التشاؤم والتفاؤل في الأدب

هناك طرازان في التفكير، في السياسية والاجتماع، هما طراز المتفائلين وطراز المتشائمين، والأولون هم دعاة التغيير والارتقاء؛ لأنهم يقولون بأن المساوئ البشرية الحاضرة يمكن أن تُعالَج، والآخرون هم دعاة الجمود أو المحافظة أو التقاليد؛ لأنهم يعتقدون أن الخير في الدنيا هو البقاء على الحاضر لا أكثر.

المتشائمون هم المحافظون الذين يحرصون على بقاء القديم القائم.

المتفائلون هم الاشتراكيون الذين يغيرون المجتمع ويحاولون الارتقاء.

وهذا التمييز يتجاوز الاجتماع والسياسة إلى الأدب.

اعتبر المحافظين في السياسة في أي قطر في العالم، فإنهم دعاة التمييز العنصري أو القومي؛ ولذلك يؤمنون بالاستعمار ويمارسونه: الأبيض أرقى من الأسود؛ ولذلك من الحق أن يستعمر الأول الثاني، ويستبد به، ويقتله، ويأخذ كنوز أرضه من زراعةٍ أو مناجمَ.

وهذا التمييز العنصري يرافقه تمييز طبقي أيضًا، فإن المحافظ الذي يستغل الأفريقيين والآسيويين خارج بلاده كذلك يستغل العمال داخل بلاده، ويقول بأنهم يجب ألا يطلبوا أن يكونوا أرقى من مستوى طبيعتهم، ومن هنا كراهته، بل بغضه، للاشتراكية التي تقول بالمساواة.

والاستعماري هو رجل التقاليد، تقاليد التاريخ في الغزو والاستعمار؛ ولذلك كان رديارد كبلنج شاعرهم، هذا الشاعر الذي لم يخجل من أن ينصح للجنود الإنجليز في المستعمرات ببقر بطون الزنوج.

وبؤرة الإيمان عند المحافظين هي التشاؤم الذي يقوم على أن الناس يولدون متفاوتين، يأكل بعضهم بعضًا في تنازع البقاء كحيوانات الغابة.

وما دام هناك «تنازع بقاء» فإن التشاؤم يغمر النفس؛ لأن هذا التنازع يعني في النهاية أن البقاء لا يكون إلا بالأنانية التي تحمل صاحبها على أن يدوس غيره كي يتفوق.

وما دمنا متشائمين فإننا نؤمن بأن الشر يتغلب على الخير في الطبيعة الإنسانية.

وهذا الإيمان يحملنا على الشك والتوجس والأنانية، والقول بأن أخلاق الناس منحطة، وأننا يجب أن نقسو في العقوبات، كما يحملنا على القول بأن المرأة لا تؤمن، وأنها تخون في الظلام، وأنها غادرة في الحب، إلى آخر هذه الأقوال التي تدل على الشك والخوف عند قائليها حتى لينتهوا إلى الحكم بأن المرأة يجب أن تخضع للرجال كي لا تجد الفرصة لأن تخون أو تغدر.

والمتشائمون المحافظون لا يثقون بالشعب؛ لأنهم لا يؤمنون بالمساواة، ولذلك لا يؤمنون بالتعاون والارتقاء، وعلة جحدهم للمساواة تقوم في النهاية على أنهم يأخذون بالوراثة دون الوسط، ويحترمون التقاليد القديمة.

فالناس، بالوراثة، يولدون أكفاء للسيادة أو غير أكفاء.

وبالوراثة تتسلط الدول الاستعمارية على الأفريقيين والآسيويين وتستعبدهم، وتخطف منهم البترول والكوتشوك والقصدير والنحاس، أليست هذه الدول أرقى من هؤلاء الأفريقيين والآسيويين الذين ولدوا بكفاءات وراثية منحطة لا تؤهلهم لأن يملكوا بلادهم؟!

المحافظ في السياسة استعماري، يقول بتنازع البقاء، وبتسلط البيض على السود والسمر والحمر، وهو لا يثق بالخير في الطبيعة البشرية، ولذلك هو لا يؤمن أيضًا بحقوق الدهماء من الشعب أو بحقوق المرأة، ولا يسلم بأن إصلاح المجتمع يتيح للطبيعة البشرية أن ترتقي حتى إذا كانت في الأصل متوحشة.

هو متشائم بالمستقبل، شعاره «الدنيا جيفة والناس حولها كلاب».

وإذن يجب على هذه الكلاب أن يقاتل بعضها بعضًا.

المحافظون يدعون إلى الحرب.

•••

أما المتفائلون فطراز آخر، فإنهم يدعون إلى التعاون، أي الاشتراكية، وليست التقاليد عندهم، وليست الوراثة البيولوجية نفسها، سوى كلمات يراد بها تجميد الشعب ومقاومة الحركات الارتقائية.

وهذا التجميد هو في النهاية إعاقة الإصلاح والإنهاض للطبقات العاملة حتى تبقى في شقائها وفقرها، بينا تبقى الطبقات العليا في ثرائها وامتيازها التقليديين.

المتفائل يؤمن بالوسط، وأنه أكبر أثرًا في الارتقاء الشخصي من الوراثة، وهو لذلك يدعو إلى التعليم والتصنيع ونشر العلم ومساواة المرأة بالرجل وإلغاء الاستعمار والاستغلال، أي يدعو إلى الاشتراكية.

وكلمة «المساواة» الاجتماعية الاقتصادية تكاد تفقد معناها إذا سلمنا بالوراثة كأنها كل شيء؛ لأن حتمية الوراثة تعني في النهاية الإيمان بالقدر الذي لا يمكن إنسانًا أن يغيره.

إننا لن نغير موروثنا المقدر لنا، هذا هو إيمان المتشائمين.

ولكن المتفائلين يقولون: إننا نتغير إلى أحسن، ونرتقي، إذا كان وسطنا راقيًا يعلمنا ويهذبنا وينير عقولنا ويقوي صحتنا.

والمتفائل لذلك اشتراكي، ارتقائي، إنساني، يؤمن بالمساواة بين الشعوب، وبمساواة المرأة للرجل، وبالمستقبل الذي سينهض على العلم، ولا يسلم بأن الأسود دون الأبيض في الكفاءات؛ لأن كل ما هناك من فرق أن الأبيض وجد وسطًا حسنًا فارتقى به في حين وجد الأسود وسطًا سيئًا فانحط به.

•••

وفي الأدب متشائمون ومتفائلون أيضًا؛ أي محافظون واشتراكيون.

الأدب المحافظ، الأدب المتشائم، هو أدب الجمود والتقاليد، وكراهة التغيير، وكراهة المرأة، والخوف من المستقبل، وهو الأدب الذي يجد المبررات للاستعمار وللتفاوت بين الطبقات.

والأدب الاشتراكي هو أدب التغير والتطور، والإيمان بالمستقبل، ومكافحة الفقر والجهل والمرض، ومكافحة الاستعمار والاستبداد.

هو أدب الشعب الذي يكتب بلغة الشعب.

ولننظر نظرة عاجلة في مسرحية «أهل الكهف» التي ألفها الأستاذ توفيق الحكيم كي نحكم: هل هي أدب متشائم أم أدب متفائل؟

فهذه المسرحية تنهض على أسطورة شاعت بين المسيحيين حوالي القرن الثالث، حين كان الرومان الوثنيون يضطهدونهم، وتتلخص في أن بعض المسيحيين فروا من الاضطهاد إلى كهفٍ ناءٍ واختبئُوا فيه، ثم جاءت المعجزة، فإنهم كانوا ينوون قضاء ليلتهم، أو بعض الليالي، مختبئين، ثم يعودون إلى المدينة عندما تنحسر موجة الاضطهاد، ولكنهم ناموا نحو ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، ثم استيقظوا وبعثوا أحدهم كي يشتري لهم طعامًا من المدينة وهم جميعهم على توهم بأنهم لم يناموا غير ليلة واحدة، ولكن هذا المبعوث عاد يخبرهم بأن نقوده التي يحملها لشراء القوت لم تقبل؛ إذ إن هناك نقودًا أخرى لها سكة أخرى، ثم يخرج الآخرون فيعرفون بعد عناء أنهم كانوا نيامًا، وأن النوم طال إلى نحو ٥٠ أو ١٠٠ سنة، وأن الدنيا تغيرت، وهم لا يستطيعون أن يعيشوا في العصر الجديد؛ لأن ناس هذا العصر قد نشئُوا على عادات وأفكار غير ما ألفوه في حياتهم، ولذلك آثروا الموت على الحياة، وعادوا إلى الكهف كي يموتوا.

وواضح أن القصة تشائمية، مع أن منطقها كان يدعو إلى التفاؤل، هنا مسيحيون تضطهدهم الوثنية، فيفرون إلى كهف للاختباء، ثم يستيقظون فيجدون أنهم قد حظوا بمعجزة؛ إذ ناموا نحو نصف قرن أو أكثر، ولكنهم بدلًا من أن يفرحوا لأن الدنيا قد تغيرت وفق ما أرادوا، وأن الوثنية قد زالت وجاءت المسيحية — ديانتهم هم — مكانها، بدلًا من أن يفرحوا بهذا الانتصار حزنوا لديانتهم، وآثروا الموت على الحياة؛ لأنهم وجدوا ناسًا وعصرًا غير ناسهم وعصرهم.

فأي سخف أكبر من هذا؟ هل ينتحر الإنسان؛ لأنه فقد ثروته وأصدقاءه ووسطه؟!

أليس في انتصار الإيمان بالمسيحية على الإيمان بالوثنية ما يبرر بقاءه، بل فرحه؟ أليس في هذا الانتصار انتصار للشعب؟

ولكن الأستاذ توفيق الحكيم لم يذكر الشعب هنا، ولو ذكره لتفاءل له، وجعل القصة تنتهي بمهرجان الانتصار، انتصار الحياة، لم يذكر الشعب؛ لأنه ليس اشتراكيًّا متفائلًا.

في هذه المسرحية لم يكن توفيق الحكيم إيجابيًّا؛ فإن رجاله لم يحلوا مشكلتهم إلا بالاعتكاف والانزواء، ثم الموت؛ أي ذلك الحل السلبي الذي يلجأ إليه العَجَزَةُ الذين لا يفكرون، ثم هو آثر لهم الموت على الحياة، وكأنه قد صار داعية انتحار بدلًا من أن يكون داعية حياة.

والنقد السليم للأدب هو النقد الاجتماعي، أي أن الناقد يسأل: ما هي قيمة هذا العمل الأدبي في المجتمع؟ هل هو يحض على الحياة والصحة والخير، أم يحض على الانتحار والمرض والشر؟

فهل دعا توفيق الحكيم في هذه المسرحية إلى الحياة؟

الجواب: لا، إنه دعا إلى الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤