الفصل الثاني

(١) في مُنْتَصَفِ اللَّيْل

حَزِنَ الأمِيرُ لِفِراقِ زَوْجِهِ، فَخَطَرَ لَهُ أنْ يُسافِرَ إلَى مَمْلَكَةِ «مادا». وَثَمَّةَ غَيَّرَ مِنْ ثيابِ الإِمارَةِ، وارْتدَى ثَوْبًا شَعْبِيًّا، وَسافَرَ بِقيثارَتِهِ. وَقَضَى أَيَّامًا كَثِيرَةً، يَفْتَرِشُ في نَوْمِهِ الأرْضَ، وَيَلْتَحِفُ السَّماءَ، (أعنِي: يَجْعَلُ الأَرْضَ فِراشًا لِنَوْمِهِ، والسَّماءَ لِحافًا لَهُ)، حَتَّى وَصَلَ إلَى قَصْرِ الأميرَةِ في مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ. فعَزَفَ — على قِيثارِهِ — طائِفَةً مِنَ الأناشيدِ العَذْبَةِ الَّتي كانَتْ تَطْرَبُ لَها، فاسْتَيْقَظَ مَنْ في القَصْرِ مِنْ نَوْمِهِمْ. وَقَدْ خُيِّلَ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ — في أَحْلامِهِمْ — مُوسِيقَى سماوِيَّةً فاتِنَةً.

(٢) غَضَبُ الأَميرةِ

واسْتَيْقَظَتِ الأميرَةُ — عَلَى عَزْفِ المُوسِيقَى — وَجَلَسَتْ مُعْتَدِلةً عَلَى وِسادَتِها. وَعَرَفَتْ أنَّ الأَميرَ «كُوسا» قَدْ حَضَرَ إلى بِلادِها لِيُرْغِمَها على العَوْدَةِ مَعَهُ. وَتَمثَّلَتْ لَها دَمامَةُ خَلْقِهِ (قَباحَةُ شَكْلِهِ)، فاشْتَدَّ سُخْطُها علَيْهِ، إذْ عَرَفَتْ أنَّ أباها سَيَضْطَرُّها إلى الرُّجُوعِ مَعَهُ.

figure

عَلَى أنَّ «كُوسا» لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إلى ما حَسِبَتْهُ الأَمِيرَةُ، بَلْ كانَ يُرِيدُ أنْ تَعُودَ مَعَهُ بِمَحْضِ إرادَتِها. وَلِهٰذا كَتَمَ أمْرَهُ، وَجاءَ إلى بَلَدِها سرًّا. وَلَمْ يَشَأْ أنْ يُعْلِمَ بِذٰلكَ أحَدًا غَيْرَها، وَآثَر (اخْتَارَ وفَضَّل) أنْ يُرْسِلَ إِلَيْها تَذْكارًا لا يَعْرِفُهُ سِواها.

(٣) في دُكانِ الْخَزَّافِ

فَذَهَبَ في الصَّباحِ الْباكِرِ إلى خَزَّافِ الْمَدِينَةِ (بائِعِ الفَخَّارِ) فَقالَ لَهُ: «لَقَدْ أتْقَنْتُ صِناعَةَ الْخَزَفِ الْمَلَكِيِّ، فَهَلْ تَعِدُنِي — إذا أَعْجَبَكَ فَنِّي وَمَهارَتِي وَدِقَّةُ صَنْعَتِي — أنْ تَرْفَعَ ما أَصْنَعُهُ إِلى السُّدَّةِ (الْعَتَبَةِ) الْمَلَكِيَّةِ؟»

فقالَ لَهُ الْخَزَّافُ: «إِذا كانَتْ صِناعَتُكَ تَسْتَحِقُّ هٰذا الشَّرَفَ، فَلَنْ أتأَخَّرَ عَنْ تَحْقِيقِ مَأْرَبِكَ.»

وَجلَسَ الأَميرُ إِلى عَجَلةِ الخَزَّافِ وأدارها، وَسَوَّى عَلَيْها أقْداحًا تَأَنَّقَ في صُنْعِها (عَمِلَها بالإِتْقانِ). وَقَدْ عجِبَ الخَزَّافُ مِنْ بَرَاعَةِ «كُوسا»، وَقالَ لَهُ: «ما أَجْدَرَني أَنْ أَرْفَعَ هٰذِهِ الأَقْداحَ المُلُوكِيَّةَ الفاخِرَةَ إِلى سُدَّةِ مَليكِنا المُعَظَّمِ، فَهُوَ معْرُوفٌ بِتَشْجِيعِ النَّابِغِينَ.»

(٤) ابْتِهاجُ المَلِكِ

ثُمَّ حَمَلَ الخَزَّافُ بَعْضَ هٰذِه الأُقْداحِ إِلى القَصْرِ المَلَكِيِّ. فَأُعجِبَ بها المَلِكُ، وَسَأَلَ الخَزَّافَ عَنْ صانِعِها. فَلمَّا أخْبَرَهُ بهِ قالَ: «أَعْطِ الصَّانِعَ الشَّابَّ هٰذِهِ الأَلْفَ مِنَ الدَّنانِيرِ مُكافأةً عَلى حِذْقِهِ وَبَراعَتِهِ. واحْمِلْ هٰذِهِ الأَقْداحَ الثَّمانِيَةَ هَدِيَّةً إِلى بَناتِيَ الثَّمانِي.»

(٥) قَسْوَةُ الأَميرَةِ

فَلَمَّا أهداها إِلَيْهِنَّ، ابْتَهَجْنَ جَمِيعًا بها، ما عَدا الأَميرةَ الْقاسِيَةَ «بَبْهافاتي»، فَقَدْ أَدْرَكَتْ أَنَّ القَدَحَ مِنْ صُنْعِ زَوْجِها، حِينَ فَحَصَتْ عَنْهُ، فاشْمأزَّتْ (نَفَرَتْ كارِهَةً)، وَرَجَعَتِ الْقَدَحَ إِلى الْخَزَّافَ، وَقالَتْ لهُ في سُخْرِيَةٍ لاذِعَةٍ: «اِرْجِعْ هٰذا الْقَدَحَ السَّمِيجَ، واقْذِفْ بِهِ في وَجْهِ صانِعِهِ السَّخِيفِ، وَأَبْلِغْهُ أنَّنِي لَنْ أَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ صُنْعِ يَدِهِ.»

(٦) وَداعُ الخَزَّافِ

وَلا تَسَلْ عَنْ حُزِنِ الأَمِيرِ حِينَ أبْلَغَهُ الخَزَّافُ ما قالَتْهُ الأَمِيرَةُ «بَبْهافاتي». فَقَدِ امْتَلأَ قَلْبُهُ أَلَمًا وغَمًّا، وَقالَ فِي نَفْسِه: «وا أَسَفاهُ! إنَّها لا تَزالُ تَحْقِرُني لدَمامَةِ وَجْهِي، وَقُبْحِ صُورَتي!

ولٰكِنَّنِي لَنْ أَيْأَسَ، فَلَعَلَّها — إذا رَأَتْنِي أَمامَها — تُغَيِّرُ مِنْ رَأْيِها، ويَظْهَرُ لها أَنَّها أَسْرَفَتْ (جاوَزَتِ الْحَدَّ) في الْقَسْوَةِ، فَتَنْدَمَ على ما فَعَلَتْ.»

وثَمَّةَ اعْتَزَم الْخِدْمَةَ في قَصْرِ أَبيها، بَعْدَ أَنْ مَنَحَ الخَزَّافَ الدَّنانِيرَ الَّتي كافَأهُ بها الْمَلِكُ، وَوَدَّعَهُ.

(٧) في مَطْبَخِ القَصْرِ

وَرَأَى — مِنْ أَماراتِ التَّوْفِيقِ وحُسْنِ الْحَظِّ — أَنّ َرئيسَ الطُّهاةِ في القَصْرِ، كانَ يَبْحَثُ — فِي ذٰلكَ الْيَوْمِ — عَنْ صَبيٍّ يُعاوِنُهُ في عَملِهِ. فَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُلْحِقَهُ بالعَمل، قالَ لَهُ: «سَأقْبَلُكَ مَتَى نَجَحْتَ في الاِمْتِحانِ.»

figure

ولَقَدِ اشْتَدَّتْ دَهْشَةُ كَبِير الطُّهاةِ حِينَ رَأَى بَراعَةَ هٰذا الْفَتَى وَمَهارَتَهُ الفائِقَةَ، فَقَدَّمَ لِلْمَلِكِ الطَّبَقَ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُ. فَقالَ لَهُ المَلِكُ: «هٰذا أَشْهَى طَعامٍ أَكَلْتُهُ طولَ عُمْرِي. فَمَنْ ذا الَّذِي أَبْدَعَ هٰذا الطَّعامَ اللَّذِيذَ وَسَوَّاهُ؟»

فَقَصَّ عَليهِ رَئيسُ الطُّهاةِ (كَبِيرُ الطَّبَّاخِينَ) نَبَأ ذٰلِكَ الْفَتَى الذَّكيِّ المَوْهُوبِ. فأمَرَه المَلِكُ بِمَنْحِهِ أَلفَ دينارٍ مُكافأةً لهُ، كما أَمَرَ أَنْ يُهَيِّئَ هٰذا الشَّابُّ مائِدَةَ الطَّعامِ — كلَّ يَوْمٍ — لهُ ولبَناتِه الأميراتِ الثَّماني.

(٨) كِبْرِياءُ الأمِيرَةِ

وحِينَ سَمِعَ الأَميرُ «كُوسا» بِما حَدَثَ، ابْتَهَجَ وأَعْطَى رَئيسَ الطُّهاةِ الدَّنانيرَ كلَّها، وهُوَ يَحْسَبُ أنَّ سَعْيَهُ — في هٰذِهِ المَرَّةِ — لَنْ يَخِيبَ. وبَعْدَ قَليلٍ حانَتْ مِنَ الأمِيرَةِ القاسِيَةِ الْتِفاتَةٌ، فَرَأَتْ زَوْجَها — وهُوَ في ثِيابِ طَبَّاخٍ — يَحْمِلُ صِحافَ المائِدَةِ (أطباقَها)، وَهُوَ مُتْعَبٌ مَجْهُودٌ مِنْ كَثْرَةِ العَمَلِ طولَ يَوْمِه. فَلَمْ يَخْفَ عليْها أَمْرُهُ. ولٰكِنّها أَنْكَرَتْ مَعْرِفتَهُ (تَظاهَرَتْ بأنَّها لا تَعْرِفُهُ). ثُمَّ قالَتْ لهُ في عَجْرَفَةٍ وصَلَفٍ: «لا تُحْضِرْ لِي شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ، فَلنْ آكلَ شَيْئًا تَمَسُّهُ يَدُكَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تُوصيَ غَيْرَكَ بِإحْضارِ طَعامِي.»

فَغضِبَتْ أَخَواتُها مِنْ كِبْرِيائِها وَصَلَفِها، وقُلْنَ لَها: «لَقَدْ ظَلَمْتِ هٰذا الطَّاهِيَ، وَأَسَأْتِ إلَيْهِ بِلا سَبَبٍ. وَقدْ كانَ يَجْدُرُ بكِ أَنْ تَشْكُرِي لهُ مَهارَتَهُ النَّادِرَةَ، الّتِي مَيَّزَتْهُ عَلَى الطُّهاةِ أَجْمعِين.»

فَلَمْ تَعْبَإِ الْأَميرَةُ الْقاسِيَةُ بِنَصِيحَةٍ أَخَواتِها، وَأَبَتْ لَها كِبْرِياؤُها أَنْ تَعْتَرِفَ بِخَطئِها، وأَصَرَّتْ عَلَى أَلَّا تُشارِكَ أَخَواتِها في ذٰلكَ الطَّعامِ الشَّهِيِّ.

(٩) يَأْسُ الأَمِيرِ

وَحينَئِذٍ أَدْرَكَ الأَمِيرُ التَّاعِسُ أَنّ كلَّ جُهْدٍ يَبْذلُهُ في إِرْضاءِ الأَمِيرَةِ سَيَذْهَبُ عَبَثًا. فقالَ في نَفْسِهِ مَحْزُونًا: «لَقَدْ بَذَلْتُ كلَّ ما في وُسْعِي دُونَ أَنْ أَظفَرَ بِطائِلٍ. وَما دامَتْ هٰذهِ الْأَميرَةُ الْقاسِيَةُ لا تُعْنَى بِغَيْرِ الْمَظاهِرِ، ولا يَشْغَلُها حُسْنُ مَخْبَرِي، عَنْ قُبْحِ مَنْظَرِي، فَإِنِّي سأَتْرُكُها غَيْرَ آسِفٍ عَلَى فِراقِها وَلا نادِمٍ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤