الفصل الأول

الفتح واختلاط العرب والفرس

بينما كان الإسلام يجمع شمل العرب ويعدهم للسيطرة على العالم كان الفرس مسيطرين على عرب الحيرة يستعينون بهم على الأعراب وعلى الرومان، كما كان الرومان يستعينون بالغساسنة في الشام وكان لهم بعض السلطان في اليمن والبحرين.

فلما استقام للعرب أمرهم خلص اليمن بغير عناء وأسلم الفرس هناك طائعين، حتى قاتلوا مع المسلمين الأسود العنسي المتنبي، وكذلك أجلى عامل كسرى على البحرين أيام أبي بكر، وأسلم هناك من أسلم وأعطى الجزية من بقي على دينه، ثم عاد بالمسلمين الفتح فإذا هم يقاتلون في جهات العراق عربًا وفرسًا قد تخالطوا وتناصروا حتى كان العرب يدًا مع الفرس على العرب، فخالد بن الوليد يقول لأهل الحيرة: أعرب أنتم فما تنقمون من العرب؟ فيحتجون لعربيتهم بأنهم ليس لهم لسان غير العربية.

تغلغل المسلمون في فتح بعد آخر، صلحًا وحربًا حتى أيقن الفرس أن الأمر أعظم مما حسبوا وأنها ليست كغارات العرب التي عهدوا، وكانوا قد اجتمع أمرهم بعد الفرقة ليزدجرد الثالث فساقوا على العرب جيشًا حشدوا فيه من عُدد الحرب وجُندها ما لا عهد للعرب بهِ، ولم يكن للعرب بد من المقاومة فاستنجدوا الخليفة عمر فأهمتهُ حرب فارس وندب الناس إليها فتثاقلوا إعظامًا لأمر الفرس. واستثار المسلمون العصبية العربية درءًا للخطر فدعوا إلى القتال المسلمين وغيرهم من العرب. وقد اهتم الفرس بأمر القادسية أيما اهتمام، وارتقب العرب عقباها من الذيب إلى عدن أبين ومن الأيلة إلى أيلة كما يقول الطبري.

وكانت القادسية أعظم وقائع الفتح، وأكبرها نتائج، ولكنها لم تكن خاتمة الوقائع العظيمة. فموقعة نهاوند التي سماها العرب فتح الفتوح، وهي آخر الوقائع العظيمة بين المسلمين والفرس كانت بعد القادسية بسبع سنين، وبينهما وقائع ذات خطر.

وكان ملك الفرس يزدجرد لا يزال يكر على العرب في الحين بعد الحين وقد تعقبهُ العرب إلى أقصى الشرق فاستمدَّ الترك فلم يغنوا عنهُ، واستمرَّ على ذلك حتى سنة إحدى وثلاثين، سبعة عشر عامًا بعد القادسية. فبينا يهيأ لصلح العرب على بعض الأقاليم قتله بعض رعيته كما قتل دارا من قبل بينما يتعقبهُ الإسكندر المقدوني. وبذلك تم للعرب الاستيلاء على جمهرة البلاد إلا جهات في طبرستان وحيلان لم تفتح إلا بعد قرنين وبقي بعد ذلك أمراء في جهات نائية قرونًا طويلة.

فتح العرب الأقطار باسم الدين فلم يكن إلا أن يسلم الفارسي فإذا هو واحد من المسلمين الفاتحين تسعةُ الأخوة الإسلامية العامة، ثم كان حكمهم على مصائب الحروب وفظائعها عدلًا لا عنف فيهِ. وكان في الفرس على هذا من وجدوا في الفتح الإسلامي مخلصًا من اضطهاد ديني ونجاة من مغرم مالي، أو وسيلة إلى جاه. فالديلم من جند الفرس انحازوا إلى المسلمين بعد القادسية وأسلموا وعاونوا في واقعة جلولاء، ثم استوطنوا الكوفة. ونجد من الفرس مثل (أبي الفرخان) الذي عاون العرب في فتح الري فولِّي عليها. ونجد مرزبان مرو يخذل يزدجرد ثم يرسل أمواله بعد أن قتل إلى أمير العرب هناك.

وقد أعطى العرب الفرس الذين قاتلوا معهم حظهم من الغنائم وفرض عمر في العطاء للمرزبان في المدينة. ولما سار المسلمون لفتح السوسي تقدم إليهم قائد فارسي اسمهُ سياه وعرض عليهم أن يسلم هو وجماعة معهُ على شروط منها أن يفرض لهم عطاء كأكثر عطاء يأخذه عربي، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر ففرض لمائة منهم عطاء ألفين ولزعمائهم ألفين وخمسمائة، وقال بعض الشعراء:

لما رأى الفاروق حسن بلائهم
وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسنَّ لهم ألفين فرضًا وقد رأى
ثلاثمائين فرض عك وحميرا

وأحسن العرب إلى الفلاحين الذين لم يقاتلوا. ويقول الطبري (عن أهل فارس): وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمن الأكاسرة، فكانوا كأنما هم في ملكهم إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم فاغتبطوا وغبطوا.

وقد بقي الفرس أحرارًا في دينهم وبقيت معابد النار في الجهاتِ كلها ولا سيما في فارس.

فقد حكى المؤرخون كالإصطخري وابن حوقل أنهُ لا توجد قرية في فارس بغير بيت نار وأن جمهور أهلها من عبدة النار وأنهم في شيراز لا يمتازون من المسلمين في مظاهرهم، وكانت معابد النار تحمى ويعاقب مخربوها.

وإنما تناقص عدد الزردشتيين بدخول كثير منهم في الإسلام، وقد دخلوا فيه أفواجًا حتى شكا عامل خراسان إلى عمر بن عبد العزيز قلة الجزية فأرسل إليه أن الله بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثهُ جابيًا، على أنهم بقوا كثيرين إلى عهد قريب. ويقول خنكوف Khonikof إن كرمان حين حاصرها محمد خان قاجار كان فيها ١٢ ألف أسرة زردشتية.

وإنما أفيض في هذا لأبين أن العرب والفرس بعد الفتح لم يكونوا في نضال مستمر، وأن العرب لم يستعبدوا الفرس كما يزعم بعض المؤرخين. ولم يفعل العرب إلا أن حطموا الحدود الوطنية فدخل الفرس في جماعة أوسع من جماعتهم، وشاركوا في العلوم والآداب التي تعاونت عليها الأمم الإسلامية، ونالوا عليها المناصب. فالبرامكة مثلًا كانوا يدبرون للعباسيين ملكًا أعظم وأوسع مما كان يدبره برزجمهر لأنوشروان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤