محرم بك

وُلِدَ محرم بك بمدينة قولة حوالي سنة ١٧٩٥، ثمَّ هاجر من بلاده وجاء إلى مصر وتقرَّب إلى محمد علي باشا، ولم يلبث أن آنس فيه الوالي من الصدق والإخلاص وحميد الصفات ما حدا به إلى وضع كامل ثقته فيه، فاتخذه صِهرًا له وزوَّجه من كريمته تفيدة هانم.١

وفي سنة ١٨١٠ عُيِّن محرم بك حاكمًا للجيزة، وكان متوليًا إدارة هذا الإقليم في أول مارس سنة ١٨١١ عندما وقعت مذبحة المماليك بالقلعة، فاستولى بناء على أمر محمد علي باشا على أموال المماليك المقيمين في مديريته من خيول وجمال وهُجُن وغيرها.

وحوالي سنة ١٨٢٠ أسند محمد علي باشا إلى محرم بك منصب محافظ الإسكندرية، فأظهر من الكفاءة والمواهب في حسن إدارة دفة أمور هذه المدينة ما أهَّله في غضون سنة ١٨٢١ — علاوةً على منصبه — للاشتراك مع إسماعيل بك جبل طارق في قيادة السفن المصرية التي خرجت إلى المياه العثمانية لمساعدة الدولة العلية في حرب المورة.

وفي ٢٥ يونيو سنة ١٨٢١ (٢٤ رمضان سنة ١٢٣٦) أصدر إليه محمد علي باشا أمرًا باللغة التركية، هذا تعريبه:
قد عُلم لكم أنه أحيل تأديب الأروام الثائرين على الدولة إلى عُهدتي. وحيث إن السفن الحربية التي استعدَّت لغاية الآن قد بلغت أربع عشرة سفينة، فقد أنبتكم عني في قيادتها، فتوكلوا على الله تعالى وأسرعوا بالإقلاع بها إلى الجهة المقصودة وأدُّوا الخدمة اللازمة في هذه المأمورية حسبما تقتضيه حقوقها المقدسة. وقد حررت صورة من هذا الأمر إلى مطوش قبودان الذي ستسافر سفينته بمعيتكم.٢
ولما كان الجيش المصري تحت إمرة إبراهيم باشا قد عبر البحر الأبيض المتوسط ونزل في أرض اليونان شاهرًا سلاحه، فقد عزم الثائرون اليونانيون على القيام بعمل حازم ينتقمون به من المصريين، فعهدوا بهذه المهمة إلى أحد زعمائهم كاناريس Kanaris الذي أقلع على ظهر أحد المراكب تحرسه حراقتان، ورفع على سارياتها أعلامًا روسية أو إنجليزية حتى وصل إلى الإسكندرية يوم ١٠ أغسطس سنة ١٨٢٥، وتسرَّب خلسة داخل مينائها، ودفعت الرياح مراكب كاناريس حتى صارت على مقربة من السفن المصرية الراسية أمام قصر رأس التين. غير أنه اتفق أن مرَّ في هذه اللحظة زورق الجمارك، فتعرَّف رُكَّابه على المراكب اليونانية وافتضح أمرها، فتجاوب الثغر نداء الخطر وانطلقت المدافع من كل جانب صوب السفن الأجنبية حتى اضطر كاناريس إلى الملاذ بأهداب الفرار بعد أن ترك من ورائه مركبه طعامًا للنيران، ووقع بحارته أسرى في قبضة المصريين. وقد انطلق إبريق خفر السواحل في إثر مراكب اليونانيين الفارين، واستقلَّ محرم بك محافظ الإسكندرية في اليوم التالي فرقاطة تتبعها أربعة أباريق وأراد اللحاق به، ولكنه قفل راجعًا في المساء دون أن يتمكن من الاهتداء إليها.

وما إن سمع محمد علي باشا بهذا الخبر حتى ركب من فوره إبريقًا في يوم ١٢ أغسطس سنة ١٨٢٥ وأراد أن ينتقم بنفسه من تلك الإغارة الجريئة، فوصل إلى شواطئ جزيرة رودس، ولكنه لم يقف لليونانيين على أثر، فعاد من حيث أتى في العشرين من أغسطس.

ولشدَّ ما كانت دهشة الوالي عند رجوعه؛ إذ علم أن غداة يوم إبحاره — أي في يوم ١٣ أغسطس سنة ١٨٢٥ — حضر إلى الإسكندرية أسطول عثماني مكوَّن من ثماني فرقاطات وتسع قراويت وأربع وعشرين وحدة من أباريق وغوالت تحت قيادة خسرو باشا، فرحَّب محمد علي باشا بمقدِمه ووضع تحت تصرفه مليونًا من القروش، وأصدر أوامره إلى دار صناعة السفن بإنجاز ما قد تحتاج إليه السفن العثمانية من تصليح أو ترميم.

وفي يوم ١٢ أكتوبر سنة ١٨٢٥ (٢٩ صفر سنة ١٢٤١ﻫ) عيَّن محمد علي باشا صِهره محرم بك قائدًا للدونانمة المصرية تحت إمرة إبراهيم باشا، وخصَّه بمرتب قدره ١٠٠٠٠٠٠ قرش سنويًّا أي ٨٣٫٣ جنيهًا شهريًّا.٣ فكان ثاني أمراء البحار في ذلك العصر ولمَّا يتجاوز الثلاثين من عمره بعد.

وفي يوم ١٧ أكتوبر سنة ١٨٢٥ أبحر من الإسكندرية الأسطول المصري والأسطول التركي البالغ مجموع قطعهما ١٢٩ وحدة (منها ٦٥ مسلحة للحرب)، وعلى ظهرها ١١٠٠٠ جندي، بعد أن عقد محرم بك لواءه على الفرقاطة «الإحسانية» التي اتخذت مكانها على اليمين. وفي يوم ٢٧ أكتوبر ألقت السفن مرساها في جزيرة كريت، ومنها تابعت سيرها إلى ميناء نافارين، حيث خفَّ إبراهيم باشا لاستقبالها عند وصولها في الخامس من نوفمبر سنة ١٨٢٥.

وقد لبث محرم بك يتنقَّل من ثغر إلى ثغر في الشواطئ اليونانية باحثًا منقِّبًا عن مياوليس Miaulis وسختوريس Sachtouris من قواد البحر اليونانيين، حتى سقطت ميسولونجي في قبضة إبراهيم باشا في الثاني والعشرين من مارس سنة ١٨٢٦، فأبحر على إثر ذلك في يوم ٢٦ مايو سنة ١٨٢٦ وعاد إلى الإسكندرية.

وفي يوم ٢٢ نوفمبر سنة ١٨٢٦ خرجت من ثغر الإسكندرية قوة بحرية مؤلَّفة من فرقاطتين وخمس قراويت وثمانية عشرة إبريقًا وثماني غوالت بقيادة محرم بك، وانضمَّت إليها ٢٧ نقالة عثمانية و٢٣ (وفي رواية أخرى ٢٦) مركبًا تجاريًّا أوروبيًّا غالبيتها مستأجرة من النمسا. ولم تكن المهمة المنوطة بها هذه المرة هي نقل الجند من مصر إلى اليونان، بل كانت مهمتها حمل المؤن والذخيرة إلى تلك البلاد. وعلى الرغم من الصعوبات التي اعترضت طريقها، فقد وصلت القافلة البحرية سالمة إلى ميناء نافاريان في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر سنة ١٨٢٦، وأبحرت منه في يوم ١١ إلى خليج السودا، ومنها أقلعت في يوم ٢١ يناير سنة ١٨٢٧ عائدة إلى الإسكندرية فوصلت إليها في اليوم الثامن والعشرين من يناير سنة ١٨٢٧.

وفي شهر مارس سنة ١٨٢٧ أبحر محرم بك من الإسكندرية إلى جزيرة كريت على رأس فرقاطة وعشرة قراويت وأباريق مقلَّة سليمان أغا حاكم الجزيرة الجديد ومعه بعض القوات. وبعد أن وقفت هذه السفن قليلًا بكريت تابعت سيرها إلى كورون ونافارين حيث وضعت نفسها تحت تصرف إبراهيم باشا لتعاونه في الهجوم على قلعة ترينز Castel Tarnese، ولم تطل الإقامة بها هناك إذ عادت إلى مصر في غضون الشهر نفسه.
وفي مستهل فصل الربيع سنة ١٨٢٧ قدم الأميرال الإنجليزي كوشرين Cochrane إلى الإسكندرية على رأس أربع وعشرين سفينة، من بينها الفرقاطة «هيلاس Hellas» التي عقد عليها لواءه. وكان قد بيَّت نيته — كما صرح بذلك عند إبحاره — على أن يعيث النار والفساد في المدينة، غير أن محمد علي باشا لم يعبأ بوعيد القائد البريطاني الذي طبَّقت شهرته الآفاق، وأصدر أوامره في الحال بالتأهب للقتال، فاضطر الأميرال كوشرين إلى الإسراع في الإقلاع واستقلَّ محرم بك فرقاطة سارت من ورائها ثلاث أخرى وأخذ يبحث في طول البحر وعرضه عن الأميرال الإنجليزي وعن مراكبه ولكنه لم يقف لها على أثر، فعاد إلى الإسكندرية في التاسع والعشرين من أبريل سنة ١٨٢٧.

وفي أواخر يونيو سنة ١٨٢٧ خرج محرم بك ثانية إلى البحر بعد أن عقد لواءه على الفرقاطة «الجهادية» على رأس خمس فرقاطات أخرى وخمس قراويت وتسعة أباريق وغوالت، فتولى حراسة قافلة مكونة من عشر سفن قادمة من أزمير إلى الإسكندرية. وقد بلغ محرم بك جزيرة رودس حيث قسم سفنه قسمين: قسمًا أقلع غربًا وقسمًا أبحر شرقًا، ثمَّ التقى الجمعان في ثغر الإسكندرية يوم ١٣ يوليو سنة ١٨٢٧.

ولم تنقضِ عشرة أيام على وصوله حتى عاد محرم بك إلى ركوب البحر، فعقد لواءه على الفرقاطة «الجهادية»، وخرج على رأس قوة بحرية مصرية مؤلَّفة من إحدى وثلاثين قطعة، من بينها أربع فرقاطات وعشرة قراويت وستة أباريق وخمس شواني وست حراقات، انضمت إليها قوة بحرية عثمانية بقيادة القبودان حسين بك مؤلَّفة من عشرين وحدة من بينها سفينتان وخمس فرقاطات وتسعة قراويت وكذلك ثلاث فرقاطات وإبريق واحد من تونس، كما سارت في إثر الحملة خمس وعشرون نقالة وخمس سفن نمساوية مستأجرة وثماني قطع صغيرة. فأقلع مجموع هذه القوات البالغ عددها تسعًا وثمانين قطعة تقل ٤٦٠٠ مقاتل من ثغر الإسكندرية فيما بين يومي ٢٣ يوليو و٥ أغسطس سنة ١٨٢٧ قاصدًا شبه جزيرة المورة لإمداد جيش إبراهيم باشا هنالك. وكان الغرض الأول من هذه الحملة إنما محاصرة جزيرة هيدرا Hydra التي كانت أهم معقل للثورة اليونانية.

وفي يوم ٩ سبتمبر سنة ١٨٢٧ رست العمارة المصرية بميناء نافارين وانضمت إلى أسطول تركي آخر مؤلَّف من اثنتين وثلاثين قطعة، من بينها سفينة واحدة وتسع فرقاطات وأحد عشر قراويت وتسعة أباريق، وكذلك قرويت وإبريق من طرابلس حضرت جميعها من الآستانة بقيادة أمير البحر طاهر باشا. وقد تولى إبراهيم باشا القيادة العامة للقوات البرية والبحرية وأخذ يتأهَّب لتجهيز حملة بحرية على جزيرة هيدرا وتجريد حملة برية على شمال المورة.

وبينما هو كذلك إذا باثنتي عشرة سفينة من قطع الأسطول الإنجليزي تحضر في يوم ١٢ سبتمبر سنة ١٨٢٧ تعقبها سبع سفن من وحدات الأسطول الفرنسي في يوم ٢١ منه، ثمَّ تلحق بها ثماني سفن من الأسطول الروسي في أوائل شهر أكتوبر، ويطلب قوادها المتحالفون من إبراهيم باشا وقف حركات القتال برًّا وبحرًا طبقًا لأحكام معاهدة لندرة. ولما كانت العلاقات بين تركيا والحلفاء لم تزل حتى ذلك الحين ودية في الظاهر — وإن توترت في الباطن — فقد تعهَّد إبراهيم باشا ببقاء أسطوله في نافارين إلى أن ترد له تعليمات من والده محمد علي باشا ومن الباب العالي في هذا الشأن.

ولئن قطع إبراهيم باشا على نفسه هذا العهد إلا أنه لما رأى الأميرال كوشرين Cochrane والجنرال شورش Church البريطانيَينِ قد جمعا قواتهما للزحف بهما على باتراس، اعتبر إبراهيم أن نصوص الهدنة قد نُقِضت من جانب الحلفاء وأنه أصبح في حِلٍّ من عهده، فأبحر في يوم أول أكتوبر سنة ١٨٢٧ على رأس أربع عشرة سفينة ومعه طاهر باشا ومحرم بك، وولى وجهته في اتجاه باتراس، غير أن الأميرال الإنجليزي كودرنجتون Codrington اقتفى أثر هذا الأسطول وأرغمه على العودة إلى مرساه بنافارين، حيث وصل في يوم ٧ أكتوبر سنة ١٨٢٧.

ولم تمضِ إلا أيام معدودات حتى تلَّقى إبراهيم باشا من محمد علي باشا رسالة ينبئه فيها بأنه عرض الأمر على الباب العالي وأنه سيوافيه بتعليماته النهائية في هذا الصدد عند ورود رد الدولة العلية، على أنه يوصيه بالتزام خطة السلم وتجنب الاصطدام مع الدول أو التحرش بقوتها حتى ولو طلب إليه الباب العالي غير ذلك.

وفي منتصف أكتوبر سنة ١٨٢٧ غادر إبراهيم باشا نافارين وزحف على رأس جزء من جيشه داخل المورة لإنجاد الحاميات المصرية التي كانت قد استهدفت لهجوم الثوار اليونانيين، ولم يفت إبراهيم قبل سفره توصية محرم بك قائد الأسطول المصري وطاهر باشا قائد الأسطول العثماني بعدم التحرش بالأساطيل المتحالفة وعدم الخروج إزاءها عن قواعد المودة والمجاملة؛ لأن العلاقات بين الحلفاء وتركيا ومصر لم تزل قائمة ولم تُعلَن الحرب بعد بين الفريقين.

وفي يوم ١٨ أكتوبر أرسل الحلفاء إنذارًا على يد رسول أرسلوه إلى نافارين لإبلاغ إبراهيم باشا بأنه وقد نقض أحكام الهدنة يُعتبَر مسئولًا عن هذا العمل وعن عواقبه الخطيرة. غير أن الرسول وصل بعد قيام إبراهيم باشا، فعاد بالرسالة إلى الأميرال كودرنجتون Codrington قائد الأسطول الإنجليزي الذي بادر إلى استدعاء زميليه الأميرال دي ريني De Rigny قائد الأسطول الفرنسي والأميرال هيدن Hayden قائد الأسطول الروسي، فاجتمع قواد الحلفاء وتداولوا في الأمر فاستقرَّ رأيهم على الدخول بأساطيلهم ميناء نافارين لإجبار إبراهيم باشا على تنفيذ مطالبهم. وفي منتصف الساعة الثانية بعد ظهر يوم ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧ أصدر الأميرال كودرنجتون القائم العام للأساطيل المتحالفة أمره بالتأهب للقتال، وعند تمام الساعة الثانية اقتحمت سفن الدول بوغاز نافارين.

وكانت السفن المصرية والتركية راسية داخل ذلك الميناء على ثلاثة صفوف شبه متوازية، كل صف في شكل نصف دائرة يمتد طرفاها من نافارين الجديدة الواقعة على يمين البوغاز إلى جزيرة أسفاختريا، ووقفت البوارج والفرقاطات في الصف الأول والقراويت في الصف الثاني والأباريق وغيرها من السفن في الصف الثالث.

ولما رأى محرم بك اقتحام البوغاز على هذه الصورة المثيرة بادر إلى إنفاذ رسول إلى البارجة الإنجليزية «آسيا» يطلب إلى الأميرال كودرنجتون أن يعدل عن الرسو بأساطيله في نافارين، فأجابه القائد البريطاني بأنه لم يأتِ ليتلقى منه أمرًا بل حضر ليُملي عليه أوامره.

وواصلت سفن الحلفاء سيرها وأخذت مكانها في الميناء، فاصطفَّت تقريبًا على شكل نصف دائرة في مواجهة السفن المصرية والتركية، واقتربت منها حتى صار بعضها على مرمى المسدس منها، ووقفت البارجة الإنجليزية «دارتموث» على رأس الصف لتعطل عمل الحراقات المصرية الراسية عند مدخل الثغر.

وعلى إثر رصاصة طائشة انطلقت من إحدى السفن بدأ القتال في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر، وأطلقت السفن مدافعها وتجاوب الأسطولان الضرب، واستعرت نار الحرب والهيجاء، فانقلب المرفأ بركانًا من الجحيم واجتمعت بين جوانبه أسباب الهلاك والدمار، وصُمَّت الآذان من قصف آلاف المدافع ومن دويِّ انفجار السفن، وغشيت ميدان القتال طبقات من الدخان المتكاثف تتخللها النيران المشتعلة، ولم تعد السفن تميز بعضها بعضًا إلا على ضوء اللهب الذي كان يتصاعد بين آونة وأخرى من المراكب المشتعلة، واشتركت مدافع القلاع والبطاريات المقامة في طرف جزيرة أسفاختريا في إلقاء قنابلها، واستمر القتال على هذا المنوال حتى الساعة الخامسة مساءً، وانتهت الواقعة بالقضاء على العمارة المصرية والتركية إذ هلك معظمها نسفًا أو غرقًا، في حين جنحت البقية الباقية على السواحل، فأسرع بحارتها إلى إحراقها حتى لا تقع في أيدي الأعداء. وبلغ عدد قتلى المصريين والأتراك ثلاثة آلاف وخسائر الحلفاء ١٤٠ قتيلًا و٣٠٠ جريح.

وبعد أن وضعت المعركة أوزارها أقلع الأميرال كودرنجتون قائد الأسطول الإنجليزي إلى مياه الإسكندرية وأنذر بتخريب المدينة إذا لم يبادر محمد علي باشا باستدعاء قواته من المورة، فاضطر الوالي إلى الإذعان، وعقد مع الحلفاء اتِّفاقًا في أول أغسطس سنة ١٨٢٨ تعهَّد فيه بإخلاء شبه جزيرة المورة. وتنفيذًا لهذا الاتفاق أقلعت السفن بقيادة محرم بك وعادت بالجنود المصريين إلى مصر في الثامن من أكتوبر سنة ١٨٢٨.

ولما عاد محرم بك إلى مصر استبقاه محمد علي باشا في وظيفته الأولى محافظًا للإسكندرية، وانفرد بهذا المنصب وعكف بمعاونة الجنرال ليتلييه Le Tellier والطبيب جردل وبعض القناصل على ترجمة لوائح الكوارنتينات التي كانت تقضي بإنشاء محال بالقرب من الميناء الشرقية الجديدة، وبالقرب من طابية الفنار.

وقد ظلَّ محرم بك يشغل هذا المنصب إلى أن لبَّى نداء ربه، فتُوفي في الإسكندرية في العشرين من ديسمبر سنة ١٨٤٧ (١٢ المحرم سنة ١٢٦٤) ودُفِن بمقابر الأسرة المالكة في النبي دانيال. فأسف الناس أسفًا شديدًا لجميل سيرته وحبه للخير إذ كان جوَّادًا أعتق كثيرًا من مماليكه وأحسن إليهم بالعطايا الجزيلة، وباسمه سُمِّيَ حيُّ محرم بك بالإسكندرية.

وقد قال فيه الأميرال دوران فييل:
Moharrem bey, gendre du Pacha, était un peu seigneur turc de la vieille école, Kapoudji bachi, c’est-à-dire chambel-lan, et gouverneur d’Alexandrie, plein de dignités dans ses manières, il s’acquitta avec convenance de son rôle de représentation, mais ne se mêla jamais des détails du service. Les évènements, d’aillieurs, le maintinrent éloigné d’Alexandrie, et sur place, en Morée, il ne s’avisa jamais d’exercer une action personnelle; Ibrahim ne l’aurait pas permis! A son retour, en 1829, il reçot le gouvernement du Hedjaz et de villes saintes; c’était une récompense méritée et une retraite honorable.
Vice-Amiral Durand-Viel: “Les Campagnes navales de Mohammed Aly et d’Ibrahim”, T.I. p. 431.

وتعريبه:

كان محرم بك صِهر الباشا من سراة العهد القديم الأتراك الذين حافظوا على مذاهبهم ومبادئهم القديمة، وكان «قبوجي باشى» أي أمينًا من الأمناء، كما كان محافظًا للإسكندرية، وكان ذا هيبة ووقار ويؤدي مهام منصبه بكفاءة، ولا يشغل نفسه بسفاسف الأمور. ومع ذلك فإن الحوادث أبقته بعيدًا عن الإسكندرية حتى أنه وهو في بلاد المورة لم يشغل نفسه بأي عمل شخصي من تلقاء نفسه ولا سيَّما أن إبراهيم لم يكن ليسمح له بذلك. وعند عودته إلى مصر في سنة ١٨٢٩ أُسنِدت إليه ولاية الحجاز والحرمين الشرفين فكانت مكافأة له استحقها وتقاعدًا شريفًا.٤
١  وُلِدَت تفيدة هانم بنت محمد علي باشا في سنة ١٧٩٧ (١٢١٢ﻫ)، وتُوفيت بالإسكندرية في سنة ١٨٣٠، ودُفِنَت بمقابر الأسرة المالكة بالنبي دانيال.
٢  الأمير عمر طوسون: «صفحة من تاريخ مصر في عصر محمد علي»، هامش صفحة ٦٩.
٣  البكباشا عبد الرحمن زكي: «الجيش المصري في عهد محمد علي باشا الكبير»، ص١٨٨.
٤  المراجع: الأمير عمر طوسون: «صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي». الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك: «تاريخ الحركة القومية، عصر محمد علي». أمين سامي باشا: «تقويم النيل وعصر محمد علي». الأميرال دوران فييل: «حملات محمد علي وإبراهيم البحرية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤