بشر بن عوانة

أَتَجْهَلُ قَدْرَ بِشْرٍ؟! إِنَّ بِشْرَا
لَأَرْفَعُ مِنْكَ فِي النَّاسُوتِ قَدْرَا
نَمَا بَيْنَ الْأَبَاعِرِ فِي الْبَرَارِي
وَغَيْرَ الْكَهْفِ لَمْ يَعْرِفْ مَقَرَّا
وَلكِنْ حَلَّ فِي بُرْدَيْهِ وَحْيٌ
كَفَاكَ تَفَاخُرًا وَكَفَاهُ فَخْرَا
وَهَلْ فِي بُرْدَتَيْكَ سِوَى دَعِيٍّ
تَسَوَّدَ فِي الْقَبِيلَةِ حينَ أَثْرَى؟!
رَأَتْ بِشْرًا عَجُوزٌ ذَاتَ يَوْمٍ
وَقَد حَزَرَتْ بِهِ وَطَرًا وَأَمْرَا
فَقَالَتْ: «أَنْتَ تَبْحَثُ عَنْ عَرُوسٍ
وَبِابْنَةِ عَمِّكَ الْمِضْيَافِ أَحْرَى»
فَقَالَ لَهَا: «وَهَلْ هِيَ ذَاتُ حُسْنٍ؟»
فَقَالَتْ: «إِنَّهَا فِي الْحُسْنِ بُشْرَى
لَهَا شَعَرٌ كَأَنَّ اللَّيْلَ مِنْهُ
تَمَنَّى الْبَدْرُ فِيهِ أَنْ يَمُرَّا
كَأَنَّ ذُؤَابَتَيْهِ حِبَالُ أَسْرٍ
تُشَدُّ بِهَا قُلُوبُ الْعُرْبِ أَسْرَى»
فَخَفَّ لِعَمِّهِ نَشْوَانَ جَذْلًا
وَكَاشَفَهُ، فَلَاقَى مِنْهُ زَجْرَا
فَقَالَ لَهُ: «أَبَيْتَ اللَّعْنَ، قُلْ لِي
أَفَاطِمَةٌ لِغَيْرِ دَمِي تُسَرَّى؟
أَتَأْبَاهَا عَلَيَّ وَمِنْ ذِرَاعِي
لِآمَالِ الْقَبِيلِ عَمِلْتُ جِسْرَا
فَمَنْ لَكَ فِي الرَّعِيَّةِ غَيْرُ بِشْرٍ
يَرُدُّ غَوَائِلَ الْغَزَوَاتِ حُمْرَا
وَكَمْ بِكْرٍ وَهَبْتُكَ مِنْ دِمَائِي
وَتَأْبَى يَا ظَلُومُ عَلَيَّ بِكْرَا»
وَهَامَ مُشَعَّثَ الْأَحْلَامِ غَيْظًا
يُخَرِّبُ تَارَةً وَيَعُجُّ أُخْرَى
وَثَارَ عَلَى قَبِيلَتِهِ بِضُرٍّ
فَكَانَ الذِّئْبَ فَتْكًا أَوْ أَضَرَّا
فَضَجَّ بَنُو الرَّعِيَّةِ مِنْ أَذَاهُ
وَأَوْجَسَ عَمُّهُ خَوْفًا وَذُعْرَا
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ تَحَرَّى
لَهُ شَرَكًا لِيُوقِعَ فِيهِ ذِمْرَا
وَقَالَ لَهُ: إِذَا مَا كُنْتَ شَهْمًا
أَنِلْنِي مِنْ خُزَاعَةَ مِنْكَ مَهْرَا
فَدَبَّتْ سُورَةُ الْعَرَبِيِّ فِيهِ
وَأَسْرَجَ مُهْرَهُ حَتَّى يَكُرَّا
وَجَنَّبَ فِي حِمَالَتِهِ جُرَازًا
لَهِيبُ الْمَوْتِ يَنْفُثُ مِنْهُ جَمْرَا
وَكَانَ الْجَوُّ مُرْبَدًّا رَهِيبًا
كَأَنَّ مِنَ الْجَحِيمِ عَلَيْهِ سِتْرَا
فَسَامَرَهُ حَفِيفُ الْغَابِ حِينًا
وَحِينًا سَامَرَتْهُ طُيُوفُ ذِكْرَى
وَفِيمَا بِشْرُ يَطْوِي الْبِيدَ طَيًّا
وَيَنْشُرُهَا عَلَى الْآمَالِ نَشْرَا
إِذَا بِالْمُهْرِ أَجْفَلَ وَاعْتَرَاهُ
جُمُودُ دُمًى وَأَحْجَمَ وَاقْشَعَرَّا
فَأَغْمَدَ فِي الدَّيَاجِي نَاظِرَيْهِ
فَأَبْصَرَ فِي ثَنَايَاهَا هِزَبْرَا
وَفَاضَتْ نَشْوَةٌ مِنْ مُقْلَتَيْهِ
مُشَعْشَعَةٌ فَقَالَ: عُقِرْتَ مُهْرَا
وَحِينَ جَذَا انْتَضَى السَّيْفَ الْمُرَوَّى
وَقَالَ: اثْبُتْ فَإِنَّكَ لَنْ تَفِرَّا
فَلَسْتُ بِرَاجِعٍ يَا لَيْثُ حَتَّى
يَصِرَّ بِكَ الذُّبَابُ الْغَثُّ صَرَّا
وَأَقْدَمَ مُثْبِتَ الْأَبْصَارِ فِيهِ
فَكَانَ كِلَاهُمَا أَسَدًا تَسَرَّى
وَكَانَ اللَّيْثُ يَفْرَقُ مِنْهُ طَوْرًا
وَيَبْسُطُ تَارَةً لِلْوَثْبِ ظُفْرَا
وَفِي أَلْحَاظِهِ لَهَبٌ غَضُوبٌ
يُرَاشِقُهُ بِهِ شَفْعًا وَوِتْرَا
يَنِشُّ بِشِدْقِهِ زَبَدٌ حَرُورٌ
وَيَنْفُثُ صَدْرُهُ حُمَمًا أَحَرَّا
وَضَجَّ الْغَابُ فَالدُّنْيَا صِرَاعٌ
تُفَجِّرُ فِي رُوَاقِ اللَّيْلِ شَرَّا
وَحِينَ رَآهُ أَرْسَخَ مِنْهُ بَأْسًا
تَذَأَّبَ وَالْغَضَنْفَرُ كَانَ حُرَّا
وَأَطْلَقَ بِشْرُ مُنْصَلَهُ عَلَيْهِ
فَقَدَّ لَهُ مِنَ الْأَضْلَاعِ عَشْرَا
وَثَارَ الْكَوْنُ ثَوْرَتَهُ فَأَلْقَى
عَلَى اللَّيْلِ الْحُسَامَ فَدَارَ فَجْرَا
وَأَسْكَرَ مَشْهَدُ الضِّرْغَامِ بِشْرًا
وَكَمْ شَرِبَ الدَّمَ الْمُهْرَاقَ خَمْرَا
فَقَدَّ قَمِيصَهُ عَنْهُ وَأَمْلَى
عَلَيْهِ بِالدَّمِ الْمَطْلُولِ شِعْرًا
«أَفَاطِمَ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ
وَقَدْ لَاَقَى الْهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرَا؟!»
وَوَالَى سَيْرَهُ يَمْتَلُّ فِيهِ
لِيَبْلُغَ مَأْرَبًا قَدْ كَانَ وَعْرَا
وَأَنْدَاءُ الصَّبَاحِ تَفُوحُ طِيبًا
وَيَسْكُبُهَا النَّسِيمُ عَلَيْهِ عِطْرَا
وَفِيمَا الْحُبُّ يَنْهَبُهُ عَرَاهُ
فَحِيحٌ مَرَّ فِي أُذُنَيْهِ مَرَّا
وَأَبْصَرَ حَيَّةً طَلَعَتْ عَلَيْهِ
مِنَ الْأَدْغَالِ مِثْلَ التُّرْبِ سَمْرَا
أَذَابَ الصُّبْحُ خَمْرَتَهُ عَلَيْهَا
فَمَالَتْ مِنْ خُمُورِ الصُّبْحِ سَكْرَى
وَشَعَّتْ كَالزُّجَاجِ وَقَدْ تَلَوَّتْ
عَلَى أَعْشَابِهَا بَطْنًا وَظَهْرَا
فَقَالَ: «أَخُوكِ كَانَ عَلَيَّ وِقْرًا
وَلَكِنْ أَنْتِ أَثْقَلُ مِنْهُ وِقْرَا
فَهَلْ بُعِثَتْ بِهِ رُوحٌ تَرَدَّتْ
بِجِلْدِ الْأُفْعُوَانِ تَرُومُ ثَأْرَا؟!
وَلَاقَاهَا بِصَدْرٍ رَاضَ صَبْرًا
وَلَاقَتْهُ بِصَدْرٍ ضَاقَ صَبْرَا
فَكَانَت تَنْثَنِي عَنْهُ اغْتِيَالًا
وَتُنْشِبُ رَأْسَهَا لِلْفَرْسِ غَدْرَا

•••

«تُرَى مَاذَا يَحُلُّ بِنَا إِذَا مَا
أُصِيبَ بِنَكْبَةٍ؟ اللَّهُ أَدْرَى
فَبِشْرٌ مَرْجِعُ الْفُرْسَانِ فِينَا
وَحَامِينَا إِذَا الْجَوُّ اكْفَهَرَّا
بَعَثْتُ بِهِ إِلَى حَتْفٍ ذَمِيمٍ
كَأَنِّي لِلْقَبِيلِ حَفَرْتُ قَبْرَا
فَإِنْ يَسْلَمْ مِنَ الْأَسَدِ ابْنِ دَاذَا
فَلَنْ يَنْجُو مِنَ الْأَفْعَى طِمِرَّا»
وَشَمَّرَ لِلَّحَاقِ بِهِ، وَكَانَتْ
دِمَاهُ تُثِيرُهُ وَالْعَيْنُ شَكْرَى
عَلَى فَرَسٍ كَأَنَّ الْجِنَّ تَعْدُو
بِرِجْلَيْهَا فَتَخْتَفِيَانِ سِحْرَا
وَلَمَّا أَدْرَكَ ابْنَ أَخِيهِ حَيًّا
يَرُوغُ الْوَحْشُ مِنْهُ جَذَا وَخَرَّا
وَقَالَ: «اعْدِلْ عَنِ الْأَفْعَى فَإِنِّي
رَأَيْتُكَ أَرْحَبَ الْأَعْرَابِ صَدْرَا
لَأَنْتَ أَحَقُّ مِنْ أُمَرَاءِ قَوْمِي
بِفَاطِمَةٍ فَكُنْ لِي ابْنًا وَصِهْرًا»
فَأَلْهَبَتِ الْحَمَاسَةُ كَفَّ بِشْرٍ
فَصَعَّدَ سَيْفُهُ الْمَصْدُورُ جَمْرَا
وَأَطْعَمَ خَصْمَهُ يُسْرَى يَدَيْهِ
وَأَجْرَى الْمَوْتَ مِنْ يُمْنَاهُ نَهْرَا
فَقَبَّلَ عَمُّهُ يَدَهُ بِحُبٍّ
وَقَالَ: «أَتَيْتُ أَطْلُبُ مِنْكَ عُذْرَا
أَلَا عُدْ بِي إِلَى حَيْثُ السَّرَايَا
تُقِيمُ لِعُرْسِكَ الْيَوْمَ الْأَغَرَّا
فَقَدْ شَهِدَتْ صُخُورُ الْغَابِ يَا ابْنِي
بِأَنَّكَ فَارِسُ الْأَعْرَابِ طُرَّا»
وَعَادَا وَالْغُصُونُ تَمِيلُ تِيهًا
كَأَنَّ بِهَا لِمَا شَهِدَتْهُ سُكْرَا
وَتَعْطِفُ فِي الطَّرِيقِ عَلَى يَدَيْهِ
تُقَبِّلُ مِنْهُمَا يُمْنَى وَيُسْرَى
وَإِذْ كَانَا يَجُوبَانِ الْبَرَارِي
وَيَنْثُرُ بِشْرُ آيَ الْفَخْرِ نَثْرَا
إِذَا بِمُلَثَّمِ الْعَيْنَيْنِ نَجْدٍ
تَعَرَّضَ فِي الطَّرِيقِ لَهُ مُصِرَّا
وَقَالَ: «كَفَاكَ تَفْخَرُ يَا عِصَامًا
فَفَخْرُكَ مَرَّ فِي أُذُنَيَّ فَجْرَا
قَتَلْتَ بَهِيمَةً وَقَتَلْتَ سُوسًا
وَتَمْلَأُ مَاضِغَيْكَ قَذًى وَنُكْرَا؟!»
فَقَالَ: «وَمَنْ تَكُونُ؟» فَقَالَ: «إِنِّي
نَذِيرُ الْمَوْتِ جِئْتُ إِلَيْكَ جَهْرَا
أَنَا دَهْرٌ وَأَيَّامِي سَعِيرٌ
إِذَا نَازَلْتَنِي نَازَلْتَ دَهْرَا!»
وَفِي غَضَبٍ تَبَدَّى الْمَوْتُ فِيهِ
عَلَى سَيْفَيْهِمَا كَرًّا وَفَرَّا
أَصَابَ مُلَثَّمُ الْعَيْنَينِ بِشْرًا
فَأَحْجَمَ عَنْهُ إِخْفَاقًا وَقَسْرَا
وَصَاحَ بِهِ: «أَبَيْتَ اللَّعْنَ فَارْفَعْ
لِثَامَكَ لَا تَظَلَّ عَلَيَّ سِرَّا»
فَقَالَ الْخَصْمُ، وَهُوَ يُمِيطُ سِتْرًا:
«أَنَا ابْنُكَ فَانْظُرِ الْوَلَدَ الْأَبَرَّا»
فَعَاوَدَ بِشْرَ تَذْكَارَاتُ عَهْدٍ
تَصَرَّمَ تَارِكًا فِي الصَّدْرِ ذِكْرَى
وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: «أَرَاكَ يَا ابْنِي
بِفَاطِمَةَ ابْنَةِ الْأَعْمَامِ أَحْرَى»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤