الفصل السابع والثلاثون

آخر الطريق

أين يذهب طومان باي وقد ضاقت عليه الأرض بما رحُبت؟ لقد بذل آخر ما في طَوْقِه ليدافع عن عرشه وعن وطنه، وعن الأمانة التي حملها على كاهله حين رضي أنْ يحمل على رأسه ذلك التاج، إنه لمسئول منذ ذلك الحين عن رعيته، وعليه وحدَه تبعة ما ينالها، لا يخليه من هذه التبعة أنه فرد ليس له من الناس أعوان، فليحارب حتى يموت ويخضب دمُه الأرضَ، وإلَّا فإن على رأسه دَمُ كل أولئك الشهداء الذين قادهم إلى الموت باسم الدفاع عن الوطن. الموت في المعركة هو العذر الواحد الذي يخليه من تلك التبعة الثقيلة، ولكن من أين له الجند الذين يحارب بهم حتى يموت؟!

وتذكر صديقه حسن بن مرعي السنهوري شيخ أعراب البحيرة، إنَّ لطومان باي عليه يدًا منذ أطلقه من سجن السلطان الغوري، فلولاه لبقي في ذلك السجن حتى يدركه أجله، فهذا دَيْنٌ يدينه به ومن حقه أنْ يسأله باسمه المعونة والنجدة، فلعله يجمع له من فتيان القبائل العربية الضاربة في بوادي الشمال والجنوب جيشًا يحارب به. لقد خاض حتى اليوم مع العثمانيين خمس معارك لم ينهزم في واحدة منها من ضَعْف أو من جُبْن، فلولا الخديعة والمكر، أو الغدر والخيانة، لكان القائدَ المظفَّر في تلك المعارك جميعًا، وإنه ليأمل أنْ يظفر بعدوه في المعركة السادسة، أو في السابعة، بمعونة أولئك الأعراب الشجعان الذين يأمل أنْ يجمعهم لنصرته صديقه حسن بن مرعي السنهوري! ويومئذٍ يعود إلى عرشه، ويتخذ من شيوخ أولئك الأعراب أمراء ووزراء وقادة …

لماذا لم يفطن سلاطين الجركس قبل اليوم إلى حق شيوخ الأعراب في الإمارة والوزارة وقيادة الجند، وإنهم لأولو عزم وقوة، وفيهم مروءة وحفاظ على العهد، وقد كانوا يومًا سادة هذه البلاد؟! ليت السلاطين قد فطنوا إلى ذلك منذ بعيد، إذن لاستطاعوا أنْ يجمعوا قلوبهم على محبتهم والولاء لهم، ولكن إلَّا يكُن السلاطين قد فطنوا إلى هذه الحقيقة، فقد فطن إليها طومان باي آخر الأمر، وما ينبغي له أنْ يغفُل عنها حتى يعود إلى عرشه.

كذلك كان طومان باي يحدث نفسه، وفرسه يخب به في طريقه إلى سنهور، حيث يأمل أنْ يلقى صديقه حسن بن مرعي شيخ أعراب البحيرة ليعينه على أمره.

والتقيا وجلس طومان باي يتحدث إلى صديقه ساعة من نهار، وأقسم له صاحبه لَيَنْصُرَنَّهُ بكل ما يملك من مال وجند وعتاد، وتحالفا على الوفاء.

وأوى طومان باي إلى خيمته متعبًا يلتمس بعض الراحة فأخذته عيناه واستسلم للنوم، وظلَّ صاحبه السنهوري يقظًا يؤامر نفسه على خطة لعل مثلها لم يخطر على بال عربيٍّ قبله.

وقال الرجل لنفسه: مالي ولهذا الرجل الذي يريد أنْ يحملني على مغاضبة السلطان سليم ويدفعني إلى عداوته؟ ثم ماذا أسلفَنا هؤلاء الجركس من الإحسان لنُبقِي على حكومتهم، وهذا رجل قد أفل نجمه وصارت الدولة برغمه عثمانية؟!

ثم حانت منه التفاتة نحو فرس السلطان طومان باي ربيطًا إلى جانب خيمته، وعليه سرجه وركابه وزينته الملوكية، فلم يستطع السنهوري أنْ يقاوم إغراء شيطانه، فوثب إلى ظهر الفرس وولى وجهه شطر الجيزة، حيث كان عسكر السلطان سليم، واستأذن على السلطان فأذن له، فدخل ليسر إليه النبأ، ثم عاد أدراجه إلى سنهور.

وأطبق جند السلطان سليم على خيمة طومان باي، فوضعوا في يديه الأغلال وحملوه على ظهر فرسه وساروا به، وكان في الركب خاير بك وجان بردي الغزالي.

قال السلطان سليم وقد رأى بين يديه رجُلًا لم يرَ مثله في الرجال: ها نحن أولاء قد ظفرنا بك يا سلطان! فبالله ماذا خيَّلتْ لك أوهامك حين شرعت في وجوهنا السيف وأبيت الاستسلام؟

قال طومان باي ولم تفارق شفتيه ابتسامته: ذلك حق هذه الأمة عليَّ يا سلطان الروم، فهلا سأل مولاي نفسه: ماذا كان يفعل لو أنَّ جند مصر قد اقتحمت عليه بلاده، وبسطت سلطانها على رعيته، أكان يستأسر لها طائعًا أم يدافع عن وطنه حتى الموت؟

قال السلطان سليم: قد كان لك هذا لو كنتَ سلطان الروم، أما وأنت …

قال طومان وقد رفع رأسه شامخًا: أمَّا أنا فسلطان مصر التي أوشك أبوك بايزيد ابن عثمان أنْ يستأسر لجندها طائعًا، لولا أنْ منَّ عليه بالفداء سلفي السلطان قايتباي!

بدا الغضب في وجه أصحاب السلطان، وأحدقت عيونهم بطومان باي وقد اشتعلت جمراتها، ولكن السلطان سليم لم يلبث أنْ ردهم إلى الهدوء حين قال باسمًا: عن غير هذا سألتك يا سلطان، وإنما أردت أنْ أعرف لماذا أبيت أنْ تبقى على عرش مصر في ظل الراية العثمانية، وما طلبنا منك إلَّا أنْ تكون السكة والخطبة باسمنا ولك الحكم والإمارة والجباية، فكيف آثرتَ على كل ذلك هذا المصير؟

قال طومان: ذلك العرش قد ائتمنتني عليه الرعية، فما كان لي أنْ أجعله تحت سلطان غير سلطان الرعية التي حمَّلتني أمانتها!

قال سليم: فالآن يا سلطان سترد الأمانات إلى أصحابها!

ثم أمر فأعدت لطومان باي خيمة مفردة ريثما يفكر في أمره.

وقال سليم لأصحابه وقد خلا لهم المجلس: أما إنه لرجل، ولقد واللهِ حدثتني نفسي أنْ أخلي بينه وبين عرشه وأعود أدراجي، لولا أنني أخشى انتقاضه.

قال الوزير يونس باشا: إنَّ مولاي ليكسب به حليفًا يعين في وقت الشدة، وإنه لذو حِفَاظ ومروءة.

قال خاير بن ملباي مغيظًا: نعم، وإنه إلى ذلك لذو حفيظة وثأر …

قال السلطان ضاحكًا: صدقتَ وما قصدتَ يا خاير بك!

وشاع في المدينة النبأ بوقوع السلطان طومان باي في يد ابن عثمان فلم يصدقه أحد، إنَّ طومان باي لأرفع مكانًا من أنْ ينتهي إلى مثل ذلك المصير، ومن ذا يعرف طومان باي فيصدق أنه اليوم أسير في يد السلطان سليم، إنه لفارس كأنْ قد وُلد على ظهر فرسه، فلغيره الأسر وله النصر أو الشهادة!

إنَّ المصريين جميعًا ليرقبون ظهوره كَرَّةً أخرى، كما ظهر مرة ومرة على رأس جيشه؛ ليرد عليهم حريتهم ويستنقذهم من جور ابن عثمان، فإنهم لينكرون ذلك النبأ ويرمون قائله بالإفك والبهتان.

وكأنما كان شيوع الخبر في المدينة بالقبض على طومان باي أذانًا يدعو المصريين إلى الكفاح، فوَلَّوْا وجوههم نحو النيل حيث ينتظرون مقدمه، يتوقعون كل يوم أنْ يثور غباره، فينضووا تحت لوائه لجهاد ذلك العدو الباغي، وطال ارتقابهم أيامًا ولم يظهر طومان باي، وما كان له أنْ يظهر وهو أسير في يد ابن عثمان.

وقال خاير بك للسلطان سليم: أرأيت يا مولاي ماذا يكون لو أفلت من يدك طومان باي، وهذا الشعبُ على ما ترى من نية الانتقاض والغدر؟!

قال جان بردي الغزالي: وما أراهم يصدقون أو يستكينون حتى يروا بأعينهم أميرهم في الأغلال بين يدي حراسه.

قال خاير بك: بل ما أراهم يصدقون حتى يروه مشنوقًا، قد شُدت حول رقبته الحبال وتدلى جسده على باب زويلة، وحينئذٍ يستتب لمولاي الأمر.

قال السلطان سليم وقد غامت على وجهه سحابة: فسنوكب له غدًا موكبًا يشق به المدينة في أغلاله؛ حتى يراه كل ذي عينين في القاهرة، فيعلم أنَّ الحكم اليوم لسليم ابن عثمان!

وكان أرقم مما به من الهم والضيق لا يكاد يعي، فليس يدري أيصدق ما يرجف به الناس أم ينكره، لقد مضى بضعة عشر يومًا منذ معركة إنبابة ولم يرَ أثرًا أو يسمع خبرًا عن السلطان طومان باي، فأين يكون إنْ لم يكن أسيرًا في يد ابن عثمان؟!

وكانت نوركلدي من حديث نفسها في قلق ووسواس، فهؤلاء جند العثمانية يسلكون الدروب ويجوسون خلال المدينة آمنين، تطفح وجوههم بِشرًا وتتراءى في عيونهم أمارات الاطمئنان، كأنما استتب لهم الأمر فليس وراءهم ما يخشَوْنه أو يحسبون حسابه، وهذا أرقم صامت لا ينطق كلمة ولا يتحدث إليها بحرف يرد إلى نفسها الهدوء والطمأنينة، وكلما همت أنْ تسأله أو تتحدث إليه ردت نفسها؛ مخافة أنْ يفضي إليها بما لا تريد أنْ تسمع من الأنباء.

وضاقت آخر الأمر بما يهجس في نفسها فلم تجد طاقة على الصبر، فتقدمت إليه تسأله وفي عينيها قلق وفي وجنتيها شحوب!

وأرهفت أذنيها للسمع، ولكنها لم تسمع جواب أرقم، ولعله لم يُجِبْهَا ولم يفتح فمه، فقد كان مثلها مرهف السمع يريد أنْ يستبين ما يترامى إلى أذنيه من أصوات في الطريق، وزياط وضجة وهتاف يتردد صداه بين جدران المدينة الأربعة، ولا تكاد تَبين منه كلمة أو يتميز صوت من صوت …

وأسرع الشيخ والشيخة إلى النافذة يستطلعان النبأ …

يا ويلتا! هذا السلطان طومان باي في آخر مواكبه: فارس على سرجه قد أحاط به جند الروم وفي يديه أغلاله، والناس على جانبي الطريق قد ارتفع صراخهم واختلطت أصواتهم، فما يبين صوت من صوت، فما هو إلَّا الصدى يتردد بين جدران المدينة الأربعة، والسلطان مغلول اليدين يرد إليهم تحياتهم إيماءً بالرأس وابتسامًا على الشفتين، وعلى وجهه نور اليقين وفي عينيه روح الطمأنينة.

وكان في شرفة الدار المطلة على طريق الموكب السلطاني في سوق مرجوش شيخ وشيخة، قد انطبقت شفاههما وجمدت في عيونهما نظرتان فيهما كل معاني القنوط واليأس ومرارة الخذلان.

وصرخت المرأة وقد جاوزها الركب مصعدًا نحو الجنوب: ولدي!

ثم استدارت لتتعلق بعنق صاحبها وهي تسأله في لهفة: قل لي: أين يذهبون به؟

وكان الرجل شاحب الوجه كأنما قد نزف دمه، فقال وهو ينتزع الكلمات من بين فكيه: صبرًا يا نوركلدي، وسنلحق بالركب لنرى.

ثم ولى وجهه نحو الباب والمرأة متعلقة بذراعه، فاندفعا نحو الطريق وخاضا في أحشاء الزحام

وكان الركب قد أبعد وجاوز الشرابشيين وقبة الغوري، ودنا من جامع المؤيد، ولكن الطريق وراءه من زحمة الخلق لم يكُن فيه موضع لقدم، فلا يكاد السالك يمضي إلى الأمام خطوة حتى يرده الزحام إلى الوراء خطوات …

وقالت المرأة ولم تزل متعلقة بذراع صاحبها: بالله قل لي يا أرقم: أين يذهبون به؟ لقد رأيته ولكنه لم يرني ولم يسمع ندائي!

قال أرقم: فسيراك ويسمع نداءك، وما أراهم الساعة إلَّا ذاهبين به إلى السجن؛ ليقيم فيه أيامًا قبل أنْ يرحلوا به إلى منفاه في مكة، أو إلى معتقل السلاطين في برج الإسكندرية.

قالت وفي صوتها رجاء: وتصحبني يا أرقم إلى حيث يذهبون به، حتى ألقاه وأتحدث إليه وأسمع منه؟

– وأصحبك إلى حيث تريدين يا نوركلدي!

وردهما الزحام خطوات إلى الوراء، وازداد صراخ الناس وارتفعت ضجتهم إلى عَنان السماء، واستجمع الشيخان قوتهما الذاهبة ومضيا في طريقهما يشقان الزحام، لا يكادان ينظران إلى أحد من الناس أو يريان غير طريقهما، ولا يكادان يسمعان …

وبلغا باب زويلة بعد نصب ومشقة …

وكان على الباب جسد معلق قد شُدَّتْ حول رقبته الحبال، وتعلقت به أنظار الناس وارتفع بكاؤهم إلى السماء!

وهتف كلا الرجل والمرأة في وقت معًا: ولدي طومان!

وتعلقت به أعينهم كأنما ينتظران رد الجواب، وكانت عيناه مفتوحتين كأن قد رأى وسمع وعرف أباه وأمه، وكانت شفتاه منفرجتين كأنما يرسل إليهما ابتسامة رضا واطمئنان …

وهتفت المرأة ثانية: ولدي!

وخيل إليها كأنما سمعت جوابه، فانفلتت من يد صاحبها.

figure
وكان على الباب جسدٌ معلَّق قد شُدت حول رقبته الحبال.

عجلى تحاول أنْ تشق الزحام لتصعد إليه، ولكنها لم تصعد، بل سقطت مغشيًّا عليها في ظل جسد مشدود بالحبال يترجح في الفضاء … ثم استفاقت!

وملأت نوركلدي عينيها من ولدها كما تمنَّت، وأسمعته نداءها، فهل رآها طومان باي وأسمعها نداءه؟

وبلغت آخر الطريق التي دَمِيَتْ عليها قدماها منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، فلم تجد في آخرها ولدها طومان، ولكنها وجدت زوجها أركماس!

وأُنزل الجسد الميت عن الباب بعد ثلاثة أيام، وحمله الرجال على الأعناق إلى حيث يُدفَن في قبة الغوري.

وألف الناس منذ ذلك اليوم أنْ يروا أربعة أشخاص يحضرون إلى قبة الغوري كل صباح قبل مطلع الشمس، فيقضون حول الضريح ساعة مُطْرِقِينَ لا يتكلم أحد منهم إلى أحد، ثم يمضون لشأنهم. أولئك أرقم الرمَّال وصاحبته، وشهددار بنت أقبردي وطفلتها الصغيرة نوركلدي بنت طومان باي!

وجلس على عرش مصر «ملك الأمراء» خاير بك، ترفرف على رأسه الراية العثمانية، وصعدت إليه في قصر القلعة عروسه الفاتنة خوند مصرباي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤