على أرض الواقع!

•••

كانت قد قررت منذ سنوات طويلة ترك العمل والبقاء في المنزل لرعاية أطفالها وبيتها، بعدما عملت في مكتب أستاذتها الجامعية لسنوات أربع، ثم انتقلت إلى مكتب استشاري أكبر عملت فيه لسنتين، لم تستطع بعدها التوفيق بين العمل المرهق في مجال العمارة، الذي يتطلب ساعات عمل طويلةً، ومواعيد غير ثابتة، ويسبب ضغوطًا نفسيةً وعصبيةً كبيرةً، وبين متطلبات تربية أبنائها الذين يحتاجون لرعايتها ولوقتها واهتمامها الكامل. كان ذلك على الأقل هو السبب المعلن لاستقالتها من عملها، هذا هو التبرير الذي ساقته لقرارها ذلك أمام مديرها الذي حزن كثيرًا لخسارة كفاءتها وما اكتسبته من خبرات، وأمام ياسين الذي رحَّب بالقرار بتحفظ مؤكِّدًا على مساندته لها في أي قرار تجد فيه سعادتها، لكن السبب الحقيقي الذي لم تعلن عنه لأحد قط هو أنها انسحبت من معركة حياتها اعترافًا بالهزيمة، كانت قد وصلت أخيرًا للقناعة بأن طموحها المهني قد اصطدم بالسقف المتاح في هذه المدينة، كانت تعلم أنه لا يمكنها التقدم لما هو أبعد مما هي عليه الآن. هذه المدينة ضيقة جدًّا كما قال لها ياسين منذ سنوات في لقاء تذكره جيدًا، كان ياسين قد سبقها إلى اكتشاف تلك الحقيقة، لكنها كانت تصر على تجاهلها، أو ربما كانت تصر على اكتشاف الحقيقة بنفسها؛ لذلك لم تسمح لها عزة نفسها بالاعتراف له وقتذاك بأنه كان على حق، وأنها كانت فتاةً ساذجةً يعميها الطموح والشغف بالمهنة التي ارتضتها عن إدراك قبح الواقع، كانت ناجحةً في عملها إلى حد كبير، وكانت قادرةً على التوفيق إلى درجة لا بأس بها بين عملها من جهة، وبين بيتها وأبنائها من جهة أخرى، وبين رعايتها لوالديها كذلك من جهة ثالثة، لكن كل فرص الترقي والتقدم في المشوار المهني كانت تقتضي الخروج من هذه المدينة التي ظلت على الدوام محدودة الفرص رغم ضخامة امتدادها الجغرافي واكتظاظها بالسكان. هذا البلد مركزي إلى درجة شديدة الفجاجة، كل الفرص هناك في العاصمة، كل فروع المكاتب العالمية الكبيرة هناك في القاهرة الكبرى، ليست الإسكندرية إلا مجرد إقليم مهمل كأي إقليم مهمل آخر في شمال البلاد أو جنوبها، فكل الأقاليم في هذا البلد سواء. نجح الكثيرون من زملاء وزميلات دراستها الذين انتقلوا إلى القاهرة، أو الذين سافروا إلى أمريكا وكندا، أو إلى دبي والدوحة، والتحقوا بالعمل في المكاتب العالمية الكبرى، بل ولمع نجم بعضهم حتى صاروا من مشاهير المهنة الذين تُفرد المجلات المتخصصة مساحات وصفحات لمناقشة أعمالهم والتعريف بهم. عرفت في النهاية وبالطريقة الصعبة أنها لن تحقق أي جديد في مهنتها إذا استمرت على ذلك الوضع، عرفت أنها لو بقيت هكذا لعشرين سنةً فلن تتقدم أية خطوة إضافية، لتترك سوق العمل وهي لم تزل مطلوبة، بدلًا من أن تُضطر إلى تركه عندما تصبح عبئًا على أصحاب العمل مع تقدمها في السن وارتفاع راتبها دون تقدم مهني حقيقي، لقد عاصرت خلال سنوات عملها أكثر من زميل وزميلة ممن تقدموا في السن، يُضطرون إلى الاستقالة أمام تفضيل أصحاب العمل للبدلاء الأصغر سنًّا والأقل راتبًا، فلتنسحب الآن إذن مرفوعة الرأس، لتترجل عن الفرس وهي منتصرة، لعل تلك التضحية تُحسَب لها وتوضع في رصيدها، إن لم يكن أمام ياسين فأمام نفسها على الأقل.

أكتوبر ٢٠١٣م

على الأريكة العريضة ذات الوسائد التي ترهَّلت حشواتها بفعل الزمن بغرفة المعيشة في بيت أبيه القديم في بولكلي، جلس ياسين يتناول إفطاره كعادته عندما يكون مسافرًا، كان ذلك الصباح هو الأخير له في الإسكندرية، لم تزل مدينة الرب تطل على الدنيا متألقةً باهيةً رغم تكاثر الغبار على ثوبها الأبيض العتيق، تفتح المدينة القديمة عينيها بتعب السنوات الرديئة، وتلقي السلام على البحر القديم الذي ألقى إليها يومًا بفارسها الأول القادم من الشاطئ الآخر، ترتشف المدينة قهوة الصباح مترقبةً يومًا ثقيلًا ثِقَل هواء الخريف الرطب، تدهورت حالتها كثيرًا عن أيام عصرها الذهبي، يوم أن كانت قبلة المهاجرين الهاربين من جحيم حروب أوروبا التي لا تنتهي، لم يبقَ من الإيطاليين واليونانيين والقبارصة والفرنسيين الذين اكتظت بهم شوارعها ومقاهيها لعشرات السنين إلا أسماء مبهمة لمحطات ترام وشوارع ضيقة لا يتذكر أحد أصل تسميتها. يغيب كل يوم مبنًى بديع ذو تصميم إيطالي أو إنجليزي بما يحمله من تاريخ وحكايات وذكريات، لتنشق الأرض بعد سويعات عن مسخ خرساني قبيح يحتل مكانه، يخترق قلب السماء ويحجب شمس النهار عن الشوارع الضيقة العتيقة بظله الرمادي الكئيب، وواجهته السوقية الرخيصة، يزحف القبح على وجه هذه المدينة كوحش أسطوري غاشم، يلتهم الجمال والتاريخ ويتقيَّأ مسوخًا بدائيةً قميئةً تكاد تسد شرايين الحياة، وتمنع مدينة الرب من التنفس بعد ثلاثة وعشرين قرنًا وهبت فيهن النور للدنيا.

سيبدأ اليوم فصلًا جديدًا من حياته بعد الانفصال عن فريدة، وبعد أن قرر العودة للعمل موظفًا والبدء من الصفر مرةً جديدةً في مدينة جديدة، القاهرة التي لم يحبها يومًا ولم يحتمل زحامها وضجيجها وجوَّها المغبر على الدوام، شركة كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في مجال النقل البحري سعت إلى توظيفه مديرًا لعملياتها في مصر للاستفادة من خبرته الطويلة وعلاقاته المتشعبة بالسوق المصري. سيعيش وحيدًا من جديد، للمرة الأولى منذ الفترة التي قضاها وحيدًا في بيت أبيه قبل الزواج، فضَّل أن يبقى الأولاد مع أمهم في شقة سموحة، وأن يستقر هو بعيدًا في القاهرة، وأن يأتيَ لزيارتهم كلما سنحت له فرصة، اجتهد كثيرًا ليتقبل فكرة العودة إلى العمل موظفًا ينتظر راتبه في نهاية كل شهر، بعد أن كان شريكًا في ملكية شركة ناجحة، لكن ذلك كان الخيار الوحيد المتاح أمامه، بعد أن قام هو وشركاؤه بتصفية الشركة التي ظلت تخسر لعدة شهور كانوا يدفعون فيها الرواتب الشهرية لموظفيهم، الذين لم يكن لهم ذنب في خسارة الشركة وعلى أمل انصلاح الأحوال، لكن الأحوال لم تنصلح؛ فاضطُروا لبيع أصول الشركة لتغطية ما تراكم عليها من ديون، وخرج كلٌّ منهم بمبلغ زهيد هو كل ما تبقى من حلمهم ومن سنوات شقائهم ونحتهم في الصخر. خرج من تلك الأزمة التي تواكبت مع أزمة الطلاق ليجد أن عليه أن يبدأ من جديد في حياته الشخصية والعملية على حد سواء، ولكن بمعطيات جديدة هذه المرة؛ إنه يواجه العالم هذه المرة وحيدًا. يعود إلى المنافسة في سوق العمل بعد أن ابتعد عنها لسنوات سبقه فيها الكثير من نظرائه، بينما كان هو منشغلًا بإدارة شركته، استغرقه تقبل الوضع الجديد بعض الوقت حتى قرر أنه ليس بإمكانه إلا أن يتفاءل، أدرك أخيرًا أن التفاؤل هو خياره الوحيد، لا يمكن أن يترك نفسه فريسةً للاكتئاب، لا يمكنه أن يستسلم الآن، ما زال داخل اللعبة ولم يخسر بعد، أنت تخسر فقط عندما تقرر الانسحاب. أراح ظهره على الأريكة الخشبية القديمة، وحاول تصفية ذهنه استعدادًا لبدء ذلك الفصل الجديد من عمره، أغمض عينيه وبحث طويلًا في ثنايا عقله عمَّا يمكنه أن يصفيَ ذهنه ويعالج روحه فوجد نفسه ينشد:
أُحبُّكَ حُبَّينِ حُبَّ الهَوَى
وَحُبًّا لِأنَّكَ أَهلٌ لِذَاك
وأَشتَاقُ شَوقَينِ شَوقَ النَّوَى
وَشَوقًا لِقُربِ الخُطَى مِن حِمَاك
فَأَمَّا الذِي هُوَ شَوقُ النَّوَى
فَمَسرى الدُّمُوعِ لِطُولِ نَوَاك
وَأَمَّا اشتِيَاقِي لِقُربِ الحِمَى
فَنَارُ حَيَاةٍ خَبَت فِي ضِيَاك
وَلَستُ عَلَى الشَّجوِ أَشكُو الهَوَى
رَضِيتُ بِمَا شِئتَ لِي فِي هُدَاك
شعر رابعة العدوية (٧١٣–٨٠١م)

يناير ٢٠١٥م

أمام طاولة طويلة في قاعة الاجتماعات الرئيسية بمكتب الشركة العالمية التي يعمل بها، جلس يتأمل وجوه الحاضرين وهو شارد الذهن لا يكاد يتبين شيئًا مما يتجادلون حوله، عشرة أشخاص ما بين رجال ونساء في أزياء رسمية جادة يلتفُّون حول طاولة خشبية فاخرة، يبرز أمام كل من الكراسي الجلدية المتراصة حولها مقبس للكهرباء، ومخرج لتوصيل الأجهزة المختلفة بالشاشة الكبيرة عالية الدقة المعلقة في صدر القاعة، بينما يحتضن الجميع عبر الواجهة الزجاجية التي تحتل كامل المساحة خلفهم مشهد النيل وجسوره المتعددة، ومن ورائه البنايات العالية المطلة عليه، والكتلة العمرانية اللانهائية للقاهرة الكبرى تمتد إلى حدود الأفق. تأمل وجوه الحاضرين العشرة وحركاتهم وانفعالاتهم وردود أفعالهم، ثم فكَّر كم أن حياته وحياتهم جميعًا تشبه فيلمًا سينمائيًّا كبيرًا، يمثل كل باب منزل فيه عامل الكلاكيت الذي يعلن بدء المشهد التمثيلي لكل يوم، يستيقظ الجميع على صوت المنبه ليبدأ كل منهم في تمثيل دوره الذي حفظه وأتقنه من جرَّاء التكرار اليومي، يُهرَع الجميع من أسرَّتهم ليلحقوا بمشاهدهم، يقوم كل ممثل إلى الحمام ليجهز نفسه، يغسل وجهه ويفرِّش أسنانه ويزيل رائحة النوم من فمه، ثم يرتدي زي الشخصية التي يمثلها؛ إما البدلة ورباط العنق، أو الزي العسكري، أو زي مضيفة الطيران، أو طاقم التدريب الذي يحمل شعار النادي، كلٌّ على حسب دوره في الفيلم. ثم يأتي دور المكياج، اللمسات النهائية التي يضعها الممثلون على هيئتهم في غرف الملابس؛ من تصفيف للشعر، ورش للعطر، ورسم للعيون، وطلاء للأظافر، وتهذيب للحية، وضبط للحجاب أو النقاب. ثم الإكسسوارات الضرورية لكل شخصية؛ كالساعة والنظارة وأقراط الأذن. لا بد من مراعاة كل تلك التفاصيل الصغيرة بعناية قبل الظهور أمام الجمهور، ثم يفتح كل منهم باب منزله فيعلن عامل الكلاكيت بداية مشهد جديد من الفيلم. يبدأ الجميع بالتمثيل، يتسابقون في إظهار مواهبهم في تقمص الدور، يقضي كل منهم يومه منهمكًا في التظاهر؛ إما التظاهر بالعمل، أو بالتعاطف، أو بالاهتمام، أو بالكفاءة، أو بالإنسانية. يحب معظم الناس أدوار الملائكة والقديسين والأبطال، قليلون هم من يرتضون بأدوار البشر البسطاء العاديين. يروق لياسين من حين لآخر مراقبة تلك المسابقة التمثيلية اليومية التي يشارك هو ذاته فيها مرغمًا في معظم الأحيان، أو راغبًا في أحيان أخرى، يجاهد ليخفيَ ابتسامةً عندما يتابع أحد تلك المشاهد التمثيلية وهو يدور على مقربة منه. في العمل أو في السوبرماركت أو في إشارة المرور، ممثل يبذل قصارى جهده ليبدوَ مقنعًا في دور الحكيم المتفهم أمام ممثلة لا تبدو متمكنةً كثيرًا من أدواتها حين تؤدي دور المضطهدة، ممثل تفضحه نظراته الجائعة حين يؤدي دور الزاهد العابد. فريق تمثيل متدرب جيدًا على أداء أدوار المريدين المنبهرين بعبقرية ممثل أعلى منهم منصبًا يؤدي دور العلَّامة الخبير باحترافية شديدة تجعلك تكاد تقف مصفقًا، ليس فقط لقدرته ولكن لجرأته على ادعاء ما ليس فيه. الجميع يمثلون، ويعلم الجميع أنهم يمثلون، ويدرك الجميع أن الآخرين كذلك يمثلون، لكن ثمة اتفاق غير معلن بين الجميع على التواطئ المتبادل. يتقمص كل منهم شخصيته طالما بقي مرتديًا القناع الذي يمثلها، بعض الممثلين بارعون لدرجة النجاح في تقمص أكثر من شخصية، والتبديل بين أكثر من قناع، والغالبية الباقية محدودو الموهبة، يؤدي كل منهم دوره اليومي بالكاد، ثم ينزوي مبتعدًا عن موقع التصوير ليعود لشخصيته الحقيقية؛ فيتحول الموظف الروتيني البغيض الذي يتلذذ بتعذيبك بين دهاليز مصلحة حكومية ما، إلى رجل متعب يتابع مباراةً محليةً في كرة القدم، مستلقيًا في ضجر بجانب طبق نصف ممتلئ بحبات الجوافة على أريكة غير مريحة في غرفة جلوس ذات حوائط بنفسجية اللون. وتنقلب موظفة الاستقبال الودودة ذات الابتسامة الدائمة في وجوه الجميع إلى ربة منزل تختبر درجة حفظ طفليها لدروس الدراسات الاجتماعية واللغة العربية مرتديةً إسدال الصلاة، وهي تشارك في تعليقات النميمة مع قريباتها على فيسبوك، بينما تلوِّح أمام وجهَي الصغيرين بالملعقة الخشبية الكبيرة التي باتت تستخدمها كعصًا أكثر مما تقلِّب بها الطعام.

لقد سئم هذا الفيلم الذي لا ينتهي، ملَّ من تمثيل الدور ذاته كل يوم منذ أن يفتح باب بيته — لحظة الكلاكيت — حتى يعود في المساء منهكًا من التظاهر والتمثيل، أكثر منه منهكًا من العمل ذاته. لكن الجميع يمثلون، فهل يخرج هو وحده عن ذلك الإجماع؟ هل يواجه هؤلاء الجالسين أمامه حول طاولة الاجتماعات بأنهم بائسون ومفتعلون وكاذبون؟ أغلب الظن أنهم يعلمون تلك الحقيقة جيدًا، لكنهم متعايشون معها طالما بقيت غير معلنة؛ أنت في مأمن طالما بقيت ضمن القطيع، أنت في مأمن من نظرات الاستهجان ومن أصابع الاتهام ومن مشانق المنافقين، أنت تملك صك النجاة طالما أبقيت فمك مغلقًا، وعقلك كذلك، طالما بقيت تضحك على ما يُضحك أفراد القطيع، وتستنكر ما يستنكرون، تأكل ما يعجبهم، وترتدي ما يروق لهم، وتنام على الجانب الذي يريحهم، تتبع خياراتهم، وتخضع لأحكامهم، وتصدق خرافاتهم، وتطوف حول أصنامهم، لا تعني شيئًا درجة اقتناعك بما هم مقتنعون به، لا جدوى من سؤالك عمَّن فرض عليهم فروضهم، وعمَّن سنَّ لهم عاداتهم. إذا رأى القطيع أن هذا نابغة فهو نابغة، وإذا وصموا تلك بأنها عاهرة فهي كذلك، أما مجادلتك إياهم بخصوص المعايير التي يضعون بها أي شخص في أي خانة فلا محل لها؛ لن تستطيع أن تدرك مثلًا لماذا اعتبروا من تتاجر بجسدها عاهرة، ومن يتاجر بأرواح الآخرين زعيمًا. فلتصمت إذن ولتتبع القطيع، لتترك موسيقاك وأحلامك وقصائدك وليلتك المقمرة الساحرة، ولْتذهب إلى فراشك مبكرًا لتستيقظ مبكرًا، فبمجرد أن يدق عامل الكلاكيت، لا بد للمشهد من أن يبدأ، ولا بد لك من أن تؤديَ دورك؛ فلا يمكن أن يتوقف الفيلم من أجل ممثل صغير لا يلتزم بالمواعيد التي فرضتها الأغلبية.

صحراء

استمرت تلك الهياكل الرمادية الميتة في النمو، كان غريبًا أن تنموَ وهي ميتة، لكنها كانت تنمو بسرعة حتى التهمت المكان كله وصارت تحجب نور الشمس أغلب النهار، وتحجب القمر والنجوم طَوال الليل، لم تكن تتواصل مع من حولها، لم تكن ودودةً كالشجر الذي اقتُلع، ولا كالزواحف التي هربت. كانت الشجرة تشعر بالانفصال عن ذلك العالم الذي لم يعد كما تعرفه، ولم يتبقَّ لها فيه أنيس أو صديق، كانت تشعر للمرة الأولى بأنها شاذة في المكان؛ فلا شيء هنا يشبهها، لا تفهم ما يدور حولها ولا تألف تلك الكائنات الدخيلة ولا الزوار الجدد. حتى رمال الصحراء لم يتبقَّ منها الكثير بعد أن تقيأ أحد تلك الوحوش حجارةً سوداء صغيرةً وكثيرةً جدًّا، راسمًا بها خطوطًا عريضةً ممتدةً إلى الأفق، ثم جاء بعض البشر بحجارة أخرى ملساء ومتطابقة، وقاموا برصِّها بترتيب محكم بجوار بعضها البعض؛ فصارت تشكل أرضًا أخرى، سوداء ناعمة لامعة، شكلها يشبه حجارة الجبال، لكنها ليست بجبال، وأي جبال تلك التي لها هذا الملمس الناعم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤