نافخ النار

تُرى أتكون هذه الظاهرة متمثلةً في أفراد الناس جميعًا، على تفاوتٍ في الدرجة بينهم، أم هي مميزةٌ لبعضٍ دون بعض؟ لستُ أدري جواب ذلك على وجه اليقين، ولكنني قد عهدتُ نفسي منذ طفولتي، أن أجد همومي منعكسةً في الأشياء التي حولي فأنظر إلى تلك الأشياء، وكأنني أقرأ فيها كلمات تنطق بما قد أثقل صدري من هموم، وأحسبني ما زلت على هذه الحال إلى يومي هذا. وماذا كانت هموم ذلك الطفل، ولقد كان على ميسرة نسبية من العيش؟ ربما كانت أفدح همومه — فيما أذكر — أن يُشار له إلى نقصٍ فيه على سبيل الجد أو على سبيل المزاح، فكثيرًا ما كانت تسقط من أفواه الناس، بالتلميح أو بالتصريح، أقوالٌ هازئة بضروب من العجز يرونها في مداركه — مدارك الحواس آنًا، ومدارك العقل آنًا — فتحزُّ تلك الأقوال الساخرة في نفسي وأظل أجترُّها لعدة أيام بعد ذلك، فإذا وجهتُ بصري — خلال تلك الأيام — إلى شروخ في طلاء الجدران، أخذت تلك الشروخ تتشكل أمامي صورًا تتلاحق، كل صورة منها تمثِّل لي ضربًا من ضروب العدوان: فها هو ذا سَبُع قد غرس مخالبه في فريسته، وتذهب هذه الصورة لأرى رجلًا ضخمًا شائهَ الوجه، وأمامه طفل دسر وجهه بين ذراعيه، وهكذا، وأما إذا كان الذي تلقاه الطفل ممن حوله، علامات تشير إلى الرضا، فلقد كانت تلك الشروخ ذاتها في طلاء الجدران، تبدو له وكأنها جماعات الطير تمرح وثوبًا في الهواء، أو نقرًا في الأرض، وكذلك كان السحاب من أغنى المصادر التي تمدُّ الطفل بما يشتهي من صور، فلقد كان يقرأ كل ما أراد قراءته، في قطع السحاب تتصل وتنفصل في أشكالٍ لا تنتهي.

وبالطبع قد اختلفت أنواع الهموم مع اختلاف مراحل العمر، إلا أنه قد بقيت عندي بقيةٌ من الطريقة التي كُنت ألجأ إليها — دون أن أدبِّر الأمر في ذلك تدبيرًا مقصودًا — وهي أن أقرأ تلك الهموم فيما أجدها متمثلة فيه، من الأشياء التي أصادفها حيثما أقمت وأينما سِرتُ، وأقرب الأمثلة التي أسوقها، ذلك المثل الذي وقع لي منذ وقتٍ ليس ببعيدٍ، وهو أن سؤالًا كان يُلحُّ على فكري إلحاحًا لم يكن لي قِبَل بردِّه، وهو سؤالٌ من أسئلةٍ كثيرة تعاودني في هذه المرحلة الأخيرة من حياتي، وكلها يدور حول البحث عن علة الكبوة الحضارية التي كبوناها، وعن الطريقة التي يمكن بها أن نُنقذ أنفسنا مما نحن فيه، وكان السؤال الذي أشرت إليه هو: إننا قد نجد عند جماعة المثقفين منا، أفكارًا كانت لتكفل كل ما نريده لأنفسنا من نهوض، فما الذي شلَّ تلك الأفكار حتى تجمدت على أقلام أصحابها، ولم تجد طريقها إلى الجريان في دنيا السلوك والعمل؟

ورسخ السؤال في رأسي رسوخ الجبل، لا يريد أن ينزاح أو يتحول، حتى أجد له الجواب، كنت أحمله ماشيًا، وقاعدًا، وواقفًا، وراقدًا، لماذا لا تتحول أفكارنا الفنية الهادية البصيرة إلى عمل؟ إن في رءوس المثقفين منا أفكارًا تتعلق بما هو «الأعلى» و«الأعلم» و«الأقوى» و«الأقوم»، فما الذي يُقعدنا ويشدُّنا إلى أديم الأرض، قانعين بما هو «الأسفل» و«الأجهل» و«الأضعف» و«الأضل سبيلًا»؟ وإنه لمما زاد ذلك السؤال إلحاحًا على نفسي، هو أنني كلما تلفتُّ حولي، وجدتُ بشائر الخير، لكنها تأبى أن تجاوز حدود «البشائر» فهنالك في كل ميدان أوجِّه إليه البصر، مَن هم على علمٍ بمجالهم، ومَن هم على قدرةٍ لو أتيحت لهم الوسائل فأي شيطانٍ — إذن — قام ليحول بين هؤلاء العلماء والقادرين وبين أن يغيِّروا لنا وجه الحياة؟

وبينما السؤال رابضٌ بكل ثقله الثقيل، مررت في حيٍّ قديمٍ من أحياء القاهرة بحدادٍ في دكانه، بجواره غلامٌ جثَا على الأرض بركبتَيه، وأخذ ينفخ النار للحداد، بمنفاخ ضخم، يعلو بين يدي الغلام ويهبط، والحداد في سرعةٍ لاهثة، يطرق أسياخ الحديد، فوقفت قبالة الدكان، بحيث أرى، دون أن أُحدث للحداد وغلامه شيئًا من القلق والحرج، على أنِّي لم أُطل الوقوف؛ لأنني اكتفيت بأن لمحت نماذج من حديدٍ مشغول، فرغ الحدَّاد من تشكيلها، وأسندها على الجدران، خارج الدكان وداخله.

مضيتُ في سبيلي، وكان السؤال الملحُّ الثقيل، قد تلقَّى شعاعًا من النور، فوجدته شيئًا من الحل، وأول ذلك الحل، هو أن يكون فينا مَن ينفخ النار، فلقد كانت قِطَع الحديد الخام المكومة وراء ظهر الحداد، راقدةً هناك لا نفع منها إلا أن تكون أثقالًا تتعثر عليها أقدام السائرين، لكنها كانت تطوي في جوفها منافع ومنافع، لا ينقصها إلا أن يلهبها الغلام بالنار ينفخها، وعلى الحداد عندئذٍ أن يُخرج من قِطَع الحديد ما شاء أن يُخرج، كما قد أخرج بالفعل كماشات، وسكاكين، وسلاسل، وشكائم، وما لست أدري ماذا مما رأيته مسبوكًا ومصفوفًا إلى جوانب الجدران.

فتولَّد عن السؤال القديم سؤالٌ جديد، أيسرُ حلًّا من سابقه، وهو: مَن ذا الذي ينفخ لأفكار رءوسنا، نارًا تُلهبها، وتُذيبها، لتيسر لها أن تتحول من مكانها إلى دنيا المنفعة وتتغير الحياة؟ وبمثل ما كنت أفعل أيام الطفولة الأولى؛ إذ كنت إذا ما ضاق صدري لعسرٍ من أمري، جلست أحوم ببصري في أي مرئيٍّ صادفتُه، فما يلبث الخيال أن يستولد مما يرى أوهامًا وأحلامًا، تمتلئ بالحياة وكأنها واقعٌ من الواقع، أقول: إنِّي بمثل ما كنت أفعل في أيام الطفولة وخيالها، رأيتني أفعل اليوم، فها أنا ذا لم أزل على مقربةٍ قريبة من دكان الحداد، ولم يزل رأسي مثقلًا بسؤاله: ما الذي يحول بيننا وبين النقلة من أفكار خامدة في ذاكرتنا، وكأنها جثثٌ محنطة، إلى دنيا العمل وفي أيدينا تلك الأفكار نفسها، بعد أن نكون قد نفخنا فيها روح الحياة؟ ما الذي يحول بيننا وبين أن نصنع بأفكارنا التي تجمدت في رءوسنا، مثل هذا الذي يصنعه الحداد في قطع الحديد الخام؟

أسندت ظهري إلى الجدار، وحللت عن الخيال الطفلي القديم قيوده، فما هو إلا أن بسط جناحَيه ومعي الغلام وقد أمسك بالمنفاخ ليُلهب النار، ووراء ظهري كومةٌ من أفكارٍ يبست حتى لتحسها قطعًا من الحديد والحجر؟ فناديت الغلام: هات يا غلام أول ما يصادفك من كومة الأفكار اليابسة، وضَعْها في الموقد وانفخ النار: فكانت الفكرة الأولى التي عاد بها الصبي، هي ما نُطلق عليه اسم «الهوية»، وانفرجت لها أسارير وجهي، فهي من تلك النفائس النفيسة، الغنية بمضمونها، وإني لأسمعها تدور اليوم على ألسنتنا وعلى أقلامنا، دورانًا لم يترك فردًا واحدًا منا إلا وقد سمعها أو قرأها، فظن أنه قد عرفها، ولو أنه عرفها حقًّا لانحلت له مشكلات كثيرة من أضخم مشكلاتنا حجمًا وأشدها خطرًا؟ وحسبك أن تعلم بأن مشكلة «الانتماء» الوطني، والقومي، إنما هي فرعٌ من فروعها: وإن مشكلة «التراث» وما يجب علينا إزاءه، إنما هي الأخرى فرعٌ آخر، لكننا نقول اسم «الهوية» ونُردده ونكتبه ونقرؤه، دون أن نعلم شيئًا واضحًا من مسماه.

وصِحْت بالغلام: انفخ النار يا غلام، ونفخ الغلام بمنفاخه الضخم، حتى اشتعلت النار وارتفعت منها ألسنة اللهب، وتفككت الفكرة اليابسة، وأخذت عناصرها ومكوناتها في الظهور، فالتقطتها بملقاطي، ووضعتها على السندان، وأخذت أدقها بالمطرقة دقًّا يُخرج من جوفها ما كان كامنًا، وأول ما تجلَّى من كيانها هو الجذر الذي نبت منه اسمها، فمن أين جاءت كلمة «هوية» وكيف ينبغي لنا أن ننطق به؟ وإذا بالحقيقة هينة لا تعقيد فيها، فهي — بكل بساطةٍ — مأخوذة من كلمة «هو»، فنحن إذا ما قابلنا فردًا معينًا من الناس، ثم غاب عنَّا فترة، وظهر أمامنا مرةً أخرى، عرفناه، وعرفنا أنه «هو» هو نفسه الذي كنَّا رأيناه؛ وذلك لأننا طابقنا الصورة التي احتفظنا بها في الذاكرة، على الصورة التي نراها الآن ماثلةً أمام أعيننا، فعرفنا أن الشخص الأول «هو» هو بذاته الشخص الثاني، وسرعان ما ابتدعنا لأنفسنا اسمًا لنُضيفه إلى محصولنا اللغوي، فقلنا إن «الهوية» واحدة بين الصورتين. ما دام الأمر كذلك، فلم تَعُد بنا حاجة إلى القول، بأن النطق الصحيح لهذا الاسم، يكون بضم الهاء.

لكن مهلًا مهلًا يا صاحبي، فلا تُسرع بالظن لتقول إن هوية الفرد المعين مرهونة بصورته الظاهرة المرئية بالعين: لا، بل اصبر حتى نرى حقيقة الأمر الكامنة وراء الظاهر.

وناديت بالغلام بعد أن نفخ النار، حتى ينصهر من الأمر ما لم يكن قد انصهر، ومرة أخرى نقلت هذا العنصر الواحد من عناصر المعنى، لأضعه على السندان ولأعيد طَرْقه بالمطرقة، حتى أسفرت الحقيقة عن وجهها: بالتطابق بين مرئيات العين، هو أقل الجوانب أهمية، أو قُلْ إنه إذا كان أمر «الهوية» في فردٍ معين من الناس، مرهونًا بصورته المرئية بالعين، لما استشكل علينا من حقيقتها شيءٌ، لكنَّ ثبات الهوية الواحدة لفردٍ من الناس مؤسسٌ على صفات وخصائص مما قد لا تراه الأبصار، ولا ينكشف إلا للعقل بعد إمعان النظر؟ إن الوليد ساعة ولادته، يظل «هو» هو، طفلًا، وشابًّا، ورجلًا، مع الفوارق البعيدة والعميقة، بينه وليدًا ثم رجلًا، فحتى من الناحية العضوية الخالصة، يُقال لنا إن كل الخلايا التي تكوَّن منها جسمُ الوليد، تتبدل ليحلَّ محلَّها خلايا أخرى (إلَّا خلايا الجهاز العصبي فيما أتذكر)، فلماذا نظل نؤكد أن هذا «الرجل» هو ذلك «الوليد» برغم التغيرات الجذرية، جسمًا وعقلًا، التي طرأت؟ على أي أساسٍ نؤكد أن ثمة «استمرارية» لهويةٍ واحدة، وليكن من أمر التحولات الظاهرة ما يكون؟ ليس أمر الهوية الواحدة — إذن — موكولًا إلى تطابق الصورة المرئية مع سلسلة الصور المرئية التي نراها في الفرد الواحد، كلَّما اختلفت مراحل عمره، أو ظروف حياته، صحةً ومرضًا، فرحًا وحزنًا، صحوًا ونومًا … بل إن أمر الهوية الواحدة موكول إلى ما هو أعمق من ظواهر الأشكال كما تبدو للأعين.

إن ما يُقال عن «هوية» الفرد الواحد، كيف تحافظ على «استمرارية» عبر تغيرات الزمن، مرحلة من العمر بعد مرحلة، ومجموعة من الظروف بعد مجموعة، يقال كذلك عن الأمة الواحدة، ويقال عن البنية الثقافية لتلك الأمة؛ ففي حياة الأمة الواحدة ملايين الأفراد يولدون، وملايين يموتون، وهكذا تظل الموجات البشرية، ترتفع الموجة منها لتختفيَ، ثم ترتفع موجةٌ بعدها لتختفيَ، لكن محيط الماء يظل هو محيط الماء، وتظل له خصائصه الأساسية، حتى لو تغيرت في أعماقه كوامنها جميعًا، أسماكًا بأسماك، وشعابًا من الصخر بشعابٍ من الصخر، وكذلك قُلْ عن البنية الثقافية، بل هيكلها العام، لتلك الأمة الصامدة بهويتها، فقد يُنتج أبناؤها — على تعاقب العصور — علمًا غير العلم، وشِعرًا غير الشعر، وصورًا من الحِكم غير الصور، ومع ذلك تبقى هناك بقية راسخة، فتكون هي الجهاز العصبي لحياة الناس الثقافية، ومن هذه البقية الثابتة، يبقى المصري مصريًّا، ويبقى كلُّ منتمٍ إلى أمةٍ بعينها هو مَن هو، لا يُخطئ حقيقة نفسه حين يقيسها إلى سائر الأنفس، ولا يُخطئها الآخرون إذا عرفوها وعرفوا ما يميزها في وحدانيتها وتفرُّدها، إذن فالسؤال قائمٌ بين أيدينا، بالنسبة إلى هوية الفرد الواحد، وإلى هوية الأمة الواحدة، وهوية البنية الثقافية لتلك الأمة، والسؤال هو — نكرر ما أسلفناه — ما الذي يجعل الهوية في كل هذه الحالات هوية واحدة، لها سماتها التي تميزها، ويكون لها — بالتالي — استمرارية متصلة على تعاقب العصور، برغم الاختلافات الشديدة والبعيدة بين عصرٍ وعصرٍ؟

وناديتُ أن انفخ في النار يا غلام، حتى ينصهر من الفكرة ما لم ينصهر، فيظهر منها ما لم يكن قد ظهر، اشتعلت النار، فعادت إلى ذاكرتي صورة قارب السماك، وكان السمَّاك كلما اهترأ جزء من أجزاء قاربه، استبدل باللوح الخشبي المهترئ لوحًا جديدًا، وربما اختار اللوح الجديد من خشبٍ أكثر صلابة من خشب اللوح القديم، وهكذا أُتيحت لي مراقبة السماك فيما يجدده من أجزاء قاربه، حتى خُيِّل إليَّ أن كل جزء من تلك الأجزاء قد أفناه عمره، وجاء خلفٌ ليبدأ عمرًا جديدًا، تمامًا كما قد قيل عن الطفل يولد بمجموعة خلاياه، فتختفي كلها مع الأيام، لتكون له مجموعة أخرى من الخلايا، وكما يظل الطفل على هويته برغم ما تبدل من خلاياه، لبث قارب السماك على هويته برغم ما تبدَّل من ألواحه الخشبية، واحدًا بعد واحد، فإذا سألنا: كيف تحققت لكل منهما استمرارية الهوية، برغم ما قد حدث، جاءني جواب (ولست مسئولًا عن أي جوابٍ آخر قد يجيء لغيري) وجوابي هو في كلمة واحدة «الصورة» تبقى فتبقى الهوية، ماذا، أتقول «الصورة»؟ فهل عُدْت مرةً أخرى إلى الشكل المرئي بالعين؟ كلَّا يا صاحبي؟ فلست أعني «بالصورة» تصوير السطح الظاهر، وإلَّا فهل ترى الطفل يحافظ على ظاهر صورته حتى يكتهل؟ كلَّا، بل عنيت ﺑ «الصورة» ذلك الجانب الخفي الروَّاغ، الذي يفلت من بين أصابعك كلما ظننت أنك قد أمسكتَ به، لكننا لن ندعه هذه المرة ليفلت، ولن يتحقق لنا ذلك إلَّا بعد أن نستعرض أمثلةً أخرى، نتدبرها، ونتأملها معًا، لعلنا نقع على ذلك السر، الذي يضمن استمرارية الهوية للفرد الواحد، وللأمة الواحدة، وللبنية الثقافية الواحدة.

وناديت أن انفخ النار يا غلام، فما اشتعلت ألسنة اللهب، حتى سمعت تاريخ الفن في مصر، يُفصح لي عن بعض سرِّه، فسمعته وكأنه يقول: انظر إلى العصر الفرعوني الطويل، والذي زاد في مبدعاته الفنية على أربعة آلاف عام تجده «هو هو» — وأعني أنك واجده — قد حافظ على «هوية» واحدة، عبر مراحل طويلة من الزمن، حتى ليستطيع كل ذي وعيٍ، أن يُدرك على الفور إذا كانت القطعة الفنية التي تعرضها عليه، مصرية فرعونية أو لم تكن؛ وذلك لأن الفنان المصري قد بثَّ روحه في مبدعاته، فجاءتْه تلك المبدعات صارخة بهويته؛ فالمصري في أواخر التاريخ الفرعوني «هو هو» المصري في أوائل ذلك التاريخ، مع أن طول ما بين الطرفين أربعة آلاف عام، فكلُّ أثرٍ فني طوال ذلك العهد الطويل ناطقٌ بما تخلَّق به المصري، فترى في التماثيل خشوع المصري العابد وحكمته ورزانته ورصانته، وترى في أعمدة المعابد الجبارة جبروته، وترى في المسلات شموخه وطموحه، وترى في مقابره تعلُّقه بالخلود.

وتمضي القرون ويجيء الفن القبطي لينطق بأن المصري «هو هو» المصري، وإن اختلفت صور الحكم والعقيدة؛ ففي كل مأثور من ذلك الفن، ترى بساطة المصري في إيمانه، وفي زهده، وفي صفائه ونقائه، ثم تمضي القرون مرةً أخرى ليجيء الفن الإسلامي معبِّرًا — وهو على أيدي الفنان المصري — عن روح التجرد والتجريد من أوزار الحياة المادية وأثقالها، أو ما يشبه القيود الرياضية، من زخارف هندسية تراها على الجدران، ونقوش تغلب عليها روح التقسيمات الهندسية، على نحاس القناديل، والمدافئ، والصواني، وما إليها، وعلى خشب المشربيَّات والأبواب والنوافذ وغيرها.

وتمضي مسيرة الحضارة داخل العصر الإسلامي، لنصل إلى عصرنا هذا الحديث، الذي وجد المصري نفسه فيه — لأول مرةٍ في تاريخه — مجبرًا على الأخذ عن حضارةٍ صنعها سواه، فكان محتومًا عليه أن يوفِّق بين ما عنده وما عند سواه، وانعكس هذا التوفيق أيضًا على مبدعات الفن على اختلافها، فإذا أخذنا منحوتات محمود مختار رمزًا يشير إلى روح المصري الحديث منعكسةً في فنِّه، رأيت ذلك واضحًا في الجمع بين فلاحةٍ عصرية، تمسُّ بكفها موروثنا القديم ليصحو: فإذا جاز لنا أن نلخِّص تلك العصور الفنية في التاريخ المصري، تلخيصًا يقول في جملة واحدة: ما هي السمة الأساسية الأولى للمصري على طول تاريخه، قلنا إنه التحكم في الحياة الدنيا من منظور الدين، وأعني إخضاع الحياة الدنيا لمعايير مستمدة مما هو أعلى من الحياة الدنيا، فإذا صح رأينا هذا في الشخصية المصرية، كانت تلك السمة هي عماد «الهوية» المصرية، بمعنى أن المصري في كل مرحلة من مراحل تاريخه، كان «هو هو» المصري في سائر المراحل، وإن اختلفت اللغة التي يستخدمها في إبداعه الفني للتعبير عن حقيقة ذاته.

والآن يحق لنا أن نُعيد على أنفسنا السؤال الذي طرحناه عن «الهوية» ما أساسها؟ وأحسب أن المثل الذي ذكرناه من تاريخنا الفني، يُملي علينا الجواب، وهو أن صلب الهوية هو ما يصمد من الإنسان عبر التاريخ، أي أنه لا بد من «تاريخ» — طال التاريخ أو قصر — لتكون هناك هويةٌ ما: نعم، لا بد من لحظاتٍ تتوالى على مرِّ الزمن، لنعرف منها أن شيئًا مما كان قائمًا في لحظة ماضية، ما زال قائمًا في لحظة حاضرة، كي يُتاح لنا القول بوجود هوية صمدت فيها سمةٌ معينة أو سمات.

أقول هذا وأنا على علمٍ بأن أغلب مَن تعرَّض للكتابة عن «الهوية» من الفلاسفة، ذهبوا إلى منحًى غير هذا المنحى؛ إذ وجدوا أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود محورٍ «غيبيٍّ» في الإنسان — أو غير الإنسان — يكون له من الثبات ما يضمن ثبات الشخصية على هوية واحدة، سواء أكانت تلك الشخصية قد لمعت كالبرق الخاطف ثم اختفت، أم دام وجودها ولو إلى حين ليكون لها «تاريخ»، لكن أغلب ظنِّي هو أن فكرة الهوية تندكُّ من أساسها إذا لم يصاحب تلك الهويةَ وجودٌ ممتدٌّ على فترةٍ من زمن، يمكِّننا من رؤية الصمود على صفة معينة خلال تلك الفترة.

وهنا أشعر بضرورة أن أذكر شيئًا عمَّا يسمى في «المنطق» بقانون الهوية؛ لأنه يُلقي بعض الضوء على هذا الذي زعمناه، فأول قوانين العقل، التي هي قوانين مجبولة في فطرة الإنسان ذاتها، هو قانون الهوية هذا، ومؤدَّاه أن لدى الإنسان قدرة طبيعية على أن يتعرَّف إلى شيء ما، بأنه هو نفسه الشيء المعين الذي رآه في وقت سابق، فمنذ مرحلة الرضاعة لا يلبث الرضيع أن يتعرف إلى مرضعته اليوم، وأنها هي التي كانت مرضعته فيما سبق، أي أنه يُدرك «هوية» مرضعته وثباتها من لحظة سبقت إلى لحظة حضرت، وذلك معناه — فيما نحن بصدد الحديث فيه — أنه لا مجال لإدراكنا للهوية وثباتها، إلا إذا امتدت بتلك الهوية فترة من زمن، لتتمَّ المقارنة بين سابقٍ ولاحق، ولولا هذه القدرة الفطرية عند الإنسان، على إدراك الهوية الواحدة في أكثر من لحظة واحدة، لاستحالت العملية العقلية استحالةً تامة؛ لأنه ما من عملية من عمليات التفكير العقلي، إلا وفيها انتقال من «مقدمات» إلى «نتائج» ترتبت أو أُقيمت على تلك المقدمات، ومعنى ذلك أن العقل يُدرك «هوية» ما تكرر قيامه في المقدمات مرة وفي النتائج مرة، فدلَّ ذلك على أن ما تقوله النتيجة هو نفسه ما تقوله المقدمة، إذن فالعملية الفكرية صحيحة.

وها هنا أحسست وكأنِّي أسمع سائلًا يسألني: ثم ماذا؟ كيف نستضيء بهذا الذي قدمته عن «الهوية» وحقيقة معناها، فيما نُعانيه من مشكلات في حياتنا الثقافية، ومنها تلك المشكلة التي ذكرت لنا عنها بأنها ثقلت على صدرك حتى هِمْت على وجهك في الشوارع بغير هدفٍ إلى أن وصلت إلى الحدَّاد وغلامه نافخ النار؟

ولكي أجيب لم أجد بُدًّا من العودة بالفكرة إلى المطرقة والسندان، فصِحْت بالغلام، أن ينفخ النار، وبعد معالجاتٍ جديدة للفكرة، أبرزتُ أمام السائل أمرين لا أرى أهمَّ منهما في حياتنا الثقافية اليوم: الأمر الأول خاصٌّ بالانتماء الوطني والقومي، الأمر الثاني خاصٌّ بالانتماء ودوره؛ فأما الانتماء فالدعوة إليه تكون عبثًا في عبث، إذا لم ينغمس في الهوية الوطنية والقومية — وأعني المصرية العربية — ولا يكون ذلك إلا إذا جاء ذلك المنتمي حلقة جديدة من سلسلة التاريخ المصري والعربي، وأكرر قولي «حلقة جديدة»، فالمتمرد على سلسلة تاريخه سيخرج عن حلقاتها، ويصبح منذ لحظته نسيًا منسيًّا لكونه بغير تاريخ يضع نفسه في حلقاته، والذي يكرُّ راجعًا إلى حلقة ذهب زمانها، فيدمج نفسه في أصحابها يكون قد جعل نفسه واحدًا منهم فسقط حسابه من عداد الحاضرين، فلا بديل لإثبات الوجود إلا بأن يكون الموجود الحاضر «حلقة» من سلسلة تاريخه، وأن تكون تلك الحلقة «جديدة» فيها ما يصلها بالماضي، وفيها ما يصلها بزمانها.

ذلك عن «الهوية» وكيف تلد «الانتماء» وأما عن «الهوية» و«التراث» فواضحٌ مما أسلفناه أنه لا هوية إلا إذا صمدت عناصر بعينها من ماضٍ إلى حاضر، تكون بمنزلة الهيكل الذي يُقام عليه البناء، فكما قلنا عن قارب السمَّاك الذي أخذ يستبدل بألواحه الخشبية المهترئة ألواحًا جديدة: فبقي الهيكل واحدًا، وبالتالي بقيت للقارب هويته برغم ما قد تغيَّر من أجزائه، فكذلك يكون وجود الأمة الواحدة: ناسٌ يذهبون وناسٌ يجيئون، لكن هيكل القيم التي تُقام عليها الحياة الاجتماعية هيكلٌ واحد في سمائه الأساسية، فتبقى الأمة صامدةً بهويتها على مرِّ الزمان، لكن حذار أن تقع في غلطةٍ يقع فيها كثيرون، فتفهم من ثبات الهيكل القيمي ثباتًا في صور السلوك بين ماضٍ وحاضر، فالقيم معايير نقيس بها ما نقيسه، وليست هي نفسها الشيء الذي يُقاس، شأنها في ذلك شأن «المتر» في قياس الأبعاد المكانية، أو «الميزان» في تقدير الأثقال، فثبات المتر أو ثبات الميزان لا يعني ثبات ما يُقاس بهما أو يُوزن؛ فقد يكون الشيء المقاس بالمتر جدارًا، أو ثوبًا من القماش أو قامة إنسان، وكذلك قُل في الميزان وما يزن.

لقد طالت بي السرحة الذهنية أمام دكان الحداد، لكنها عادت إليَّ بشيءٍ يخفف عن صدري ثقل السؤال الذي تحيرتُ في جوابه، وهو: أن في رءوسنا أفكارًا جيدة كثيرة، فلماذا تُجمد في الرءوس ولا تتحول إلى فعلٍ يغيِّر ما فسد من جوانب حياتنا؟ وها أنا ذا قد عُدْت من سرحتي مع نافخ النار بشيءٍ من الجواب، وهو أن بعض الحل يكمن في تحليل تلك الأفكار لتنكشف عناصرها فتفهم، فتتحول إلى سلوك، فكما يُلهب الحداد بالنار قِطَع الحديد الخام، ليسهل تشكيلُها فئوسًا ومحاريث تؤدي أدوارها في الحياة العملية، كذلك يزج بالأفكار المصمتة في لهب النار حتى تلين، لتكون في أيدي أصحابها وسائل حياة، بعد أن كانت لهم في تيبُّسها كالتوابيت للموتى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤