الأمير محمد سعيد باشا

هو ابن محمد علي باشا الكبير من زوجته «عين الحياة قادن»،١ ورابع ولاة مصر من الأسرة العلوية، وخامس أمراء البحار في الأسطول المصري في ذلك العهد الزاهر. وُلِدَ بالقاهرة يوم الأحد ١٧ مارس سنة ١٨٢٢ (٢٣ جمادى الثاني سنة ١٢٣٧)، ونشأ في حِجر أبيه الذي كان يعزُّه ويُعنى بتربيته وتثقيفه، فأدخله في البحرية المصرية. وعلى إثر وفاة بيسون بك Besson استقدم محمد علي باشا من فرنسا المسيو هوسار بك Houssart لتعليم ابنه الأمير محمد سعيد الفنون البحرية، حتى إذا ما أحرز منها نصيبًا وافرًا انتظم في خدمة الأسطول وعيَّنه والده قبودانًا برتبة صاغ قول أغاسي على القرويت المُسَمَّى «دمنهور». وفي أواخر سنة ١٨٣٣ أبحر مع حسن باشا الإسكندراني وبعض وحدات الأسطول لتفقُّد شواطئ سوريا.

وفي يوم ٤ نوفمبر سنة ١٨٣٤ (٢ رجب سنة ١٢٥٠) عيَّن محمد علي باشا ابنه الأمير محمد سعيد بك معاونًا لمصطفى مطوش باشا سر عسكر الدونانمة وناظر البحرية المصرية وقتئذٍ، وأصدر إليه أمرًا أشار له فيه «بأنه حال وجوده بالدونانمة يلزم الامتثال لأوامر مطوش باشا وعدم جلوسه إلا بأمره، وإجراء التعظيمات اللازمة إلى سر عسكر المشار إليه وقت المرور عليه رعايةً لمنصبه كما هو مأموله فيه، وأن من البديهي حصول تعظيم سعادته من الباشا المشار إليه حال وجودهما خارج الدونانمة حتى بذلك ينال شرف الملك وتحصيل المعارف والآداب.»

figure
الأمير محمد سعيد وهو طالب في البحرية المصرية.

وقد حددت أوامر أخرى مرتب الأمير سعيد بك الشهري بمائة قرش «أسوة بسائر المساعدين بالدونانمة بناءً على استئذان مطوش باشا ناظر البحرية، وصُرِفَ ذلك المرتب على حساب السفينة الموجود بها.»

غير أنه يبدو أن الوالي لاحظ في التسعة شهور الأول التي قضاها ابنه في البحرية نتائج غير مرضية دعته في الثاني والعشرين من شهر يوليو سنة ١٨٣٥ (٢٦ ربيع الأول سنة ١٢٥٢) إلى إصدار أمر له هذا نصه:
صار مسموعي عدم التفاتك للدروس وميلك للراحة والرقاد ومعاشرة القبودانات القدم الذين لا يدرون شيئًا من الآداب وترك مجالسة من تكتسب منه مسلك الإنسانية، على أننا سبق نبَّهنا عليك بدوام الانتباه للدروس والسير بالمشي والحركة لعدم حصول السمن، واللازم عليك الائتلاف بمن لهم معرفة بالأصول الجديدة العارفين بالحالة والوقت، والاهتمام في تعلم تلك الأصول منهم حتى لا يُقال أن محمد علي سيئ الخلق، وأن هذا السير ليس سير الآدمية، فلا تغير نشأتك الأصلية. كما سبق النصح لك وتعظيم كبرائك والتزام التواضع مصداقًا للحكم والأحاديث، وتسعى فيما يكون به علو شأنك. وبمنه تعالى سأحضر للإسكندرية لامتحانك أمام أحد المدرسين، فإذا ظهر عدم الالتفات للدروس وعدم إزالة ثقل جسمك، فرحمةً بحالك أجري تأديبك. بناءً عليه يلزم أن تترك تلك الأدوار والسير على مقتضى هذا على الدوام على الحركة وإتعاب جسمك وعدم الاجتماع على عادمي الأدب والاقتداء بسير فارس أفندي المدرِّس والتطبع بأخلاقه لاتصافه بحسنها، وعدم تناول الطعام معه لاستنكافه بدعة استعمال الشوكة والسكين لأنه صوفي. فيلزم الإصغاء لهذه النصائح وترك ما أنت عليه، والميل والرغبة إلى التواضع لتكون مقبولًا عند والدك وعند الناس فضلًا عن علو شأنك.٢
وفي ٢٤ أبريل سنة ١٨٣٧ (١٧ المحرم سنة ١٢٥٣) أصدر محمد علي باشا أمرًا إلى الأمير سعيد قال له فيه: «إن من محبتي الأبوية ومودتي نحوك قد عيَّنت لك أساتذة للتدريس لك، ولمعرفتي دوام تشويقك لتحصيل المعارف، ولمجرد سماعي بزيادة تفوق ومهارة المدعو قيوده الرسام في الرسم وعلمَي الحساب والهندسة، قد حررت إلى مختار بك (هو مصطفى مختار بك مدير المدارس) لإرساله لطرفك، فعند وصوله يلزم المبادرة بالسعي في تحصيل الدروس كما ينبغي لتكون من ذوي المعارف، إذ بالسعي والاجتهاد تنال السعادة والعز، ومطلوبي بذل مجهودك في تحصيل رضاء والدك.»٣
وفي سنة ١٨٤٠ جعل محمد علي باشا في معية ابنه المسيو كونج Kœnig واليوزباشاة عرفان قبودان (عرفان باشا) وذو الفقار قبودان (وهو ذو الفقار باشا الذي صار فيما بعد ناظرًا للخارجية) وسرهنك قبودان (والد إسماعيل سرهنك باشا) بوظيفة مفردات.
ولما تُوفي مصطفى مطوش باشا القائد العام للقوات البحرية في سنة ١٨٤٣ نصَّب محمد علي باشا مكانه ولده الأمير محمد سعيد باشا، فكان أمير البحار الخامس في عصر أبيه الكبير بعد إسماعيل جبل طارق، ومحرم بك، وعثمان نور الدين باشا، ومصطفى مطوش باشا، وأصبح سر عسكرًا عامًّا للدونانمة المصرية وسواريًّا للغليون المُسَمَّى «بني سويف»، وصار هو سار بك أميرالًا ثانيًا ومعه اليوزباشا منوبلي مترجمًا له.٤
وكانت لسعيد باشا زوجتان، هما:
  • «إنجي هانم»: وهي صاحبة وقف مشهور «بأبعادية دمنهور»، مساحته ٤٫٨٧٠ فدَّانًا، شرطت صرف ريعه على عتقائها وخدمتها وأغواتها وعتقاء زوجها. وقد تُوفِّيَت في الإسكندرية في ٥ سبتمبر سنة ١٨٩٠ عن غير عقب، ودُفنت بمقابر الأسرة المالكة بالنبي دانيال.

  • «وملك بر هانم»: ولها وقف بمديرية البحيرة مساحتها ٢٫٣٩٠ فدانًا، وقد تُوفيت في شهر أكتوبر سنة ١٨٩٠ ودُفِنَت بالنبي دانيال. وقد رُزِقَ منها سعيد باشا ولدين هما: «الأمير محمود» الذي تُوفي في سنة ١٨٤٦، و«الأمير محمد طوسون» الذي وُلِدَ في سنة ١٨٥٣ وتوفي في ١٠ يوليو سنة ١٨٧٦، وهو والد الأمير «محمد جميل طوسون» و«الأميرة عصمت» من زوجته الأولى الأميرة فاطمة إسماعيل، و«الأمير محمد سعيد طوسون» من زوجته الثانية هيجار قادن، و«الأمير عمر طوسون» من زوجته الثالثة بهشات هور هانم، و«الأميرة أمينة إنجي طوسون» من زوجته الرابعة تيفر هانم.

ولما اغتِيل عباس الأول في قصره ببنها في ليلة ١٤ يوليو سنة ١٨٥٤ أرادت جماعة من أنصاره وعلى رأسهم إبراهيم باشا الألفي أن يولُّوا من بعده نجله إبراهيم إلهامي باشا الذي كان وقتئذٍ بأوروبا، فاتفقوا على استدعائه وعلى إقصاء محمد سعيد باشا الذي كان مقيمًا بقصره بالقبَّاري بالإسكندرية، فكتبوا سِرًّا إلى إسماعيل سليم باشا محافظ الإسكندرية وأبلغوه بما اتفقوا عليه، وطلبوا إليه القيام بتصريف الشئون العامة في الثغر حتى يحضر إلهامي باشا من الخارج. غير أن سليم باشا لم يشاطرهم هذا الرأي وكان يرى أن سعيد باشا أحق بالولاية طبقًا لنظام توارث العرش، فقصد من فوره إليه وأنهى إليه فحوى الرسالة التي وردت إليه، فشكره سعيد باشا على إخلاصه واستصحبه إلى قصر رأس التين حيث أعلن على الملأ اعتلاءه على العرش، وأُجريَت حفلة الجلوس وأُطلِقَت المدافع. ثمَّ سافر سعيد باشا إلى القاهرة يحيط به أمراء الأسرة العلوية، فلما وصل إليها ذهب إلى القلعة وتولى زمام الحكم في يوم ١٤ يوليو سنة ١٨٥٤ (١٩ شوال سنة ١٢٧٠).

وما إن استوى سعيد باشا على عرش مصر حتى نهضت البلاد وأدرك الإصلاح مختلف شئون الدولة.

فالنسبة إلى الملكية العقارية أول ما اتجه إليه فِكر الوالي إصدار أمر في سنة ١٨٥٤ فرض فيه على أصحاب الأبعاديات والشفالك وكافة الأراضي التي لم تكن تدفع مالًا أن يؤدُّوا عشر حاصلاتها عينًا، ثمَّ أمر بوجوب تحصيل «العشور» أيضًا من جميع الأطيان والأواسي، فعُرِفت هذه الأراضي «بالعشورية». على أن أعظم مأثرة لسعيد باشا إنما وضعه لائحة الأطيان المشهورة باسم «اللائحة السعيدية» التي صدرت بموجب أمر عالٍ تاريخه ٥ أغسطس سنة ١٨٥٨، خوَّل الفلاحين حق الملكية العقارية للأراضي الزراعية بعد أن كان الفلاح محرومًا من هذا الحق في العهود السابقة، وألغى نظام احتكار الحاصلات الزراعية، وخفف عن كاهل الأهالي عبء الضرائب، وألغى ضريبة الدخولية، وتجاوز عن ٨٠٠٠٠٠ جنيه مما تأخر عليهم، ورَّغب إليهم سداد الضريبة نقدًا لا عينًا، وقام بإعادة مساحة بعض أطيان القطر المصري.

figure
الأمير محمد سعيد وهو أمير البحار في الأسطول المصري.

وبالنسبة إلى أعمال العمران عهد سعيد باشا إلى ١١٥٫٠٠٠ عامل مهمة تطهير ترعة المحمودية التي لم تُطهَّر منذ إنشائها في عهد محمد علي باشا، كما أتم الخط الحديدي من كفر الزيات إلى القاهرة، وأنشأ خطوطًا تلغرافية فيما بين العاصمة والإسكندرية والسويس، وبدأ توسيع ميناء السويس، وأنشأ حوضًا جافًّا لإصلاح السفن.

وبمقتضى عقد مُؤرَّخ في ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٥٤ منح سعيد باشا المسيو فرديناند دي ليسبس امتياز شركة عامة لحفر قناة السويس واستثمارها لمدة ٩٩ سنة ابتداءً من تاريخ فتح القناة للملاحة. وقد نصَّ على شروط الامتياز في عقد لاحق تاريخه ٥ يناير سنة ١٨٥٦، فتألَّفت الشركة في سنة ١٨٥٨ وبُدئ في حفر القناة في الخامس والعشرين من أبريل سنة ١٨٥٩.

وبالنسبة إلى الشئون المالية عقد سعيد باشا في سنة ١٨٦٢ أول قرض من البيوت الأجنبية، ومقداره الأسمى ٣٫٢٤٢٫٨٠٠ جنيه إنجليزي من بنك «فروهلنج وجوشن» بلندن بفائدة ٧٪، في حين أن قيمته الحقيقية ٢٫٤٠٠٫٠٠٠ جنيه أي بخسارة ٨٠٠٫٠٠٠ جنيه من رأس المال، وتعهَّدت مصر بوفاء هذا الدين على ثلاثين سنة، وقد حُدِّدت قيمة القسط السنوي من رأس مال وفوائد ﺑ ٢٦٤٫٠٠٠ جنيه، أي أن جموع الأقساط بلغ ٧٫٩٢٠٫٠٠٠ جنيه في حين أن أصل الدين ٢٫٤٠٠٫٠٠٠، وفيما عدا هذا القرض الثابت استدان سعيد باشا ديونًا سائرةً (سندات على الخزانة) بلغ مجموعها عند وفاته ٧٫٨٦٨٫٠٠٠ جنيه.

وبالنسبة إلى العلوم عهد سعيد باشا إلى ماريت باشا جمع الآثار المصرية في مخازن أُعِدَّت لها في بولاق، وكلف محمود باشا الفلكي السفر إلى دنقلة لرصد كشوف الشمس بها، فقام بهذه المهمة وحقق اثنين وأربعين موقعًا من المواقع الفلكية بين أسوان ودنقلة، ووضع بعد عودته خريطة مفصلة للقطر المصري.

أما التعليم فقد أصابه شيءٌ من الاضطراب وعدم الاستقرار، إذ:
  • ألغى «ديوان المدارس».

  • وفي سنة ١٨٥٤ أُلغيَت «مدرسة المهندسخانة» ببولاق، وأُعيد فتحها في سنة ١٨٥٨، وتحوَّلت إلى «مدرسة حربية» نُقِلت إلى القلعة السعيدية بالقناطر الخيرية.

  • وأُقفلت «مدرسة الطب» بقصر العيني، ثمَّ أُعيد فتحها في سنة ١٨٥٦ وأُنشئت بها «مدرسة للقابلات».

  • وفي سنة ١٨٥٥ أُلغيَت «مدرسة المفروزة».

  • غير أنه أُنشئَت «مدرسة أركان حرب» بالقلعة ومُنحت بعض المدارس الأجنبية — فرنسية وأمريكية وإيطالية — إعانات لمساعدتها على فتح معاهدها ونشر ثقافتها، في حين فترت حركة البعثات العلمية، فلم يُرسل إلى أوروبا سوى أربعة عشر طالبًا.

وبالنسبة إلى الشئون الحربية قرر الوالي قصر مدة الخدمة العسكرية على سنة واحدة، وجعلها في الوقت نفسه إجبارية للجميع، حتى بلغ عدد رجال الجيش في سنة ١٨٦٠ أربعًا وستين ألف جندي، كما عُني بترقية حال الجنود والترفيه عليهم من جهة الغذاء والمسكن والملبس وحسن المعاملة، وأنشأ «القلعة السعيدية» بالقناطر الخيرية لصد هجمات الأعداء عن القاهرة.

أما البحرية، فقد أهمل سعيد باشا شأن أسطولها الحربي إذ أصدر إليه الباب العالي أمرًا — بناءً على طلب إنجلترا وإلحاح سفيرها في الآستانة على السلطان — بالكف عن إصلاح سفن الأسطول وإنشاء سفن جديدة إلا بأمره. ولما رأى سعيد باشا أن معظم السفن الراسية أمام دار الصناعة بالإسكندرية لا تصلح للقتال إلا بعد تصليح وترميم، وأنها إذا أُهمِلت أصابها التلف؛ أمر بتكسيرها وباع أخشابها وسرح معظم ضباطها. على أن اهتمام الوالي انصرف إلى الملاحة التجارية الداخلية والخارجية، فأنشأ شركتين للملاحة، إحداهما نيلية أُسِّسَت في سنة ١٨٥٤ وسُمَّيت «الشركة المصرية للملاحة التجارية» غرضها نقل الحاصلات والمسافرين بطريق النيل على مراكبها، والأخرى بحرية أُسست في سنة ١٨٥٧ وسُمِّيت «القومبانية المجيدية» لتسيير البواخر في البحرين الأبيض والأحمر.

وقد اشتركت مصر في عهد سعيد باشا في حربين: حرب القرم (من سنة ١٨٥٤ إلى سنة ١٨٥٦)، وحرب المكسيك (من سنة ١٨٦٢ إلى سنة ١٨٦٧).

فقد واصل سعيد باشا حرب القرم التي بدأت في عهد سلفه عباس الأول، وأرسل النجدات إلى الجيش المصري المُرابط فيها حتى بلغ عدده ٣٠٫٠٠٠ مقاتل. وقد عانى المصريون هنالك في خلال شتاء عامي ١٨٥٤ و١٨٥٥ الشدائد والأهوال من شدة البرد القارس، ولقي الكثيرون منهم حتفهم في ميادين القتال أو من فتك الأوبئة والأمراض التي تفشَّت بينهم. وقد دافعوا دفاعًا مجيدًا عن إيباتوريا Eupatoria، وهو ثغر من ثغور شبه جزيرة القرم احتله الحلفاء لمهاجمة مواقع الروس الحصينة، وقد استُشهد فيه سليم باشا فتحي القائد العام للجيش المصري، كما استُشهد حسن باشا الإسكندراني القائد العام للأسطول المصري ومحمد شنن بك من قواد البحرية المصرية في يوم ٣١ أكتوبر سنة ١٨٥٤، إذ هبَّت رياح عاصفة على سفينتيهما في عرض البحر الأسود وتكاثر عليهما الضباب عند مدخل بوغاز البوسفور، مما أدى إلى اصطدام الغليون «مفتاح جهاد» الذي كان يقلُّ حسن الإسكندراني باشا بالفرقاطة المصرية «البحيرة» التي كان يقودها محمد شنن بك، فغرق في أقل من ساعة ألف وتسعمائة وعشرون مقاتلًا كانوا على ظهريهما، ولم ينجُ سوى مائة وثلاثين جنديًّا. وقد انتهت حرب القرم بفوز تركيا وحلفائها — فرنسا وإنجلترا ومملكة بيمونت ومصر — على الروس، وأُبرِمَ الصلح في مؤتمر باريس في ٣٠ مارس سنة ١٨٥٦ وقد سلمت فيه روسيا بمطالب الفائزين.٥
أمَّا حرب المكسيك فلها قصة، ذلك أن أهل المكسيك كانوا قد أساءوا معاملة الأجانب الفرنسيين والإسبانيين والإنجليز، وكانوا ينتهزون فرصة قيام أقل شغب في البلاد لنهب أموالهم وسلب بضائعهم. فلما كثرت الشكوى اتفقت فرنسا وإنجلترا وإسبانيا على أن تشترك معًا في محاربة المكسيك، وأمضى سفراؤهم في لندرة اتفاقًا في أكتوبر سنة ١٨٦١ على القيام بعمل مشترك. وفي ديسمبر سنة ١٨٦١ احتلت إسبانيا مدينة فيراكروز، وتولت إنجلترا مراقبة شواطئ المكسيك بأسطول قوي، في حين أرسل نابليون الثالث إمبراطور فرنسا الأميرال جورين على رأس ثلاثمائة مقاتل لمحاربة أهل تلك البلاد. إلا أن رئيس جمهورية المكسيك جواريز Juarez تمكَّن بدهائه السياسي من الاتفاق مع الإسبانيين والإنجليز حتى تخلَّوا عن حليفتهم فرنسا. فاضطرت فرنسا وقد انفردت بالحرب ضد المكسيكيين إلى إرسال نجدات جديدة إلى تلك البلاد. غير أن الأمراض فشت بين الفرنسيين وفتكت بهم فتكًا ذريعًا ولا سيَّما أن الفرنسيين لم يتحملوا حر بلاد المكسيك وتقلُّب الطقس فمات منهم عدد كبير. فكَّر نابليون الثالث في أن يستعين بالجنود المصريين الذين اعتادوا حر مصر والسودان، فطلب من سعيد باشا — وكان صديقًا حميمًا له — أن يمدَّه بالجند، فلبى سعيد باشا الطلب وأرسل إليه الكتيبة السودانية — وكانت مؤلفة من ١٢٠٠ جندي — فأبحرت من الإسكندرية في ٢٣ فبراير سنة ١٨٦٣ وأبلت هنالك بلاءً حسنًا، حتى قال عنها قائد الجيش الفرنسي: «إن هؤلاء ليسوا جنودًا، بل هم أسود.» وعاد ما تبقى منهم — وعددهم ٣٠٠ مقاتل — إلى مصر في شهر مايو سنة ١٨٦٧ بعد أن انتصر الثوار المكسيكيون وأعدموا الإمبراطور مكسمليان رميًا بالرصاص، وهو الذي فرضه عليهم نابليون الثالث، فاضطر الفرنسيون إلى الجلاء عن البلاد، وهكذا اشتركت مصر في قتال لم يكن للمصريين ولا للسودانيين فيه ناقة ولا جمل!٦

أما نظام الحكم المصري في عهد سعيد باشا فقد ظل حكمًا مطلقًا يتولاه الوالي، إذ كان يجمع في يده السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والتشريعية.

أما بالنسبة إلى السلطة التنفيذية: فقد بقي «المجلس الخصوصي» قائمًا بنظر المسائل العامة للحكومة وسن اللوائح والقوانين وترتيب النظم العمومية وتنصيب رؤساء المصالح. وفي سنة ١٨٥٧ أعاد سعيد باشا تنظيم الدواوين، فجعل منها أربع وزارات هي:
  • وزارة الداخلية: وقد عهد بها إلى الأمير أحمد رفعت.

  • ووزارة المالية: وقد أُسنِدَت إلى الأمير مصطفى فاضل.

  • ووزارة الحربية: وقد تولاها الأمير محمد عبد الحليم.

  • ووزارة الخارجية: وقد تقلدها أسطفان بك.

أما السلطة القضائية: فقد وزَّع اختصاصها على «مجلس الأحكام» الذي كان بمثابة هيئة استئنافية عليا، و«المحاكم الشرعية»، و«مجالس الأقاليم» التي أُنشئت للفصل في المسائل المدنية والتجارية، و«مجالس التجار»، ثمَّ «قومسيون مصر» الذي أُنشئ للفصل في قضايا الأجانب وكانت تُستأنف أحكامه أمام «مجلس الأحكام». على أن أهم إصلاح قضائي تم في عهد سعيد باشا أنه نال من السلطان حق اختيار القضاة بعد أن كان العمل جاريًا على أن «قاضي القضاة» الذي يولِّيه الباب العالي هو الذي يختار القضاة وهو الذي يعينهم.

وأمَّا بالنسبة إلى السلطة التشريعية: فكان «المجلس الخصوصي» و«مجلس الأحكام» — وكانا بمثابة الهيئتين التشريعتين في البلاد — يشتركان في وضع اللوائح وسن القوانين. على أن سعيد باشا غضب في سنة ١٨٥٥ على «مجلس الأحكام» فأمر بإلغائه، ثمَّ أعاد تأليفه في سنة ١٨٥٦ وأسند رياسته إلى إسماعيل باشا، ثمَّ عاد وأمر بإلغائه في سنة ١٨٦٠، كما ألغى أيضًا «مجالس الأقاليم». غير أنه عاد في سنة ١٨٦١ وأعاد «مجلس الأحكام» وعيَّن محمد شريف باشا رئيسًا له، كما أعاد «مجالس الأقاليم».

وقد قام سعيد باشا إبَّان حكمه بأربعة أسفار: في السودان في أوائل سنة ١٨٥٧، وفي سوريا في خلال سنة ١٨٥٩، وفي الحجاز في أوائل سنة ١٨٦١، وفي أوروبا في غضون سنة ١٨٦٢.

  • في أوائل سنة ١٨٥٧ زار سعيد باشا السودان، ووصل إلى الخرطوم في ١٦ يناير سنة ١٨٥٧، وتفقد شئون هذا القُطر ووقف على أحواله واستمع إلى شكايات سكَّانه، فأعفى الأهالي مما تأخر عليهم من الأموال، وخفض الضرائب المفروضة عليهم ووضع قاعدة ثابتة لتقدير قيمتها، وقرر عزل الموظفين الترك الذين كانوا موضع شكوى الأهالي لسوء معاملتهم لهم. وأنشأ محطات في صحراء «كروسكو» لتسهيل نقل البريد والمسافرين بين مصر والسودان، وأنشأ نُقَطًا عسكرية لمنع تجارة الرقيق ومطاردة النخاسين، وعضد الرحلات والكشوف الجغرافية في أنحاء السودان.

  • وفي سنة ١٨٥٩ زار الوالي سوريا وأناب عنه في مصر مدة غيابه ابن أخيه إسماعيل باشا.

  • وفي أوائل سنة ١٨٦١ قصد سعيد باشا إلى الحجاز تحيط به حاشية عسكرية مكوَّنة من ألفي رجل. وقد بدأ رحلته في ٢٣ يناير سنة ١٨٦١ ووصل إلى المدينة المنورة في ١٢ فبراير وغادرها في يوم ١٧ منه، وسار إلى ينبع ومنها استقل الباخرة «نجد» إلى السويس، فبلغها في يوم ٢٨ فبراير، ولعل الغرض من تلك الرحلة انتحال عذر لعدم إجابة السلطان إلى استدعائه إياه إلى الآستانة!

  • وفي غضون سنة ١٨٦٢ سافر الوالي إلى أوروبا ليستشفي من مرض عضال أصابه ولم ينجع فيه دواء، غير أنه عاد إلى الإسكندرية في أواخر سنة ١٨٦٢ والداء قد استعصى علاجه، فما زال يشتد به ويهد من قواه حتى أدركته المنية وتُوفي وهو في الثغر في صبيحة الثامن عشر من يناير سنة ١٨٦٣ (٢٧ رجب سنة ١٢٧٩ﻫ).

فمات رابع ولاة مصر من الأسرة العلوية وله من العمر اثنان وأربعون عامًا بعد أن تربَّع في دست الحكم ثماني سنوات وستة أشهر وخمسة أيام، ودُفِن بالإسكندرية بالصالة الكبرى بمسجد النبي دانيال.٧
١  توفيت «عين الحياة قادن» بالإسكندرية في سنة ١٨٤٩، ودُفِنَت بمقابر الأسرة المالكة بالنبي دانيال.
٢  أمين سامي باشا: «تقويم النيل وعصر محمد علي باشا»، الجزء الثاني، ص٤٤٠.
٣  أمين سامي باشا: «تقويم النيل وعصر محمد علي باشا»، الجزء الثاني، ص٤٨٤.
٤  إسماعيل سرهنك باشا: «حقائق الأخبار عن دول البحار»، الجزء الثاني، ص٢٤١. والأمير عمر طوسون: «صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي»، ص١٣٦.
٥  الأمير عمر طوسون: «الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم». Aimé Vingtrinier: “Soliman Pacha”. P. 572. Merruau: “L’Egypte contemporaine”, P. 42; L. Thouvenel: “Trois années de la Question d’Orient, La guerre de Crimée”; Jules Ladmir: “La guerre en Orient et dans la Baltique” (1853–1856); Nasmith: “History of the war in Russia and Turkey”; Slade: “Turkey and th Crimean War”.
٦  إسماعيل سرهنك باشا: «حقائق الأخبار عن دول البحار»، الجزء الثاني، ص٢٧٦. والأمير عمر طوسون: «بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك». وعزيز خانكي بك: «نفحات تاريخية»، ص١٢٠. والبحث المنشور في La Revue d’Egypte سنة ١٨٩٤، ص١٠٤. Egon César Comte Corti; “Maximilien et Chalotte du Mexique”; Emile Ollivier: “L’Expédition du Mexique”.
٧  المراجع الأجنبية: A. Vingtrinier: “Soliman Pacha”; Merruau: “L’Egypte contemporaine”; Merruau: “L’Egypte sous le régne de Saïd Pacha” (Revue des Deux Mondes du 15 Septembre 1857); Abbate: “Voayge de Mohamed Saïd Pacha dans ses provinces du Soudan”; Delatre: “L’Egypte en 1858” (Revue d’Orient, d’Algérie et des Colonier, t. VIII et IX; Barthélemy Saint-Hilaire: “Lettres sur l’Egypte”; Edmond About: “Le Fellah”.
المصادر المصرية: الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك: «عصر إسماعيل»، الجزء الأول، ص٢٣–٧١. إسماعيل سرهنك باشا: «حقائق الأخبار عن دول البحار»، الجزء الثاني. فتحي زغلول باشا: «كتاب المحاماة». أحمد عرابي باشا: «كشف الستار عن سر الأسرار».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤