الفصل الأول

يوم أن ماتت صحافة مصر

في سنة ١٩٣٠ كان يبدو للمتأمل أنَّ الصحافة قد باتت من الفنون التي ينجح فيها سوى غير المصريين، وقد ينتهي من تأمل الواقع — في انتشار الصحف غير المصرية، وانخذال الصحف المصرية، وغنى الصحفيين الأجانب وامتلاكهم الدور الفخمة والضياع الخصبة، وفقر الصحفيين المصريين، وتشردهم في الشوارع لا يملكون كوخًا ولا قيراطًا — أن الكاتب الأجنبي في مصر أذكى عقلًا، وأبعد نظرًا، وأدق تحريرًا للصحف، مجلات كانت أو جرائد، من الكاتب المصري.

ولكن هذا الاستنتاج سرعان ما ينقلب إلى النقيض عندما كان يتعمق القارئ في تأمله ويربط النتائج بأسبابها؛ فالحقيقة أن الظروف السياسية كانت مدة الاحتلال الإنجليزي (أي سنة ١٩٢٠) تعمل لكبت الروح الوطنية بمساعدة الجرائد الموالية للإنجليز، ومعاكسة تلك التي تُنَاوِئُهُمْ، فنحن نرى عقب الثورة العرابية أن الحكومة تدفع تعويضًا ضخمًا لأصحاب جريدة غير مصرية، لأن الثائرين كسروا المطبعة لانضمام هذه الجريدة إلى الخديو، وكان هذا فاتحة اليسر والخير لتلك الجريدة، ثم نجد الإنجليزية بعد ذلك يسندون بنفوذهم جريدة المقطم التي أصبح أصحابها بهذا السند القوى من أغنياء القطر المعدودين؛ وعلى هذا كان يرى القارئ في سنة ١٩٣٠ أن تفوق الصحف غير الوطنية لا يُعْزَى إلا لأسباب لا يرضاها مصري لنفسه.

ثم جاءت الحركة الوطنية سنة ١٩١٩، وحدثت الانشقاقات في الوفد بعد ذلك وصار لكل حزب جرائده، والصحفيون غير الوطنيين في مصر يعيشون كالملوك «فوق الأحزاب» فهم يتمصرون ولكن تمصرهم لا يحملهم على الغلو في الوطنية؛ ولذلك فهم يستفيدون من الوطنية المصرية لأنهم يَتَحَامَوْنَ ما فيها من غلو، هذا الغلو الذي جعل الأستاذ عبد القادر حمزة يصدر منذ سنة ١٩٢٠ إلى سنة ١٩٣٠ «١٤» جريدة تقفل كلها، بعضها إقفالًا نهائيًّا وبعضها لبضعة أشهر.

فلنفرض أننا قابلنا بين صحفي غير وطني وبين الصحفي المصري عبد القادر حمزة، فهل من الإنصاف أن نُقَيِّمَ هذه المقابلة على النتيجة الحاضرة، وهي موت البلاغ وإفلاس صاحبه، بينما كانت الصحف المحايدة في سنة ١٩٣٠ حية تملأ الشوارع، وأصحابها قد تكدست خزائنهم بالمال؟

نظن أن ذلك ليس من الإنصاف، والذي كان يقول بعجز المصري عن تحرير الصحف وإدارتها لا يمكنه أن يضرب المثل بالبلاغ والصحف المحايدة التي كانت تنافسها في ذلك الوقت، فإنه يفتح أعيننا للطرق التي كان يعيش بها الصحفي الأجنبي من الصحافة، وهي طرق لا يرضاها مصري.

ومن البديهي أنه لا يمكن لمصنع في العالم أن يعيش إذا كان يعرض للإغلاق ١٤ مرة في عشرة أعوام، كما حدث للجرائد التي أصدرها الأستاذ عبد القادر حمزة.

وهكذا أوشكت صناعة الصحافة في ذلك الحين أن تُفْلِتَ من أيدينا وتمسي صناعة غير مصرية يحتكرها غير المصريين، وليس للصحفي الأجنبي ميزة علينا فيها سوى أنه لا يغضب عندما يجب الغضب، ولا يبالي مصلحة مصر تعرض للضياع ما دام هو يربح هذا الضياع ما يزيد دخله بض مئات من الجنيهات، وهو على كل حال يمتاز بوطن آخر يمكنه أن يذهب إليه ويعيش فيه إذا لم يوافقه العيش في وطننا، ولكن أين نذهب نحن؟!

وكان عارًا علينا أكبر العار أن يُوكَلَ تكوين الرأي العام المصري إلى أقلام غير مصرية، غريبة عنَّا في المزاج، لا يشغل قلوب أصحابها ما يشغل قلوبنا من أماني وآمال، ولا يؤلمها ما يؤلمنا.

وظهر نوع من الصحف المحايدة، وكان على رأس إحدى هذه الصحف صحفي قارح، وكانت توارب وتراوغ فلا تستطيع إلا أن تَشْمَئِزَّ منها؛ فهي تكتب أحيانًا مقالًا مستور اللهجة والغاية، تخرج منه بأن حكومة معينة حسنة وحزبًا معينًا حسن، وكان هذا هو النفاق الذي يشمئز منه الإنسان.

وكانت هناك جريدة غير مصرية تهاجم حزبًا، ولكنها كانت تخشى أن يفلت منها القراء المائلون إليه، فهي تشطر نفسها شطرين لتضمن القارئ، فتجعل نفسها حكومية، وتجعل مجلة أسبوعية أخرى تصدر عن نفس الدار حزبية، فمن يكره الجريدة اليومية لحكوميتها يقرأ المجلة الأسبوعية لحزبيتها!

وكانت هذه المجلات والجرائد تعيش في بلادنا، ويربح أصحابها الألوف من الجنيهات، وتستقر لهم بها صناعة يُثرون منها مع ما فيها من الأذى، بينما كتابنا المصريون أمثال محمود عزمي يبحثون عن عمل آخر غير الصحافة يستطيعون أن يعيشوا منه؛ لأن صحفنا المصرية كان قد مضى عليها عشرون سنة وهي تعطل ويخرب أصحابها ويشتت محرروها، أما الصحف الأجنبية فلا تعل ولا يمس أصحابها أذى.

وكان علينا جميعًا أن نقرأ كل يوم ما يكتبه لنا الصحفيون غير المصريين فيما يجب علينا وما لا يجب أن نتبعه في سياسة بلادنا من الخطط، كأن الصحفي الأجنبي هو الوحيد الذي كان يُؤْتَمَنُ على مصلحة مصر في الصحف، أما المصري فلا يؤتمن على ذلك.

وكان هذا شقاء.

وكان هناك صحفي غير مصري يكتب صباح مقالًا افتتاحيًّا للمصريين عن فوائد الاحتلال البريطاني، وجهالات الوطنيين الذين لا يعرفون ما يقولون، وكان هذا الصحفي يسمي الزعيم مصطفى كامل «شحاذ بردنجوت»، وكان قبل ذلك يكتب في جريدة في الخرطوم، يشتم المصريين ويمدح الانجليز، وكان يكتب كل يوم مقالًا عن الأوباش المجرمين الذين يطالبون بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في مصر، ويدعو الرجعيين إلى أن يملئوا صحيفته بآرائهم، فإذا وجد من ذلك فائدة مالية تملأ اليد فذاك، وإلا فإنه يدعو المجددين للكتابة في صحيفة ويَحُثُّهُمْ على شتم الرجعيين، ثم يدعو فيقول إن هذه الوزارة حسنة وتلك سيئة، وإن النظام البريطاني لا يفيد المصريين كثيرًا، وإنما يفيدهم بناء الموانئ وصنع السفن إلخ. وعاشت تلك الجريدة طول عمرها تقول إن احتلال الإنجليز لمصر خير من استقلالها، وكانت صحيفة غير مصرية أخرى في الصراع الذي قام بين الخديو توفيق والحزب الوطني تُمَالِئُ الخديو وتساعده على الأمة التي نُكِبَتْ به.

وكان كل هذا مسبة لذكائنا ووطنيتنا وعارًا بل فضيحة لتَغَلُّبِ هذه الصحف على صحافتنا.

وهكذا كان أولئك الصحفيون غير المصريين أغنياء، وكنا نحن الصحفيين المصريين فقراء، وليس ذلك لأنهم أذكياء ونحن بلداء؛ لأننا كنا نكتب بضمير وطني، ونغضب عندما نعتقد أن الغضب واجب، وهم يكتبون بضمير غير وطني ولا يغضبون لأية نكبة تنزل بنا، لأن الوطن ليس وطنهم بالعاطفة والقلب.

وكانوا لا يبالون بالأذى يصيب عقولنا، وهم أغنياء يملكون دورًا كالقصور، ويعيشون في ترف قد لا يبلغه الوزراء، ولم تكن هذه الجرائد والمجلات غير المصرية تخشى تعطيلًا من الحكومة، ولم يكن أحد من التجار يتوقع لها موتًا قريبًا أو بعيدًا؛ ولذلك كانت تنال إعلاناتهم وتستحوذ بذلك على آلاف الجنيهات التي يُحْرَمُ منها الصحفي المصري لأن التجار لا يثقون بصحفه إذ هي عُرْضَةٌ للتعطيل في كل وقت.

ونترك هذه الصحف غير الوطنية ونقصد إلى حيث كان يعيش الصحفيون المصريون، فكَأَنَّكَ انتقلت من مدينة الأحياء إلى جبَّانة الأموات. كنت تجد أحدهم قابعًا في غرفة أو شقة وقد تَأَخَّرَ علية إيجاره لخمسة أو ستة أشهر، أو كنت تجده يصدر الصحيفة وهو لا يملك المطبعة، أو هو يملك المطبعة ولا يملك الصحيفة، وكنت تقرأ الصحيفة المصرية فلا تجد بها أخبارًا لأنها عُطِّلَتْ مرارًا حتى تركها المخبِرون وبحثوا لهم عن عمل آخر يستطيعون أن يعيشوا منه.

ودار الصحيفة مصنع، تكتسب الخبرة فيه بالتجارب المتكررة ويحظى بعطف التجار بالاستمرار، فالصحيفة إذا عطلت ١٤ مرة في ١٠ سنوات، كما عطلت جرائد عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وأحمد حافظ عوض وتوفيق دياب، لا تستطيع أن تحظى باعتماد التاجر في إعلانه، بينما كان الصحفي الأجنبي المحايد يمكنه أن يختار أحسن المخبرين ويشتري الورق بالثقة، وكان لا يمكن للصحفي المصري أن يفعل ذلك، كان قد مضى عليه عشرون سنة وهو مزعزع، تقفل داره في أي وقت، ويطرد إلى الشارع في أي وقت؛ ولذلك لم يكن يثق به أحد. عشرون سنة مضت من الاضطهاد للصحافة المصرية قضت علينا وجعلتنا فقراء.

وكانت لنا خصومات داخلية أسدلت على عيوننا غشاوة، فصرنا لا نفقه الحق ولا نستطيع تمييزه من الباطل، حتى بِتْنَا ينبذ بعضنا بعضًا بالخيانة، فصار الدستوري لا يقرأ جرائد الوفد، وصار الوفدي لا يقرأ جرائد الدستوريين؛ فانتهت القصة أو المهزلة بأن التجأنا إلى الجرائد المحايدة نقرأها لأنها ليست وفدية ولا دستورية.

ومضى علينا أكثر من عشرين سنة وجرائدنا ومجلاتانا تُقفل بحزبية عمياء وعصبية صماء، وسقطت الصحافة المصرية بذلك، وخسرت في ذلك الحين كل شيء إلا الشرف، فصار الغنى في جانبهم والفقر في جانبنا، والوجاهة لهم والاحتقار لنا؛ وكل ذلك لأننا كنا نخلص لمصر وطننا.

وكنا نصدر الجريدة أو المجلة فلا يثِق بنا تاجر ويأتمننا على إعلان واحد، وكانت تفتح الجريدة الأجنبية في مصر فتراها حافلة بالإعلانات التي تعود على أصحابها بعشرات الألوف من الجنيهات، ولكنك كنت تفتح المجلة أو الجريدة المصرية فلا تجد بها إعلانًا واحدًا يستحق الذكر.

وهكذا انهزمت الصحافة المصرية، وأصبح الصحفي المصري شخصًا ساخطًا فقيرًا، أضاع ماله كما أضاع عمره في صناعة اعتقدَ أنه سيجد فيها المجال للخدمة الصادقة لأمته؛ فعادت عليه هذه الصناعة بخسارة العمر وخسارة المال. وكنت أينما سرت، من الاسكندرية إلى أسوان، لا تجد إلا جرائد ومجلات مصرية في النزع الذي تستقبل فيه الموت القريب.

مثل هذه الحال كان يجب أن ندرسها وأن نتعرف أسبابها، لأنها حال لم تتفق وكرامتنا الوطنية أو مصلحتنا الاقتصادية.

الصحيفة هي مرآة الأمة، مرآتها اليوم تريها نفسها كما هي الآن، ثم هي مرآتها في الغد تريها نفسها كما يجب أن تكون في المستقبل.

وهي لهذا السبب يجب ألا يقوم بها أجنبي غريب عنها في الدم أو المزاج أو الرجاء، ولكل أمة مزاجها التي تتميز به من سائر الأمم، فنحن نضحك من النكتة التي لا يضحك منها الأجنبي لأن لنا مزاجًا هو خلاصة آلاف السنين من الوراثة ليس لأحد أبناء الأمم الأخرى. ولكل أمة فكاهتها التي تضحكها ولا تضحك غيرها، فقد يأخذ أحدنا مجلة بنش الإنجليزية أو سمبلسموس الألمانية ويقلب صفحاتها فلا يفتر ثغرة بابتسامة، بينما يجد الإنجليزي أو الألماني فيها ما يجعله يقهقه.

فهذا المثال البسيط يدلنا على أن لكل أمة ذوقًا لا يستجيب للغريب في النكتة والفكاهة، وهي كذلك لا يمكنها أن تستجيب للغريب في الأدب أو الصحافة، بل هي إذا استجابت له في ذلك فاستجابتها برهان على أن ذوقها قد فسد ونفسها قد وهنت لطول ممارستها لهما، وهذه الصحف والمجلات الأجنبية في مصر لم تكن تعبر عن النفس المصرية أو الذوق المصري، لأننا كما نختلف عن الأجانب في النكتة والفكاهة كذلك نختلف في الروح الصحفية، ومن الإفساد الكبير لأذواقنا ونفوسنا المصرية أن نطبعها بطابع أجنبي.

ولكل أمة رجاء تقصد إليه بقلبها وعقلها، ونحن لنا رجاء الاستقلال والحرية والإصلاح الاجتماعي، وهو رجاء لا يؤنِس قلب الصحفي الأجنبي، ولو أنه آنسه لكانت بلاده أولى به منَّا.

لقد مات مصطفى كامل فكان شبابُنا يبكون في الشوارع، ومات بعد ذلك سعد زغلول فكانت نساؤنا قبل رجالنا يبكينه في البيوت، فهل بكى الأجنبي من أجل مصطفى أو سعد؟

وكان لنا مسائل اجتماعية، منها مسألة المرأة ومسألة الفلاح، وهي مسائل كانت تشعرنا بالضفة والانحطاط كلما رأينا الشقاء الذي يعيشان فيه، وكنا نحن راضيين بالتضحية والجهاد من أجل إصلاحها، فهل كان يرضى الصحفي الأجنبي في مصر بأن يضحي بشيء من ماله أو نفسه من أجل ذلك؟ كلا؛ لأن رجاءنا كان يختلف عن رجائه.

والصحافة هي بعد ذلك نوع من الأدب الجديد، أدب الجماهير والعامة، فهل نحن نبغي منه أدبًا مصريًّا أو أدبًا أجنبيًّا؟

ليس شك أننا كنا نريد أدبًا مصريًا. كنا نريد من الصحفي المصري أن يخاطبنا بلغتنا، وأن يحرض في نفوسنا الأماني المصرية، ولم ننتظر من الصحفي الأجنبي أن يؤدي لنا هذا الواجب؛ بل هو لا يستطيعه لو أراده لأن نفسه غير نفسنا، فلم نكن ننتظر من الجرائد والمجلات الأجنبية أن تطالبنا بدرس الحضارة الفرعونية كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل، وأن يثبت على هذه الدعوة بينما المجلات الأجنبية تتهمه بالإلحاد من أجلها، ولم نكن ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنية مصرية، كما فعل الأستاذ لطفي السيد في الجريدة، مع الإهانات المتكررة التي لقيها من العامة على ذلك.

والخلاصة أن الصحيفة التي يقرأها المصري يجب أن تكون مصرية بالدم والروح والمزاج، لأنها مرآة نفسه في اليوم والغد، وتمثل رجاءه في الاستقلال والحرية، وتنشد له أدبًا مصريًّا يتفق ومزاجه ولغته وبيئته ومصريته.

وكانت الصحافة تجارة مثل أي التجارات، ولكن كانت قيودها أثقل من سائر التجارات، وكان الصحفي المصري يحمل هذه القيود راضيًا وينزل على شروطها صاغرًا، لأنه كان يراها تتفق ومصلحة وطنه التي هي أكبر من مصلحته، ولكن الصحفي الأجنبي لم يكن يبالي بهذه القيود، فهو كان ينشد من هذه التجارة الربح، والربح فقط.

لهذا السبب مضت علينا ثلاثون سنة والجرائد المصرية تعطل بينما الجرائد الأجنبية لا تعطل، وانتهت هذه الحال بأن أصبحت الصحافة في مصر صناعة أجنبية كاد ينساها المصري، ونحن نعرف من الشبان المصريين عشرات هجروا الصحافة لأنهم وجدوا من تعرضها المستمر للتعطيل ما يجلب عليهم الجوع والحرمان، فتركوها ساخطين.

والصحفي الأجنبي المحايد لم تتعرض جريدتُه للتعطيل لأنه كان يسير مع كل حزب ويمشي وراء الغالب، وهو لم يكن يشعر بالعار يلحق بالإنسان إذا استبدل بآرائه وخططه السياسية خططًا وآراء أخرى كما يستبدل الإنسان حذاءه؛ وذلك لأن مصر ليست وطنه، وهو إنما هاجر إليها يبغي منها المال ولم يبغِ منها وطنًا؛ ولهذا السبب لم تكن تجد أجنبيًّا ينضم إلى حزب معين من الأحزاب السياسية المصرية، وقد تسمع منه أنه متمصِّرٌ وأنه لا يعرف من الأوطان سوى مصر، ولكنه مع ذلك لم يكن يرضى أن يكون وفديًّا أو دستوريًّا لأن مصلحته التجارية كانت تدفعه إلى أن يبقى خارج الأحزاب يستغلها كما يشاء، ولأنه كان يخشى اذا هو تقيد بأحد الأحزاب أن يتعرض للتضحية، ثم هو إلى الأغراض المالية والكسب المادي كان يسير على الدوام مع الكثرة من العامة في الشئون الاجتماعية.

وكنا نحن في مصر نطالب بحرية المرأة، ولكنه كان يرى أن العامة تكره هذه الحرية، فهو يسير مع العامة ويدافع عن الحجاب، مع أنه في بيته وبين أهله وبني وطنه كان يضحك منَّا وينسب تَأَخُّرَنَا إلى الحجاب، وهذا هو السبب في المقالات الكثيرة التي كان يكتبها الرجعيون في الجرائد المحايدة الأجنبية في الدفاع عن الحجاب وتفشي الإلحاد في مصر.

هذا إلى هذر وهذيان وسخف من القصص والحكايات والخرافات كان يُكتب في الصحف الأجنبية لتسميم العامة وإضعاف عقولها.

وبينا كنا نرى الصحف المصرية معطلة والأقلام المصرية مقصوفة، نرى المجلات الأجنبية تنساب بين العامة كأنَّها الحيات السامة، تشرح لهم كيف أن «الأستاذ» حافظ نجيب كان ينصب على الناس، وكيف أن بطلًا من أبطال الأوباش كان يأكل حذاءً كاملًا، وكيف استطاع شحاذ أن يشتري بالشحاذة عقارًا ضخمًا، وكيف يُدَخَّنُ الحشيش، وأين؟

وكان يكتب هذا في مجلات أنيقة الطبع، تستهوي العين بالصور الجميلة وبالطبع الحسن، فيقرأها الشاب المصري ويضعف عقله ويختل نظرُه للأشياء، حتى ليظن العبقرية في النصب والشحاذة والسخافة.

ولنضرب مثلًا على الأجنبي في مصر بواحد منهم جعل الصحافة المصرية هذرًا وهذيانًا، يجمعون منها قروش العامة ويثرون، بينما عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وعباس العقاد وحافظ عوض وتوفيق دياب ومحمد أبو طايلة وأحمد حلمي وغيرهم، تقصف أقلامهم وتخرب بيوتهم.

كان هذا «الأستاذ» يكتب في المجلات الأجنبية قصصًا يتكرر بعضها عشر مرات أحيانًا عن فتح الله بركات باشا، الذي يختلف عن سائر الناس أجمع من حيث إنه لا يأكل المدمس وانما هو يغمِّس اللقمة في مرق المدمس فقط، ويذكر «الأمير» فاروق فيقول عنه: إنه لا يخاطب جلالة والده أو والدته بقوله «يا صاحب الجلالة» أو «يا صاحبة الجلالة»، وإنما يقول كما يقول سائر الأطفال في العالم: يا «بابا» ويا «ماما»، ثم يذكر الامير عمر طوسون فيقول عنه: إنه يدخن الشيشة قبل الظهر ويدخنها أحيانا بعد الظهر وأحيانًا لا يدخنها قبل الظهر أو بعد الظهر، ثم هو — أي الأمير — يأكل في الغذاء أكثر من العشاء، وأحيانا يأكل في العشاء أكثر من الغذاء.

ثم يقول إن الأستاذ لطفي السيد تقابل مع علي الشمسي باشا فبدلًا من أن يبدأ التحية علي باشا بدأها الأستاذ لطفي السيد.

هذا هو الكاتب المثالي الأجنبي الذي كان يكتب للعامة هذا الهذر ليضعف عقولهم، بينما كتابنا المخلصون كانت أقلامهم قد قصفت، وكان بعضهم يبحث عن عمل آخر غير الصحافة يمكنه أن يعيش منه دون أن يتعرض للجوع.

وفي سنة ١٩٣٠ أصدر إسماعيل صدقي باشا قرارًا بإقفال ثلاثة مصانع مصرية، هذه المصانع هي:
  • (١)

    «البلاغ» لصاحبه عبد القادر حمزة.

  • (٢)

    «الكوكب» لصاحبه أحمد حافظ عوض.

  • (٣)

    «اليوم» لصاحبه توفيق دياب.

وكل من هذه الجرائد كان مصنعًا يحتوي على آلات كبيرة، ومواد كيماوية، ويحتاج إلى عمال ميكانيكيين وكيماويين يفهمون الآلات ويدرون بالأصباغ، ولا يمكن لأحد هذه المصانع أن يرتقي ويبلغ درجة من الإتقان تجذب عين القارئ إلا بعد تجارب وتضحيات كبيرة، وقد كان يعيش في كل من هذه الجرائد وحولها نحو خمسمائة أسرة مصرية.

ولكن هذه المصانع المصرية أقفلت، فوثبت الصحف المحايدة الأجنبية إلى الأمام وأخذت مكانها، والجريدة ترسخ بالزمن لأنها مصنع يرتقي بالتجارب الفنية، والزمن وحده هو الذي يجعلها تنال حظوة التجار في الإعلان عن بضائعهم، والتاجر لا يمكنه أن يأتمن جريدة على إعلانات وهي معرضة للموت في أي يوم.

وهذه الخطة في إقفال الجرائد المصرية قد مضى عليها عشرون سنة بل أكثر، وكانت تسير نحو هدم الصحافة باعتبارها صناعة مصرية وإحيائها باعتبارها صناعة أجنبية، حتى بتنا نحن الصحفيين المصريين نرى الهزيمة واضحة في جانبنا والفوز ظاهرًا في جانب الأجانب، وبينما كانت الحكومة تسن القوانين لمساعدة المصانع الأخرى، تعمد إلى المصانع الصحفية المصرية فتقتلها؛ فكنا في حاجة إلى تغيير الخطة كلها للمحافظة على هذه الصناعة.

ونحن نضرب مثلًا عن شناعة هذه الخطة بجريدة البلاغ، فهذا «البلاغ» قد اشترى في سنة ١٩٣٠ ماكينة للطبع لا يقل ثمنها عن سبعة آلاف جنيه ويبلغ قسطها الشهري ٧٠٠ جنيه، وكانت هذه الماكينة تستطيع إخراج البلاغ بالألوان والصور، وقد عطَّله إسماعيل صدقي بعد تجارب مضى عليها أشهر، كانت كلها خسارة في انتظار الربح القادم، أي لما أوشك كل شيء أن يتم وبعد التضحيات الكثيرة عُطِّلَتِ الجريدة، ولم يكن على الأستاذ عبد القادر حمزة سوى أن يبيع هذه الماكينة بأبخس ثمن أو أن يعلن إفلاسه، وفي إفلاسه إفلاس العمال الذين تعلَّمُوا هذه الصناعة، بل إفلاسنا جميعًا.

ثم كانت إحدى الجرائد الأجنبية التي تسير مع كل حزب وتجري مع كل ريح، وتضحك منَّا جميعًا، قد اشترت ماكينة للطبع بالألوان أيضًا ونجحت بها، ولم تخش الجريدة الخسارة لأن صاحبها لم يصدم بأية قوة غالبة في البلاد، وعندما عاد البلاغ إلى الظهور كانت الصحف الأجنبية المتفرِّجة قد رسخت ونالت حظوة القراء، وحظوة التجار في الإعلانات، فلم يستطيع البلاغ أن يزحزحها عن مكانها.

والمغزى أن مصنعًا أجنبيًّا كان يتغلب على مصنع مصري ويقتله، والنتيجة أني أنا وأنت أيها القارئ المصري كنا نخسر بهزيمة الصحف المصرية التي يعطلها الحاكم.

والعلاج الوحيد هو أن ننقل العقاب من الصحيفة إلى الصحفي؛ فالصحيفة المصرية مصنع يجب ألَّا يُقْفَلَ بأية حال، فإذا حدثت عن سبيلها جناية فلنعاقب الجاني وهو الشخص الكاتب، ولا نعاقب الصحيفة. فلنفرض أن جريدة البلاغ مثلًا ارتكبت جناية، فلنقبض على المرتكب ونعاقبه، أما الجريدة فيجب أن تصدر كل يوم لأنها في نفسها لا ترتكب الجناية وإنما هناك شخص أو أشخاص يرتكبونها وهم الذين يستحقون العقاب.

وقد كان القدماء يعاقبون الآلة التي ارتُكِبَتْ بها الجريمة فيتلفونها، ولكنَّنا ارتقينا عليهم وقصرنا العقاب على الشخص الجاني.

أما الآلة فشيء نافع يجب أن يستمر في العمل، فإذا فرضنا أن قاطرة داست بعض الناس وقتلتهم فنحن لا نتلف القاطرة بل نعاقب السائق، ونترك القاطرة تؤدي خدمتها للجمهور بعد أن يتسلمها سائق آخر خبير بالسياقة، وهكذا يجب أن تكون الحال في الصحافة عندما ترتكب إحدى الصحف جناية، نعمد إلى الكاتب فنجلده أو نحسبه أو نشنقه، ولكن يجب أن تترك الصحيفة تصدر كل يوم وتؤدي خدمتها للناس لأنها هي الآلة، وهي حديد وحبر وورق، لا يمكنها وحدها أن ترتكب جناية، وإنما المرتكب شخص يمكن استبداله وعقابه، ثم في إقفال الجريدة أو المجلة قتل لصناعة مصرية يجب أن تُشَجَّعَ وتعيش مثل سائر الصناعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤