نحتاج إلى كتاب شهداء

قبل نحو عام تقريبًا كتبت مقالًا بهذا العنوان وسلمته لإحدى المجلات، فرده إليَّ رئيس التحرير وهو يقول: إن الجمهور لا يتحمل كل هذا الذي قلته. وتناولت المقال منه ووضعته على الرف في أسف وحزن.

وقد تذكرت هذا المقال في الأسبوع الماضي وأنا أقرأ ما يكتبه القائمقام أنور السادات بعنوان «نحو بعث جديد»، فإنه فكر وتجرأ، فكتب كلمات من نور كان لا بد أن يسمعها الجمهور المصري من رجل مخلص أمين، ورأيت أنا عندئذ أن أنبش عن مقالي المطروح، فإن أنور السادات بمقالاته الرائعة قد أتاح لي الفرصة لأن أنشره على القراء.

وقبل ذلك أنقل بعض ما قال هو، وهو إذا لم يكن تلخيصًا لما كتبه، فإنه على الأقل يعين معالم الطريق في تفكيره الإصلاحي الذي أعتقد أنه كان يجب أن يكون تفكير الأدباء والكتاب قبله، وهو ما أهملوه؛ لأنهم انقادوا بالعامة بدلًا من أن يقودوها، قال:

وأنا لا أنسى حادثًا وقع أمام عيني ذات يوم هنا في مصر … فقد رأيت شابًّا متعلمًا ينتمي إلى إحدى الهيئات المعروفة في إحدى المناسبات، وكانت هناك سيدة فاضلة في المكان، صافحناها جميعًا — نحن الرجال — وكان زوجها طبعًا معنا … وعندما مدت السيدة الفاضلة يدها إلى ذلك الشاب لتصافحه ارتد إلى الوراء مذعورًا كأن إنسانًا يهاجمه ليقتله، ورفض أن يصافح السيدة.

وسألناه لماذا؟! والحيرة تستبد بنا، ففهمنا منه أن الذين يوجهونه في الحياة ويخضع لهم في نشاطه وفي أفكاره قد أكدوا له أن محمدًا الرسول «المناضل الحر» لم يضع يده في يد امرأة.

ومن خلال هذا الحادث البسيط العابر يمكننا أن نفهم مدى ما يتمتع به تجار الدين في بلادنا من وعي وإيمان بالتطور الإنساني، وبرسالة أقوى الثوار وسيد الأحرار محمد؛ فهم بدلًا من أن يقولوا لهذا الشاب إن محمدًا قد دعا إلى العمل وبناء المجتمع وتخليص البشرية من الجهل والجمود والاستغلال ونشر العمران والحضارة في جميع الأقطار، يحدثونه عن وضع يد الرجل في يد المرأة وكيف يصبح هذا جريمة! وكيف أن منع هذه الجريمة هو الهدف الذي نزلت من أجله رسالة الإسلام!

الكهانة إذن في بلاد المسلمين تريد أن تعطل نصف المجتمع …

لحساب من؟!

هل يفعلون ذلك لحساب النهضة والبعث والحرية والعدل والحق؟!

أم لحساب التطور الإنساني ومصالح الأفراد والجماعات؟!

لا هذا ولا ذاك!

فتعطيل نصف المجتمع معناه تأخر هذا المجتمع وتخلفه عن اللحاق بموكب المدنية والعلم والتقدم، وهذا إذا تم فسيكون قطعًا لحساب أعداء البشرية … لحساب الرجعية … لحساب المشعوذين!

ويقول:

استعمر الغرب إذن الشرق — كما قلت — بعد أن نهض وأصبح يملك الحضارة!

وتعاون معه تجار الدين، وسارت الكهانة في ركابه تمنع عن الشعوب الإسلامية الأفكار الجديدة، والعلم الجديد، والفن الجديد، تمنع عنا الثقافة، وتعاون الغرب في إقامة ذلك الستار الحديدي بيننا وبينه لكي لا تقفز الحضارة إلينا!

وعشنا في كنف الغرب …

والكهانة ماضية في التأكيد لنا أن المدنية زيف ورجس عظيم … والعلم من صنع الشيطان!

والاستعمار لا يجد أبرع من هذه الدعوة في مواصلة استعبادنا، وفي نفس الوقت يتقدم هو إلى الأمام … إلى أقصى قمم المدنية والعمران!

المدنية زيف … الحضارة شر … التقدم خروج على مشيئة رب العباد … هذه هي دعوة الكهانة في بلاد المسلمين!

أكتفي بما نقلت عن السيد أنور السادات، والحق أن هذه الكلمات قد زادتني إيمانًا بأننا في نهضتنا نسير مع الأحرار المخلصين الذين ينظرون إلى وطننا ليس نظرة الأمانة والإخلاص فقط، بل نظرة الذكاء والفهم أيضًا.

وبعد هذا الذي نقلته سيجد القارئ مقالي تافهًا ضعيفًا، ولكن عليه أن يذكر تحرجي، بل عليه أن يذكر أن هذا المقال على ضعفه قد رفض نشره ممن كانوا يتحرجون أكثر مني، وإليك نص المقال:

على أثر الحوادث المؤسفة التي حدثت في السودان عند افتتاح البرلمان نشرت كلمة قلت فيها إننا نحن والسودانيين، بل جميع أبناء الشعوب العربية، نحتاج إلى كتاب شهداء من الصحفيين والأدباء والمؤلفين والشعراء.

وذلك لأنه اتضح من هذه الحوادث المؤسفة في السودان، وكذلك من الحوادث التي حدثت في مصر في الثلاثين سنة الماضية، أن الشعوب العربية كانت تضلل بدلًا من أن ترشد، وأن الزعماء والقادة الذين يستحقون النصيحة، بل أحيانًا العقوبة، كان يتملقهم الكتاب ويؤلف الشعراء في مديحهم القصائد الطوال، وكأنهم بذلك يؤيدون العار ويصمدون له.

ثم هناك رجعيون كانوا يعطلون ارتقاءنا، ويصمون المفكر المخلص بأنه كافر أو إباحي أو خائن، مع أنهم كانوا يعرفون في أعماق سرائرهم أنهم يفترون، ولكنهم كانوا يتملقون العامة والغوغاء بدلًا من أن يقودوها.

ومثال ذلك أننا كلما دعونا إلى إصلاح العائلة، أو تقييد الزواج، أو تقييد الطلاق، أو مساواة المرأة بالرجل، أو تعليمها حتى تستطيع الاستقلال والكسب، أو التسليم بحقوقها الدستورية ناخبة للبرلمان ومرشحة للعضوية فيه، أو نحو ذلك، هب في وجوهنا هؤلاء الرجعيون يتهموننا بالكفر ومخالفة التقاليد.

وقد استطاعوا تضليل العامة، ونجحوا في هذا التضليل.

لقد وصل إليَّ، قبل أسابيع، خطاب من كاتب في الزقازيق يقول لي فيه إن ما أسميه رجعية وأحاربه في مقالاتي إنما هو الدين.

من الذي ضلل هذا المسكين سوى الرجعيين في مصر؟! بل من الذي ضلل السودانيين سوى الرجعيين في السودان؟! إن الرجعيين هم الذين هبوا يريدون تحطيم الحياة البرلمانية البازغة في بلادهم!

نحن نحتاج إلى أدباء وكتاب وصحفيين ومؤلفين شهداء، لا يرفضون تملق القادة والزعماء فقط، بل يرفضون أيضًا تملق العامة والغوغاء ويصرون على أن يقولوا الحق ويكافحوا الرجعية، لا بأس من أن يتعرضوا لسخط العامة والغوغاء، فإن قادة الجيش هبوا في يوم ٢٣ من يوليو في سنة ١٩٥٢ ثائرين على الكبار من الرجعيين من فاروق فنازلًا، وكانت رءوسهم على أكفهم، وكان يمكن أن يشنقوا أو يضربوا بالنار لو أنهم كانوا قد أخفقوا.

والمعنى أنهم كانوا مستشهدين.

فلماذا لا يكون عندنا كتاب شهداء يستهدفون لغضب العامة الغوغاء ويقولون لهم: إنكم تعيشون في أسر تقاليد خرافية، تؤخركم وتحطم مجتمعكم، وتفسد عليكم مستقبلكم، ولن يبلغ استشهادهم على كل حال درجة الإعدام.

ليس هناك من ينكر أنه يجب على السياسي والأديب والكاتب والصحفي والموظف أن يكونوا جميعهم شعبيين، بمعنى أن يكون الشعب هو الهدف لنشاطهم يعملون لخدمته وترقيته.

ونعني هنا الشعب لا العامة ولا الغوغاء.

وما دمنا قد وضعنا هذا الهدف، فإن كل مفكر قد وقف على حركة التاريخ العصري، وعرف التطورات الاجتماعية للأمم العصرية، يحس أنه يجب أن يقود الشعب وألا ينقاد بالعامة والغوغاء.

ونحن هذه الأيام نلعن الساسة الذين أقحمونا في حرب فلسطين في سنة ١٩٤٨ بلا استعداد، وعرفنا أن أعضاء البرلمان الذين كانوا على دراية بالنقص في أسلحتنا وأعتدتنا سلموا مع ذلك وقبلوا هذه الحرب؛ لأنهم انقادوا للعامة والغوغاء وأحجموا عن المعارضة خشية أن يتهموا بالخيانة للوطن أو للدين.

وكلنا الآن يأسف على ذلك؛ لأن السياسي يجب أن يقود ولا ينقاد.

ولكن هذا الأسف نفسه يجب أن نأسفه أيضًا على أولئك الأدباء والكتاب الذين لا يتصدون للخرافات التي توصف بأنها تقاليد، والتي تؤخر أمتنا وتعوقها عن التطور؛ لأن الأديب الذي يخلص لوطنه، مثل السياسي الذي يخلص لوطنه، يجب أن يقود الشعب ولا ينقاد بالعامة والغوغاء، يجب أن يتحداهم ويصلحهم ويرقيهم ويحملهم على التطور.

إني لا أمدح نفسي حين أقول إني استهدفت لسخط العامة والغوغاء حين ألفت كتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان»، وكتابي هذا هو سلاح لتحطيم الخرافات، وكان هذا في سنة ١٩٢٥، وفي ١٩٥٤ كتبت جملة مقالات قلت فيها إن المجتمع الانفصالي، الذي يفصل بين الجنسين، يؤدي إلى العاهة النواسية، وجابهت العامة والغوغاء بكلامي هذا، وهو كلام أعتقد أنه حق. وقبل سنوات، عندما استفحلت الحركات الدينية وتدخل زعماؤها في السياسة كتبت في الدعوة إلى فصل الدين من الدولة، وقلت إن ميدان الدين هو الحرام والحلال، أما ميدان السياسة فهو الخطأ والصواب. وكنت في هذا القول متحديًا مجابهًا أيضًا للعامة، ومن مدة قريبة كتبت جملة مقالات قلت فيها إن الأدب العربي القديم لا يساعد على تخريج الأديب العصري، وكنت في هذا أيضًا متحديًا مجابهًا للعامة والغوغاء من الكتاب التافهين كبارًا وصغارًا.

وأكرر القول بأني لا أتمدح بهذا الكلام، ولكني أحس أن كثيرًا من الأدباء والكتاب والصحفيين قد تملقوا، ولا يزالون يتملقون، العامة والغوغاء، فوق تملقهم السابق للقادة والساسة وعلى رأسهم البغي فاروق، مع أننا في حاجة إلى من يربون العامة والغوغاء ويحملونهم على أن يدخلوا في العصر الجديد.

عصر العلم بدلًا من الخرافات.

وعصر المساواة بين الجنسين بدلًا من الحجاب المنزلي أو الاجتماعي.

وعصر الاستبشار بالمستقبل بدلًا من الاعتماد على التقاليد والتقيد بالماضي.

وعصر الزواج على أساس الحب والاعتراف بحق الشبان والفتيات في الحب.

وعصر الصناعة والآلات بدلًا من الزراعة والإقطاع.

وعصر الاشتراكية بدلًا من الانفرادية.

وعصر الأدب المرتبط بالمجتمع الهادف إلى الإنسانية، بدلًا من الأدب الذي يحيا في الهواء والخواء، أو يأسن في البرج العاجي، أو ينشد اللذات للملوك والأمراء أو للعامة والغوغاء.

إننا — نحن الكتاب — سنلاقي السخط من العامة والغوغاء عندما ندعو هذه الدعوات، ولكن لكل حرفة مسئولياتها، ومسئوليتنا هنا أن نربي العامة والغوغاء، ولا نتملقها ونسير خلفها فنضللها ونؤخرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤