الأدب الملوكي والأدب الشعبي

أثار الدكتور طه حسين هذه الأيام الأخيرة (١٩٥٤) غبارًا بشأن الأدب كما يكتبه الكتَّاب وكما يقبل عليه القراء، فتنقَّصه وأزرى به، واتهم الكتَّاب بأنهم يهدفون إلى الرخيص السهل؛ إيثارًا للكثرة غير المثقفة من القراء، ثم دعا إلى الأدب العالي أو الغالي على ما فيه من صعوبة؛ لأنه هو الأدب الحق، وما عداه مزيف.

وفي هذا الكلام كثير من الغبار والضباب يستحق أن نجلوه.

وأول ما نجلو هنا أن نميِّز بين الأدب الملوكي أو الفاروقي، وبين أدب الشعب أو الدهماء؛ لأن هذا التمييز هو بؤرة النقاش من حيث لا يدري بعض المناقشين.

وإذن ليست المشكلة هي مشكلة الصعوبة أو السهولة، وإنما هي مشكلة الأدب الملوكي والأدب الديمقراطي، وهل يجب أن يكتب الكتاب للخاصة أو للكافة؟ وهل يجب أن يعالج الأدب بهارج الخاصة وامتيازاتها في الغرام والسلطة واللؤلؤ، أم يعالج مشكلات العامة في الحب والسياسة وحكمة العيش وشرف الإنسان وحرية الضمير؟

لقد كان الأدباء القدماء، في الغرب والشرق، يؤلفون القصة أو الدرامة أو يرسمون الرسوم أو ينحتون التماثيل فيكون موضوع الفن الذي يمارسونه ملكًا أو أميرًا أو بطلًا يقعقع بالسيف على المسرح، وهذا هو ما نرى في أدب شكسبير، أو قصص «الأغاني» العربية، أو تماثيل أو قصص الإغريق وأشعارهم وتماثيلهم.

هذا هو ما نرى في الأغلب، وقلَّ أن نجد للعامة من يمثلهم في هذه التماثيل أو القصص أو الأشعار، إلا إذا كان الكاتب من العامة التي لم تتعلم مثل مؤلفي «ألف ليلة وليلة».

وكانت هذه الحال طبيعية؛ لأن الشعب، عند الرومان والعرب القدماء، بل كذلك إلى حدٍّ ما عند الإغريق، لم يكن موجودًا، ونعني أنه لم يكن في وجدان الأدباء والفنانين؛ لأن النظام الاجتماعي كان نظام السادة الإقطاعيين تقريبًا، وكان الشعب بمثابة العبيد، بل إني أشك في أن كلمة «الشعب» قد ذكرت في أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم بمعناها العصري؛ ذلك لأن كتب الأدب العربي هي كتب الملوك والأمراء، وهذه الأجزاء العشرون أو أكثر من الأغاني هي قصص السادة ملوكًا وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم من رجال الدين والحرب والسياسة، ولست هنا أنسى قيس ولبنى وأمثالهما، ولكن هذه القصص لا تبلغ جزءًا من مائة من صفحات الأغاني.

ونستطيع أن نقول لهذا السبب إن الأدب القديم كان ملوكيًّا، يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها؛ ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني عن القصور والخمور والمغنيات والموائد المطهمة والفروسية الحربية، أما الشعب فلا وجود له عنده.

بل ماذا أقول؟ إن في الأغاني شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يدعى علي بن أحمد، حاول أن يحرر العبيد ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن مؤلف الأغاني، الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية والروح الديمقراطي، كان يصفه بكلمات: الخبيث والفاسق والكافر واللعين.

اعتبر هذا أيها القارئ، رجل عربي يدعى علي بن أحمد، هتف به الشرف، فحمي قلبه وارتفع روحه، وصلى وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويفحص عن أسنانه، وتدس الأيدي بين أفخاذه، ويجر لسانه، ثم يضربه البائع بالعصا فينطلق وهو عريان يعدو للامتحان، ثم يقدر ثمنه، فيباع ويسلم سلعة للمشتري.

رأى علي بن أحمد هذا الهوان، فقال: هذا لن يكون. ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي يريد تغيير المجتمع، ولكن الخليفة هزمه بجيوشه الأجنبية التركية.

مثل هذا العظيم، هذا الإنسان الكمالي، هذا الرائد للحرية، لم يجد من أديب «الأغاني» سوى أنه: خبيث وفاسق وكافر ولعين!

لقد قال سارتر — على ما أذكر — إن صناعة الأديب هي الحرية. فماذا كان يقول عن علي بن أحمد وعن مؤلف الأغاني؟ إنني واثق أن أدباءنا الذين ينعون على أدبنا الحاضر الارتخاص والسهولة إنما يطلبون أدبًا كذلك الذي يملأ صفحات الأغاني، وهم كما يحبون كلمات الأغاني يحبون أيضًا أفكار مؤلفها؛ لأن الكلمات أفكار.

لم يكن مستغربًا أن يفسد كل شيء في عهد فاروق، وأن يفسد الأدب أيضًا مع ما فسد.

وأعني بكلمة «فاروق» ما تحمله هذه الكلمة من قيم رمزية للاستعمار البريطاني والاستبداد الملوكي والفساد الأدبي في أيامه وقبل أيامه.

لم يكن عجيبًا أن يؤلف علي الجارم القصائد في مدح فاروق، ولعله دخل المجمع اللغوي وقُبِلَ عضوًا فيه بسبب هذه القصائد!

ولم يكن عجيبًا أن يكون الشاعر الأول في مصر — أحمد شوقي — شاعر الملوك، حتى فخر وباهى بأنه قد نشأ ورُبِّيَ على أعتاب إسماعيل، ثم بعد ذلك، أو قبل ذلك، لم يخجل من تأليف قصيدة يطعن فيها البطل المصري عرابي ويتهمه بالخيانة، مع أن شوقي لم يكن جديرًا بأن ينفض الغبار عن حذاء عرابي.

وقد ألفت قصائد قبل بضع سنوات عن الجمل الذي فر من المجزر، ثم استجار بفاروق في قصر عابدين … ألفها «أدباء»!

يا للعار! يا للخجل من هذا الأدب «الصعب» والأدب الملوكي!

والله لو ألَّف أدباء الشعب قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم بلغة العامة، وكسروا ألف قاعدة من قواعد النحو، لكانوا أشرف من أحمد شوقي وعلي الجارم ومن سار خلفهما أو حذاءهما من الكتاب الملوكيين.

أجل والله، لقد قرأت باللغة العامية كلمات تشع بالإحساس النبيل، وتنطق بالحكمة البليغة لحسين شفيق المصري وأبي بثينة وبيرم التونسي، وأحببتهم بقدر ما كرهت هذا الذي سب رمز الشرف الوطني أحمد عرابي.

أدب الملوك والأمراء والباشوات هو هذا الأدب الذي يدعو إليه الدكتور طه حسين.

أذكر أني كنت أتحدث إلى أحمد شوقي عن كليوباطرة، وأن أنتقد مديحه لها في قصته المسرحية، فقال إنها ملكة مصرية رأى أن يزكِّي شرفها، فقلت: إنها بغيٌّ أجنبية! فدهش لكلامي، وأحسست الهوة التي تفصل بيني وبينه.

وقبل شهر كنت في دندرة وزرت معبدها، فرأيت صورة هذه البغي مع ابنها الذي كان ثمرة زِنا قيصر بها، فلعنتُهما، ولعنت شوقي، وبصقت في الهواء.

أجل، إن شوقي كان يمدح عباس أو فؤاد أو فاروق كما كان يمدح كليوباطرة اللعينة، ولم يفكر قط في مكان الشعب المصري مع كل هؤلاء.

أدب الملوك يحتاج إلى أن يُكتَب بلغة الخاصة؛ لأن أخص الخاصة هو الملك.

وأدب الملوك يحتاج إلى أن تَكتب عن التاريخ القديم؛ لأنك بهذا الموضوع تفر من الواقع الحاضر وتسلي وتسامر، وكلمة «السمر» فرعونية للحديث مع الملوك والأمراء وتسليتهم …

وأدب الملوك هو أن تلعن دعاة الثورة وتدعو إلى التقاليد؛ لأن التقاليد لا تتفق مع الثورات.

وأدب الملوك هو أن تلعن دعاة الأفكار الجديدة؛ لأنهم يقلقون الشعب في استقراره، وهو استقرار الفقر والجهل والجوع.

التاريخ القديم، والتقاليد، والعقائد، تؤيد النظام الملوكي، فأيما كاتب يخرج عليها إنما يخرج على العرش، وهو لذلك يجب أن يطارد.

فمن دعا إلى القبعة يعد عدوًّا.

ومن دعا إلى التيسير في اللغة للوصول إلى العامة يعد عدوًّا.

ومن دعا إلى أن يرتبط الأدب بالمجتمع ويبحث مشكلاته يعد عدوًّا.

ومن دعا إلى تطور يعد عدوًّا!

وكل هذا معقول عند الملوك ومن التف حولهم.

لقد ألَّف «الأديب» مصطفى صادق الرافعي جمعية لمحاربة الدعاة إلى القبعة. وما يسميه أدبًا، ويؤلف فيه، إنما كان جهلًا نشيطًا ورجعية مكافحة، ولم نكن نجد في هذا الأدب فكرة واحدة من تلك الفكرات الحوامل التي تلد وتثمر الخير للشعب.

•••

وأرجو ألا يلتبس موقفي عند القارئ، فإني لا أعادي القدماء، والثقافة القديمة هي تراث بشري عظيم لا يهمله إلا مغفل، بل أنا لا أكاد أقرأ كتابًا عربيًّا إلا إذا كان مؤلفه من القدماء!

ولكن يجب أن نميز بين قديم وقديم؛ ذلك أن هناك قدماء قد يفصل بيننا وبينهم ألف سنة أو ثلاثة آلاف سنة، ولكنهم قدماء معاصرون؛ أي يشتغلون بهمومنا البشرية أو الاجتماعية العصرية.

وهل أنسى فضل هذا العظيم «إخناتون» وبيني وبينه أكثر من ثلاثة آلاف سنة، حين دعا إلى السلم الذي ما زلنا ننشده إلى الآن؟! وأية دعوة أحمُّ إلى القلب، وألصق بالذهن، وأسمى في الشرف، من دعوته، في عالمنا الحاضر الذي يقف على شفا البركان؟

وهل أنسى هذا الإمام العظيم «ابن حزم» حين يدعو إلى الحب ويجعله أساسًا للسعادة، ويحض الناس على أن يحبوا، وينص على أننا لا نستطيع أن نحب غير امرأة واحدة، وأن ينشدوا العفة والشرف مع من يحبون؟ وبيني وبين ابن حزم ألف سنة.

وهل أنسى هذا العظيم الآخر «ابن رشد» وبيني وبينه أيضًا ألف سنة، حين يعزو تخلف الشعوب إلى أن المرأة قد ضرب عليها في البيت فلا تخرج ولا تختلط بالمجتمع، لا تشتغل بشئون الرجال ولا ترتزق بكدها ولا تملأ وظائف الدولة؟

هؤلاء وعشرات، بل مئات غيرهم، هم القدماء المعاصرون الذين يعيشون في عصرنا ويتحدثون إلينا حديث الضمير والعقل والشرف، ويحاولون تنبيهنا إلى القيم الإنسانية التي نسيناها أو كدنا.

لا، ليست العبرة في الأدب أو الفن بالقديم أو الجديد، وإنما العبرة بقيمة هذا الفنان أو الأديب، قيمته الإنسانية أو الاجتماعية التي يحم إلينا ونحم إليه بها، فنتبادل وإياه الفكرة في حنان وانشغال إنسانيين.

وكذلك ليست العبرة في الأدب أن يكون سهلًا أو صعبًا؛ لأن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق.

قولوا لنا: هل مؤلفات تولستوي صعبة أم سهلة؟ وهل هي بليغة أم مبتذلة؟ ثم ماذا كان يقول تولستوي لو أننا ترجمنا له كتابًا مما يسمى في مصر «كتب البلاغة» وقلنا له ونحن نهديه إليه: تعلم هذه القواعد حتى تجيد الكتابة البليغة والتأليف المجدي؟

ألا ترون أيها الناس أنكم في أدب ملوكي وبلاغة ملوكية، وأن الشعب يطلب بلاغة شعبية ديمقراطية؟

يجب أن يموت هذا الأدب الملوكي، أدب المجاز والاستعارة والتورية والبهارج والمحسنات، هذا الأدب الذي ينأى عن إحساس العصر ووجدان الشعب، ويخلو من الأهداف الإنسانية، ويجب أن يكون للأدب دستور جديد، بحيث يحترم الشعب، الشعب أولًا، والشعب أخيرًا، والإنسانية في كل زمان ومكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤